الغريب

جلس الغريب إليَّ كما إلى نفس شقيقة،

فجاش سرُّه في صدره،

وتصاعدت مرارته إلى شفتيه،

وهم أن يلفظ قلبه من فيه ويرميه في كفٍّ رفيقة،

وهم أن يريني آثار النخاسة على وجنتيه،

وهم أن يريني الأصفاد الضاغطة على يديه ورجليه،

ولكنه تراجع، ووجم، فأرجع سره إلى صدره، وردَّ مرارته إلى كبده، وأخفى أصفاده تحت أثوابه؛ كي لا أرى وثائق انكساره، لأن الإقرار بالخيبة يؤلم نفوس الرجال.

وسكت الغريب وطال سكوته.

فحلق فكري في جواء الذكرى، وتمثلته في أيام فتوته، تمثلته يوم كان ولدًا طيارًا، ومرَّت حياته في خيالي خضراء كالربيع، روية كندى الصباح، سريَّة كحديث البدر، عذبة كظلمة الليالي، وغضة ونضرة كبشرة الأطفال، ثم نهض وسلَّم ومضى، ولما سار في منعطف السبيل همس لنفسه:

اسكت يا قلبي حتى الممات.

وسافر الغريب بعيدًا لمكافحة الأيام، والأيام تيار عنيف، أهوج، يسحب الضعفاء ويكفنهم بأمواجه ذات الزبد ثم يرميهم في بحر الظلمات! والحياة مقصف هيأته أيدي الغواني، وصفت على موائده أكواب الغبطة وأثمار الهناء، ووقفت أجواقهن على بابه تستقبل الداخلين، فمن كان عابسًا كئيبًا صُفع وطُرح خارجًا.

لأن الكآبة وباء يهرب منه الآكلون والراقصون والشاربون.

سافر الغريب، وهناك بين الجماهير الأغراب عصف في قلبه شوق إلى صديق يحن ويؤاسي، فكتب إليَّ يقول:
في ساعة تلعب بي أمواج الحياة القاهرة أفتش على يد لطيفة أُمرُّها على جبيني الملتهب، فدعيني أبوح بسرٍّ يغالبني وأغالبه، دعيني أقول لك: إنني شقيٌّ أكثر مما تظنين يا أخت المجاهدين في هذه الحياة!
إنها نزوة من قلب مكلوم، اغتفريها واستري؛ فالشكوى لغير الله ذلٌّ.
ورجع الغريب، وجلس إليَّ، وكأن صرخته تلك فككت قيود كبريائه فباح بسر عذابه، وسرِّ نحوله، وسرِّ خيبته، وسرِّ حظه الأعمى! لأن الحظ اللامع أليف الفكر اللامع، وأنَّى للفكر أن ينوِّر وقد أطبقت عليه ظلمات الحرمان، وتأكَّلته وساوس الغيرة والشك، وعشَّش فيه، في الثنايا منه، والحنايا والزوايا شعور واحد، لا يبرح يطن ويرن:

إنني منبوذٌ، إنني مكروه، إنني غريب.

أنا غريب. قال الغريب:

غريب أنا في عملي، أباشره ونفسي تنقبض، وقواي تخور، وفكرتي تتضاءل.

العمل يُحبُّ إذا كان للعامل غاية في الحياة، إذا كان يحمل نتائج عمله ويضعها بين يدي رفيقةٍ مُحبةٍ قنوعة، تعرف معنى الأتعاب والجهود، وتقدر أن العرق المتصبب من جبين الرفيق هي دماء، كل قطرة منها يومٌ من أيام الشباب تكرُّ ولا تعود.

الإنتاج — مهما كان حقيرًا — يُحبُّ إذا رأت فيه الرفيقة فكرة محب يجابه عنها المصاعب، ويحميها من ذل السؤال.

ولكن! عندما أحمل إلى رفيقتي ثمار عملي فتنظر إليه من علوِّ كبريائها وتقول: إنه قليل لا يشفي غليلًا. وتُعدِّد ما في البيت من الفراغ، وما يلزم لخزائنها حتى تمتلئ، وتذكر بحرقة ثوب فلانة ومائدة فلان. آه! كم تنكمش نفسي على أوجاعها، وكم تتسابق إلى قلبي شواعر الذل، والصغر، والمسكنة! وكم تنتحب روحي، تلك التي ترى الحياة جوًّا حرًّا فسيحًا نيرًا، يطير فيه الزوجان إلفين، اثنين، مغتسلين بأمواج النور قبل أن تتوارى الأنوار، وبندى الصباح قبل أن تظلم الأصباح!

آه! كيف تنتحب روحي، تلك التي ترى البيت عشًّا تسكن إليه القلوب قد أصبح ميدانًا للمفاخرة الحمقاء وحب الظهور السخيف!

•••

وفي بيتي أنا غريب، عندما يتراكض الرجال مساءً إلى أوكارهم أسحب جسدي المضنى إلى جحيمي، فأراه متلألئًا بالأنوار، مكتظًّا بالزائرين والزائرات، وأرى رفيقتي تميس بالأثواب الغالية كإمبراطورة في عزها وسلطانها، والرجال من حولها يتوددون ويتحببون ويصغون إلى صوتها تُنغِّمه وتُنعِّمه كهديل الحمام، وأرى الخدم — كما في بيوت الكبراء — يطوفون بالأكواب والأقداح، فأفكر كيف تهدر دمائي ثمنًا للفخفخة الفارغة، والانتفاش الفاضح.

ويذهب الزوار، فأدنو منها لأطرح أتعابي عند قدميها الصغيرتين، لأسند رأسي إلى قلبها وأسمع — مرة واحدة — لحن الحياة قبل أن تتلاشى فينا الحياة، ولكن! سرعان ما ينكمش جبينها، وتظلم عيناها، ويقسو فمها، ويلبس وجهها — الذي كان منذ برهة أنيسًا رحبًا بسَّامًا — قناع البرودة والجفاف.

هذا البيت! أفٍّ له، ما أظلم اسوداده! وتعسًا لي عندما أجيل عينيَّ فيه فتتردد من جوانبهِ حكايات شقائي وبؤسي.

هذه الموائد لا تصف «لي»، وهذه الأكواب لا تملأ زهورًا لترتاح إليها روحي، وهذه الوسائد التي تتفنن رفيقتي في صنعها من حرائر مفضضة ومذهبة لم تصنع لأسند إليها أضلاعي التعبة، وهذه الأنوار المغطاة بألوان تنثر على الجلوس أسارير الليل العميقة، هذه الأنوار لم تزيَّن لتحمل همس الليالي إلى قلبي!

هذا البيت! أفٍّ لهذا البيت.

حلمته جنة أنعم فيها بملك كريم، فإذا هو جحيم، وإذا ملاكي امرأة دعيَّة، خداعة تلبس لكل ساعة وجهًا، وكذَّابة … لأنها تتمتع بمال رجل لا تحبه ولا تحتمل قربه.

•••

وفي حبي أنا غريب، عبثًا أنظر في عينها كي أرى ذلك القبس القديم، يوم حملتها من خدر أمها في ليلة باردة، ونزعت أزهار عرسها البيضاء، وأخذت قدميها الباردتين بين كفيَّ أدفئهما بِحرِّ أنفاسي.

عبثًا أفتش عن قبس لمع في عينيها ساعة همست في أذني أنها تحبني، وأنها سعيدة.

سرعان ما حلَّق الحب بعيدًا، سرعان ما أخذت مكاني مشاغل الحياة العالمية العوجاء، فالعطور، والأثواب، والقبعات، حتى والأحذية أقرب إليها مني، ولكل من الرجال أسبقية وألمعيَّة وأفضليَّة؛ هذا نبيل، وهذا موسيقي، وهذا شاعر، ذاك يتكلم ثلاث لغات، وذاك له سيارة، وهؤلاء يلعبون البوكر لعب «الكبار»، وأولئك رجال صالونات، وهذان يرقصان بلباقة ورشاقة.

وأنا وحدي لا فضيلة لي أُغبط عليها، ولا مزية أُحَبُّ من أجلها، إن تكلمت ظهرت على وجهها علامات «العصبية»، وإن أعربت عن رأيٍّ أسرعت للدفاع عن ضده، وإن أخذت يدها بيدي أشعر أنها تتقلص وتقسو، وإن رفعتها إلى شفتيَّ نكصت وتباعدت بحركة جفاف ونفور، فأشعر بسم البغضاء يتمشى في دمي، وأشعر أنني أذلُّ من عبد، وأحقر من دودة تلصق بالتراب.

انتهى الغريب من أنشودة غربته ثم ضحك ضحكة صفراء؛ لأنه رجل والرجال لا يبكون …

ونهض وسلَّم ومضى، ولما صار في منعطف السبيل همس لنفسه:

اصبر يا قلبي حتى الممات.

لماذا يعيش هذان الغريبان معًا؟

ولماذا لا يُطرد هذا الغريب فيأوي إلى مغارة جرداء يفترش غبراءها، ويأتلف مع حجارتها وأصلادها.

لماذا؟

لماذا لا تتزوج هذه المرأة أكواب العطور وصناديق القبعات والأحذية؟

لماذا لا تلحق بهؤلاء الذين تجلس إليهم وكلها إصغاء، وعطف، ومحبة؟

ولماذا تحتمل طول حياتها قرب رجل تنفر منه كل حاسة من حواسها، وكل نقطة من دمائها، وكل ذرة من ذراتها؟

لماذا؟

لماذا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤