٩ أغسطس

استيقظت في الساعة الرابعة والنصف حتى أعد العُدة للسفر على قطار الإكسبريس الذي حجزنا به أمكنتنا والذي يغادر «جوكجه» في الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة قاصدًا إلى «بتافيا» عاصمة الجزيرة.

ولما كان الوقت مبكرًا جدًّا فقد كان الهواء باردًا جدًّا.

وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين بدأ القطار يعلو على مستوى السهل المنبسط في سبيله إلى جبل مرتفع، فالمدينة التي نقصدها أكثر ارتفاعًا بين مثيلاتها من البلاد التي تقع تحت سيطرة الأوروبيين، وقد اتَّخذوها في مثل ذلك العلو الشاهق عن سطح البحر حتى تكون منتجعهم في أيام القيظ والهجير؛ ذلك أن الإنسان كلما ارتفع على قمة الجبل كلما أحس في أشد الأيام حرارة بأنه محوط بجو بديع ونسيم عليل.

وظل القطار يعلو فبدت المناظر — مناظر السهل — نشهدها من ذلك المرتفع جذَّابة ممتعة حتى وصلنا إلى محطة «تيبوتاجو» وهناك تركنا القطار لنأخذ قطارًا آخر صغيرًا جبليًّا حتى نصل به إلى «جاريت».

جاريت

وقد رأينا عددًا وفيرًا من الضباط الهولنديين يريدون أن يركبوا القطار، ولما كان ازدحامه شديدًا وأماكنه لا تسعهم فقد أُحضِرت لهم عربة خاصة ركبوها مع الجنرال، ولقد علمت منهم أنهم يقصدون معنا إلى «جاريت» لأنهم يُقيمون فيها مناورات عسكرية في ذلك الصيف.

وهنا يجب أن أذكر أن وطأة الحكومة هنا شديدة، وأن سياستها في الوجهة الوطنية متأخرة مؤلمة، فإذا ما بدأت حركة في البلاد فإنها تُقمَع بكل شدة، ولقد كان هذا مصير الحركة التي قامت في جاوة في العام المنقضي، ولأن هذه الجهات التي تقام فيها المناورات العسكرية ذلك الصيف كانت أكثر اضطرابًا حين الثورة وأشد فوضى فقد عمد الهولنديون إلى أن يُظهروها على ألوان قوَّتهم وصور سلطانهم ولهذا أقاموا بها المناورات، وبعد ثلاثين دقيقة كنا في «جاريت» فأخذنا سيارة من المحطة وذهبنا إلى الفندق.

و«جاريت» وإن تكن بلدة صغيرة يبلغ تعدادها تسعًا وعشرين ألف نسمة بينهم أربعمائة وسبعة عشر من الإفرنج فإنها جميلة تنعش النفس إذ تعلو سطح البحر ﺑ «٢٥٠٠» متر، وعلى هذا فمناخها لطيف رقيق لا حرارة فيه، إلى ذلك ما بها من مشاهد الطبيعة اللائقة ومناظرها الحسان.

وهي بعيدة عن الضجيج والحركة والزحام، تلمسنا فيها كثيرًا من الراحة والهدوء.

تناولنا الطعام وأخذنا من الراحة قِسطًا قليلًا، ثم ولَّينا وجهنا شَطْر بلد قريب.

وفي طريقنا إليه شهدنا هذه المرائي الجميلة في طُرق الجزيرة المرصوفة المحوطة بالشجر الكبير ورجعنا إلى الفندق.

وكان أول ما أخذنا نفسنا به عند عودتنا من النزهة أن جلسنا تحت شجرة نستنشق الهواء المنعش، وكانت بهجة المناظر ورقة الهواء تُشعرني أني في سويسرا.

على أني برمت بهذه الخاطرة التي ألجأتني إلى أن أسير على قدمي قليلًا؛ فقد أتعبني ذلك السير، وهكذا أؤمن بأن كل كائن في الدنيا وكل شيء فيها له أوانه وأيامه ووقته الذي لا يعدوه، فأنا الآن لا أستطيع أن أمشي وأعمل كما كان شأني من زمن.

ولقد تحقَّق لديَّ أنه ليست هناك فائدة تعود على رحلتي في انتظاري أيامًا ثلاثة ويومًا في «باندنج» كما نظمتُ في برنامجي الذي كنت قد سجلت فيه بأني مسافر إلى «بنتازور» في اليوم الحادي عشر.

تحقق لديَّ كل هذا فعدلت عن البرنامج واقتصرت مدة الإقامة فأزمعتُ على السفر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤