الإرادة عند السوريين١

في الأزمنة القديمة يوم كانت الشعوب تعبد قوات الطبيعة الغامضة، فتصورها بشكل منحوتات ذات أسماء مختلفة، كان الفينيقيون يقدسون — بنوع خاص — القوة الروحية، فمثلوها بشكل «هرقل»؛ ألبسوه جلد أسد رمزًا إلى القوة.

ولم تكن هذه الآلهة القومية حامية المزروعات ومفرقة الخيرات إلا رمزًا ناطقًا بنشاط الشعب الفينيقي وإرادته وتفوقه في البحار.

وقد أقام الأقدمون لهذه الآلهة هيكلًا عظيمًا في مدينة صور رآه هيرودوتس، ووصف عموديه الشهيرين فقال: إن أحدهما من الذهب الخالص، والثاني من الزمرد، والعمودان يلمعان ليلًا بنور قوي ساطع.

أمام مذبح هذا الهيكل كانت وفود المدن والمستعمرات البعيدة تجيء كل سنة وتُجدِّد قسم الاتحاد، مقدمة قواها وسلاحها لخدمة الوطن المشترك.

إن تاريخ هذا الشعب الذي بدون غزاة وجيوش احتلال أخضع لنفوذه ولمدنيته شطوط وجزر البحر المتوسط جمعاء، وتمكن بفضل مبادئه وتجارته من توحيد العالم القديم؛ لهو أجمل ما تمجَّد به إرادة الإنسان، وأفصح ما يعبَّر به عمَّا تأتي به من العجائب، وهو يرينا أن العالم ليس للأقوياء ولا لكثيري العدد، بل هو لذوي العزم وذوي الإرادة، ويفسر لنا أسباب عظمتنا وانحطاطنا، وأحقيَّة آمالنا، ويدلنا على وسائل النهوض وأولها: إيمان ثابت، وإرادة مطلقة.

هذا ما يقوله لنا كل فصل من فصول التاريخ، وكل صفحة من صفحاته.

إن نزعات إرادتنا خلال الدهور هي التي خطَّت لنا طريق الصعود أو الهبوط، ارتفعنا بارتفاع الإرادة وسقطنا بسقوطها.

ولعل الشبيبة المجتهدة المصغية إليَّ تقول: ألا يكفينا العلم للصعود إلى القمة؟

أقول: لا يا أحبائي! العلم الذي يفرقه عليكم أساتذتكم بمقدرة نادرة وإخلاص لا يعرف الملل إن هو إلا منارة تنير بحر حياتكم، ولكن العلم لا يضيع المجذاف في يدي البحار، ولا يجر القارب إلى المرفأ الأمين. العلم لا يشدد عضلات الرجال، ولا يقوي نفوسهم الخائرة ليصادموا ويقاوموا عجاج الزوابع العاصفة، يقول هوراس في قصيدة:

يقتضي أن يكون ذا قلب مدرَّع بثلاثة دروع من الفولاذ ذلك الرجل الأول الذي اقتحم غضب البحار على قارب ضئيل.

ولكن الشاعر تناسى أن أول بحار جابَه الأمواج كان من أبناء صور أو صيدا، وأن قلبه المدرَّع إنما كان قلبًا فينيقيًّا، وأن درعه المثلث كان تلك الإرادة الفينيقية التي لا تغلب.

أيها السادة، عندما نرى قواعد هيكل بعلبك، تلك الأصلاد المرمريَّة القائمة إلى علو عشرين مترًا بثخن أربعة أمتار، عندما نفتكر أن هذه الصخور قطعت أولًا من أماكن بعيدة، ثم رفعت عشرة أمتار فوق الأرض، عندما نتأكد — وذلك بحسب تقدير العلماء — أنه يقتضي لجر إحدى هذه القواعد مسافة متر واحد جهود أربعين ألف رجل يشتغلون معًا، نتساءل إذا كان هذا الهيكل صنعه شعب جبار، أو صنعه رجال فوق الرجال.

أمام هذه الخرائب يقف كاتب إفرنسي ويعترف — مجبرًا — أن القوة المادية إنما هي نتيجة القوة الروحية، وأن الجهود التي صرفها عمال هيكل بعلبك إنما كانت تتناسب مع قوتهم الأدبية، ثم يتساءل هذا الكاتب عما إذا كان يمكن لشعوب هذا العصر الضعيفة الأعصاب أن تأتي بمثل هذه العبقريَّة المولدة لهذا الغرائب.

من العبث أيها السادة أن نبحث إذا كان أجدادنا استعانوا بالبخار أم بالكهربائية. إن القوة التي حركت ورصفت بهذا التوازنِ هذه الأعمدةَ العظيمة لم تكن قوة مادية فحسبُ، فهيكل الشمس ومدينة تدمر المشيَّدة في قلب الصحراء هما شاهدان قائمان يشيران إلى الأوج الذي بلغته الإرادة السورية.

وقد قدَّس أجدادنا إرادتهم الحرة ففضلوا الهجرة، كما يفعل أولادهم من بعدهم، على الإقامة في ظل سلطة مقيدة، معتقدين أن ظُلَّامًا يقيدون إرادة البشر، وأشرارًا ينكرون عليهم وجودها، إنما هم رجال سقطوا عن مستوى الرجال.

تعرفون حكاية طاليس الفينيقي، أحد حكماء اليونان السبعة، الذي بحسب قول أرسطوطاليس كان أبا الفلسفة. كان طاليس هذا مدعوًّا إلى مائدة أماسيس، مغتصب عرش مصر، فأخذ الحضور يتكلمون عن طبيعة الحيوانات، ولما سئل طاليس عن رأيه أجاب:

إن أشرَّ الحيوانات البرية هو المستبد، وأقدر الحيوانات الداجنة على الأذى هو المداهن.

الإرادة تكيف الكائن البشري وتميزه عن الحيوانات والنباتات التي لا تعيش إلا لنفسها، بالإرادة يقاوم الإنسان أمياله، ويُسيِّر مستقبله في طريق حرة، يقولون: إن من يريد ينال، بل ينال كل شيء.

إنما الإرادة تُفسَّر بالعمل، والعمل يقتضي له بذل الجهود؛ لذا لا نندهش عندما نرى من لا يبذل جهدًا يئوب بالخيبة؛ فالمشروعات البشرية التي كان نصيبها الحبوط هي التي رافقها إفلاس إرادة القائمين بها.

إن تنفيذ الإرادة يتطلب جهدًا كبيرًا، وبدنًا قويًّا سليمًا، ولكن الكثير من الرجال يتغلبون على بنيتهم الضعيفة بروحهم القوية، منهم بوزيدونيوس السوري، أستاذ شيشرون والموحي إليه رسائله الجميلة في الألوهية، والقدر، وطبيعة الآلهة. هذا الفيلسوف كان مصابًا بداء النقطة، فيومًا جاءه بومباي خصيصًا ليسمع تعاليمه، وبينما هو يتكلم فاجأه عارض من أعراض مرضه المبرِّح، فغالب الألم وصرخ:

مهما تفننت في تعذيبي فلن تجبرني على الإقرار بكونك داء.

هذا مثال من قوَّة إرادة لم يكتف صاحبها بالتبشير بها، بل علَّمها بالمثل الحي.

قد نتساءل: لم فارق العزم شعوب هذه البلاد؟ وما هي أسباب هذا الانحطاط المؤلم؟ وماذا حل بسبيكة الذهب فتحوَّلت إلى رصاص؟

لنعترف بدائنا مع اجتناب الغلو ما أمكن.

التبر الذي تركه الجدود لم يزل تبرًا، ولكنه دفن في أرض رطبة فغطته النفايات والأوساخ، لقد رمانا الحكم الغابر في جمود عميق فتأكَّل الصداء عضلاتنا وأوصالنا، وأنقص من مقدرتنا على الدفاع.

أيها السادة، كيف يمكن أن يكون غير ما هو كائن؟ إن شأن الأمم ليس كشأن تلك الغادة الخرافية التي نامت في الغابة مائة سنة، وأفاقت فإذا هي لم تزل غضة جميلة، وإذا بالغاب لم يزل مخضلًّا. إن سباتنا الطويل قد ترك فينا الغضون، ومزروعاتنا المهملة لم تلمسها قوة السحر، ولم تبق لها ازدهار الربيع.

بينما نحن نغطُّ في سباتنا، تداعت جسورنا ومعاهدنا، وانهالت الأتربة فملأت مرافئنا.

لم يصف كاتب موات الأشياء حولنا كما وصفه لامرتين يوم ألقت سفينته مرساتها في ميناء صيدا، فذكر الزمن الغابر، وذكر الأرصفة المرمرية وقد تزاحمت فيها أشرعة السفن كسرب النسور، ثم فتَّش عن المدينة البحرية العظمى، ولما لم يجد إلا صقالة صغيرة متداعية صرخ:

كيف نُسحق بقوة خلودك يا إله الدهور؟

هو الرق كفَّن بالتراب هذه البقعة المخصبة، وصوب سهامه إلى إرادة شعب فأرداه مشلولًا، فإذا ما تزعزع هذا الكابوس يومًا كان النشاط القومي يستفيق، وإذا ما رومية ارعوت ومنحت لبعض مدن السواحل حق الجنسية الرومانية، أو أشركت أبناءها في الحكم؛ كان النبوغ السوري يفتح له سبيلًا، ويشرِّف بلادًا أنجبته، وبلادًا عرفت كيف تستفيد منه …!

أراد تراجان أن يخلد اسمه فاستعان بمهندس سوريٍّ دمشقي، اسمه أبولودور، فرسم له خطة موقعة من أمجد مواقعه، وأنشأ له على نهر الدانوب جسرًا هائلًا، وشيد له معاهد الفن الروماني الخالد، ومنها قوس النصر وعمود تراجان في رومية.

كذا نبغت جوليا دونا الحمصية السورية ذات الجمال والذكاء السامي، فتسلطت على زوجها — وهو جندي أفريقي — ودفعته إلى اقتحام الأرجوان الروماني. وبفضلها حكم أمبراطرة سوريون من عائلة سيفير مملكة تعد مائة مليون نفس، وبفضلها دعا هؤلاء الأمبراطرة ثلاثة من فقهاء بيروت وحمص وصور، وهم: بابنيان والبيان وبولس، إلى استلام أسمى الوظائف القضائية؛ أي وظيفة قاضي القضاة، فأوصلوا الشرع الروماني بعلمهم وقضائهم إلى ذروته العليا.

من يدري ما كان حلَّ بهؤلاء الفقهاء، ومنهم واحد استحق لقب أمير المشترعين، لو عاشوا في زمن الاستبداد والجهل؟

ربما كان بابنيان أفندي تمكن من أن يصير رئيس كتبة في إحدى المحاكم، هذا لو جمَّل خطه إلى الحد الأخير.

وكان البيان أفندي ينال وظيفة عضو بداية، إذا هو لجأ إلى ذوي النفوذ وتحاشى غضب رئيس المحكمة، أما بولس أفندي فربما كان يتوصل إلى وظيفة مدير إجراء إذا تزوج بابنة أحد كبار الموظفين.

أيها السادة إذا وجب على الإنسان أن لا يفاخر بنقائصه، فقد وجب عليه على الأقل الإقرار بها. إن للمستبدين بنا، إن للذين كبلوا قوانا وسيرونا إلى المهاوي شركاء في الجريمة هي: انقساماتنا، ومنافساتنا، وتطاحننا بعضنا ببعض.

كثيرًا ما سبكنا حديد أغلالنا وسلاسلنا بأيدينا فأدخلها الظالمون في أعناقنا وهم واثقون بأن انقساماتنا تضني قوانا، فلا نتمكن من تكسير القيود. إن الرق الاختياري الذي ضُرب علينا بعد الرق الإجباري هو أشد أنواع العبودية؛ لأنه يستمد غذاءه من تخاذلنا.

واليوم وقد تحررنا فماذا ننتظر، إن الاستقلال الحقيقي الذي ينشده الناس لا تلده المعاهدات الدولية … الحرية الحقيقية التي تمكن الشعوب من السيادة على نفسها هي حرية الإرادة، وهذه تنال بالتربية الثابتة وبالجهود المتتالية. الحرية لا تنال بسن دستور جديد، ولا بإنشاء مجلس نواب.

لكي نتخلص من «التحكُّم» يجب أن نتحكم في إرادتنا، وفي نزعاتنا، وفي عاداتنا، تلك المتمكنة منا والمُخضِعة إيانا كالعبيد.

يجب أن نتغلب على الأفكار المضرَّة التي سببت بلاءنا في الماضي وجعلت لكل مذهب، ولكل طائفة قومية خصوصية، ثم ضربتها بعضها ببعض فقضت على فكرة الوطن، ومنعتنا من أن ننشأ كأمة.

لنقوِّ في هذا السبيل جمعياتنا العلمية والوطنية؛ ولنضمَّ إليها كل ما في الأمة من نشاط وذكاء ومقدرة بدون تمييز في الاعتقاد ليتم لنا التقرب ثم الامتزاج، فمتى اجتمعنا وعملنا معًا سرنا نحو التآخي، وبالاجتماع والعمل نعرف حاجات بعضنا، ونسير ببطء نحو غاية الكمال المشتركة.

لنمشِ ولا نخشى النميمة والحسد، هل يحجم الجندي عن الهجوم خشية أن يُجرح، ومن ذا يقول: إن الحسد هو سلاح جارح؟ أوَليس هو داء مثل سائر الأدواء، وصاحبه أولى بالرحمة؟ لكي نتخلص من جمود ومن شلل روحي بهما نُضام؛ علينا أن لا نكتفي بالإرادة الناقصة والعلم الناقص. ولكي نتقي العثرات وما تجره من اليأس؛ علينا أن نوحد جهودنا، ولا نخلط بين التمني الذي لا يكلف شيئًا، وبين الإرادة المولدة التي تتطلب جهودًا متتابعة وضحايا عظمى.

أيها السادة، لا يكفي أن نتمنى لبلادنا الفلاح والاستقلال، يجب أن «نريد» ذلك «ونريده» من كل قوانا.

وأحسن شعار يمكننا أن نتخذه لنا كلمة زوج جوليا دونا إلى قواده وهو على سرير الموت؛ وهي: اشتغلوا.

١  تعريب خطاب الأستاذ كميل إده في الجامعة الأميركية في ٤ نوار سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤