الفصل الأول

الصحراء

كنت في رحلتي الأولى وسط الصحراء قد نذرت نذرًا ضللنا الطريق وأضعنا معه الأمل، فلا أثر للواحة التي التمسناها، ولا سبيل إلى بئر قريبة منا، هدَّ التعب أجسامنا، وتسرَّب اليأس إلى نفوسنا، وكانت الصحراء قاسية عاتية، فنذرت إن خرجنا منها أحياء أن لا أعود إليها ثانية.

مضى عامان على ذلك النذر فإذا بي في نفس الصحراء، وفي عين البقعة التي ضللنا عندها الطريق، ثم إذا بي عند ذات البئر التي أنقذت حياتنا في الرحلة السالفة.

أجل قد يكون للصحراء متاعبها ولها أيضًا ملاذها، وهي التي تستهوي عشاقها وتجذبهم إليها، افتتن بها كل مَنْ جاب فيافيها، افتتن بعظمتها المتمثلة في فضائها الواسع وسكونها العميق وحياة التنقل المحفوفة بالمخاطر، بل هي تلك المخاطر نفسها التي تفتنه، بل يفتنه الموت المنتشر في كل بقعة من بقاعها.

تَبْسَم فما أحلى ابتسامها، وتعبس فما أقسى عبوستها، تضحك نجومها فتستهوي عابر سبيلها، ويحتكم فضاؤها في القلب فتوقعه في أسرها، فيسير مغتبط النفس هانيها سير المؤتنس بها، المولع بجمالها، المفتون بعشقها، ولكنها كالغانيات شيمتها الغدر، فلقد تريك بعد تمام الرضا غاية الغضب ونهاية القساوة.

الصحراء ساحرة جذابة، إذا عرفتها تعلقت بها نفسك أبد الدهر، ولكن ليس من السهل أن تدرك سر سحرها ولا سبب خلابتها، بل كل ما تعرفه أنها تناديك، فينفذ نداؤها إلى صميم قلبك، وتدعوك فلا تلبث أن تشد الرحال إليها صاغرًا … يسوقك الحنين، وتدفعك الذكرى.

وأية ذكرى! …

تكون قد سِرْت عامة يومك على أقدام مقروحة … حتى السير أهون عليك من ركوب الإبل!

تلازم القافلة ساجي العينين تجرر قدميك على وقع خطى الإبل، وقد جف ريقك وتشقق حلقك ولا أثر لبئر تُرْوَى منها.

يسير رفقاؤك في هدوء وسكون وقد خفتت أصواتهم وانعدمت فيهم رغبة التغني، قلَّص وجوهم الجهد، وحالت إلى لون الدم عيونهم تبعث نظرة شاردة حائرة ملؤها اليأس، تستطلع الأفق وتستبين ذلك الخط الذي تلتقي عنده زرقة السماء بصفرة الرمال، فإذا به دائمًا باهت بعيد.

السكون شامل لا تصدعه إلا خضخضة النزر اليسير الباقي من الماء، في القِرَب المتهدلة على جوانب الإبل.

إننا في الصحراء لا نتحدث كثيرًا، فالصحراء تُعَلِّم السكوت، وإذا أحدق بنا الخطر تحاشينا النظر بعضنا إلى بعض وغنينا عن الحديث.

وماذا يجدي الكلام؟!

كل منا يعرف ما هو واقع، وكل منا يحتمله بصبر وجلد؛ إذ التضجر ضرب من اللوم على الله القدير، وهذه معصية لا يقدم عليها بدويٌ قط، ففي عقيدته أن الله كتب عليه هذه الحياة، وقدر عليه سلوك هذه الطريق، وقد تقوده إلى الموت الذي اختاره له، فلا بد له من الرضاء به، والبدويُ يقول: لا مفر مما كتبه الله أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ.١

في مثل هذه الساعات، تقطع على نفسك المواثيق والعهود أن لا تعود إلى الصحراء قاطبة إذا خرجت منها حيًّا.

ثم ينتهي عمل اليوم وتحط الرحال ولا تنصب الخيام؛ لأن الرجال مجهدون غافلون عن التفكير في أجسامهم.

وكأنما الشمس قد نالها ما نالنا من تعب، وكأنما النهار الذي قطعته وإيانا في نضال الصحراء قد أسفر عن انهزامها كما أسفر عن انهزامنا، وكأنما صراع الصحراء قد أدمى وجهها؛ فإذا قرصها المهزول يرسل أشعة حمراء ضعيفة كأنها خيوط الدم، وكأنما الشمس قد عمدت مثلنا إلى الانزواء تضمد ثخين جروحها، وتجدد منهوك قواها حتى إذا تم لها ذلك، عادت وعدنا في نورها إلى مصارعة الصحراء، ولكن الصحراء لا تلبث أن تصرعها وتصرعنا … قصة كل يوم.

ثم يهبط الظلام شيئًا فشيئًا، تطارد طلائعه فلول النور، ويسجو الليل زاهر النجوم أو وضاح البدر، وربما كان ليل الصحراء أعجب نواحي الحياة فيها.

figure
الأمير السيد محمد إدريس السنوسي.

يغشاك السكون ثم تحن إلى الحديث بعد سكوت يوم طويل، وتبدأ الْمُلَح فاترة فيجرؤ صغير القاقلة، أن يقذف بنكتة طريفة عالي نبرات الصوت عن رفقائه، وإن لم يكن طرب الفؤاد.

ثم تتوافق أصوات البدو غير شاعرين وترتفع وتتزن في ذلك المقام … فيدور الحديث.

هكذا الصحراء تبدأ سحرها.

يسري نسيم الليل عليلًا فينعش أرواح القافلة ولا تمضي دقائق قليلة حتى يبدأ النقر على «الفناطيس» الخالية، ويدور الرقص والغناء، والرجال يتعهدون الإبل أو يرتبون الحوائج ويصلحون السروج، فما يكاد يقع في آذانهم أول صوت من أصوات النقر أو الغناء، حتى يتجمع شملهم حول رماد النار الخابية، فيتوسم كل منهم وجوه رفقائه؛ ليطمئن عليهم ويتيقن سلامتهم، ويحاول كل منهم أن يكون أشد بهجة من جاره، لِيُقَوِّي عزيمته وَيُجَدِّد في نفسه الثقة والأمل والطمأنينة.

ونعمد إلى مغالطة أنفسنا، وهي مهمة تبدأ ثقيلة شاقة، نحاول أن نطرب وأن نبعث في ظلام حيرتنا ومتاعبنا نورًا، فيقول أحدنا: «إن جِمال القافلة على ما يرام، لقد تعهدت ذلك الجرح فإذا به أخف مما كنت أظن.» ويقول آخر: «أخبرنا بو حسن أنه رأى شارة البئر على مقربة إلى اليمين.» وهكذا نستدرج أنفسنا لنقنعها بأن كل شيء على ما نود ونرغب، وربما كان هذا كله تغريرًا منا بأنفسنا، ولكنها الصحراء قد خلبت ألبابنا وتغلب سحرها على عقولنا.

شأننا في ذلك شأن رجل شديد الوله بغادة فاتنة ساحرة، ولكنها قاسية جافية، تعرض عنه فتظلم الدنيا في وجهه، حتى إذا جن الليل وبسمت له استحالت الدنيا بأسرها إلى جنة ضاحكة، كذلك الصحراء تبسم لك فتنسى كل شيء، تنسى متاعبك وآلامك، تنسى الصعاب التي لاقتك والمشقات التي تنتظرك، تنسى كرب الحر والعطش، تنسى أنك أشرفت اليوم على الموت وأنه يرقبك غدًا، وأنه كامن لك عند كل خطوة، تبسم الصحراء فلا يبقى بعدها مكان جدير بأن تعيش فيه، ولا تطيب لك الحياة في غيرها من بقاع الأرض.

تبسم الصحراء فيعاودك حبها وتقبل عذرها، وتغفر ذنبها وتنقض عهد هجرانها.

ويسطو الرقص والغناء على ما بقي في نفوس القوم من قوة وجلد بعد جهد النهار، فتفتر العزائم، ويغلب النعاس على الأجفان فيرقدون تحت قبة السماء الصافية الجميلة وقد رصعتها النجوم.

قليلون من أهل المدن يعرفون لذة الجلوس في حلكة الظلام ورعي النجوم، ولا عجب إذا كان العرب أساتذة علم الفلك، فالأعرابي إذا انتهى من عمل يومه، خلا إلى نفسه وانقطع إلى ترسم حركات النجوم، وإمتاع روحه بما تبعثه فيها من الراحة، والشعور بالسمو إلى ما فوق العالم الأرضي.

وتقع النجوم من نفسه موقع الأصدقاء الأقربين الذين يلقاهم كل يوم، حتى إذا دارت بها قبة الفلك لم تغب فجأة كما يختفي المسافر عند الرحيل، ولكنها تحتجب تدريجًا كما يذوب الراحل في عين مودعه على أمل اللقاء القريب.

ويتصل الليل فينبعث من فم أول مستيقظ من رجال القافلة «حيَّ على الصلاة، الصلاة خير من النوم» وما زال في السماء قليل من النجوم المتناثرة، فيستيقظ القوم وكأنهم يجمعون عظامهم، فكل عضو من أجسامهم متألم وكل حلق جاف، ومع هذا فما أعظم التغيير الذي طرأ عليهم … سرى فيهم الأمل وتولدت الثقة، بل قد يعتقدون في ضمائرهم أن سيجري كل شيء على ما تهوى النفوس.

والدنيا بعد، فضاء مكفهر رطب، ونيران وقود الصباح وحدها تمزق برودة نسيم الشمال، فإذا كان الجو صحوًا لا سحاب فيه انتشر في السماء نور ضئيل، يرمي خلف الرجال والإبل ظلالًا مستطيلة رواغة دقت حتى ما تكاد تسميها ظلالًا، ثم يتخضب الفضاء بحمرة تبعث الدفء، وإنما تَبين ألوان الصحراء بين الفجر وبزوغ الشمس، حتى إذا طلعت ذكاء لم يبقَ في الصحراء إلا ذلك المنبسط السحيق من زرقة وصفرة، ثم تنصل الزرقة شيئًا فشيئًا حتى إذا انتصف النهار انمحت الألوان من السماء.

ويخلق الصباح قوة جديدة كما يبعث الليل السلام والسكينة.

تلك هي الساعات التي يتجلى فيها للإنسان سحر الصحراء وجمالها، في سكون هذا الفضاء المتسع، يدق الإحساس حتى إنه ليشعر قاطع الصحراء أحيانًا بقرب واحة عامرة، وتغلب غريزته أيضًا فيحس بمئات الأميال التي تبعده عن كل كائن حي.

وفي تلك اللانهاية الساكنة يصفو الجسم والعقل، وتُنقَّى الروح، فيشعر الإنسان بأنه أقرب إلى الله عز وجل، ويحس وجود قوة قاهرة، ليس لقوة أخرى أن تحول قلبه عنها، ويتسرب إلى نفسه الإيمان بالقدر الغالب، والاعتقاد بحكمة ما كتب الله، فيصبح شديد الاستسلام حتى يهون عليه بذل حياته للصحراء دون تبرم، وهناك حقًّا أوقات يشعر فيها بأن الحياة قليلة الوزن هينة.

وتكشف الصحراء من نفس الإنسان عن جوانبها الشريفة، فإنك إذا واجهت أهل المدن بالخطر، ناضل كل منهم عن سلامة نفسه، أما في الصحراء فتعظم نفس الإنسان وتنعدم الأنانية، ويفرغ كلٌّ قصارى جهده في خدمة زملائه ومساعدتهم، فإذا هدد الخطر قافلة من القوافل، وعنَّ لأحد أفرادها سبيل النجاة تنكب عنه ولم يترك رفقاءه لينجو بنفسه.

وأشد ما يهولك في الصحراء أن ينزُر الماء، وربما دار بخلدك في مثل هذه الحال، أن تستبقي لنفسك ما لديك منه، ولكنك بدلًا من هذا، لا تلبث أن تجدك حاملًا زجاجة ماء، وهي إذ ذاك أثمن ما تملك، تدور على الرجال تسأل كلًّا منهم هل يريد جرعة، تسألهم غير مكترث، كأنما أفرخ في روعك أن الماء غزير فائض عن حاجتك، تسألهم دون أن تُفكر في سلامتك الشخصية.

وهكذا تنعدم في الصحراء الأثرة والأنانية، فتقول لنفسك: مهما يكن مما قدَّر الله أن يقع، فليقع لرجال القافلة جميعًا؛ إذ إنك لا تريد النجاة وحدك، ذلك هو الشعور الذي يستولي عليك.

•••

لا أزال أزداد إعجابًا بالبدويِ كلما فكرت في ثباته وسكينته وشجاعته، التي لا يزعزعها شيء.

يدخل البدويُ الصحراء، وعماده ثلاثة: الجِمال، والماء، والدليل.

أما الجِمال فقد يخور أقواها وينفُق لغير سبب ظاهر؛ كما وقع لي حين تركت الكفرة ونفق جمل من خيرة جمالي في الليلة التالية، بينما قام أضعفها من الكفرة يتمايل تحت حمله ثم قطع نحو ١٢٠٠ كيلومتر ودخل الفاشر يقارب في خطواته.

وكنت قد أخذت على صاحبه إحضار تلك الدابة الضعيفة، فقال: «الله يحفظه.» وقد حفظه الله حقًّا وحفظنا كذلك؛ لأن موت جمل من جمال القافلة كارثة عظيمة، معناها إلقاء جُل أحماله إن لم نقل كلها.

أما الماء فيُحمَل أكثره في قِرَب، ولكنها قد تنثغر فجأة رغم تعهدها أيامًا وأسابيع أو يتبخر الماء منها، وربما اصطدم جملان في حلكة الليل فتنفجر قربة أو قربتان.

بقي الدليل

قد يقول الدليل — والأسباب كثيرة — إن الأرض تدور برأسه، ومعنى هذا أن رأسه طاح، وقد يضل الطريق إذا غامت الشمس بضع ساعات أو أخطأ في ترسم علم من أعلام الطريق.

عماد البدوي في اجتياز الصحراء كما قلت، ثلاثة: الجمال والماء والدليل، ولكنها جميعها لا تغني عن شيء آخر هو الإيمان، الإيمان الثابت الذي لا يتزعزع، الإيمان الراسخ الوطيد.

ولطالما كنت أغمض عيني وأستعرض ما مر بي في مدى سبعة شهور طويلة فأشعر بأنني لا فضل لي فيما قمت به، وأنني لا أستطيع أن أفخر بنجاح رحلتي، وإذا رجع كل رحالة إلى ضميره لما استطاع أن يقول: فعلت. وكل ما يقوله: وُفِّقت، وما التوفيق إلا من عند الله.

figure
الرحَّالة بملابسه البدوية.

قد تتجمل الصحراء ويلين مهادها، وقد يكون رجال القافلة نضر الوجوه مرحي الخواطر، ولكنها قد تكون أيضًا قاسية فتَّاكة، يضرب فيها على غير هدى، أولئك التعساء الذين كُتِب عليهم سوء الطالع، أن يهيموا في نواحيها مستيئسين، فإذا تهدلت رءوس الإبل من العطش والإعياء، ونزر الماء وما من أثر لبئر قريبة، ووجم رجالك وتطرق اليأس إلى نفوسهم، ونظرت في الخريطة فلم تجد أثرًا يهديك؛ لأن الطريق الذي تسلكه لم يكشفه أحد بعد، وسألت دليلك عن الطريق فهز كتفيه وقال: الله أعلم. وذرعت بنظرك الأفق، فإذا هو ذلك الخط الغائم المضطرب الممتد بين زرقة السماء الباهتة وصفرة الرمال، وأمعنت النظر في كل ما يحيط بك فما رأيت شارة أو علامة تبعث على بصيص من الأمل، وضاقت دائرة الأفق البعيد الشاسع حتى أصبحت طوقًا يضيق حول عنقك، ويغل حلقك الجاف، فهنا يشعر البدوي بافتقاره إلى قوة كبرى، أكبر من قوة الصحراء الفتاكة القاسية، وهنا يجأر باستدرار رحمة الله ولطفه، حتى إذا ضلت دعواته الطريق ضم «جرده» إلى جسده وتهالك على الرمال ينتظر الموت المحتوم في سكينة واستسلام.

هذا هو الإيمان الذي لا بد منه لمجتاز الصحراء.

١  النساء: ٧٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤