الفصل الرابع

التآمر والتفاؤل

انتهيت من وضع خطتي للانحدار جنوبًا إلى الجغبوب، ولكن حادثة وقعت لي قبل اليوم المحدد للسفر بيومين شغلت بالي؛ وذلك أني كنت جالسًا ذات مساء في غرفتي بمنزل استراحة الحكومة، أشتغل بفحص أجهزتي العلمية، فإذا بطارق على الباب، وحرت في التكهن بِمَنْ يريدني في تلك الساعة، ولكني تقدمت إلى الباب وفتحته قليلًا، فرأيت بدويًا لا أعرفه، متلحفًا بجردة، فأقفلت الباب في وجهه وسألته: مَنْ أنت؟ فقال: صديق، ولكني لم أطمئن إلى ذلك فسألته عن اسمه وعما يريد، فأجابني من وراء الباب: «أنا صديق أريد أن أسر إليك شيئًا لا بد من إخبارك به.»

ففتحت الباب وسألته الخبر فدخل بلهجة المستفسر: أظنك ستسير إلى الجغبوب من الدرب «الطوالي».

فأومأت برأسي أن نعم، فقال وفي لهجته شدة: لا تذهب.

فقلت: وَلِمَ هذا؟

فأجاب: إن البك غني يحمل معه ثروة طائلة، والأعراب أهل شره ونهم، والدائر على الألسنة، أن معك صناديق مملوءة ذهبًا.

قال لي هذا، بينا ينطق في عينيه اعتقاده بصحة هذه الإشاعة وإن ادعى غير ذلك، ثم ثنَّى قائلًا: لقد اتفق الجمالون مع أصدقاء لهم في الطريق، على الكمون لك ونهب ما معك، وقد تضيع مالك وتفقد حياتك إذا سلكت تلك الطريق.

فأجبته: إن في وسع كل إنسان أن يُدافع عن نفسه وعن ماله.

فقال: ذلك محتمل إن كان معك العدد الكافي من الرجال.

ولم يكن معي ذلك العدد الكافي فتطرقت في الحديث معه، إلى الاستفسار عن صحة هذا الخبر، فقص عليَّ القصة وكان صادقًا وزاد يقيني في صحة أخباره، أنه كان قريبًا لرجل أديت له خدمة حين أُوفدت في بعثتي الأولى إلى السنوسيين.

وشكرته على اهتمامه بتحذيري، واختفى الرجل في ظلام الليل، فخلوت بنفسي أعرض عليها التفكير في الخروج من ذلك المأزق الحرج.

وأهل الصحراء سريعون إلى التكهن بمقاصدك إن أمكنهم ذلك، فإن عجزوا ظنوا الظنون في كل ما تفعل أو تريد أن تفعل، وكان أكثر متاعنا في صناديق، والأعراب لا تفهم من الصناديق إلا أنها تحوي كنوزًا، وليس عجيبًا منهم وقد ظنوا مدفعًا تلك العلبة التي جئت بها وفيها ثلاث بنادق، أن يحسبوا آلات التصوير والأجهزة الفنية التي حملتها معي، نقودًا ذهبية أو سفاتج من الأوراق المالية، وليس بعيدًا أن يكون الرجال الذين أكريت جمالهم قد ظنوا أني مخترق الصحراء، بهذه الثروة الطائلة لسبب خافٍ عنهم ففكروا في سرقتي.

ولست أكتم القارئ أني لم أرتح إلى هذا الخبر، فإن استهلال رحلة بقتال لا يدعو إلى التفاؤل أو يشرح النفس، مهما أولينا فيه من فوز وخرجنا منه سالمين؛ ولذلك فضلت اجتناب هذه العقبة عن التعرض لها.

وأصبح الصباح فاستغنيت عن أصحاب الجمال الذين انكشف لي سر مؤامرتهم، واعتضت عنهم بآخرين يوصلونني إلى واحة سيوة، واستبدلت الطريق المستقيمة إلى الجغبوب بطريق تضطرني إلى قطع ضلعَيِ المثلث الذي تكون مواضع السلوم وسيوة والجغبوب رءوس زواياه، وقد أطال هذا التغيير مسافة القسم الأول من الرحلة، ولكن الزمن والمسافة هينان في سبيل سلامة الوصول.

وللسفر بطريق سيوة ميزات كثيرة؛ لأن هذه الطريق واقعة في الأملاك المصرية لا في تلك الأصقاع التي تسكنها القبائل التي ينتمي إليها الجمالون الخونة، ولأنها طريق مطروقة لا يجسر قطاع الطرق أن يقدموا على اغتيال المارة فيها، بدون التعرض للخطر، وقد حال إسراعنا في الرحيل بعد تغيير خطة السفر، دون تفكير المتآمرين علينا في إعداد خطة جديدة لنهبنا، إن كانوا قد فكروا في ذلك.

وهكذا ظننت السلامة في هذا التغيير والتبديل، ولم أكن مخطئًا في هذا الظن.

وبدأت القافلة سيرها في أول يناير، وبعد قيامها بثلاثة أيام تفضل الملازم «باثر» فاستصحبني في سيارة للحاق بها عند بئر «دجنيش» على بعد نحو ستة وثلاثين ميلًا من السلوم، ثم ودعت ذلك الضابط الرقيق، وأخذت مكاني بين رجال القافلة، وكانت المسافة إلى سيوة ستة أيام، قضينا وقتًا منها في إخفاء صناديقنا وعلبنا بين طيات حوائجنا، بحيث ظهر مجموعها كأنه أثاث عادي من أثاث البدو.

figure
سيوة.

ولم يقع لنا في بحر هذه الستة أيام أمر ذو بال، اللهم إلا حادث كان أول ثلاثة بعثت في نفوسنا الفأل الحسن بنجاح الرحلة؛ وذلك أني رأيت في عصر اليوم الخامس غزالًا يرعى على مقربة من طريقنا، فتعقبته يحتثني الميل إلى تذوق اللحم الطري، وما كدت أتقدم له حتى سمعت صراخًا وعويلًا خلفي، قصد بهما رجال القافلة تثبيط همتي في صيده، ولم أفهم بادئ الأمر ما دعاهم إلى منعي من صيد ذلك الغزال، مع ما أعرفه في البدوي من حب اللحوم، وظننت أنهم خافوا عليَّ البعد عنهم وتعطيل سير القافلة، فلم أحفل بصراخهم وتقدمت إلى الغزال، وبعد أن طاردته قليلًا أطلقت النار عليه فأصبته في مقتل.

وما كدت ألحق بالقافلة حاملًا طريدتي حتى نالتني الدهشة مرة أخرى، فقد تقدم الرجال إليَّ يلوحون بأيديهم ويرسلون صراخًا يمتزج فيه الفرح بالتهاني، ولم ينقص عجبي من وقوفهم دون صيدي الغزال وترحيبهم بي بعد صيده، حتى سمعت منهم تفسير ذلك، ففهمت أن البدو يعدون أول طلقة من رئيس القافلة على طريدة بعد البدء في سير القافلة، فاصلة في خط الرحلة من النجاح أو الخيبة، فإن أخطأ الرامي أصاب القافلة مصيبة قبل انتهاء الرحلة، وإن أصاب، بسم الحظ لها وكُتب لها النجاح؛ ولذلك أشفق الأعراب من رؤيتي أقطع في حظ القافلة بهذه السرعة، ولو كنت أدري هذه النظرية، لأبقيت الطلقة الأولى حتى وصلنا الفاشر بعد ذلك بستة أشهر.

وأقمنا في سيوة ثلاثة أيام قضيناها في تأجير جمال أخرى للمرحلة إلى الجغبوب وعمل بعض الترتيبات النهائية.

وسيوة آخر مركز يتصل بالعالم المتمدين الذي أخلفه ورائي، فعندها تنتهي أعمال البريد والإشارات البرقية، ولا يوجد بعد سيوة شيء يُباع، إلا محصولات الصحراء والقليل من الأرز والقماش، وهذا غالي الثمن، إن فُرض وجوده.

وقد أكرم وفادتي وقام بمساعدتي في بحر الثلاثة أيام حضرة المأمور أحمد أفندي كامل والموظفون والملازم «لولر» قومندان قوة مصلحة أقسام مصلحة الحدود المرابطة هناك.

وسيوة أكبر الواحات وأجملها، تتفجر فيها عيون الماء العذب وتنمو فيها الفاكهة اللذيذة، وأخصها أجود أنواع البلح في العالم، وتقع العين فيها على مناظر بديعة، وعادات لأهاليها غريبة، ومن هذه العادات أن المرأة إذا فقدت بعلها، أمسكت عن الاستحمام أربعين يومًا واحتجبت عن الأنظار، يُقدَّم لها الطعام من ثغرة في الباب، فإذا انقضت هذه المدة ذهبت تستحم في بئر من الآبار، فتنكب كل إنسان عن المرور في طريقها وَسَمَّاها الناس «غولة» وتجنبوها؛ لأنهم يعتقدون أنها تجلب النحس لكل مَنْ يقع نظره عليها في ذلك اليوم.

وفي سيوة تُكدَّس أكوام البلح في سوقه الخاصة التي يُطلق عليها اسم «المسطاح»، وهذه الأكوام مقسمة حسب أنواع البلح؛ من جيد ورديء، ولا يقوم بحراستها أحد، ولكن الأيدي الغريبة لا تمتد إليها ولا تخلطها بقصد الانتفاع، على أن لكل إنسان أن يدخل هذه السوق وينال كفايته من أجود أنواع البلح بدون أن يدفع مليمًا واحدًا، ولكنه ليس في حِلٍّ من أن يحمل معه شيئًا.

وفي سيوة مقام لأحد الأولياء يُودع الناس حوله أشياءهم ليأمنوا عليها؛ فإذا فكر أحد في السفر، أخذ متاعه الثمين وتركه بالقرب من هذا المقام، فلا تمتد إليه يد إنسان، ولا يفكر أحد في التعدي على الأشياء المودعة عند هذا المقام، مهما غلا ثمنها؛ لأن الاعتقاد الساري الذي لا يتزعزع، هو أن الإنسان الذي يمد يده عند هذا المقام إلى شيء لا يملكه، يُبْتَلى بالنحس وسوء الطالع طوال أيام حياته.

وعند تأهبي للقيام من سيوة، تضاعف عدد رفقائي فقد أضفت من السلوم إلى عبد الله وأحمد رجلًا من قبيلة «المنفى» اسمه حمد، وكان أشد رجال القافلة إقبالًا على العمل وأصبرهم على التعب، فلا أذكر أني رأيته مرة متعبًا، وكان مشغوفًا بالجمال خبيرًا بأحوالها وشئونها فعهدت إليه ببعيري.

وأما رابع الرجال فكان إسماعيل، وهو شاب من سيوة يظهر عليه الضعف، ولكنه كان آخر مَنْ يتعب من السير ويمتطي ناقة، وقد عهدت إليه بالجواد الذي حصلت عليه في «جالو»، واختصصته بمرافقتي في تجوالي للبحث عن بعض العينات من طبقات الأرض، أو عند الاشتغال ببعض الأبحاث الفنية، فإن نشأته في واحة مصرية لها اتصال بحياة المدينة، بواسطة البريد والتلغراف، لم تخلق فيه تلك الرِّيبة التي اختُصَّ بها أهل الصحراء، وجعلتهم يُأوِّلون أقل عمل يأتيه الغريب تأويلات غريبة بعيدة عن الحقيقة، فإن من البدو مَنْ كان يظن أني أقتطع الأحجار؛ لأنها تحوي ذهبًا، أو أني أرتاد تلك الأصقاع لأمهد سبيل غزوها فيما بعد، وقد أحببت إسماعيل؛ لأنه لم يكن كذلك، ولأنه كان يطيعني طاعة لا يتسرب إليها سوء الظن بما أفعل.

وتركنا سيوة بعد استبدال جمالنا في اليوم الرابع عشر، وانقطعت آخر حلقة من حلقات اتصالنا بالعالم الخارجي، وما كدنا نقف بعد المرحلة الأولى، حتى خلعت ذلك الثوب البالي من الخاكي ولبست ثياب البدو وظننتني رجلًا من رجال الصحراء، وكان تأثير هذا التغيير سريعًا في رجالي، فقد تعودت منهم قبل ذلك أن يقربوني مرتبكين حيارى، ولكني ساعة تزييت بزيهم تقدموا إليَّ مقبلين عليَّ، وشدوا على يدي على طريقة البدو وقالوا: الآن صرت منا.

ووقعت لنا الحادثة الثانية التي تفاءلنا منها خيرًا بعد تركنا سيوة ببضعة أميال، فقد وجدنا بلحًا في طريقنا كان قد تناثر من بائع أثناء ذهابه إلى السوق، والبلح المنثور في طريق القافلة فأل حسن بنجاح الرحلة، وقد يحدث أحيانًا أن يتعمد أصدقاء البدوي نثر البلح في طريق القافلة قبل بدئها في السير حتى يعثر بها في سبيله، وقد زاد هذا الفأل الأمل في نجاح الرحلة بعد حادثة الغزال، ولكن الحادثة الأخيرة كانت أبعث الحوادث على حسن التفاؤل؛ وذلك أني كنت أرسلت رجلين من رجالي يحملان خطابًا إلى السيد إدريس في الجغبوب أعلمه فيه بقرب وصولي؛ فإن العادة في الصحراء ألَّا يفجأ الإنسان صديقًا أو ذا حيثية بدون سابق إعلان بمجيئه؛ لأن هذا الإعلان يُمَكِّن كلًّا منهما من ارتداء الملابس التي يليق في مثلها لقاء أهل الفضل والوقار.

وكانت مباركة السيد إدريس لرجالي باعثة في نفوسهم على الأمل العظيم بنجاح الرحلة وسلامتها من كل خطر، وحل وقت العصر، فودع كل منا الآخر ورُفعت الخيام وسارت القافلتان، فانحدرت قافلة السيد إدريس شرقًا إلى مصر، وتقدمنا غربًا إلى الجغبوب وما وراءها من صحراء مترامية الأطراف، وأراد رجالي أن يستزيدوا من بركة السيد إدريس، فصمموا على أن يتبعوا في سيرهم الطريق الذي سلكته قافلة شيخ السنوسيين وهي قادمة إلينا.

figure
عَصَّارة زيتون بسيوة.

وحدث بعد تركنا سيوة بيومين، وكنت في مؤخرة القافلة، أن وقف سير الجمال فسألت عن سبب هذا الوقوف غير العادي، فكان الجواب أن رسلًا جاءوا يحملون خبر وصول السيد إدريس بعد ساعة، فما كاد رجالي يسمعون هذا الخبر حتى بان في عيونهم الطرب، فإن تقدم شيخ السنوسيين نفسه للقائنا في أول الرحلة يُفسَّر بفأل حسن، وقال الرسل: إنه يرجو البك أن ينصب خيامه حتى يجيء إليه، وهذا يُشعر بآداب الصحراء ويدل على السنن والعادات المتبعة فيها، ولم نكد نستقر، حتى رأينا طلائع قافلة السيد إدريس التي وصلت بعد قليل ونصبت خيامها على مقربة منا، وبعد ذلك بنصف ساعة تقدم السيد إدريس يحف به حشمه إلى خيامنا، وتقدمت أنا الآخر للقائه فقابلني مقابلة ودية، وجددنا مراسم تلك المعرفة القديمة، يظهر في وجهي أثر السرور، ويلوح الابتهاج على محياه، ولست أكتم القارئ أن الرحلة الأولى لم تُصب ذلك النجاح إلا برعاية السيد إدريس لنا وعنايته بنا، فما بالك بأثر هذه الرعاية في رحلتنا هذه، وهي أطول من تلك ثلاث مرات، وأدعى إلى توغلي في أرض أجهلها كل الجهل.

ودعانا لتناول الغداء في خيمته، وكان مكونًا من الأرز والدجاج المحشو وفطير البدو المسكر، يعقبه بعد ذلك أكواب الشاي المعطر بالنعناع وماء الورد، وشرحت له خطتي وحدثته بخبر العالم، فسرَّه كثيرًا علمه بنتيجة معاهدة فرساي، وطلب مني بعد ذلك أن أدعو جميع رجالي إلى خيمته ليباركهم، فجاءوا ووقفنا جميعًا نصغي إلى تلك الألفاظ تنحدر من بين شفتيه، فعادت إلى ذاكرتي تلك الساعة التي وقفت فيها أمام أبي، في تلك الغرفة المعطرة بعبق البخور، أتلقى مباركته ودعاءه لي، بينما يلوح في خاطري طيف الصحراء والإبل والحياة البدوية، لقد كان ذلك خيالًا تصورته، أما الآن فبدت لي الحقيقة ورأيتني في لباس البدو أتقدم القافلة وأستقبل الطريق المؤدية إلى قصدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤