١٥ أغسطس

بتافيا

كان من أثر سُهادي ليلة الأمس أني رأيت في الفجر منظر الصباح الجميل يعلو سناه قمم الجبال الشامخة فيزيدها رونقًا ورواءً.

ففي الساعة الثامنة والنصف أخذ المستخدمون أمتعتنا إلى المحطة، وفي الساعة التاسعة كنا على رصيف القطار، ولما قدم وجدنا أن عربات الدرجة الأولى موفورة الفراغ.

وأعجب ما في قُطُر جاوة أنها بطيئة جدًّا فإن المسافة التي تفارق بين «بيتانزورغ» و«بتافيا» لا تجاوز خمسة وثلاثين كيلومترًا، ومع أن القطار الذي ركبناه كان «إكسبريس» فإنه لم يقطع الطريق إلا في ساعتين، على أننا حمدنا الله جد الحمد أن دخلنا «بتافيا» ونحن سالمين لم تمسنا هوام الأرض بسوء.

وأخذنا سيارة «تاكس» وذهبنا إلى «فندق الهند».

و«فندق الهند» رحيب فسيح يجمع إليه مائتي غرفة كل منها تحوي لوازمها الخاصة من دورة المياه وما إليها، ويخيل للناظر إلى ذلك الفندق أنه أمام «قشلاق كبير طويل».

ولست أدري كيف يكون الفندق ومقدار الفراغ الذي يشغله من الأرض لو أنه أقيم طبقة واحدة على هذه الشاكلة من تعداد اللوازم الخاصة ووفرتها؟

ولعلك تذكر ما وصفت لك به الحمامات في الفنادق الجاوية وكيف أنها تشبه حجرة «الزير» التي كانت في المنازل المصرية البالية، على أن الفنادق الكبيرة قد أخذت بعض الشيء ما ولَّدته الحضارة في طورها الوليد فجعلت حمامها «دُشًّا» لا شأن له بهذا «الماجور» الثقيل.

ولكن الفنادق الكبيرة لها إلى ذلك حالة تؤثر في نفس السائحين تأثيرها السيء؛ فإنهم لا يجدون من بوَّابها ولا خدمها ولا موظفيها عناية في الخدمة ولا رعاية تُوازي الأجور الفادحة التي يتقاضونها، بينما تناقضها الفنادق الصغيرة في هذا الشأن بما تجلب لزائرها من أسباب الراحة والعناية الوافرة، وهذا التناقض أثر من آثار الازدحام في الأولى وقلة الوافدين على الأخرى.

على أن سكرتير الفندق قد صحبنا إلى حجرتنا التي حُجِزت لنا في الدور الأول.

ولقد جعلت إدارته لكل أربعة من غرفه خادمَين يؤديان رغبات ساكنيها ويقضيان حوائجهم.

أما حجرة المائدة فقد أُقيمت بمفردها على طبقة أرضية خاصة داخل الحديقة؛ ولأن هذا الفندق كبير أمثاله في جاوة وأكثرها أجرًا فإن الطعام فيه شهي مُتقن الطهي لذيذ، فتناولنا طعام الإفطار ثم أخذنا السيارة لنجول في المدينة جولة نتعرف فيها إلى أحيائها، وإذا أنا تحدثت عن «بتافيا» فإنما يجدر بي أن أذكر أن الحكومة الهولندية قد شطرتها إلى ناحيتين، ناحية ما تزال تتمتع باسمها القديم «بتافيا» وأخرى أطلقت عليها الحكومة «ولتر جاردن».

إن الشوارع التي اجتزناها في بداءة الجولة كبيرة مُتَّسعة، أقيمت في وسط بعضها «ترع» كبيرة ذات دَرَج من جانبيها حتى يمكن الأهلون من أن يغسلوا ملابسهم ويجففوها على هذه الدَّرَج بينما هم يستحمون، ثم مررنا على الحي الصيني واجتزناه إلى مشاهدة شادة؛ فقد رأينا مدفعًا تحوطه الأوراق الملونة، وذلك المدفع في عُرف الجاويين شيء مقدس وأنه قوة من السماء تجلب النمو إلى زراعتهم، فتراهم يُحوِّطونه بهذه العادة المصرية التي تدفع الجماهير إلى ربط الخرق على شجرة «ست مندورة» في الروضة، وعلى مسامير باب «زويلة» الذي يعرفه العامة باسم «باب المتولي»، مررنا بعدئذٍ على «الأكواريو» سوق السمك فألفيناه مغلقًا.

إن «بتافيا» وإن تكن مليئة بالأشجار محتشدة بها فإن جوها حار لا يُطاق، وهواءها يبعث الضيق إلى النفْس، وإنها بما فيها من «فابريكات» ومعامل وحركة لتجمع إليها كل مظاهر العواصم العامة للبلاد، وبعد ذلك ذهبت إلى الحلَّاق.

أمطرتنا السماء وابلًا في الساعة السادسة والنصف وصبَّت مُزْنها ما تحمل من غيث على المدينة، على أن الذي سُررنا له وطربنا به أننا تصفَّحنا الجرائد الفرنسية والإنجليزية، وتعرَّفنا منها أخبار العالم، وهذا شيء سار فإننا منذ سفرنا من أوربا لم ندرِ شيئًا من أخبار العالم اللهم إلا هذا النَّزر اليسير الذي كان يُرسَل بالتلغراف، ولقد قضينا شهرًا ونصف شهر لم نقرأ جريدة واحدة جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤