٧ أغسطس

من الحتم أن يُدهَش الناس لأني لم أؤد الزيارة لواحد من السلاطين، أما أنا فأُعيد دهشتهم إلى فكرة المستعمرين في ذلك الشأن حتى لا يذهبوا بعيدًا إلى موطن الغرابة والتأويل.

إن المستعمرين يحرصون جهدهم على ألا يختلف أمير شرقي مسلم إلى واحد من الأمراء أو الشيوخ في بلد بسطوا سلطانهم عليه، وتغلغلوا بجبروتهم في نواحيه.

وأذكر في كثير من الأسف أني عندما أردت الذهاب إلى تونس والجزائر ومراكش على أمل زيارتهم وفقًا لبرنامج سياحتي حول العالم، تلمَّست صورًا من الصعوبات الهائلة التي تعترض الزائر الشرقي في طريقه إلى تلك الممالك، وأُصرِّح هنا بأن هذه العقوبات لم يذللها ويدفعها عن سبيلي إلا تأكيدي الحاسم للحكومة الفرنسية بأن سياحتي ليس لي من ورائها مطمع مستور ولا نية خافية، وإنني في سبيل أن أُزيل من شكوكهم نحونا سوف لا أزور واحدًا من كبراء هذه البلاد.

وهكذا كان الشأن في رحلتي إلى جاوة فإننا حينما أظهرنا رغبتنا في زيارتها لكثير من كبراء الهولنديين كانت بسماتهم تنمُّ عن السرور والغبطة الجمَّة والترحيب الكبير، ولكنا تبيَّنا الحقيقة التي أُسدِل عليها الحجاب، فإذا بهم لا يحبون أن نخالط أحدًا من المسلمين في هذا البلد ولا أن نتقرَّب إلى رجل رسمي من مسلميها.

وإلى هذه الأسباب وحدها قد رأيت ألا أختلف إلى رجل رسمي في البلاد.

تحقق لديَّ أن الجاويين في وجهة الزواج يُلابسون النُّظم الشرقية في أمره؛ فالأطفال يتزوجون من صغار البنات، وكبار الشيوخ يتزوجون ممن لم تبلغ الحُلُم، وكثيرات منهن لم تخط إلى سنتها الثانية عشر.

وأحمد الله تعالى على أن الثورة التي قامت في جاوة قبل عام من رحلتنا فيها قد دفعت إلى قلوب الهولنديين فكرة الشِّدة فراحوا يُعدِّلون في قانون البلد العام، وفتحوا في لوائحه أبواب البنود الجديدة التي جعلوا منها تحريم الزواج على الفتاة التي لم تبلغ سنها السادسة عشر ربيعًا.

إن الجاويين قصار القامة، وقد يكون من بواعث ذلك أن أمهاتهم يتزوجن صغيرات السن وأنهن يلدن قبل أن تكمل لهن سن البلوغ فيُنتَج النسل سقيمًا هزيلًا.

ولقد أفادت الحكومة الهولندية الصحة العامة في هذه الجزيرة حين قرَّرت أن تمنع كل تاجر للمأكولات من مزاولة مهنته إلا أن يضع سلعته تحت زجاج أو «شاش» أو شبكة من السلك الرفيع، كما حرَّمت على أي إنسان أن يضع القمامة وما إليها من القاذورات في الشوارع والطرقات.

وإنه لعمل جميل أظهرني على أن البلاد برغم حرها الشديد بعيدة نائية عن جيوش الذباب.

في الساعة الثامنة والنصف صباحًا أخذنا سيارة لتُقلَّنا إلى معبد قديم يدعى «بربادور» وقد بُني ذلك المعبد عام ١٧٥٠م وأُقيم على نسق معابد الهند.

مررنا في طريقنا على قسم من أقسام المدينة ثم انتهينا إلى الخلاء في طريق من أفخم الطرق وأجملها منظرًا، مرصوف بالأسفلت، مُتَّسقة على جوانبه تلك الأشجار العالية التي اشتُهرت بها هذه الجزيرة.

وقد ألبسه اتِّساعه الرحيب الذي يبلغ خمسة وعشرين مترًا ثوبًا من الجمال والبهجة ما يكاد الطرف يقع على روائهما حتى يخال أنه يشهد أفخم السُّبل في ضواحي باريس أو لندره من وجهة التنسيق المُنظَّم والنظافة الفائقة، بينما هو في اتِّساعه أضفى من طرائق هاتين العاصمتين وأجمل.

ويعود ذلك النظام، وتعود هذه الأناقة إلى ضآلة أجور العمال وإلى كثرتهم، فهم منتشرون في كل مكان يعملون في تحسين الطرق وفي تجميلها، حتى يحسب السائر فيها أنه بين حديقة غنَّاء ذات أفنان.

ولما كانت المدينة وافرة التعداد فالطريق مزدحم بالأهالي، والفلاحون يجلبون نِتاجهم للبيع، ويحملون متاعهم الثقيل على عربات تجرها الثيران، فإن كان المتاع خفيفًا كأن يكون من الفواكه أو الخُضر أو الدجاج أو الأوز فإنك ترى الرجل يحمله على عصاة غليظة شد هذا المتاع إلى طرفيها وأسلمها إلى كتفه.

وانتهينا في طريقنا إلى بعض «الكفور» فإذا بنا نرى أن السوق تعمره السيدات وتُغالب فيه الرجال تعدادًا، وإذا بنا نرى أن كثيرًا من الحوانيت يُديرها النساء، فأيقنَّا أن السيدات هنا لا بدَّ وأن يكن على غاية من الذكاء والدرابة في مزاولة التجارة، وهن في هذا المكان كأخواتهن في أرجاء الجزيرة قصار القامة ضعيفات، أما الفلاحون فإنهم بالنسبة للسيدات أكثر قوة على الرغم من أنك تظن أنهم سيهبطون إلى الأرض من شدة الضعف والوهن!

كما أنك ترى من بينهم من يتزوج وعمره عشر سنين أو اثني عشر.

وعلى أي حال فإن الذي علمته أن واحدًا من الأهلين لن يجاوز الستين عامًا وهو على قيد الحياة!

إن الأشجار والنبات والعصافير والحشرات في هذه البقعة لعلى غاية من السعادة والجمال والرونق النضير البهي.

وإن الإنسان هنا لبالغ منتهى الضعف والفاقة والمَسكَنة، أما الخيول والماعز والثيران فإنها قرينة الإنسان في ضعفه وهزاله، بينما الكلاب الجاوية ضئيلة الحجم صغيرة جدًّا!

وصلنا إلى بربادور وإذا بنا حِيال الآثار التي تركها البوذيون في جاوة، وهو معبد كروي السارية، أحجاره من النوع البركاني يحسبه الرائي عن بُعد أهرامًا، رفيع العماد وقد زُيِّن بنقوش وتماثيل صُوِّرت فيها الطيور والعصافير والحيوانات والأفيال على نسق من مثيلاتها في المعابد الهندية، إلى ذلك ما أقيم على قمته من تمثال لبوذا الذي يربو عرضه على مائتي متر.

ثم صعدنا على قمة الهيكل رغبةً منا في إمتاع الطرف بمرائي الطبيعة من حوله فإذا هي مشاهد جميلة رائعة، ثم تركناه إلى السيارة وأخذناها إلى قرية صغيرة تدعى «مندويت».

ففي «مندويت» شهدنا هيكل «بوذا» من حجر واحد يرتفع إلى أمتار ثلاثة يقف عن يمينه «براهما» وعن يساره «سيوا» وهذه الهياكل الثلاثة لا تلاصق بعضها، بل كل منها قد استقل عن أخويه، على أنهم في وضعها قد جاءوا على أجزل دقة وأجمل إتقان.

ولقد ألفيناهم هنا يستعملون «البخور» ويغلب عندهم بخور الصندل القوي النقي لوجوده بكثرة هائلة في تلك البلاد.

أعطينا «البقشيش» للخفير العجوز، ولقد شئنا أن نسأله عن دينه، فما أشد دهشتنا حين علمنا أن خفير المعبد الوثني رجل مسلم!

ويجدر بي أن أذكر — على ذكر «البقشيش» — أن القوم هنا على شيء كثير من الأدب الجميل، فهم يتقبلون ما تمدهم به دون أن يهجموا عليك ويُضايقوك كما هو الشأن في كثير من البلاد.

ومهما يكن العطاء قليلًا، فإن أحدًا منهم لن يتبرم به، بل يمسكه بيد ويضع الأخرى على قلبه، ثم يركع على ركبتيه ويلقي بعطائك على رأسه، وإنه ليُقبِّله قبل أن يضعه في جيبه، كما تعوَّد الشرق في عهده القديم.

ورجعنا إلى الفندق حيث كانت الساعة العاشرة والنصف.

بعد الظهر …

أخذنا السيارة ورفقتنا واحد من موظفي الفندق ركب معنا لنجول في المدينة، فمررنا أول الأمر على ذلك الحي الذي يقطنه الإفرنج، وإذا بمنازله أقل شأنًا من منازل الفرنجة في «سورابايا»، وإذا بنا نرى عددًا من المدارس والمستشفيات، إلى ذلك ما وجدنا من ثكنات صغيرة يعمرها الجنود الهولنديون، كما رأينا في تجوالنا بهذه الناحية ديرًا للقُسُس.

واجتزنا هذه المشاهد إلى أن مررنا على سراي السلطان التي يُحيطها سور مرتفع أبيض اللون، وترقَّبنا أن نشهد واحدًا من الجند الذين يحرسون السراي، ولكنا لم نشهد منهم أحدًا، وهذه السراي لما تجمع من ملحقات قد أخذت من المدينة حيزًا كبيرًا من مساحتها.

وأَدهَشُ ما قيل لنا إن السلطان قد بنى من ثلاثين زوجة، وأنه شاء هذا العدد الوفير حتى يمر الشهر عليه وقد خلى كل يوم إلى زوجة لا يشهدها إلا في دورها من الشهر القادم وهكذا دواليك!

أما القسم الأهلي في هذه المدينة فإنه خلو مما يلفت النظر.

لا يعرفون هنا «المسلي» ولذلك ترى أن أغذيتهم تُطهى بزيت الهند.

وأجور السيارات أضعاف أجورها في «سورابايا»، ففي هذه المدينة ترى سيارات من نوع taxi قدرت لها الحكومة تعريفة خاصة، أما هنا فكنا نجلب السيارة بواسطة «بوَّاب الفندق» وعلى هذا فقد تعيَّن علينا أن ندفع الأجر أضعافًا مضاعفة.

وقد ذهبنا إلى فوتوغرافي واشترينا منه بعض المناظر.

إن الإعلانات التي يجتذبون بها السائحين إلى هذه الناحية قد ضمَّت إليها أشياء كثيرة، كلها إطناب ومبالغة.

والحقيقة المنصفة المجردة عن الهوى أن شيئًا مما وقع نظري عليه لا يستحق أن يُذكر.

اللهم إلا جمال أفرغته القدرة على مشاهد الطبيعة، وإلا نمو الأشجار الذي يدع في النفس أثرًا رائعًا جليلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤