١١ أغسطس

حالة الصباح ككل يوم هواء منعش ومشاهد ممتعة.

ولقد أخذنا عدتنا حتى نتمكن من السفر وأخذنا بعض المناظر.

يُدهشني ما عليه الأهلون من ضعف وهزال فإن الصندوق لا يتمكن من حمله إلا أربعة أو خمسة من الناس.

وزاد في إعجابنا أنك ترى ثغرهم يفتر دائمًا عن الضحك، فإذا رأى أطفالهم أحد المارَّة بسموا له، وإذا نشدتَ عِراكًا أو مشاجرة تقع بينهم فإن دون شك تنشد شيئًا يجدر بك أن تضعه في حكم المستحيل فإنهم على كثير من الهدوء والوادعة.

تناولنا طعام الغداء وأخذنا قطار الساعة الثانية عشرة ثم غادرناه في «بتاتاوى» وهناك ركبنا الإكسبريس الذاهب إلى «بيتانزورغ» و«باتافيا».

باندنج

مررنا في طريقنا على «باندنج» وهي أكبر مدينة في وسط الجزيرة ذات أرض خصبة ومعامل عديدة، يقطنها كثير من الأوربيين وتعمرها عدة مدارس، وقد علمنا أن الهولنديين فيها يُزوِّجون الوطنيين ويتزوَّجون منهم، وأنهم لا يباعدون بين متعلميهم وبين مجتمعاتهم ونواديهم، وهذه حالة قلَّ أن يعمل بها مستعمر ينظر إلى الشرق بالعين التي تصوره له وكأنه صنيعة خاصة، وكأن أهله من طبقات عبيده.

وأدهش ما أُسجِّله بين الألم والغرابة ذلك الحادث الذي وقع لنا حين ركوبنا القطار.

فقد كان به ستة مقاعد للدرجة الأولى بينما يبلغ عدد الذين صرفت لهم تذاكر عن هذه الدرجة ثمانية، وأصبح من الملموس أن هناك اثنين لا مكان لهما؛ وعلى ذلك فقد قام رجلان من الهولنديين واحتجَّا على الناظر وألفتناه نحن إلى مطلبنا وإلى أنه جدير به أن يُهيئ لنا نحن الثمانية أمكنتنا التي نستحقها بموجب التذاكر التي نحملها، ولكنه عِوضًا عن أن يلتفت إلينا أعطى القطار إشارة المسير على حين غِرَّة.

فعدونا حتى لحقناه، وبقيت الحقائب على الرصيف، فجاءنا بها رجل طيب النفس شهم.

وقع ذلك الحادث المدهش في بلد يُذيع آلاف الدعوات للسائحين أن يزوروه، وحدِّث على صورة أقل ما تُوصف به أنها إخلال بالنظام وإعنات للسائحين!

على أن الجهل بلغة القوم لها شأن في كل ما يُكدِّر الصفو ويُعكر الخاطر.

تمتَّعنا بجميل المناظر ورائعها وبديعها، وسار القطار بنا بين مزارع البن والشاي، ثم شهدنا غابات قد اكتظَّت بالشجر وحفلت به.

بيتانزورغ

وفي الساعة السابعة والربع وصلنا إلى «بيتانزورغ» ونزلنا في فندق «بل في».

أما «بيتانزورغ» فإنها تبعد عن «باتافيا» ثلاثة أرباع الساعة بالأوتومبيل، وتعلو عن سطح البحر بثلاثمائة متر، ويبلغ تعدادها خمسين ألف نسمة على وجه التقريب، بينهم خمسة آلاف من الأوربيين، وهي أصح مكان في الجزيرة لأنها مقر لحديقة النباتات التي تعد أكبر مثيلاتها في الدنيا والتي أنشأها العالم النباتي الإيرلندي «رين ود» عام ١٨١٧.

وقد جعلتْها هذه المزايا الجليلة منتجعًا للسائحين ومستقرًّا لدار الحاكم لجزائر المستعمرات الهولندية الشرقية منذ اختارها الجنرال «فان ام هوف» في عام ١٧٤٥ لتكون مقرًّا لكل حاكم.

وعلى هذا فإن أكثر زائريها إما طبقة الموظفين يلجئون إليها بحكم عملهم، وإما طبقة السائحين، أو ذوي الحاجات التي يرجع الفضل فيها إلى حاكم الجزيرة.

يقرب المدخل الرئيسي إلى المدينة من حي «الصينيين» قُبالة مصلحة الزراعة، وهو شبيه ببوابة كبيرة يأخذك فيها أول ما تشاهد منظر نفق ممتد طويل تتخلَّله أشعة الشمس، وقد التأم ذلك النفق واستقام من جذوع شجر «الكناريا» التي تشبه في طولها وامتدادها منظر العملاق السابح في الفضاء البعيد، وتتلاقى ساريَتاه على صورة «قوس» يبلغ ارتفاعه مائة قدم، وذلك هو طريق «كناري» الذي طبقت شهرته كل فجٍّ والذي يصل بك إلى البحيرة الصغيرة الساجية التي تُطلُّ عليها واجهة سراي الحاكم العام، وأمتع ما في هذه البحيرة أنها مليئة بأنواع كثيرة من «عروس النيل» وذلك دون ريبة منظر جذَّاب بهيج.

إن قطع الأرض التي تلابس جوانب سراي الحاكم العام أرض محظورة، ولكنك تشهد في شأو طريق «الكناريا» قريبًا إلى الشمال ممرًّا صغيرًا هو الذي يصلك إلى المقبرة الصغيرة، كما أنك ترى ذلك المكان الذي ورف ظله وامتد في وسط البامبوز، ذلك المكان الذي كان يلجأ إليه الحاكم العام السابق de Erens طلبًا للراحة، والذي كان يلجأ إليه عديد من الرجال العظماء أيضًا، فإذا توليتَ شطر اليمين عند دخولك إلى الحدائق كنتَ حِيال بعض من الآثار التي بقيت من عهد الهنود على ذلك القبر الصغير الذي شيد كتذكار للادي رافلس زوجة الحاكم الإنجليزي عنها، فإذا ما سرت قليلًا كنت أمام Pandanus وعلى مقربة منها تتلاقى بالقسم الذي يخص النباتات المُتشعِّبة التي جمعت من جوانب المستعمرات الهولندية المختلفة.

إن سراي الحاكم العام التي تحيطها هذه الحدائق الغنَّاء والمناظر البهيجة الممتعة، إلى ما يتراءى لك من مُتنزَّه منسق هي عمارة جميلة بديعة الرواء يطل جانب منها على بحيرة عروس النيل الشهيرة، أما جانبها الغربي فقد أُقيم لصق حديقة فاتنة البهجة جذابة المنظر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤