الغريبان

كانوا يدعونها قبل زواجها «مس دجاك»؛ لأنها ابنة المتمول سليم يعقوب الذي هاجر بزوجه وابنته إلى مدينة مانشستر وتوطَّن فيها.

كانت مزيجًا جميلًا من تربية متينة أخذتها عن المحيط السكسوني، وذكاء لبناني حادٍّ تجمع فيها وتراكم ثم ظهر قويًّا براقًا. هكذا تتجمع عوامل الوراثة وتتراكم على توالي الدهور، ثم يأتي يوم؛ يوم تتكامل الشروط وتتوفر الأسباب فتظهر بارزة، واضحة، صارخة: أنا ماضيكم المندثر، وتاريخكم المدفون في ظلمات العدم.

قلت: إنها جاءت مزيجًا جميلًا؟ أظن أن كلمة «جميل» لا تكفي لتصوير كائن بشري احتكر لنفسه كل المزايا التي اتفقت البشرية على نعتها «بالمُثْلى»، فهناك تكوين متناسق لا عيب فيه، بخطوط هي أقرب إلى التماثيل منها إلى الأجسام البشرية، وشباب ندي كأثمار الصباح، وحياة متفجرة نابضة بالحنو والمحبة والانعطاف، ونفس وديعة هي الطفولة طواعية وليانًا.

•••

ما كانت بالغريبة المطلقة، بل شرقية على الأكثر، كانت تتكلم لغة أجدادها بلهجة جبلية بحتة حتى يخال السامع أنها قادمة حديثًا من كسروان، وتحترم عادات بلادها كما نحترم العقيدة التي تعودنا أن نجلها ولو شككنا بأفضليتها.

لم تنزل اللغة العربية عليها وحيًا، فهي تعلمتها وأُشربت حبها في زياراتها السنوية إلى لبنان؛ لأن أباها — رغم البحور الفاصلة — كان يرسلها كل سنة إلى كسروان؛ فتقضي الصيف متنقلة بين ميروبا وغسطا وريفون وفيترون.

ولكن نفسها الطمَّاحة كانت تشبَّعت بالأفكار العصرية والنهضة الفكرية الجديدة، فأصبحت، وهي بنت الشرق الصميمة، تتصرف وتتكلم وتفتكر وتكتب بعقليَّة غربية صرفة، وتميل — رغمًا عنها — إلى كل ما هو غربي.

كانت لم تزل «مس دجاك» يوم زارت باريس، فتعرفت في بيت السفير العثماني إلى شاب مصري سمحت له ثروة أبيه أن يسكن قصرًا — هو متحف بما حوى من النفائس الشرقية والغربية — وأن يجمع حوله حلقة من أهل الأدب والفن، وأن يدرس فن النحت ويبرع فيه إلى أن تعرض تماثيله في المتاحف إلى جنب تماثيل مشاهير العصر.

نبوغ، وعلم، وفن، وفكر واسع منطلق، وتلبُّس تام بكل جديد، بهذه الصفات تسلَّط هذا الرجل على حياتها فما لبثت أن خلعت اسمها القديم، فأخذت اسمه وصارت مدام غنَّام.

أما أيام خطبتها فمرَّت كحلم ذهبي جميل … وأما أيام زواجها الأولى فمرَّت كالبرق لا تكاد ترى لمعانه حتى يختفي.

كانت تزور خطيبها في قصره، فتدخل القاعة الكبيرة الملأى بجميل المرسوم والنحوت، وتتيه بين التماثيل الرخام الصامت، فيأتي ويأخذ بيدها إلى مقعد كبير فرش بالوسائد الجميلة، وهنالك يجلس عند قدميها ويقول لها — فيما يقول: إنها أجمل من كل تمثال صنعه النحَّات.

كان يهمس بلغة عذبة ما سمعتها في كسروان، ولا في صالون أمها، ولا في قاعة التدريس … كانت لغته حينًا تُشابه هينمة النسيم، وابتسامة الطفل، وأنغام الموسيقى في الكنيسة يوم آلام يسوع، وخرير المياه في منعطفات لبنان، وحينًا كان حبه يقصف كالرعد، ويزأر كالعاصفة، فيهز روحها هزة عذبة كالحياة، ومخيفة كالهاوية.

•••

وتزوجت فأصبحت آلة لا إدراك لها ولا بصر ولا بصيرة، كل ذاتيتها الطيبة غرقت في ذاتية الرجل الذي اتخذته رفيقًا من بين الكثيرين …

استعارت لهجته لتتكلَّم، وفكره لتعبر عن رأي هو رأيه أبدًا.

كانت تفيق من نومها لتحضير فطوره بيديها، وتلبس لتروق في عينه، وتتنزه في الهواء المطلق لاكتساب لون يزيدها رواء، وتنام لتأخذ قوة تساعدها على الإبداع؛ لأنها — في سبيل إرضائه — انقطعت إلى الفن وصارت من كبار الرسامين.

•••

ونزل عن عينيها يومًا حجاب التساهل، ونظرت إلى نفسها وإلى الحقائق حولها، فإذا بها منفردة متروكة.

ذهب الحلم الذهبي، ومرَّ الحب كالبرق الخاطف لا تكاد تشعر به حتى يختفي … وتلك القبلات المذيبة، وتلك الأنفاس الحارة، وتلك اللغة السماوية كله ذهب وبقي ذاهبًا …

لمَ هذا الجفاء؟ لم هذا السكوت القاتل، والبرودة الخرساء، والنظرات المظلمة التي تقع على كل شيء، وتهتم بكل شيء — إلا بها. عبثًا جرَّبت أن تعلم، فلم تعلم سوى أن الرجل الذي اختارته رفيقًا وصديقًا وركنًا تستند إليه نبذها في زاوية بيته كإحدى الأثريات التي جاء بها من الشرق.

ويومًا عرضت لها حاجة، فدخلت إلى غرفة التماثيل — وكانت قد هجرتها منذ شهور — فرأته جالسًا إلى أقدام فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وسمعته يقول: «أنت أجمل من كل التماثيل التي صنعها النحات.»

فهربت مسرعة إلى غرفتها، وأخذت رأسها بين يديها، وبكت عمرها الضائع، وشبابها المكروه.

آه! ما أبرد تلك الجدران، وأسخف ما عليها من بدائع الفن وثمين الأقمشة! كم هي غريبة وسط تلك التحف الغالية، وكم هي موحشة تلك القاعات العديدة تمر فيها أمام المراءات الكبيرة، فترجع إليها خيال وحدتها وانفرادها الوجيع. ومضت الأيام والشهور والسنون وذلك البيت يضم غريبين يجتمعان حينًا على المائدة، ووحينًا في زيارة لازمة لتثبيت المركز الاجتماعي.

كل ما في الحياة كان قريبًا منه، وهي، هي كانت البعيدة البعيدة، كل الغريبات كن أليفات حزنه وأنسه، كان رفيقًا لكُلِّهن، وحبيبًا لكثيرات منهن. أمامهن كانت تحل عقدة لسانه — وهو المحادث الخلَّاب — فيتكلم الساعات في الفلسفة والعلم، والفن، والسياسة، وتدبير المنزل وكل شيء.

أما ابنهما الوحيد … فكبر غريبًا بين غريبين.

•••

من رآها وقد جمد شعورها وتصخَّر قلبها، وانقلبت حياتها المشبعة بالرواء والشباب إلى حياة هرمة، صماء، خرساء؟

تركت الزينات النسائية كلها، ولمن عساها أن تتزين؟ وهجرت «الصالونات» وما فيها من الزهو والظهور، ولمن عساها أن تظهر، ومَن يهمها بعدُ في هذا الوجود؟ وما عساه أن يبهج قلبها الدفين الحي؟ مدنية الغرب؟ إنها تعرفها وتعرف ما فيها من الدواهي! عوالم الفن الواسعة؟ كل ما في الفن من جمال وتعبير ليس سوى رموز لما في نفوسنا من العواطف المختلفة، أية عاطفة بقيت لها حتى ترسمها بالخطوط والألوان؟ آيات البلاغة منزلة سطورًا؟ كم لعنت هذه الآيات! وكم تمنت لو بقيت جاهلة وتزوجت برجل جاهل!

لم هاجر أبوها إلى الغرب، ولمَ لم تبق فلاحة تسوق الأبقار، وتأكل رغيفها مع حفنة من البقول؟ لماذا أقرءوها كتب الغربيين فلمست فيها ألف ألف فكرة، وألف ألف عاطفة جديدة؟ صوروا لها القلوب البشرية مسيرة بالمحبة والألفة، ولما أن وضعت يديها على القلب الوحيد الذي اختارته من بين القلوب إذا بيديها فارغتين، وإذا بالحياة، كل الحياة، صورة تجسدت فيها العدمية واللاوجود.

انكمشت نفسها فأصبحت كهذا البحر لا يدرك ما فيه، واليوم هي طلسم من الطلاسم لا يحلُّه سحر. هي الحلقة المفقودة بين الشباب والهرم، والحب والبغض، والحياة والموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤