الفصل الرابع عشر

الكفرة وموقعها على الخريطة

الجمعة ٦ أبريل

أصبح الصباح فنفحني أريج باقة من الورد تفضل بإهدائها السيد العابد، فعلمت عند انتشاقها، كيف تكذب الصحراء اسمها أحيانًا، وكيف تزري أزهارها بما يينع في الرياض النضرة من مورق الأغصان.

وكان يوم جمعة فصليناها في المسجد، وكان حضور أمراء السنوسيين متوقعًا، ودخل البدو في أبهى ثيابهم، وغص المسجد بالمصلين الذين امتزجت في صفوفهم قفاطين الحرير بمهلهلات الجرود، ووقفت أتفرس الداخلين إلى المسجد، فرأيت كبار تجار الزوي والمجابرة، وقد لبسوا الثياب الفاخرة التي لم تنبسط بعد غضونها، من طول البقاء في الصناديق، ولمحت أعينهم المكحولة، وشممت عرف الداخلين يعبق منهم ماء الورد المقطَّر في الكفرة أو المسك، وسائر الروائح العطرية المستجلبة من السودان.

وكان يأخذني منظر الغني الجليل إذا دخل فأخذ مكانه بين المصلين وتبعه أعرابي مهلهل الجرد، أسمر الوجه مغضنه، ولكنه لا يقل عن سابقه جلالًا. إن الملابس لا تميز الرجال في تلك المحافل، فإن قَدْرَ الرجل في شرف النَّفْس وكبر القلب، وهذه الصفات تنطق في الجرود البالية بلسان أفصح عما تنطق به في ثياب الخز ونفحات الطيب التي قد تضيع شيئًا من شخصية أصحابها.

ويدخل أحد العبيد، وقد يكون صفيَّ أحد السنوسيين وموضع ثقته، وتكون ثيابه الحريرية من بهاء اللون وجَمال النسج بحيث تخفي مكانه من دائرة الرق، ويشعر بقوة مركزه، فيخترق صفوف المصلين تياهًا فخورًا، ويأخذ مكانه إلى جانب أحد الوجهاء أو أحد الشحاذين.

والغني والفقير سواسية في المسجد، وربما ثأر الفقراء لأنفسهم من الأغنياء في بيت الله الذي لا يهيمن فيه غيره، وشعروا بما يشعر به الأغنياء من العظمة أو فاقوهم في هذا الشعور، علمًا منهم بأنهم لا ينغمسون في ترف الحياة ونعيمها، فيلهيهم زخرفها عن الله تعالى. وإن البدو ليدخل المسجد في جرده المهلهل لأداء الصلاة، كما يدخل الغني في أبهى ثيابه على شيوخ السنوسيين.

ويستعد المصلون بعد فراغ المؤذن فيغشاهم السكوت، ويدخل أمراء السنوسيين فيأخذون أماكنهم الخاصة، وتلتفت إليهم الأنظار فيظهر عليهم حياء الشباب، ولا يقوم لهم أحد في المسجد؛ إذ لا مولى في بيت الله إلا الله وحده لا شريك له، ثم يصعد الإمام المنبر، ويلقي الخطبة التي تتفق في مغزاها، مع سائر الخطب التي سمعتها قبل ذلك في صلاة الجمعة في مساجد الواحات التي وقع لي أن دخلتها.

ولا تخرج الخطبة عن النصح بترك حياة الغرور والترف، والتهيؤ لأداء العمل الصالح للحياة السعيدة في الآخرة، فيقول الخطيب: «اتركوا زينة الحياة الدنيا ومتاعها الغرور فإنهما سبيل إلى الغواية، وهما إن تملكا نفوسكم ضللتم سواء السبيل وَحِدْتُمْ عن سبيل الله، تقرَّبوا إلى الله بالعمل الصالح وأطيعوا أوامره، إن الحياة الدنيا فانية والآخرة خير وأبقى؛ فاعملوا لآخرتكم تسعدوا في دار الخلود.»

والمسجد من الداخل جميل البناء رائعه، وإن كان بسيطًا في بنائه، نظيف الجدران البيضاء العارية، مفروش بالسجاجيد والحصر الرقيقة، ويجلس المصلُّون بخضوع مُوَلِّين الوجوه شطر الكعبة في صفوف لا يقل عدد أفرادها عن مائتي مصلٍّ، يُسبِّح بعضهم بمسابح من حبَّات الكهرمان، ويسبِّح الفقراء الذين لا يملكون مسابح بواسطة قبض الأصابع وبسطها، ومنهم من يُظهر الغنى والثراء في جميع حركاته، ومنهم بدو الصحراء الضاربون بنظرات بعيدة يلوح فيها الهدوء والقناعة، ومنهم من تقلَّص وجهه وشحب لونه، وفي هيئته السكينة والرضا بحكم الأقدار، يتوسَّم الناظرُ وجهَه فيراه قاب قوسين من الموت جوعًا، وهو لا يتمرَّد على القضاء ولا يتضجر من صروفه.

وجاءني سليمان أبو مطاري بعد فراغي من الغداء في منزل السيد العابد، فتحادث معي في أمر الرحلة، وأخبرني أن أبا حليقة ومحمدًا الذي اخترناه دليلًا قد تقابلا وأعادا الحديث في الأمر، ولم يزل أبو حليقة غير راضٍ بالرحيل، وقضى عبد الله ذلك اليوم في الجوف، يجمع ما يمكنه جمعه من المعلومات عن طريق العوينات، ويجتهد في البحث عمن يرضى بتأجير جماله لنا من قبيلة التبو للسفر إلى تلك الأصقاع المخوفة.

وتعشيت في منزل السيد العابد، ثم قضيت ردحًا من الزمن في مكتبة السيد إدريس، الذي أمر السيد الجداوي بفتح أبوابها لي.

والمكتبة غرفة متوسطة الحجم ملأى بالصناديق التي تحوي الكتب المختلفة، وسقفها مزين بالألوان الزاهية التي خطتها يد صانع محب للسنوسيين، جاء من تونس يؤدي خدمة، كما كان يقف المصورون والنحاتون حياتهم في القرون الوسطى على تزيين الكنائس، وكان كل ما في الغرفة من الأخشاب مستجلبًا من مصر أو بنغازي، وكان في الغرفة مفتوحة ليس فيها إلا مصراعان من الخشب يدفعان عنها حرارة الشمس. والتنقل في هذه الغرفة غير سهل لما صُفَّ على جدرانها وفي وسطها من الكتب والصناديق، وكان في الغرفة صناديق قديمة يُتَّخَذ منها خزائن، ويسهل حملها على ظهور الجِمال عند الحاجة، لما وُضِع في جوانبها من مقابض وحلقات، والمكتبة قليلة النظام كُدِّست فيها الكتب بغير عناية؛ لأن السيد إدريس هجرها طويلًا، وفيها عدد عظيم من المخطوطات المحفوظة في أغلفة من الجلد جميلة الصنع، وعدد عظيم من الكتب الحديثة المطبوعة في مصر والهند، وأكثر مخطوطات المكتبة مستجلبة من مراكش والجزائر وتونس، وكل ما فيها مكتوب باللغة العربية إلا القليل المكتوب بالفارسية، ومن بين المخطوطات بعض نسخ القرآن الكريم المزين بالذهب.

وكانت لي ميزة عظيمة على سائر الناس في زيارتي لهذه المكتبة؛ لأن الدخول إليها غير مباح، ووجدت فيها مخطوطات كثيرة كتبت على الرق وتناولت علوم الفلسفة واللغة العربية والفقه والتصوف والشعر وعلم النجوم والكواكب، وقضيت ساعات طويلة أمتع نفسي بتصفح هذه المجموعة القيِّمة، وأنعَم بذلك الجو الهادئ البعيد عن العالم، وأشعر كأني أتشبع بروح الأفكار الشائعة في هذه المخطوطات، والتقرب من الله عزَّ وجلَّ لما يحيط بي من السكينة، والانقطاع عن جلبة المدن، التي يكفي من مظاهرها دَقْة تليفون تسمعه وأنت تقرأ هذه الكتب لتشعرك بقدم عهدها وعدم تمشيها مع الحاضر.

السبت ٧ أبريل

جاءني حذاء بديع هدية من السيد شروفه، وزارني بعض شيوخ الزوي فتحادثنا عند شرب الشاي في تاريخ قبيلتهم، وعرفت من الحديث أنهم لم يكونوا أول الفاتحين للكفرة، وإنما سبقهم إلى أخذها من قبائل التبو قبائل الجوازي والجهمه، وما اسما «الطلاب» و«الزرق» وهما قريتان من قرى الكفرة، إلا اسمان لبعض أسر قبيلة الجهمه، وأعطيت كلًّا منهم صورة للجماعة الذين صورتهم قبل ذلك بأيام، ففرحوا بها كثيرًا.

figure
معسكر الرحَّالة في العزيلة بالكفرة قبل السفر إلى الواحات المجهولة.

وتحققت في ذلك اليوم أخطار الكفرة، فقد أضاع رولف حياته فيها بفتك المهاجمين، وكدت أضيع حياتي أنا الآخر ضحية الضيافة باللطف واللين، فقد تغديت كعادتي عند السيد العابد ذلك اليوم، وأتبعت الغداء بالشاي المعطر واللبن المخلوط باللوز، وخرجت، فأصرَّ السيد شروفه على زيارتي له في داره، وقدَّم لي ثلاثة أكواب من الشاي المعطر، وأردفها بمثلها من اللبن المخلوط باللوز، ولم أتمكن من الرفض؛ لأن في ذلك إهانة لرب الدار، فابتلعت ما في هذه الأكواب، رغم ما كنت أحس به من تقزُّز عند شربها.

ولم ينتهِ الأمر عند هذا، فقد دفعني السيد شمس الدين إلى داره، ووضع أمامي شيئًا كثيرًا من البسكويت والبندق وكوبًا كبيرة من الشراب الحلو، ودعاني للأكل، وليس لبشر أن يحتمل كل هذا، ولكن الرفض إساءة لرب الدار، فنلت منها وشربت ثلاثة فناجين من الشاي، ثم قمت أترنح في مشيتي بعد ذلك، كما يتقدم الشهيد إلى المشنقة فخورًا، وأتلوى من ألم التخمة، كما يتلوى الشاب الأسبرطي من قرص الثعلب في أحشائه.

وانقلبت إلى غرفتي أستريح وأستعرض ما مرَّ بي، وفكرت في أمر ذلك البدوي الذي انتخب رقم ثلاثة الغريب لإظهار الكرم البدوي، وودت لو أنه مات قبل أن يبتدع هذه السنة، ثم رجعت فحمدت الله؛ لأنه لم يقع اختياره على الرقم سبعة.

وقد أقبلت على الصحراء معرضًا نفسي لفتك الطبيعة أو البدو من بني الإنسان، ولم يخطر ببالي لحظة فكرة الموت الذي ينشأ عن سوء الهضم وتكليف المعدة فوق طاقتها، ومع كل هذا، فقد ذهبت في الموعد المحدد إلى دار السيد العابد، لتناول العشاء كالعادة، وكان بين المدعوين بعض شيوخ البدو فتناقشنا مرة أخرى في أمر الرحلة إلى الجنوب، وكان أبو حليقة مصرًّا على رفضه الذهاب بطريق العوينات، وقد قال: «إن الشروط التي وضعها السيد إدريس تتناول رحلة إلى واداي لا إلى دارفور.» ولذلك أبى أن يرمي برجاله وجماله في تلك الطريق غير الآمنة.

وأدليت بحجتي كما يناقش المحامي، فقلت له: «أما وقد اتفقت معي على قطع ٣٥ مرحلة من الكفرة إلى الجنوب، فما الذي يضيرك إذا كنت أنزلك على السير إلى واداي أو الفاشر أو أطلب إليك العودة إلى مصر؟!»

ولم تقنعه حجتي، ولكنه رأى إصراري وعدم معارضة السيد العابد لخطتي، وعرف رغبتي في إنقاص عدد الجمال المتفق عليها فرضي غير قاطع في رضاه، ولكنه أبى أن يرافقني بنفسه أو يرسل معي أحد رجاله.

الأحد ٨ أبريل

حادثت أبا حليقة في أمر جواده واشتريته بمبلغ ٣٣ جنيهًا ذهبًا، وكان الجواد قويًّا صبورًا على السفر يكفيه الشرب مرة كل يومين.

وبعد تناول الغداء صورت السيد العابد وحادثته طويلًا في أمر مرضه الذي يتحمله بصبر البدو وجلدهم، وتكلمنا في شئون برقة ومصر وتناولنا ذكر رحلتي إلى السودان.

ولم أكن موفقًا في أعمالي الفنية بالكفرة، فإني وجدت صعوبة شديدة في عدم التعرض للأنظار والانتقال وحيدًا في نواحي الوادي لاستعمال أجهزتي بدون إثارة الظنون، وكان من سوء حظي أن السماء ظلت كثيرة الغيوم أيام إقامتي، فلم أتمكن من رصد الشمس والنجوم بواسطة التيودوليت، وشعرت بتعب شديد بعد العشاء، وكنت قد استنفدت الأقراص التي جئت بها لمكافحة سوء الهضم، وانتظرت بفارغ الصبر خروجي إلى الصحراء وتمتعي ببساطة العيش.

الاثنين ٩ أبريل

كان يومًا كثير الغيوم، ولكن نسيمًا بليلًا كان يهب طول النهار، فقضيت يومًا هادئًا أقرأ في مكتبة السيد إدريس وأحمض «أفلامًا» جديدة وأشتري قربًا وشعيرًا لأجل الرحلة، وأهداني السيد العابد نسخًا بخط يده لبعض رسائل السيد المهدي إلى كثير من الإخوان، وأهداني سكينًا مغربية في قِرَاب من الفضة وبندقية بديعة التطعيم.

الثلاثاء ١٠ أبريل

انقشعت السحب بعد الظهر، فأخذت صورة الوادي واتفقت مع صانع الأحذية على صنع أحذية لي ولرجالي، وعمل مناطق من الجلد لوضع الرصاص؛ لأن الرجال أصروا على حملها لما سمعوا من الإشاعات المخيفة، وقابلت محمد سكر الذي اخترته ليكون دليلنا في طريق العوينات لأول مرة ومالت إليه نفسي.

الأربعاء ١١ أبريل

سمع السيد العابد بشرائي الجواد، فأهداني سيفًا طارقيًّا وبندقية إيطالية، وأمكنني أخيرًا أن أقوم بعمل بعض أرصاد وأبحاث بواسطة التيودوليت، وكنت في شوق شديد إلى مقارنة نتائج بحثي بنتائج رولف الرحالة الألماني الذي زار الكفرة منذ ٤٥ سنة.

الخميس ١٢ أبريل

أرسلت إلى دار السيد العابد بندقيتي هدية وركبت مع السيد محمد أبي ثمانية والسيد الزروالي إلى الجوف، فقابلنا وجهاء المدينة وزرت السوق، وكان يوم انعقاده كل أسبوع، وزرت الجامع والزاوية، وهي أقدم مدارس السنوسيين في الكفرة، والجوف مركز تجارة الكفرة، وقد شاقني في السوق، رؤية ما اختط فيها من البضائع من «خراطيش» تدل علامتها على صنعها منذ ٣٠ سنة، وعلب تحوي توابل إيطالية مستجلبة من بنغازي، وأقمشة منسوجة في منشستر وواردة من مصر، وجلودًا وعاجًا وريش نعام من واداي ودارفور، وحاصلات الجنوب قليلة في الكفرة الآن، إلا إذا أحضرها أحد التجار من واداي ومنعه سبب من السفر بها إلى الشمال لبيعها في برقة أو مصر.

ولم تكن الكفرة ذات تجارة عظيمة إلا قبل فتح السودان، فإن سبيلها في تلك الأيام كانت أسهل لحمل محصولات واداي ودارفور من السبيل التي تفضي إلى الشرق، ولا يزال يمر بطريق التهريب إلى اليوم عاج إناث الفيلة، والعاج الذي يقل وزنه عن ١٤ رطلًا، وهما شيئان منعت حكومة السودان تصديرهما.

وليست الكفرة طريقًا للتجارة فحسب، وإنما يقصدها من يملك العبيد من شيوخ الزوي لفلاحة الأرض، فيزرعون الشعير والذرة، ويزرع السنوسيون البطيخ والعنب والموز والقرع، وغير ذلك من أنواع الخضر التي يسر السائح رؤيتها، ويلذه طعمها بعد حياة الصحراء، ويزرعون النعناع والورد، فيستخرجون منهما ماء الورد وخلاصة النعناع الضروريين في إظهار كرم الضيافة، ويستخرج الزيت من أشجار الزيتون بواسطة معاصر عتيقة.

وحيوانات الكفرة: الجمال، والخراف، والحمير، وقليل من الجياد. واللحم مع هذا غالي الثمن لعدم وجود المراعي في الوادي، وتعيش الحيوانات على نوى البلح المطحون وهو غذاء صالح إلا أن إطعامها حشيشًا أخضر واجب من وقت لآخر، ويربي السنوسيون — وهم أكثر تقدمًا من جيرانهم في كل شيء — الفراخ والحمام.

وسمعت في الكفرة أن أثمان العبيد ارتفعت هائلًا في السنين الأخيرة لقلة من يرد منهم من جهات واداي؛ نظرًا لعين السلطات الفرنسية الساهرة في تلك الجهات، ويحتال بعض البدو لاستجلاب العبيد فيعقدون الزواج على بنات واداي، ثم يعودون بهن إلى الكفرة فيطلقونهن ويبيعونهن.

وقد عُرِضتْ عليَّ جارية أثناء سياحتي سنة ١٩١٦ بمبلغ ١٣٠ فرنكًا، ولكن ثمن الجارية يتراوح الآن بين ٣٠ و٤٠ جنيهًا، وثمن العبد أقل من ذلك.

وقد يتزوج البدو من هذه الجواري، فإذا أنجبت إحداهن ولدًا أصبحت حرة طليقة، والبدو لا يهتمون بفوارق الألوان، فإذا ولدت جارية لشيخ قبيلة ولده البكر، فإن هذا الولد يُصبح بحكم الواقع رأسًا لهذه القبيلة بعد أبيه مهما كان أسود اللون.

وأبناء العبيد عبيد كذلك، أما ابن الجارية من رجل حر فهو حر كذلك مهما كان فقيرًا، ولن يكون عبدًا ولو تركه أبوه يتيمًا.

واقتناء العبد المخلص شيء يفضله البدوي كثيرًا؛ فإن العبيد أقوى من الأحرار وأصون لسر سيدهم، وهم يُعامَلون معاملة حسنة ويصبحون أفرادًا من الأسرة بعد طول العشرة.

ويلبس العبيد ثيابًا فاخرة؛ لأنهم مرآة تتجلى فيها صور أسيادهم، وليس «علي كجا» عبد السيد إدريس الصفي موضع ثقته فحسب، ولكن له فوق ذلك قوة وسيطرة، لا يملكها الكثيرون من أحرار البدو.

والعبد صادق الكلمة، فإذا حمل السيد العابد رسالة إليَّ مع عبده أيقنت بصدقها عالمًا أن واجبه يقضي عليه بتبليغ ما حمله، وكذلك إذا أردت أن أبلغ مسامع السيد العابد شيئًا، لا أريد اطلاع رجل آخر عليه، أفضيت به إلى عبده بدون تردد موقنًا أن الرسالة لا بد مؤداة إلى سيده دون غيره.

وللعبد الحق في شراء جارية، وقد سألت «علي كجا» ذات مرة عن أثمان العبيد، فقال: «إن أثمانهم غلت هذه الأيام غلاء فاحشًا، فقد اشتريت جارية دفعت فيها ٤٠ جنيهًا ذهبًا، وقد قال لي ذلك بلهجة لا يُستشَفُّ منها أنه كان عبدًا في يوم من الأيام، وأَرَثُّ عبيد الواحة ثيابهم المُطلَقون، وهم موضع ازدراء بقية العبيد، وربما شعر العبد الطليق بالخجل لعدم وجوده في حيازة إنسان.»

والنخيل كثيرة في وادي الكفرة، وأكثره مِلك للسنوسيين، والسبب في ذلك أن الزوي حين دعوا سيدي ابن علي السنوسي إلى الكفرة نزلوا للسنوسيين عن ثلث ما يمتلكون من أرض ونخيل، ولم تبقَ النسبة محفوظة بين ما يملكه الزوي من النخيل وبين ما يملكه السنوسيون؛ فقد أسرع الأولون في زيادة نخيلهم بما زرعوا من جديد، ولا يزال يبدو لعين الرائي إلى هذه الأيام ذلك السور الذي يفصل أراضي السنوسيين من أراضي الزوي.

ورأيت في طريق عودتنا من الجوف حفلة زفاف، وكان العريس قائد جيوش الكفرة، ودعاني أبو العروس إلى تفريغ البارود تشريفًا للحفلة، فسرني أن أقوم بتأدية هذا الواجب للضابط؛ لأنه صديق قديم لي، ولما أطلق رجال الحفلة النار تحية، ركضت بجوادي كما يفعل البدوي الصميم، واتجهت صوب الجماعة، ثم أوقفته دفعة واحدة أمام العروس وصوَّبت بندقيتي إلى الأرض قدَّامها ثم أطلقت النار، وقد أدهشني جوادي «بركة» حين سمع طلقات بنادقهم وأسرع بالعدو ووقف بي مرة واحدة على المسافة المقدَّرة من العروس لإطلاق النار، ولا بدع في ذلك فهذا شيء تدربت عليه خيول البدو.

الجمعة ١٣ أبريل

جاءني عبد من عبيد السيد إدريس يطلب دواء لمرض لزمه شهرين، وفحصته فوجدته يشكو سوء هضم يتخلله قيء، وأعطيته بعض «الإتير» على قطعة من السكر، وأمرته أن لا يتناول إلا اللبن والأرز، فتحسنت حالته عن قبل.

ووصل أبو حليقة من الهواري ومعه ١٧ جملًا، فطلبت إليه أن يتمها خمسًا وعشرين كما اتفقنا من قبل، وزارني الضابط العريس وصهره يشكراني على ما أديت من التحية في حفلة الزفاف.

السبت ١٤ أبريل

أحضر أبو حليقة بقية الجمال، وكان حائرًا في أمر إرساله رجلًا يصحبنا في الرحلة، وأبى أن يرسل ابنه أو عبده؛ ظنًّا منه بأنا مقبلون على سفرة قد لا نخرج منها أحياء، وكان يتوقع من الجهة الأخرى أن القدَرَ قد يساعدنا وننجو من مخاوف الطريق، فحيَّره أن لا يمثله أحد في تلك الأصقاع النائية، فيعود بجماله أو يشرف على بيعها كما هي العادة بعد مثل هذا السفر الطويل، وقضينا عصر اليوم في التحميل ومساءه في عمل الأرصاد والمعاينات. وكانت الليلة ثالثة الليالي التي أمكنني فيها أن أرى نجم القطب الشمالي منذ هبوطي الكفرة، وقد صممت أن لا أترك الكفرة قبل أن أضاعف ما أخذت من الملاحظات المتنوعة في الليالي المختلفة.

الأحد ١٥ أبريل

قضينا الصباح في تحميل الجمال، وما زال أبو حليقة مرتبكًا في أمر إرساله رجلًا من رجاله، ولكني لم أهتم بأمره كثيرًا بعد يقيني من استصحاب الإبل، وقد تحسنت صحة العبد الذي تعهدته تحسنًا غريبًا، فجاءني يشكرني، وكنت أشد الناس تعجبًا مما وصلت إليه في شأن معالجته.

وبدأت القافلة السير في الساعة الثانية بعد الظهر قاصدة بئر العزيلة، وهي آخر آبار وادي الكفرة في الجغبوب، حيث قررنا الإقامة أيامًا لإجراء الترتيبات اللازمة، لتجهيز كل شيء قبل الإقدام على تلك الشقة الطويلة، واشتريت نعجتين لنحرهما طبقًا لعادة «أبي الظفر»؛ لأنه لم يكن بين رجال القافلة من قام بهذه الرحلة من قبل، وكان جميع رجالي في ثياب جديدة تُبهر النظر، وكانت بنادقهم التي أتقنوا تنظيفها تلمع فوق ظهورهم، وكان يبدو النشاط والقوة على العدد الأكبر من جمالنا الجديدة.

الاثنين ١٦ أبريل

أرسلت جوادي مع عبد الله إلى الجوف لوضع «حِدًى» له؛ لأني وجدت الأرض الصخرية صلبة الموطئ يُخشى أن تؤذيه، وبعثت بصينية نحاسية إلى القائد هدية مني بمناسبة زواجه، وأرسلت الزجاجات الثلاث الأخيرة من دواء «بوفريل» لعبد السيد إدريس، وأجلنا سفرنا؛ لأن الدليل كان مشغولًا بقضية جمل له.

الثلاثاء ١٧ أبريل

أفطرت في دار سليمان بومطاري من كبار تجار زوي بالكفرة ومشهور بالكرم، وكان معنا السيد الزروالي وعبد الله والقومندان وصالح ومحمد أبي صمانية، وقد تبادل الجلوس النكات حول العريس الجديد لإمساكه عن الأكل من صحفة لحم مطبوخ بالبصل، وقال أبو ثمانية وهو يغمز بعينه: «إنهن لا يصفحن وهن شباب.» أي إن زوجته الجديدة لا تسامحه إذا شمَّت فيه رائحة البصل، واشتريت هجينًا لي خاصة، ودفعت فيها تسعة جنيهات، وهكذا انتهى كل شيء وأصبحنا على قدم الاستعداد للمسير.

وكنت أرجو، وأنا أرصد نجم القطب للمرة الأخيرة، أن أُوفَّق في تعيين الموضع الحقيقي للكفرة على الخريطة، وكان بي شوق شديد إلى التحقق من الموضع الذي عينه رولف لها حسب ملاحظات رفيقه «ستيكر» في بويمه، ولم تكن التاج قد بُنِيَتْ بعدُ في عهد رولف، فوضح لي بعد أن قمت بعمل ملاحظاتي الأولى فيها أن النتائج التي وصلتُ إليها، لا تتفق مع نتائج ملاحظات «ستيكر» في بويمه الواقعة على بعد كيلومترين من التاج في اتجاه ٥٤ درجة شرقي الجنوب الحقيقي؛ ولذلك صممت أن لا أترك الكفرة قبل أن أتمكن من عمل ملاحظات عديدة تمنعني من الوقوع في الخطأ؛ ولذلك رصدت النجم القطبي ست مرات بواسطة التيودوليت في ظروف قرر الدكتور بول في فقرته اللمعية المرفقة بهذا الكتاب أنها لا تترك مجالًا لخطأ أكثر من دقيقة واحدة في خطَّيِ الطول والعرض. وكانت نتيجة هذه الأبحاث عند الفراغ من فحصها بعد عودتي إلى مصر أن الكفرة تبعد ٤٥ كيلومترًا جهة الجنوب الجنوبي الشرقي عن الموقع الذي قرره لها رولف بعد ملاحظات «ستيكر»، ووجدت ارتفاع الكفرة شديدة الانطباق على ما قرره رولف، وكان علو وادي بويمه ٤٠٠ متر وارتفاع التاج ٤٧٥ مترًا عند التل المشرف على الوادي.

figure
خريطة صحراء ليبيا مُبَيَّن عليها الطرق التي سلكها المؤلف في رحلته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤