أجراس العيد

١

سبحي أيتها النواقيس الأبدية، وليتجاوب رنينك في كل المنعطفات وفي كل الوديان.

هللي في كل مدينة وقرية ومزرعة، على كل مرتفع وعلى كل أكمة!

سبحي! فصوتك حلوٌ لذيذ! من هذه الأرض حيث سمع صوتك لأول مرة انبعثت فكرة العبادة والألوهية، ومن معاطف هذه الوديان ارتفع قديمًا الفكر البشريُّ مفتشًا على «يهوَه» العظيم.

هللي أيتها النواقيس؛ فرنينك أبدًا طليٌّ جديد، وقديم قديم يفاخر العالم بالمجد والقدمية.

ذكرينا أيتها النواقيس بتلك الأيام الخوالي؛ أيام البساطة والهناء والعيش الرغيد، أيام كان الشعب يجتمع في باحات المعابد حاملًا إلى الإله باكورة الأثمار والأزهار. ذكرينا بأيام لعب الأولاد الأنقياء، ورقص الشبان الأقوياء، ونصائح الشيوخ والحكماء.

اهتفي اهتفي أيتها النواقيس، واطمسي برنينك عربدة السكار، وأنين المرضى، وضجيج المفسدين، أعيدي علينا ذكرى الدهور الماضيات، يوم كانت الملوك تترنم «بزيت يبهج الوجه، وبخبز يشدد قلب الإنسان»، ويوم كانت الأرامل والأيتام تسابق الفجر إلى الحقول، وتجمع كفايتها مما «فرضته الشريعة على الحصادين».

•••

ذكرينا أيتها النواقيس بتلك الأيام السود والصحائف السود، لقد نسينا — وما أكثر ما ينسى الإنسان! ذكرينا بأيام كان لرنينك دويٌّ أصم كالهاوية، وبارد كالموت! يوم كانت حشرجة المائتين، ولعنات المصلوبين تقطع أنينك، فتسمعنا صوت مناحة لبنان يبكي خلف الجنازة الكبرى.

ذكرينا بالعيد يتلو العيد والشعب يدخل الكنائس منكس الرأس، ويخرج منكسر القلب والنفس؛ وكافرًا؛ لأن الجوع كافر.

ذكرينا بهم كلهم، بالمنفيين والمصلوبين، بالجائعين والمضطهدين! ذكرينا بهم قبل أن ننسى؛ لأن على جماجمهم وعظامهم قام الوطن الجديد؛ ولأن استشهادهم فتح لنا بابًا للمطالبة بالحق؛ ولأن بأنينهم — بأنين مائة وثمانين ألفًا — كتب لنا صك ثمين نحمله اليوم وفي كل يوم، وبعد مائة سنة، وبعد مئات السنين، فتنفتح أمامنا الأبواب الموصدة، والقلوب العمياء الصماء …

ذكرينا بهم، بأثر واحد يقام لهم، بتمثال واحد، بنصب واحد يرفع إكرامًا لمن باستشهادهم بسم الأمل في وجه المتفائلين، وعاش الرجاء في صدور الأحرار.

٢

هللي يا أجراس العيد، اهتفي عاليًا، وسبحي مليًّا، وليتعالَ صداكِ من أقصى هذه الجبال إلى أقصاها حتى تدوي به أعماق المغاور وأجواف الكهوف …

هللي أيتها النواقيس، بهدوء متقطع، أو بحدَّة متسارعة، فصوتك أبدًا حلو لذيذ، وما رنينك سوى عاطفة الإنسان القديم يسحب ضعفه، ويحتمي في ظل الإله الكريم.

هللي أيتها الأجراس مساءً وليلًا، وباكرًا وسحرًا … شاركي المؤذنين المقيمين — مثلك — في القباب، والصارخين — مثلك — بالناس إلى طرح أثقالهم على أقدام الرحمن الرحيم.

امزجي رنينك بنشيدهم الوقور المهيب، فلعلَّ أصواتنا المتنافرة على الأرض تتقارب وتتحد فوق الضباب، وتعود إلينا بردًا وسلامًا.

•••

اسكتي يا أصوات الانكسار والهوان،

في قلوب الأسرى والعبدان.

اسكتي في قلوب الأمم الذليلة، المقيَّدة بأطواق النحاس وسلاسل الحديد، الأمم العديدة السائرة كقطعان الإبل وراء إرادة الفرد المنتصر! الأمم المستعبدة لجهلها ولمعرفة الغريب.

اسكتي يا أصوات الذل والهوان،

في قلوب الأسرى والعبدان.

•••

اخفتي يا أصوات اليأس في قلوب العميان والمرضى والمسجونين: الأولى في حياتهم ظلام، وفي أجسادهم سقام، وفي قلوبهم اليأس المريع، والملل الوجيع.

اخفتي يا أصوات المرارة في قلوب الراكضين وراء الرغيف، الذين لا تطلع الشمس إلا وتربط إلى أعناقهم أحجار الرحى، ولا تغيب إلا لتطرحهم في الأكواخ العفنة المظلمة.

اخفتي يا أصوات الحاجة في قلوب المحرومات والمحرومين اللباس، والغذاء، والدواء، والعناية، والملاينة، والحنو، والمحبة.

اخفتي أيتها الأصوات الوجيعة في قلوب العطاش، اللاهبين شوقًا إلى أطايب العيش، اللاهفين حنينًا إلى حياة الحياة، المتطاولين عبثًا إلى كُنه الكيان، وهناء الوجود.

•••

انخفضي يا أصوات الكبرياء المطنطنة في قلوب المتكبرين المفاخرين، الساحقين بأقدامهم قلوب الملايين والملايين.

تلاشي يا أصوات الطمع في قلوب الأقوياء القابضين بأيديهم الفولاذية على سياسة العالم، وصناعة العالم، المُكيِّفين الأرض جمعاء بقالب إرادتهم القاسية، الضاغطين على أنفاس الأمم لا تنال حقًّا مشروعًا إلا بعد أن تتلاشى نفسًا في نفس.

•••

ابتعدي يا أصوات الوحشة في قلوب الغرباء والمجندين والمنفيين التائقين مثل يسوع الطريد «إلى زاوية يسند إليها رأسه». آه! ما أقسى الحياة! وما أكثر الخلل في أحكامها اللامنطقية! من ذا يفكر أن الذي تملأ هياكله السهل والوعر، وتقدَّم لذكره ربوات الذبائح، وتطبع باسمه يوميًّا ملايين الميداليات والأيقونات والتعاويذ، وتتلى كلماته كل يوم جهارًا من على المنابر، وهسمًا في أعماق القلوب. من ذا يصدق أن الحياة ظلمت ذلك المعبود، ولم تسمح له «بزاوية يسند إليها رأسه»؟

ابتعدي يا أصوات الوحشة في قلوب التائقين إلى فراش دافئ، وبيت مسقوف، وزاوية يسندون إليها رءوسهم.

•••

اتئدي يا أصوات الثورة الهدارة في قلوب العمال الصاخبين، المبدلين نظامًا أعوج مضرًّا بفوضى جارفة مهلكة.

اتئدي أيتها الأصوات المملوءة صخبًا ورعبًا وحقًّا وعدلًا.

اتئدي! فسوف تتحول المدافع إلى آلات حراثة، ويسير الذئب والحمل جنبًا إلى جنب.

•••

اخرسي يا أصوات السكر والشقاوة والمحبَّات المتمرغة في الوحول! اخرسي! لقد امتلأت الأرض باللقطاء والمعتلين والمشوهين بَرَصًا وجرَبًا! اخرسي أيتها المحبَّات المتمرغة في الوحول. لقد كفاكِ ما ولدت من المسوخ!

•••

هللي يا أجراس العيد، ارتفعي فوق الضباب وامتزجي بنشيد المؤذنين، وعودي إلينا بردًا وسلامًا.

هللي وذكرينا بالذي منذ ألفي سنة يدعو إلى العبادة بالروح والحق، اهتفي يا أجراس التعزية والاكتفاء في قلوب المحرومين. وأنت يا أجراس الإيمان والرجاء، والأمل والقوة، أنشدي، هللي … اصرخي … في قلوب الأمم المطوَّقة، المستعبدة، السائرة هزيلة، وفقيرة، وحزينة، في مواكب الأسرى والعبيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤