الفصل الثاني عشر

اختلاف مناظر الصحراء وإصلاح الخريطة

الاثنين ٢٦ مارس

عند بئر الحرش من آبار الظيغن، أعلى درجة للحرارة ٢٧ وأقلها ٦، جو صحو وريح شمالية شرقية انقلبت عاصفة شديدة حوالي الساعة ١١، وظلت ثائرة حتى منتصف الساعة السابعة، ولم تقر حتى منتصف التاسعة.

كان عزمنا أن نقيم ليلة واحدة في الظيغن، ولكن العاصفة اضطرتنا إلى البقاء يومًا آخر، والظيغن منطقة بها أربع آبار؛ وهي: الاثنتان اللتان مررنا بهما يوم الأحد، والحرش التي نزلنا عندها، وأبو زريق على بعد ٢٠ كيلومترًا في جهة الشرق.

وقد حادث أبو حليقة أثناء النهار تابعي عبد الله في أمر مجيئي إلى الصحراء، فقال: «إنكم جريئون أيها المصريون، فإن من الجسارة أن يحضر البك مرتين إلى بلادنا التي لم أرَ أجنبيًّا زارها، ولعمري لماذا يأتي إلى الصحراء ويترك خيرات الله في مصر، إن لم يكن له غرض خفي في ذلك السفر وأخطاره، ولست أكتمك أني يشغلني أمر مجيئه مرتين واهتمامه بقياس هذه الجهات ورسمها.»

figure
السيد شمس الدين ابن المرحوم السيد الخطابي شقيق السيد العابد.

حتى صديقي أبي حليقة تصل الريبة إلى نفسه مني، ويخامره الشك في أغراضي حين اخترقت بلاده، وقد وضح لي في آخر الأمر، الدافع الحقيقي الذي سبَّب كراهية البدو في مجيء الأغراب إلى بلادهم، وليس ذلك الدافع تعصبًا دينيًّا، وإنما هو غريزة المحافظة على النفس؛ فإن الغريب إذا أوغل في الصحراء إلى الكفرة، وهي مركز حياتهم المحبوب، كان كما يقول البدو «كالجمل يدخل أنفه من ثنايا الخيمة.» ويتبعه بعد ذلك كثيرون، فتكون النتيجة تملك الأجنبي بلادهم، وضياع استقلالهم، وإنزالهم على دفع الضرائب، وليس لأحد أن يلومهم على الخوف من إحدى هذه النتائج.

والرأي الشائع أن الصحراء لا يتبدل فيها شيء، ولكن توالي الأيام يخلق فيها تغييرًا مدهشًا، فإن الرحالة رولف عند مروره بالظيغن، في طريقه إلى الكفرة سنة ١٨٧١ ذكر وجود مساحة كبيرة من النباتات في تلك الجهة، ولكني لم أرَ فيها خضرة أصلًا، وإنما وقع نظري على أكوام من الحطب الجاف.

figure
السيد شرف الدين «شروفه» ابن السيد العابد السنوسي.

ويؤيد قول رولف ما ذكره لي أبو حليقة من أن أباه كان يأخذه إلى الكفْرة عند سفره لاستجلاب البلح؛ لأن البدو يعتقدون أن ماء «شخيرة»، وهي مركز الزوية بالقرب من جالو، يضر الأطفال في الصيف، وكان أبوه يحمله فوق ظهره معظم الطريق، ويقطعها في ذلك الوقت، في ثلاثة أيام وخمس ليالٍ بدون وقوف في الطريق، وإنما كانوا يقدرون على هذا بإطعام الإبل مرة واحدة بين جالو والظيغن، حتى إذا وصلوا الظيغن تركوها ترعى في الأرض الخضراء التي تحيط بها، وهكذا يتضح أن رولف لم يكن كاذبًا في وصفه تلك الجهات بكثرة المراعي، ولكن مرور ٤٥ سنة غيَّر معالم تلك الجهات، وربما كان السبب في ذلك اختلاف سريان الماء في طبقات الأرض، وانقطاعه عن تلك الجهات اليانعة؛ فأصبح كل ما فيها حطبًا للوقود.

وكانت مرحلتنا من بئر بو الطفل إلى الظيغن مثلًا ناطقًا لمخاطر الصحراء، فإنا احتطنا في تلك السفرة جهد الطاقة، ولكن وقودنا نفد ومات منا جمل، وخارت قوى جملين آخرين حتى خيف عليهما، واستهلك طعام الجمال فاقتاتت بين الظغين والكفرة بأوراق النخيل التي جمعناها في الظيغن، والسعف طعام لا يغني الجمل من جوع، وقد حفظت عن أحد البدو مثلًا لا يخلو من لمزة تهكم، وهو: «صديقك كناقتك؛ تعطيك اليوم لبنًا وتخذلك في الغد.»

وقد رصدت نجم القطب الشمالي بواسطة التيودوليت الليلتين اللتين قضيتهما في الظيغن، ووضح لي بعد تطبيق الملاحظات وعمل الحساب، أن الظيغن واقعة على بعد ١٠٠ كيلومترٍ في الجهة الشرقية الشمالية الشرقية من الموقع الذي وضعها فيه رولف، والمعلوم أنه لم يزر الظيغن ولم يرصدها، واعتمد على ما قاله البدو عنها، وقد لاحظت فوق هذا أن الظيغن تعلو ٣١٠ متراتٍ عن سطح البحر.

الثلاثاء ٢٧ مارس

قمنا الساعة السادسة وربعًا صباحًا، ووقفتا الثامنة مساء، وقطعنا ٤٧ كيلومترًا. أعلى درجة للحرارة ٢٦° وأقلها ٨°، جو صحو وريح قوية من الشمال الشرقي هبت الليل والنهار وسحاب صبير. وقد أشار الدليل بعد تركنا الحرش إلى موقع الكفرة على بعد خمس درجات من الجنوب الجنوبي الشرقي، وظللنا مدة ساعتين نمر بالحطب الممتد على مسافة ١٠ كيلومترات من شرقي البئر، ثم دخلنا جهة كثيرة الرمل الناعم القليل التموج، وازداد تموج الأرض حتى دخلنا أصقاع التلال الرملية قرب الغروب.

وفي منتصف الساعة الثالثة، رأينا جهة الشرق صفًّا من التلال الرملية يتخللها تلال صغيرة تُسمَّى أجراس من الحجر الأسود، وكان امتداد هذه التلال من ٢٠ إلى ٣٠ كيلومترًا، وقد انحدرت على مدى أبصارنا صوب الجنوب الشرقي، ثم انتشرت تلال الرمل — ويسمونها عزر — بعد ذلك صوب الجنوب الغربي، وفي منتصف السادسة تقاربت هذه التلال واعترضت سبيلنا، فولجنا بينها، ولكنها لم تكن من الارتفاع بحيث صعب علينا اجتيازها.

ووضح لي الفرق الشديد بين البدو والعبيد في الصبر على السير، ويقول السود: إنهم لا يحبون الزوية وإن خافوهم، وكانت جمال التبو أكثر صيانة وانصياعًا من جمال البدو، وكان كل جمل منها مربوطًا إلى «رسن» لقيادته، ولا تسير متخبطة كجمال البدو.

واجتزنا عند الظهر علم «جبيل الفضيل» وهذا العلم، شأنه أكثر أعلام الصحراء، يحمل اسم من فقد حياته بالقرب منه تذكارًا له.

كان الفضيل من خير أدلاء الصحراء، وكان في طريقه من جالو إلى الكفرة، فغمرت قافلته عواصف رمل شديدة أهلكت جميع أفرادها، ولم يكن هنالك شاهد على ما حدث، ولكن ما وُجِد بعد ذلك من أثر القافلة أظهر جلية الأمر.

قامت عاصفة شديدة سفت الرمال في وجه القافلة وآذت عيني الفضيل كثيرًا، فعصبهما، ولم يستطع رؤية الطريق، بل اعتمد على وصف من كانوا معه للأعلام التي مروا بها، ولكنهم كانوا قليلي الخبرة فأخطأوا آبار الظيغن، وحاولوا الانحدار إلى الكفرة، ولكنهم ضلوا في الصحراء، وفنيت القافلة إلا جملًا واحدًا غالَبَ أن يرجع إلى الكفرة تقوده غريزته التي لا تخطئ فوصلها، وعرف أهل المدينة أنه من جمال الفضيل بما على عنقه من وسم، وقامت قافلة لنجدته فتبعت أثر الجمل في الصحراء، ولكن الوقت كان قد فات، فإنهم عثروا بجثث الرجال متصلبة فوق صعيد الصحراء بالقرب من العلم الذي أُطلق عليه اسم الفضيل التعس الذي وُجد معصوب العينين، فكشف عن سر المأساة وأظهر حقيقة الفاجعة.

الأربعاء ٢٨ مارس

كانت السحب كثيفة طول النهار يتخللها ضوء الشمس من آنٍ لآخر، ولم تنقشع كذلك في المساء، وهبت ريح باردة من الشمال الشرقي، ثم انقلبت في الثامنة صباحًا عاصفة دامت ثلاث ساعات ونصف ساعة، واستمر هبوب الريح الباردة في المساء، وسقط رذاذ في منتصف الحادية عشر مساء.

سرنا بين تلال الرمل مدة ساعتين، ثم دخلنا أرضًا متعرجة مغطاة بالحجارة السوداء المهشمة التي آذت الجمال كثيرًا، وقضينا في تلك الحرة ساعتين، ثم سرنا ثانية بين تلال الرمل، وفي الحادية عشرة ونصف صباحًا كانت سلسلة تلال «الهوايش» عن يسارنا، وتلال الرمل والحجارة السوداء عن يميننا، وفي الثانية عشرة وربع اجتزنا عن يسارنا، على بعد أربعة كيلومترات علم «جور المخزن»، وهو عبارة عن تلال من الحجارة السوداء يبلغ ارتفاعها من ٥٠ إلى ١٥٠ مترًا، وفي الثانية إلا ربعًا مررنا بعلم «الحجارة وبنتها»، وهو عبارة عن تلين يختلفان حجمًا بحيث عليهما الاسم الذي تسميا به.

وأخبرت بعض البدو كيف ضللت الطريق سنة ١٩٢١ فلم يعجبوا لذلك؛ لأن أهل الصحراء ألفوا كل يوم فقد الطريق والإبل والماء والوقود.

الخميس ٢٩ مارس

لم أتمكن ذلك اليوم من ضبط أقل درجة للحرارة؛ لأن ترمومتر النهاية الصغرى كُسِر أثناء هبوب العاصفة.

ظلت تلال «الهوايش» عن يسارنا حتى العصر، وفي الحادية عشرة ونصف دخلنا أرضًا ناعمة الأديم كثيرة التلال الرملية المتموجة التي يصعب سير الرجال والجمال عليها، وفي منتصف الثانية مررنا يمينًا بأكبر الأعلام التي اجتزناها، وهو علم «جارة الشريف»، وهذا العلم عبارة عن تل يمتد ١٥٠ مترًا ويبلغ ارتفاعه ١٠٠ متر ويجاوره ثلاثة تلال، اثنان منها في الجنوب والثالث في الشمال.

وفي الثالثة، سرنا بين تلال متعددة خرجنا منها بعد ساعتين إلى أرض منبسطة صلبة الرمل كثيرة ركام الحجارة السوداء.

وفي منتصف الرابعة صباحًا، قامت أشد عاصفة رملية ابتُلِينا بها في الطريق، فاجتاحت الخيام وقوَّضت أركان خيمتي، وهَشَّمت بعض أدواتي، وبينها الكرونومتر الصغير.

وتهدمت الخيمة عليَّ وزاد ثقلها بما انهال عليها من الرمال التي لا ينقطع تراكمها، فخفت الاختناق تحتها، ولكني لحسن الحظ أمسكت وتدًا من أوتاد الخيمة، ورفعت به قماشها عن وجهي، وجرى الرجال لمساعدتي، ولكني صرخت إليهم أن يضعوا أكياس الدقيق وقطع الأمتعة فوق خيامهم وخيمتي حتى لا تجتاحها العاصفة جميعًا، وأقمت في ذلك المركز المتعب تحت خيمتي زهاء الساعتين، وكان الرمل ينفذ إليَّ من شق الخيمة كأنه يُقذف من بندقية.

وقاسى الرجال والجمال كثيرًا، وأوشكت العاصفة أن تفجعني في الكرونومتر الكبير؛ لأن طنب الخيمة لو مال قيد أنملة واحدة، لهشم تلك الآلة النافعة، وحرمني جانبًا كبيرًا من النتائج العلمية للرحلة.

والبعيدون عن الصحراء لا يعلمون من أمر الرحالة إلا الخيبة أو النجاح، يفصلهما خط واضح، ولكن المستكشف لا يميز هذا الخط، فقد يكون ضاربًا في الطريق السوي جامعًا كل المعلومات التي أرادها، قريبًا من نهاية الرحلة، ثم تخور جماله بغتة فيضطر إلى ترك أثمن حوائجه، ويفضل الماء والزاد فيُستبقيان وتترك الأجهزة الفنية والمدونات، وقد تكون مصيبته أدهى فيضحي بكل شيء حتى بحياته ولا يعرف الناس من أمره إلا أنه خاب، وقد ينصفه بعض النقاد فيقولون: إنه خاب خيبة مشرفة، فهو على الحالين خائب، وما أقرب هذه الخيبة من النجاح! فقد يكون ذلك الخائب أكثر عملًا، وأشد تحملًا لمشاق الطريق الطويل، ممن أصاب النجاح في رحلته، وإنما يميل الرحالة إلى أخيه الذي جاهد وخاب، لا إلى ضريبة الموفق؛ لعلمه أن أولهما لم يخب إلا بعد أن جاهد جهاد الأبطال، في سبيل الاحتفاظ بثمرة مجهوداته.

والبدو يقدرون ذلك، فقد كان في أخلاقهم نزعة أدهشتني وراعتني في بعض الأحيان، ثم أمكنني فهمها أخيرًا، وذلك أنهم لم يكونوا يطربون ويُسَرُّون إذا انتهت مرحلة اليوم بالنجاح المرغوب، وكأنهم يقولون: لقد وُفِّقنا اليوم، ولكن ماذا عسى يكون نصيبنا في الغد؟! ولذلك لم يكن من عادتهم أن يطربوا بالنجاح؛ لأنهم لم يصلوا إليه بمهارتهم، وإنما ساعدتهم العناية في إصابته، فقد تكون رحلة الغد أسهل من سابقتها وتكون الخيبة فيها عظيمة. وقد عثرنا بآثار قافلة منقرضة في رحلتي الأولى بصحراء ليبيا بين واحة لوزيمة — وهي من واحات الكفرة — وبين الكفرة، ورأينا يدًا نافذة من بين الرمال مصفرَّة الجلد في لون الرقى، فتقدم إليها أحد الرجال وهو خاشع فهال عليها التراب وغطاها، وإنما ضل رجال تلك القافلة وماتوا عطشًا، وهم على مسيرة ثلاثة أيام من الواحة.

figure
البحيرة بالكفرة.

وكم وُجِد من بقايا قافلة فنيت وهي على مرأى من البئر، وكم عرف من أخبارها المروعة، فلم يمنع ذلك القوافل من سلوك تلك السبيل؛ لأن البدوي يُؤمن بالقدر، ويعتقد أن الله قضى على أفرادها بالموت في الطريق، وقد قال لي أحد البدو ذات مرة: «حواصيل الطيور ولا ظلام القبور.» يعني بذلك أنه يُفضل أن تأكل جسده القشاعم.

وكان يومنا هذا متعبًا؛ لما أصابنا من إقلاق الراحة في الليلة الماضية عند هبوب العاصفة، وما أصابنا من الجهد في السير بين التلال الرملية، ولكن الرجال كانوا طربين بالاقتراب من الكفرة، وزاد سرورهم أن أبا حليقة الذي كان يقطن الهواري، وهي أول محطة في ظاهر الكفرة عزم أن يذبح شاة ويُولم وليمة لأفراد القافلة.

وكانت الإبل ضعيفة ناحلة، ولكن ثلاثة منها كانت وطنها الكفرة، فاندفعوا في السير إليها غير مسوقين رغم صعوبة المسير بين التلال، وتبعها سائر جمال القافلة، وفي السابعة إلا ربعًا أبصرنا «جارة الهوارية»، وهو العلم العظيم الدال على الاقتراب من الكفرة.

الجمعة ٣٠ مارس

قمنا الثامنة إلا ربعًا صباحًا، ووقفنا السادسة إلا ربعًا، وقطعنا ٣٥ كيلومترًا، فوصلنا الهواري، وسقط رذاذ من المطر في المساء، وكانت الأرض منبسطة ناعمة الرمل قليلة التعرج، تكثر فيها أكوام الحجارة السوداء والحمراء. وفي منتصف الساعة العاشرة، دخلنا منطقة الرمل الأحمر التي تحيط بالكفرة، واحتجزنا في طريقنا اليوم قطعًا من الخشب المتحجر. وفي الساعة الأولى والدقيقة ٢٥ مررنا بجارة الهوارية، وفي منتصف الساعة الرابعة أبصرنا نخيل الهواري، وبعد ذلك بساعة ونصف دخلنا الواحة وضربنا الخيام في قرية «العوازل»، وهكذا وصلنا أول مراكز الكفرة.

وقد أُطلِق اسم الكفرة في عهد المستكشف الألماني رولف على الأربع الواحات المتفرقة المسماة تيزربو وبوزيمه وربيانه وكبابو؛ التي تكون الكفرة الحالية، ولكن اسم الكفرة يُطلَق الآن على واحة كبابو فحسب.

والهواري أبعد أقسام الكفرة ناحية الشمال، وهي واحة صغيرة مكونة من ثلاث قرى، وهي: الهواري، والهواويري، والعوازل. وتقع التاج على بعد ١٧ كيلومترًا من الهواري، وهي مركز الحكومة المحلية كما أنها أهم موقع، وهي واقعة على ربوة صخرية تطل على منخفض الواحة الأصلية التي تقع في الجنوب، وتضم: قرى الجوف، وبويمه، وبومه، والزرق، والطلاليب، والطلاب.

وكان غرضي أن أتقدم في السير إلى التاج، وهي أهم مدن الكفرة في اليوم التالي، ولكن أبا حليقة طالب بحقه في الضيافة وأصر على استبقائي يومًا في بلده، وقضينا ليلة هادئة لا يعكر صفوها هبوب العواصف، أو تهدم الخيام، واستيقظت في الصباح فحلقت ذقني، واستعددت لالتهام الفطور الذي تفضل بإرساله بدو قافلة وصلت حديثًا من «واداي»، وفي نفس الوقت جمعت بعض معلومات قيِّمة جعلتني أفكر في تغيير بعض خططي.

وبعثت رسولًا إلى التاج برسائل إلى السيد العابد ابن عم السيد إدريس وشيخ السنوسيين في الكفرة، وإلى السيد الجداوي وكيل السيد إدريس الخاص.

ورافقني الزروالي بعد ظهر ذلك اليوم إلى الهوَّاري، حيث استقبلني في زاويتها الإخوان وأشراف المدينة، وبعد أن تبادلنا عبارات الترحيب والتحية تناولت العشاء في منزل عم السيد الزروالي، واحتج عليَّ شيخ البدو؛ لأني فاجأتهم بزيارتي ولم أضرب خيامي خارج المدينة، وأخبرهم بحضوري حتى يتهيأوا للقائي كما يجب. ويحتمل أنهم سمعوا بالإكرام الذي لقيته في جالو، فعز عليهم أن لا يقوموا نحوي بمثله وزيادة، وسمعت إشاعات عن دسائس بين بعض شيوخ الزوي الذين ارتابوا في غرضي من المجيء مرة ثانية إلى الكفرة، واحتجوا على هذا المجيء بتخلفهم عن مشاركتي في العشاء الذي هُيِّئ لي، وكان هؤلاء الشيوخ ذوي نفوذ شديد، فصممت بعد سماع هذه الإشاعات على الإسراع بالسفر إلى التاج، خيفة أن يُرسلوا إليها ما يشوش الأفكار قبل وصولي.

وبعد تناول العشاء، عدت إلى خيامي في ليلة مقمرة، فوجدت أمرًا هامًّا في انتظاري، فإن «عقيلة» أكبر أبناء أبي حليقة لدغته عقرب، وسألني أبوه أن أشفيه، ثقة منه فيما حملت من الأدوية، فأخذت المصل المضاد للدغ العقرب، وقصدت داره فرأيت ابنه في أشد حالات المرض محترقًا من فتك الحمى، وكنت قد فكرت في أخذ هذا المصل، في آخر لحظة قبل قيامي من القاهرة، وكان بين مودعيَّ طبيب من أصحابي فأرشدني، وهو يشد على يدي، إلى طريقة استعماله، بينما كنت أتبادل كلمات الوداع مع من كان حولي من الأهل والأصحاب. وكانت هذه أول مرة حاولت فيها أن أقوم بإعطاء هذه الحقنة، فأجهدت فكري في جمع الإرشادات التي أعطانيها صديقي الطبيب في موقف التوديع، ولكني لم أبصر في صفحة خيالي إلا الفرق الشديد بين غرفة المريض المظلمة ملأى بأهله وإخوانه يتعقبون جميع تحركاتي، وبين موقف التوديع الحار ساعة أضفت أنابيب المصل إلى حوائجي. ومع هذا، وبالرغم من شكِّي فيما إذا كان الإسعاف قد فات وقته، فقد أعطيت الشاب تلك الحقنة وعدت أدراجي إلى خيمتي مشغول الخاطر بما عسى أن تكون النتيجة.

figure
مجلس كبار السنوسية بالكفرة.

ولم يمضِ وقت طويل حتى سمعت جلبة جمهور يتقدم إلى خيمتي وهو يرسل في الفضاء صراخًا عاليًا وقع من أذني موقع العداء، فظننت أن الصبيَّ قد قضى، وأن تبعة موته ستقع على عاتقي بدل أن يُنسب إلى لدغ العقرب، ففكرت في جمع رجالي للدفاع عن صندوق الآلات الذي حسبت أن سيكون هو أول ضحية لسوط غضبهم، واستعددت للدفاع عن نفسي، وكانت ساعة عصيبة لم تدم طويلًا، فقد هَدَأتُ بعدها؛ لأني مَيَّزْتُ في صراخ القادمين رنة سرور.

ولم تمضِ دقائق حتى دخل عليَّ أبو حليقة وشكرني من أعماق قلبه؛ لأني شفيت ابنه من دائه العضال، قائلًا بحرارة وحماس: «الله أكبر! لقد كان سحرًا ما فعلتَ، إن شفاء ابني كان في الدواء الذي أعطيته له.» وكانت حُمَّى الصبي قد هبطت وتولَّد الأمل في شفائه، فشكرت الله في نفسي على التوفيق الذي أصابه عملي؛ لأن موت الطفل كان يحرج مركزي ويضعني في أخطر المواقف.

وتركني زوَّاري فخرجت في ضوء القمر أستريض بين أجمات النخيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤