جاوة

كلمة جامعة

حين استعمر الهولنديون جزيرة جاوة — وهي أقدم مستعمراتهم في آسيا — تلفَّتوا إلى صعيدها فإذا به يدلُّ على كثير من الخصوبة ووافر من الحياة، فبذلوا جهدهم في تمهيده للإنتاج الصالح تمهيدًا يكفُل لهم الربح الوفير، حتى أصبحت "جاوة" بفضل الجهود التي بذلوها، وبفضل ضآلة أجور العمال فيها تشبه في شأنها مصرنا العزيزة في وجهة الزراعة ونمائها واستطراد النجاح فيها.

ولم يترك الهولنديون شِبرًا واحدًا مما يصلح للزراعة في جاوة دون أن يستغلوه، ودون أن يُصلحوا من شأنه.

على أنَّ الظاهرة التي تمسُّها في النَّاحية الزِّراعية بجاوة ظاهرة تدل على تعاسة أهليها وشقاء المواطنين فيها؛ فإنَّ الهولنديين ككل شعب أوروبي طموح قد امتلكوا كثيرًا من هذه الأرض الخصبة سواء بالوراثة عن آبائهم وأجدادهم، أم بتحوير الفضاء الواسع على أكتاف الجاويين وبأيديهم إلى أرض زراعية تئول إليهم وتئول إلى جيوبهم خيراتها.

وعلى هذا، فإنَّ موارد الثروة تنتهي إلى خزائن الهولنديين، وإن نتاج الجزيرة العظيم لا تمتد إليه يد غير يدهم التي عرفت كيف تغرس البذرة السليمة في الصَّعيد الخصيب لتجني حصادًا موفورًا جمًّا.

وكما أنَّ كثيرًا من أغنياء الإنجليز يأخذون موارد ثروتهم مما يجلبونه من الهند، بل كما أنَّ الإنجليز جميعًا ينظرون إلى الهند، فإنَّ الهولنديين قد جعلوا من جاوة ذلك المصدر الذي لن ينتهي خيره ولن تخبو شُعلة حياته.

فعلى ضوء هذه الحالة التي يشاؤها الهولنديون من مستعمرتهم الآسيوية الجميلة تمكَّنوا من أن يُلبسوها ثوبًا قشيبًا من الرونق الممتع والبهاء الجذَّاب، فعبَّدوا من طرقها ومهَّدوا فيها أسباب النظافة، وآتوها من ألوان العناية بالصحة العامة ما ترى أثره على الجاويين، أولئك القوم الذين لا تقع بينهم على واحد ذي عاهة أو عيب، على الرغم من هزالهم الطبيعي وضعفهم الكبير.

وقد لا نغلو في القول؛ إذا نحن تحدثنا في هذه الكلمة أنَّ الهولنديين يرعون جانب المجاملة في معاملتهم لسكان الجزيرة، فقد باعدوا بين هذه الفوارق المُنفِّرة، وجعلوا منهم شُعبة جاوية إن حق لها أن تفاخر على المجموعة بشيء، فإنَّما تفاخرها بالتهذيب واللون الأبيض.

نعم باعد الهولنديون بين هذه الفوارق فقبلوا أن يخالطوا الوطنيين ويمتزجوا بهم حين ارتضوا أن يُزوِّجوهم ويتزوجوا منهم، وهذا في الحق صنيع جميل، وعمل يدل على الرأفة التي تشعَّبت بها عقول المستعمرين الهولنديين دون سواهم.

وليست مسألة الاختلاط الجنسي كل ما أخذ الهولنديون به أنفسهم من التقرُّب إلى سكان الجزيرة، بل إنَّ هناك مسألة قلَّ أن أخذ بها الإنجليز والأمريكيون، وقلَّ أن آمنوا بأنَّها دليل واضح على حسن الطَّوِيَّة وسلامة الضمير، تلك هي أنك ترى الجاويين يُخالطون الهولنديين في النوادي والمجتمعات، وترى أنَّهم في هذا الاختلاط لا يبدون أقل شأنًا ولا أيسر احترامًا فيها من أندادهم الأجانب؛ فجميعهم في هذه الحلبة إخوان وعلى قدم المساواة.

بارزة ظاهرة

وثمة ناحية نشهدها في جاوة، وهي أنَّ السلاطين فيها قوم فقراء جدًّا مُعدِمين بما لا يُلابس مراكزهم، ولا يُجانس قيمتهم في تلك الحياة؛ ذلك أنَّ أكبر راتب يتقاضاه أجلُّ سلطان فيهم لا يجاوز ألف جنيه في الشَّهر، وعلى الرَّغم من هذه الضآلة الواضحة في رواتبهم فقد أصبح من الحتم عليهم أن يُحيطوا أنفسهم بسياج من العظمة والأُبَّهة، وقد تمثَّلوا هذه العظمة فيما غمروا به قصورهم من مئات الخدم، ومئات النساء يسيطرون على الأولين ويتبادلون الآخرين في غير عمل إلا الأكل والنوم، وما ينصرم بين هذين من أوقات يقضونها إلى الزوجات.

ومن العجب ألا يكون لأولئك السلاطين عمل رسمي بارز، اللهم إلا في مناسبة الأعياد الدينية حين يخرجون برجالهم لقضاء التشريفة، وإلا حين يستقبلون حاكم الجزيرة وما إليه من عظماء الأجانب، وهذا جُلُّ رسميتهم وكل ما يؤدون من وظائف عامة.

وبين المشاهد الأخَّاذة التي تغمر الزائر العربي في جاوة أنَّها تجمع إليها أشتاتًا من العرب أقاموا مدارس عامة للتعليم العربي، على أنَّها وإن تكن فقيرة في مالها، فإنَّها في الحق تُؤدي عملًا جليلًا يستحق الإكبار والفخر.

وليس ذلك الفقر وليد الظروف الخاصة التي تُحيط الأهالي عامًا من أعوامهم ثم تندثر بل هو طبيعة تضم الوطنيين جميعًا، أولئك الذين يعيشون على التافه القليل، بينما يعيش الهولنديون عيشًا رغيدًا سعيدًا.

وهنا لا محيص لنا من أن نذكر أن الأغنياء وذوي الثروة في جاوة لا يتألَّفون إلا من طبقات الهولنديين، تتبعهم الشركات الأجنبية، تتلوهم فئة التجار من الصينيين، هذه الفئة التي استحلَّت حُرمات الذمم، واستحوذت على جوانب الرياء والمعاملة السيئة الضارة، فإنَّها في معاملتها مع الأهالي قد استنت سنة اليهود والأروام في جميع البلاد، وقد بزَّتهم في ظاهرة غريبة أليمة، حين تعطيهم بضائعها بثمن باهظ، وحين تطالب الفلاحين الذين لم يتدربوا على القراءة والكتابة — وهم كثيرون — بثلاثة أضعاف ما اتَّفقوا عليه من ثمنٍ استغلالًا لجهلهم، واتِّكالًا على سريرتهم الطيبة!

ومن الخير أن نُسجل في سِجل رحلتنا عن جاوة هذه الميزات الجميلة التي يتمتع بها أهلوها، فإنهم على أجمل ما نرجو في طيبة النفس وسلامة الشعور، وإنَّهم لعلى جانب عظيم من جمال التربية الإسلامية المجيدة التي تهتف بالإخاء والنقاء والصفاء والتقوى.

وإنَّه وإن تكن هذه الميزات وحدها خير ما تنشد البشرية من محامد فإن الجاويين قد أَلبَسوها دِثارًا من تقديرهم للحياة كأنَّهم يعيشون أبدًا، يعنون جِدَّ عنايتهم بالنظافة فلا ترى فيهم رثًّا ولا أشعث أغبر، ويستقبلون في كثير من الإكبار والخضوع دون أن يسترسلوا في مواطن الصلف، ولا في رحبة الكبرياء، آخذين في هذا السبيل عن طوِية صادقة ونفس حساسة كبيرة.

وقد اتَّخذوا لهم كثيرًا من عوائد الهنود والصينيين، أولئك الذين يُشبِهونهم في صور شتَّى؛ فعيون الجاويين وأوداجهم جد شبيهة بأمثالها في الصين، وألوانهم وأجسامهم تتراءى لك وكأنَّها قد خُلقت من طينة الهنود.

وهذا ما يدفعني إلى القول بأنَّ الجنسية الجاوية مزيج من الصين والهند تهيَّأت لها هذه البقعة الخصيبة في تلك الجزيرة فآووا إليها والتأموا فيها شعبًا كاملًا كبيرًا.

وقد أنس الجاويون إلى نوع واحد من الملاهي يطربون له ويفرحون، ذلك النوع هو «طيَّارة» من الورق الملون ينشرونها في الهواء بين الإعجاب والبِشر، فكبيرهم يملك طائرة، وصغيرهم لا بدَّ له منها، على أنَّك تلمح فوارق الناس فيها، تلمح طائرة الرجل الثري أو الطفل الذي يدرج في رحبة النعمة كبيرة الحجم جذَّابة المظهر، بينما تلمحها صغيرة ضئيلة في يد الفقير المُعدِم.

وعلى هذا فقد يكون من اليسير عليك أن تتعرَّف الثروة والإملاق من حجم الطائرة الورقية المحبوبة لديهم!

وبين المشاهد العجيبة المألوفة في هذه الجزيرة وفي نوع ملاهيها أن الأهالي ينتظرون يومي العُطلة العامة، الجمعة والأحد، فيكتظُّون في الفضاء الرحيب فريق منهم يحمل هذه الطائرات وينشرها في الأجواء، وفريق كل همِّه أن يشاهد وأن ينظر وأن يطرب نفسه بهذه السابحات في الجو تملأ فضاءه وتقفز في فسيح رحابه!

ويمكننا حين نعود إلى ناحية الثروة في جاوة وإلى ما أفاضت على الهولنديين من خيراتها أن نئُول هذا إلى كثرة الأيدي العاملة فيها وإلى ضآلة الأجور التي تُعطى لهم؛ فالأجانب الذين يتملكون أراضٍ شاسعة في هذه الجزيرة وفي أشباهها يعمدون إلى إصلاحها بتلك الأيدي التي لا تتطلَّب أجورًا كهذه التي يتناولها العامل الزراعي في مصر، نعم فإن العامل المصري يتراوح أجره في اليوم بين ستة قروش وسبعة، فإذا كان صبيًّا فإن أجره بين ثلاثة وخمسة، أما في جاوة فإن عاملها يتناول أقل من عاملنا اليافع بكثير!

وعلى هذا فقد تسنَّى للأجانب أن يُنتجوا محصولًا وافرًا من الأرز والشاي والبن دون أن يبذلوا في سبيل إنتاجه شيئًا يُذكر، وإلى هذا يعود ربحهم الكثير.

ولقد أدهشني أن تكون جاوة ذات المناخ الحار والهواء المُتوهِّج بلدًا صالحًا لإنماء كثير من الفواكه الحلوة الجميلة، وأن تكون بين فواكهها تلك الأنواع التي تجمع الذباب من حولها، فإذا تلفتتَ حواليها وأمعنتَ فيها لا تطلع بعد شديد بحثك وجسيم استقصائك على ذبابة واحدة!

ذلك أنَّ الهولنديين قد عرفوا بعنايتهم الطبيعية بكل ما يمس الصحة العامة كيف يبيدون الذباب من هذه الجزيرة وكيف يجعلون البعوض نادرًا جدًّا.

وما دُمنا قد طرقنا ناحية الزراعة في جاوة فإنَّا نذكر بإعجاب للحكومة الهولندية بالغ دقتها في مراقبة الزراعة العامة حتى أصبحت محصولات الجزيرة ذات أثر فعَّال في السوق الدولي وذات ثقة وافرة من جانب المستهلكين في العالم.

فالحكومة الهولندية قد أنشأت قسمًا خاصًّا بالمزروعات في مصلحة الزراعة، وقد غذَّته بمعامل التحليل الكيماوية رغبةً منها في اختبار البذور من أرز وبن وشاي وكاكاو، فإن وجدت فيها شيئًا من العطب أبادتها وأمرت الزُّراع أن يأخذوا بذورهم من النوع النقي الجيد، لا عجب في هذا فإن أوروبا لم تخلق أكثر دراية من الهولنديين في مستعمراتها التي تحوِّرها إلى جنات ذات أفنان.

وفي صَدَد الزراعة نذكر أنَّ النباتات تنمو في جاوة نماءً حسنًا، وهذا لوفرة الأمطار التي تؤدي إلى خلق حالة جميلة ممتعة بجوار ما تُؤدِّيه للزراعة، وهذه الحالة أنك لا ترى في الجزيرة أكداس التراب التي تتراكم في الطُّرقات وتذروها الرياح في أعين المارَّة.

•••

ويأسف الجاويون لأن جزيرتهم كثيرة الزلازل؛ ذلك أنها وما حواليها من جُزر قد صبغت طبيعة أرضها بالطابع البركاني الذي تحدث عنه هِزَّات الأرض العنيفة، وقد لجأ الأهالي اتِّقاءً للخسائر وتجنبًا لفوادح الزلازل إلى منازلهم فابتنوها من «البامبوز»؛ لأن هذا النوع من الأخشاب حين يتصدَّع لا يحدث إلا قليلًا من الانحناء يسهل عليهم تقويمه.

وتُخالف منازل الإفرنج تلك الحالة التي أُقيمت عليها منازل الوطنيين، فقد أُقيمت بالطوب الأحمر على طبقة واحدة تُشبه ما عليه منازل الأمريكيين في جهات أمريكا البركانية.

إن البركان حين يثور يدع كل شيء رجامًا؛ يُحوِّل الجبل إلى رماد، ويُحول الغابات بأشجارها إلى هشيم تذروه الرياح، على أن السائح الذي يُشاهد تلك الأكداس التي خلقها البركان الثائر حين تُطاوعه الأقدار في العود إلى جاوة مرة أخرى لرأى ما يُدهش اللُّب ويُحيِّر الجَنان، لرأى أنَّ عناية الحكومة وكثرة العمال قد أحالت الهشيم جنات، والرماد غابات فاتنات كأنَّها لم تُحرَق، ولم تمتد إليها يد النار!

في وسعنا أن نشبه جو جاوة — دون أن نُخطئ في التعبير — بأجواء الصوبات — المنازل الزجاجيَّة — التي توجد في أوروبا، فقد جمع الله إلى جاوة النور والشمس والجو غير المُتقلِّب والماء القَراح، وقد ألبس تربتها حُلَّة من الخصوبة وتلك عوامل تهيِّئ لنباتاتها النمو المضطرد السريع.

ولعل الظاهرة الوحيدة التي لا تُبدَّل ميزاتها ولا لونها بتبدُّل الفصول هي ميزة المناخ الجاوي فإنَّه لا يزيد عن ١٠ درجات في الصيف والشتاء، وهذا ما يجعل جوها بعيدًا عن موطن البرودة، قريبًا من أن يكون صيفًا معتدلًا طيلة العام.

ولأنَّ مياه الأمطار — كما يقرِّر النباتيون — هي خير ما يُغذي النبات ويدفع إليه القوة والحياة، فإن كثرتها في جاوة دليل ينهض بوفرة تقدُّمها في هذا الضرب من ضروب الإنتاج الجميل.

وفي مقدورنا أخيرًا أن نُؤكِّد بأنَّه لا توجد آبار أو منابع تُجدي على النبات وتُهيئ له أسباب النشاط في نموه، لا توجد هذه الآبار والمنابع على تلك الميزة إلا أن تكون في جاوة دون ممالك العالم جميعًا.

•••

تلك كلمة جامعة تُحيط في كثير من الإجمال ما تذخر به مذكراتنا من إسهاب نرجو أن يُؤدي إلى الغاية التي ننشدها من تحقيق بعيد عن الإغراق بعيد عن المغالاة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤