انتقام باكارا

١

بعد مضي نحو شهرين على الحوادث التي سبق ذكرها في رواية الغادة الإسبانية، كانت مركبة بوستة قد سافرت من أورليان في الساعة العاشرة من المساء تجري في أرض تورين، نحو الساعة الخامسة من الصباح على الطريق العمومية، المؤدية من تورين إلى مدينة صغيرة تُدعَى ج … توجد على نحو ثلاثة فراسخ منها أرض أورنجاري، التي ماتت فيها منذ ١٨ عامًا المركيزة دي شمري أم المرحوم هكتور دي شمري، والآنسة أندري برينوت.

وكانت المركبة المذكورة تقل رجلين قد اشتهرا عند القراء، وهما الفيكونت فابيان دي أشمول والمركيز فردريك ألبر أنوري دي شمري؛ أي: بطلنا روكامبول.

وكان روكامبول يومئذ كالخيال الذي لا حراك له، أصفر اللون حائر البصر، تبدو على وجهه علائم القلق، وينبئ منظره أنه واقع في شرك حزن قاتل؛ لأن رفيقه كان ينظر إليه، فيراه غائصًا في لجة عميقة من الأحزان، ينظر إلى جانبيه نظر رجل قد تملك الجزع نفسه، وضاقت عليه الدنيا برحبها.

قبض الفيكونت على يد المركيز قبضة إشفاق، وقال له: ألا تدري أيها الصديق أنك تخيفني؟

فتكلف روكامبول الابتسام، وأجاب: أنا أخيفك أيها الصديق؟!

– نعم.

– وكيف ذلك؟

– إن رؤيتك على هذه الحالة من القلق والغم منذ شهرين لم أعلم لها سرًّا.

– ليس في ذلك ما يخيف، ومعرفة هذا السر سهلة جدًّا.

– مهما تكن معرفة هذا السر سهلة، فإنني لم أدركها بعد.

– أما تعلم أنني أحب ابنة الدوق سالاندريرا؟

– وماذا يحزنك من ذلك، وأنت ستتزوج بها بعد ستة أسابيع؟

فهز روكامبول رأسه، وقال: إن نفسي حزينة ضعيفة الأمل، وكان صوته مختنقًا حتى لم يكد فابيان يسمعه.

فقال الفيكونت: إني أشعر أنك ضعيف العواطف، وليس لك جلد وصبر على حلول المقادير.

– بربك لا تذكر لي هذا الكلام، فإنه يزيدني حزنًا.

– كنت أظنك أيها الأخ العزيز أكثر صبرًا، وأقوى جلدًا على تقلبات الأيام وطوارق الحدثان، ولا سيما أن ما تستعظمه مما ألم بك ليس في الحقيقة شيئًا عظيمًا، إن حظك السعيد الذي تطلبه إنما قد تأخر إلى ستة أسابيع، فستقترن بعدها بابنة الدوق سالاندريرا، وتكون أسعد حظًّا وأوفر سرورًا، وإذا كانت المقادير السيئة قد قضت بموت أبيها في صباح اليوم، الذي كان تقرر فيه قرانكما، فكان من الضرورة تأخير هذا القران، فما ذلك من الأسباب التي توهن عزمك، وتضعف أملك لتهرع إلى هذا اليأس الذي أنت فيه، وبالله كيف لا يكون من الضرورة تأخير هذا القران، وقد التزمت هذه الغادة الإسبانية أن تبدل حلتها البيضاء بحلة سوداء حدادًا على أبيها، وعلى خادمك البحري أيضًا، الذي مات ضحية العاصفة القوية في نفس الليلة التي مات فيها صاحبنا الدوق سالاندريرا.

فتنهد روكامبول ولم ينبس بكلمة.

فعاد فابيان إلى كلامه، وقال: إن الغادة الإسبانية لم تكن تستطيع الاقتران بك في اليوم التالي لوفاة والدها، وكان من الضرورة أن يتأخر زمن الزواج طبقًا للعادة المتبوعة عند الإسبانيين في الحداد، ولا شك أن هذه الغادة لا تزال تحبك كالمحبة السابقة، بل إن محبتها تزيد مع توالي الأيام، وهل مر عليك يوم واحد لم تحصل فيه على رسالة ودية منذ ضمها مع والدتها قصر سالاندريرا، حيث احتفل بجنازة الدوق؟

– كلا؛ فهي تراسلني كل يوم.

– ومع ذلك فأنت حزين قلق البال بدون انقطاع، تندفع مع تيار الهواجس الكاذبة، حتى كأنك في حلم عميق تصدق فيه كل ما يبدو لك ويمر ببالك، ولقد مضى بضعة أيام وأنا وأختك بلانش امرأتي في قلق وخوف من حالتك الحاضرة.

– إنني أقاسي في نفسي عذابًا كعذاب الموت.

– أجننت أيها الصديق؟! أما ترى أن يوم سعدك سيحل في القريب؟

– ومن يعلم ذلك؟

لفظ روكامبول هذه الجملة الوجيزة والاضطراب آخذ منه أشد مأخذ، ثم ما لبث أن تظاهر بالسكينة والدعة، ورفع رأسه وهو يتكلف الابتسام، وقال: كأنك أنت لا تكترث للهواجس، ولا تضطرب منها؟

– كلا، فلا تأثير لها علي.

– إذن، فما أسعد حظك!

– كأن في نفسك شيئًا تريد قوله: وإلا ماذا تعني بهذا الكلام؟

– أريد أن أقول: إنني قد طالما علقت الآمال بالسعادة ونيل المنى، وما زال يبدو في خاطري أنني أنخدع ببارق الآمال، ولا أقصد غير السراب، وقد حلمت حلمًا راعني جدًّا، وما زلت موجسًا خيفة من مغزاه، وقد كان في الليلة التالية لموت الدوق سالاندريرا، وذلك البحري التعيس ولتر بريت.

– وما هو هذا الحلم؟

– هو أني بعد أن أغمضت عيناي حلمت أن رجلًا يوقظني فاستيقظت في الحلم، وإذا برجل يلبس أثوابًا بيضاء قد تقدم مني، وجلس عند موضع قدمي من السرير، فحدقت به فرأيته البحري ولتر بريت، ولكني رأيته على غير هيأته الماضية، فليس عليه شيء من علائم التوحش، وليس أعمى العينين كما كان، فمنظره جميل وعيناه صحيحتان زرقاويتان، وابتسامته ابتسام رجل عظيم، ثم إنه ما لبث أن نظر إلي قائلًا: إنني انتقلت إلى الحياة الثانية، وما أتيت إليك إلا لأخبرك بالمستقبل … وأشار بيده إلى السماء من النافذة المفتوحة، وأراني بين الغيوم المتكاثفة نجمة زاهرة، فهذه النجمة كانت عندئذ سافرة زاهية، ثم لم يكن أكثر من لحظة عين، حتى رأيتها كأنها تضطرب، ثم سقطت في الفضاء واضمحلت ولم يبقَ لنورها أثر.

– ومن الذي لا يضحك عندما تقص عليه هذا الحلم، ويعلم اضطرابك منه.

– بالحقيقة إنني أعتقد أن هذه النجمة هي نجمة حياتي.

– ما هذا الجنون؟

– ونفسي تحدثني بأنه من المستحيل أن أقترن بالغادة الإسبانية.

– لو لم تكن عاشقًا لعددتك مجنونًا، ولكن العشاق تكثر عليهم الهواجس، ولا سيما أنك قد زاد ما اتفق من موت الدوق، وتأخير الزواج هواجس بالك المتغلبة عليك، فهرعت إلى الحزن واليأس على أنك في الحقيقة ستنال عن قريب غاية مناك، وإنني متحقق بأنك ستقترن بابنة الدوق سالاندريرا، وهي ستصير المركيزة دي شمري قبل مضي شهرين.

فكأن كلام فابيان كان يعيد إلى روكامبول بعض الآمال، فانتعش قلب روكامبول، وقال لفابيان وهو يبتسم عن أمل وفرح: عسى أن يحقق الله أملي فمن اتكل عليه لا يخيب، وأنا قد رجعت الآن إلى نفسي، فظهر لي أن اليأس الذي جنحت إليه ما كان إلا من كثرة هواجسي الكاذبة، وأن الأولى بي أن أعود إلى الرجاء والاتكال على الله.

فقال فابيان: الحمد لله فإن مرادك قريب المنال، فاجتهد أن تطرد عن خاطرك كل هاجس كاذب، وأن تبدو دائمًا مستريحًا مطمئن البال لا يبدو عليك أثر من علائم الحزن واليأس.

– سأجتهد في كل ذلك، ولا أكون إلا كما تقول، ولكن هل نقيم مدة طويلة في الأورنجاري؟

– إننا ليس لنا فيها أشغال نروم قضاءها، وما مجيئنا إليها إلا للتنزه وترويح النفس، وأنت لم تذهب إليها منذ أتيت من بلاد الهند، وأنا قد تركت أشغالي لأجل الحضور بك إليها، فلا غرو إذن إن قضينا فيها أيامًا قليلة نشاهد أماكنها الجميلة، ونشرح الصدر بطيب هوائها.

فتنهد روكامبول تنهد جزع لما سمع أن مدة أيامهما فيها ستكون طويلة.

تابع فابيان: لما تتنهد وتجزع، فإنني قد اتبعت نصيحة طبيبك صاموئيل إليوت، فهو الذي أشار إليَّ بإطالة هذه السفرة بالأورنجاري من أجل شفاء نفسك، وزوال الهم عن قلبك.

فارتعش روكامبول من سماع هذا الكلام، ولم ينطق بكلمة.

فقال فابيان: إن الطبيب الذي عرضت عليه حال صحتك مرارًا كثيرة منذ دخولنا إلى باريس قد انفرد بي منذ أيام، وقال لي: إنني أصنع حسنًا إذا سافرت بك من باريس مدة أيام؛ لأجل تغيير الهواء، وقد أردت تلبية إشارته وعرضت عليك السفر إلى الأورنجاري فرضيت به.

فقال روكامبول وقد تناول يد فابيان، وتظاهر بالسكينة: ربما كان الطبيب مصيبًا بما أشار به، فإنني أشعر أن ضيق الصدر عن الصبر هو الذي يسبب آلامي، وكثرة الغم تسقمني، وتكثر هواجس نفسي، ولكن يجب أن أكون اليوم أبعد عن الهم من الأمس، وأن لا أميل إلى التخيلات الكاذبة التي تشتد عليَّ، وتسبب علتي، ثم قال وهو يبتسم: ويجب أن أنتظر بكل سكينة أيام سعادتي الآتية.

– أتعدني بذلك؟

– نعم؛ أعدك به وعدًا صحيحًا.

وعند ذلك أراد فابيان أن يغير هذا الحديث؛ ليزيل عن خاطر روكامبول كل شيء يمكن أن يؤثر عليه، فقال له: أين نحن الآن من أرض الأورنجاري؟ وأطل رأسه من نافذة المركبة؛ ليرى الناحية التي هما سائران فيها، ففعل روكامبول فعله، وجعلا يرسلان بصريهما إلى جوانب تلك الأرض التي تسير المركبة عليها.

وكان ذلك اليوم من متوسط شهر أبريل، والساعة تقرب من الخمسة ونصف من المساء والسماء صافية الأديم، خالية الآفاق من الغيوم، وكانت المركبة التي تقل فابيان وروكامبول تجري عندئذ بين مروج خضراء تتصل بمدينة س … التي تكاد المركبة تصل إليها، وكان ذلك اليوم يوم السبت، أو بالأولى يومًا من أيام المواسم.

وكانت الطريق عندئذ تكاد تزدحم بالذاهبين إلى هذه المدينة من سائر القرى، وهم يسيرون عليها بين مشاة على الأقدام، وركب على الخيول وعلى العربات، وقد زادت الطريق ازدحامًا بهم ولا سيما عندما وصلوا إلى قرب المدينة، فهناك ظهرت عليهم ملامح المسرعين لمشاهدة شيء عظيم، وجعل يزاحم بعضهم بعضًا في دخول المدينة.

وكان يظهر من ملامحهم وكثرة عددهم أنهم يحضرون إلى المدينة لمشاهدة مشهد عظيم، وكانوا كلهم يقصدون ساحة الموسم، أو ساحة المهرجان، وقبل أن يصل راكبو الخيول والمركبات إلى المكان المذكور، كانوا يلتزمون أن ينزلوا عن خيولهم ومركباتهم، ويسيرون على أقدامهم؛ كي لا تدوس خيلهم أحدًا من الجموع المزدحمة في الطرق حول ساحة المهرجان، فلم يشعر فابيان وروكامبول إلا والمركبة قد وقفت، ونزل خادم الفيكونت أي: خادم فابيان عن كرسيه، وتقدم من النافذة وقال: لا تستطيع المركبة التقدم إلى الأمام، ومن المحال أن تتقدم عن هذا الحد، فدُهِش روكامبول وسأله عن السبب، فأجاب: سيحل قضاء الموت بعد خمس دقائق في ساحة المهرجان، والأسواق جميعها مزدحمة بالناس والخيل والعربات عند هذا الحد، ولا يدعونها تتقدم خطوة؛ إذ لا سبيل لها.

فما كاد روكامبول يسمع لفظ القضاء حتى أجفل، واهتز من الجزع فتنهد فابيان، وقال: لقد فهمت الآن لماذا يحتشد الناس، ويتسابقون إلى دخول هذه المدينة، فقد كنا ظننا أن كثرة الوفود ناتجة عن كون هذا اليوم من أيام المواسم، ولكن مثل هذه الجموع الغفيرة، وهذا الازدحام الشديد لا يكون لأجل ذلك.

وبينما المركيز والفيكونت يسرحان أبصارهما من نافذة المركبة؛ إذ نظرا على مسافة مائة متر منهما آلة قطع الرؤوس مهيئة في ساحة يحيط بها الجنود، ثم يحيط بهم من كل جانب جماهير غفيرة من الناس، وهم يشخصون أبصارهم في هذه الآلة المخيفة، ويتساءلون عما جنى الأثيم المحكوم عليه بالإعدام، ويكادون يرتجفون هولًا من شدة العبرة التي نالتهم من رؤية الآلة الهائلة، ومنظر هذا المشهد المخيف.

أما فابيان فإنه أمر بأن تُساق المركبة راجعة من حيث وصلت، فقال له السائق: لا أستطيع العودة الآن؛ لأن وراءنا جماهير يتوافدون وهم مزدحمون ازدحامًا، بحيث يجب أن ننتظر حلول القضاء الهائل حتى يرجع الناس الذين وراءنا، فنكون نحن بعدهم أول الراجعين من الذين أمامنا.

فتنهد الفيكونت، وقال: بالله ما هذا المشهد الفظيع، الذي ستبصره الآن عيوننا بالرغم عن إرادتنا؟

أما روكامبول فحين سرح بصره في آلة الإعدام استولى الرعب على قلبه، وحوَّل وجهه عن النافذة كي لا يراها، فكأنه لم يهرق في عمره دمًا، ولم يشهد مشهدًا مؤثرًا من مشاهد القتل والخنق، التي كانت يده آلة في زمانه السابق، وكأن هواجسه الشديدة قد مثلت له أن هذه الآلة إن لم تكن مهيئة له في نفس ذلك الوقت، فهي ستُهيَّأ له قريبًا وتهرق دمه بمشهد أشد تأثيرًا على الناس من المشهد الذي كان يراه، وبينما هو وفابيان صامتان متأثران؛ إذ سمعا امرأة بالقرب من المركبة تقول لرفيقتها: الويل لهذا الجاني التعس، فإن ساعته قد دنت، وسيُعدَم في الساعة السادسة.

وكان بالقرب من المرأتين رجل لا يزال راكبًا على حماره يدير أذنيه إلى كل متكلم؛ ليعرف حقيقة الجريمة التي جناها ذلك الشقي المزمع إعدامه، فلما سمع كلام المرأة سألها قائلًا: وماذا صنع هذا التعس، فاستحق هذا الجزاء الشنيع؟

– قتل امرأة تعسة كانت قد ربته كولد لها.

– وكيف قتلها؟

– خنقها بيده القاسية، ولم يشفق عليها وهي عجوز لم يبقَ لها في الحياة غير أيام قليلة، فقطع حبال أيامها ظلمًا غير مكترث بعاقبة فظاعته.

فلما سمع روكامبول كلام هذه المرأة اقشعر بدنه، وارتجفت أعضاؤه من شدة الخوف، واصفر لون وجهه حتى كاد يموت خوفًا وجزعًا.

ثم سأل الرجل المرأة: وكم يبلغ من العمر هذا الشقي المحكوم عليه؟

– عمره ثمانية وعشرون عامًا.

فزاد روكامبول ارتعادًا ويأسًا، وهو مصغٍ إلى تتمة الكلام.

ولم تكد المرأة تنتهي من كلامها حتى جعل القوم من كل جهة يلفظون قائلين: ها هو قد ظهر، يعنون المحكوم عليه، ولم يلبثوا أن سادت بينهم السكينة، وشملهم الهدوء ولم يعد لهم غوغاء تُسمَع، كأنه لم يكن في ذلك المكان جموع تضج وتلغط.

وفي الوقت نفسه بينما كان فابيان منحني الرأس متخشعًا يصلي إلى الله عن هذا التعس المزمع إعدامه، أخذ روكامبول يتكلف هيئة فابيان وعمله، فخانته الحال وشعر في نفسه بقوة غالبة، رفعت أبصاره رغمًا عن إرادته إلى آلة الإعدام، وجعل يزداد ارتجافًا من شدة الخوف، والعرق البارد يتصبب من جبهته، ولكن فابيان كان منشغلًا عنه بصلواته فلم يرد.

فأول ما وقع عليه نظر روكامبول سطح آلة الإعدام يقف عليها رجلان، ما هما غير مساعدين للجلاد بقبض الأرواح، ثم لم يلبث أن رأى رجلًا يصعد على سلم الآلة وهو أصفر الوجه من الخوف، يدل منظره أنه لا يزال في ريعان العمر، وهو حليق شعر الرأس مكشوف العنق؛ لأنه غرض الآلة القاطعة.

وكان الرجل المحكوم عليه بالإعدام يصعد على سلم الموت، وهو مرتجف الأقدام واهن القوى من الرعب، يعينه على الصعود اثنان من ورائه هما الجلاد والكاهن.

ولم يمضِ بضع ثوانٍ حتى رأى روكامبول هذا الجاني التعس، الذي لا يزال في ريعان الشباب قد ذبلت نضارة وجهه، وبان كأنه شيخ قد أخذت السنون من جماله ورونقه، كما أخذت من قوته وهو بين الكاهن الذي يدني الصليب من فمه، ويطلب له المغفرة من السماء وبين الجلاد، الذي يقف كأنه فارغ الصبر ينتظر الأمر بإعدامه.

وما كادت تتوالى بضع ثوانٍ حتى رأى روكامبول أن هذا التعس قد استلمه الجلاد من يد الكاهن، وقدَّمه إلى الأمام حيث وضع عنقه تحت شفار الآلة.

فزاد ارتعاد روكامبول واضطراب بصره، فجعل يدير في تلك الآلة بصرًا قلقًا، وفؤاده يخفق خفوقًا قويًّا كأنه نفس المقدَّم للإعدام، وعندئذ ضج القوم ضجيجًا مؤلمًا من فظاعة المشهد، وسقط رأس المجرم وروكامبول يهتز من الاضطراب، ويكاد يموت من شدة رعبه، فأُغمِي عليه وسقط قرب صهره لا يعي.

٢

لنترك الآن روكامبول وفابيان في هذه السفرة، ولنعد إلى باريس لنرى ما كان بعد سفر روكامبول عنها، ففي ذات ليلة نحو الساعة التاسعة من المساء كانت الكونتس أرتوف جالسة قرب المستوقد بمنزلها الكائن في شارع بانينار، وكان عندها الدكتور صموئيل إليوت، وهو جالس لا يجول معها في الأحاديث، ولا يكلمها في شيء، فنظرت إليه وقالت له بعد أن كانت ساكتة منذ ربع ساعة: أتعلم أيها الدكتور أنه الآن قد مضى شهران كاملان على سفري إلى فرنش كونتي مع رولاند دي كايلت؟

– نعم؛ أعرف ذلك.

– ويظهر أنك منذ ذلك الوقت لا تريد أن تسألني عن أمر من الأمور كما كنت أوصيتك.

– نعم فقد تبعت إرادتك، وما عدت أسألك عن شيء بعدما عرفت أنك لا تريدين ذلك.

فتنهدت الكونتس أرتوف، وقالت: بالحقيقة إنني لم أطلب إليك أن تعدل عن سؤالي عن كل شيء؛ إلا لأنني أرى نفسي امرأة قد قضت أيامها بين الشرور والأعمال الفظيعة، فهي ترى أنه أولى بها أن لا تحدث أحدًا بأمر من أمورها، وأن تخفي جميع أسرارها في زوايا صدرها، وتتوب عن سلوكها الماضي توبة كاملة، ولكنني اليوم أرى أنني يجدر بي أن أخفي عنك كل شيء من أسراري إلا الأمر المهم، الذي لا بد لي من إظهاره لك؛ إذ ذلك أولى بي من إخفائه.

فأحنى الدكتور رأسه ولم يُجِب بشيء.

فأتمت الكونتس كلامها، وقالت: أظن أن الساعة قد أتت الآن لأظهر لك فيها هذا السر المهم، وأطلعك على ما صنعت وعلى ما أريد أن أصنع؛ لنصل إلى الغاية التي نسعى إليها.

– إنني مصغٍ إليك فتكلمي.

– أريد أن أخبرك بالتفصيل عن سفرنا إلى فرانش كونتي، وما كان لنا من الحوادث في هذا السفر، حيث تركنا رفيقنا رولاند.

ثم جلست الكونتس جلوسًا حسنًا شأن من يريد أن يحدث حديثًا طويلًا، وأتمت كلامها فقالت: إنك لا تجهل أنني سافرت من باريس على مركبة بوستة مع المسيو دي كايلت، ولا بد أنك تتذكر أنني غيرت زي النساء، وتزييت بزي الرجال، وكان يخالني من ينظر إلي في هذا الزي المستعار شابًّا في مقتبل العمر لا يزيد سنو عمره عن الثمانية عشرة، وقد قطعت كل الطريق، وأنا أتظاهر بأنني وكيل رولاند.

أما القصر الذي مات فيه دي كايلت، وأقام ابن أخيه قيمًا عليه، فقد كان يبعد منا ثلاثة فراسخ بالطريق العمومية، ولا يبعد غير فرسخ ونصف فقط إذا سلكت إليه بطريق مختصرة تمتد بين الغابات المتصلة بقصر هوبا، فوصلنا إلى كليت بعد ثماني وأربعين ساعة مضت على خروجنا من باريس.

وقد قضت التقادير أن يذهب إلى قصر هوبا المركيز دي شمري والفيكونت والفيكونتس دي أسمول، والدوق الإسباني وامرأته وابنته، وقد كنت أظن ويجول في خاطري أن المركيز دي شمري ما هو إلا روكامبول نفسه، ولكني كنت من ذلك بين الشك واليقين، فرأيت من الضرورة أن أتحقق من ذلك، ففي أول ليلة لوصولنا قلت لرولاند: يجب أن تذهب إلى الفيكونت دي أسمول.

فأجابني متعجبًا: وماذا تريدين بذلك، وقد تراخت بيننا العلائق الودية منذ مثلت ذلك الدور الكبير؟

– إنك تحتج في زيارتك له بأنك إنما أتيت إليه لأمر ذي أهمية، يختص بأشغال ناجحة تتعلق به وبك.

– نعم الرأي الذي ارتأيتيه فهو موافق غاية الموافقة؛ لأن عمِّي في السنة الماضية قد اشترى له طاحونة لم يدفع ثمنها تمامًا حتى اليوم.

– إذن فاذهب إليه بهذه الحجة.

– ولأي غرض؟

– لكي تأتي به إلى هنا مع المركيز، فإنه يجب أن أرى هذا الرجل.

– ولكنه يعرفك.

– كلا فهو لا ينظرني؛ لأنني أختبئ فأراه دون أن يراني.

أما رولاند فهو منذ عرف حقيقة خطئه إلي صار يطيعني طاعة عمياء، وهذا الشاب المعروف بالطيش إلى هذا الحد صار في مدة أيام قليلة تبدو عليه ملامح الكبر، كأن هذه البضعة أيام كانت كعشر سنوات مضت من عمره.

فقال لي: إنني مطيع، فمتى تريدين أن أذهب؟

– غدًا صباحًا.

ففي اليوم التالي هب باكرًا، وسار على الطريق ماشيًا يحمل على كتفه بندقية، فجعل يجوب أرضًا مرملة واقعة بين كليت وهوبا، فما كاد يتوغل فيها حتى التقى برجل صياد كان قد رافقه إلى الصيد مرارًا كثيرة.

فحين قابل هذا الرجل رولاند تنهد، وقال له: لقد فاتك صيد ناجح.

– متى؟

– قبل أمس أي: يوم السبت.

– وأين فاتني ذلك؟

– في الغابة السوداء، حيث كان الفيكونت دي أسمول وصهره المركيز دي شمري مع رجل إسباني ودوق وهم قد صادوا دبًّا.

– ومن هو هذا الذي صاده منهم؟

– هو المركيز … وهنا أخبر رولاند كيف تمكن روكامبول من قتل هذا الدب، ثم أضاف إلى كلامه أن الزواج قد تقرر.

– وأي زواج تعني؟

– زواج المركيز بابنة الرجل الإسباني.

فقال رولاند، وقد أخفى الدهشة التي تولته: ومتى يكون هذا الزواج؟

– قرئت أمس ورقة الزواج في الكنيسة بعد الذبيحة، التي تُقام الساعة الحادية عشرة من الصباح، وأظن أن القران سيتم هذا اليوم.

أما رولاند فقد قال لي إنه عندما سمع من الرجل هذا الكلام أخذ منه الغضب مأخذًا عظيمًا، حتى جعل يرتجف من شدة غيظه، ولو لم يتمسك بحبل الجلد والصبر لسقطت البندقية من بين يديه لشدة ارتجافه، ولكن هذا الخبر الذي علمه قد فقه أفكاره، وجعله يتبصر فيما أرسلته لقضائه.

ثم ترك الرجل وجعل يواصل سيره، وهو يقول في نفسه: إن شقيًّا نظير المركيز دي شمري لا يقدر أن يتزوج ابنة الدوق سالاندريرا، ولا يمكنني الوقت من الرجوع على الأقدام إلى الكونتس أرتوف لأطلعها على ذلك، فأنا أواصل السير لأرى وحدي في هذا الأمر.

وكان يسير سيرًا سريعًا، وهو لا يدري ماذا يصنع ليمنع هذا الزاوج، أو بالأقل ليؤخره عن ميعاده، ولما كاد يصل إلى حيث يذهب كان الوقت نحو الساعة الثامنة من الصباح.

وكانت الثلوج قد كست تلك الطرق حلة بيضاء أثناء الظلام، فلما اقترب رولاند من المكان الذي يقصده، رأى على الطريق آثار الأقدام باقية على الثلوج، ورأى أثر أقدام حصان تظهر له على طريق مختصرة تؤدي إلى قصر هوبا.

فخالج فكر رولاند أن آثار هذه الأقدام ما هي إلا من أهل ذلك القصر، وأنهم خرجوا منه باكرًا كي يقضوا جميع الأمور اللازمة، التي لا بد منها في وقت القران، ولكنه لم يكد يصعد على الأكمة التي يوجد عليها القصر المذكور، حتى بدا له راكب عجوز يسير نحوه فتأمله رولاند، فإذا به طبيب كبير السن يقيم في بلدة قريبة تُدعَى أولناي كان يعرفه منذ صغره.

فتقدم حتى دنا منه وحياه، وبعد أن تبادلا التحية سأله رولاند: من أين تأتي في هذا الصباح؟

– من هوبا.

– أزرت فيه مريضًا؟

فأحنى رأسه دلالة على ذلك، ثم قال: نعم إنني قد زرت مريضًا، ولكني أتيت إليه متأخرًا.

– وكيف ذلك؟

– إن الدوق قد مات.

– أمات الدوق؟

– نعم.

– الدوق دي سالاندريرا؟

– نعم هو.

– وكيف مات؟

– مات بعِلَّة فجائية شديدة، وحين وصلت إليه رأيته يتردد الأنفاس الأخيرة، فلم يعد لي حيلة وقد مات على أثر وصولي.

وأخبر هذا الطبيب رولاند بسبب موت الدوق، فقال: إنه قبل أمس قد ذهب للصيد مع آخرين، فاعترضهم دب هائل، فاستولت رجفة شديدة على الدوق من كثرة خوفه، وقد أدت إلى موته.

– نعم؛ وقد التقيت في طريقي بصياد، فأخبرني هذا الخبر، ولكن كيف أدى ذلك إلى موته؟

– حين اشتد عليه الخوف، وتمكنت منه هذه الرجفة الشديدة أثر ذلك على دمه تأثيرًا عظيمًا، ففسدت دماؤه وفاجأه داء السكتة فمات.

– ومتى كان ذلك؟

– في هذه الليلة نحو الساعة الحادية عشرة من المساء.

– وهل عرفوا به حال وقوع هذا الداء عليه؟

– لم يعرفوا به حتى الصباح؛ لأنه لم يستطع نداء أحد، وحين دخلوا إليه في هذا الصباح وجدوه في حالة خطرة.

– أليس خادمه الذي دخل إليه أولًا؟

– كلا فهو المركيز.

– وأي مركيز؟

– المركيز دي شمري صهر الفيكونت دي أسمول، والذي سيتزوج ابنة الدوق دي سالاندريرا.

– لقد ذكرت هذا المركيز فإني أعرفه.

فعاد الطبيب إلى حديثه، وقال: يظهر أن هذا المركيز أيضًا قد بات بليلة الملسوع، وحُقَّ له أن يأرق، فإنه يحب تلك الغادة الإسبانية، وكان يرجو أن يتزوجها في اليوم التالي، وإذ لا يحق له أن يدخل إلى غرفة خطيبته دخل إلى غرفة عمه، ولكنه ما لبث أن دخل إليها حتى جعل يستغيث، وينادي الخدم وسكان القصر، فأسرعوا إليه فوجدوا الدوق سالاندريرا قد سقط من سريره إلى الأرض، وليس فيه ما يدل على الحياة.

وكان المركيز دي شمري قد خدم في البحرية، وهو يعرف شيئًا من فن الجراحة، فأسرع إلى فصد عمه بساعده، وأرسلوا أحد خدم القصر على جواد إلي يدعوني، فوصلت ولكن بعد فوات الأوان؛ لأن الفصادة قد تأخر وقتها ولم تفد هذا المريض، إلا أنها أخرت موته ساعتين فمات بين يدي.

– ما هذه المصيبة الفادحة.

– لا أنكر أن الخطب عظيم غير أنك لم تعلم غير نصف الحادثة.

– لا أفهم ما تقول.

– أريد أن هذا القصر لم يمت فيه واحد بل اثنان أحدهما الدوق.

– والآخر؟

– الإنكليزي النوتي الأعمى الذي أحضره معه المركيز.

فعلم رولاند أنه أندريا، وقال له: كيف مات هذا النوتي؟

– يظهر أنه سقط عن السطح إلى الوادي، فإن غرفته تشرف على السطح، وقد خرج يستنشق الهواء فزلت قدمه، وهوى إلى ذلك الوادي السحيق، فرأى الفلاحون جثته مهشمة على الصخور، فأخذوه وحملوه إلى القصر، فكان لموته تأثير شديد حتى إن المركيز دي شمري أُغمِي عليه حين رآه قتيلًا.

فأظهر رولاند اندهاشه لهذه الحادثة، وحادث الطبيب هنيهة، ثم افترقا فذهب الطبيب بشأنه، وبقي رولاند وحده وهو حائر فيما يعمل، فإنه لم يجد الفرصة مناسبة للذهاب إلى قصر الدوق، ولكنه وثق من أن موت الدوق سيؤخر زواج المركيز دي شمري، فقال في نفسه: إن الوقت فسيح لدينا، ثم وضع بندقيته على كتفه وعاد إلى قصر عمه.

أما أنا فقد انذهلت انذهالًا عظيمًا حين رأيته أسرع في عودته، وزاد في دهشتي ما أخبرني به من تلك الأحاديث، فإن حديث رولاند دعاني إلى الإمعان، فقلت في نفسي بعد هذا التفكير: إنه لا بد لموت الدوق أن يؤخر هذا الزواج، ومهما يكن من حب الغادة الإسبانية للمركيز، فإنها لا تستطيع أن تُزَفَّ إليه قبل الثلاثة أشهر حسب الاصطلاحات الموضوعة، ولا سيما لدى الإسبان، فإنهم شديدو الحرص على عاداتهم.

فلما رآني رولاند أفكر سألني: على ماذا عولت؟

– عزمت أيها الصديق على أن نعود إلى باريس.

– ألا تريدين أن تنظري المركيز؟

– ذلك لا بد منه؛ لأني لا أزال مشككة بأمره وأحسب أنه روكامبول، فإذا صحت ظنوني، وكان هذا اللص متقمصًا بالمركيز دي شمري، فلا بد أن يكون المركيز الحقيقي موجودًا، وبالتالي فلا بد من إيجاده لإظهار حقيقة روكامبول.

– هذا لا ريب فيه، غير أننا نحتاج إلى وقت طويل لإيجاد هذا المركيز.

– ما دام الزواج قد تأخر ثلاثة أشهر على الأقل بسبب وفاة الدوق، فإن الوقت فسيح لدينا.

– إذن فكيف عزمت على أن تنظري المركيز؟

– إني سأتنكر بزي الخدم، وسيدفنون الدوق والإنكليزي، فأرى الرجل دون أن يراني إذ لا بد له من حضور الجنازة.

٣

قالت باكارا: وفي اليوم التالي غيرت ملابسي بملابس أحد خدم رولاند، وذهبت مع خادم كان رولاند يأتمنه، وله صحبة مع خدم قصر الفيكونت فابيان دي أسمول صهر ذلك المركيز الكاذب، فاختلطنا مع خدم القصر، ونظرت جثة ذلك الأعمى، ثم نظرت المركيز كما أشاء وعدت إلى رولاند.

– فأسرع إلى استقبالي وقال: ما رأيت؟

– رأيت ذلك الأعمى وهو أندريا، ورأيت ذلك المركيز وهو روكامبول.

– أأنت واثقة مما تقولين؟

– كل الثقة؛ لأن هيئة هذين الرجلين لا تخفى علي مهما تشوَّه أندريا، وتنكر روكامبول.

– وماذا يجب أن نعمل الآن؟

– أما أنت فلا يجب أن تعمل شيئًا، بل يجب أن تقسم لي بشرفك على أن تبقى في القرية، ولا تعود إلى باريس إلا حينما آذن لك بالرجوع.

– وأنت؟

– أما أنا فإني سأسافر في المساء؛ إذ يجب أن أعلم ما حدث للمركيز دي شمري الحقيقي.

وفي اليوم نفسه غادرت رولاند في القرية لا يعلم ماذا يعمل، ورجعت إلى باريس.

فلما سمع الطبيب صموئيل جميع ما قالته باكارا، وكان مصغيًا إليها أتم الإصغاء، ودُهِش دهشًا عظيمًا من جرأة روكامبول، وقال: إن ما أقدم عليه هذا اللص لا يقدم عليه أحد، ويجب أن نضربه الضربة القاضية ونريح الأرض من شروره.

فقالت باكارا: صبرًا أيها الصديق واسمع تتمة حكايتي، فإني لم أفرغ بعد واعلم بأنه لا يكفي أن أعلم بأن المركيز دي شمري هو روكامبول؛ لأن مثل هذا اللص الحاذق لا يتنكر باسم سواه، ولا يدخل في عائلة شريفة، ولا يختلط بالشعب الباريسي دون أن يكون قد اتخذ الاحتياطات الشديدة، وبالغ في إخفاء آثاره السابقة التي تظهر اسمه الحقيقي.

ثم إنه لا بد أن يكون لديه أوراق، وأدلة وشهادات جمة تثبت أنه ذلك المركيز، الذي إما أن يكون قتله وتنكر باسمه، أو أنه سرق أوراقه واستخدمها لأغراضه، فاسمع ماذا صنعت.

إني عند وصولي إلى باريس أسرعت إلى الكونت إرمان دي كركاز، فرويت له جميع ما سمعت ورأيت.

وكان ذاك الكونت يعتقد أن أخاه السير فيليام قد هلك بين القبائل المتوحشة، فجمد رعبًا عندما علم بشروره الأخيرة، وأنه مات قتيلًا في وادٍ بضواحي باريس.

ثم سألت الكونت رأيه، فقال لي: إن يد الله وراءنا فإن موت الدوق سالاندريرا في اليوم، الذي كانت ستُزَف فيه ابنته إلى ذاك اللص السفاك دليل على أن الله أراد تأخير الزواج؛ كي نتمكن من غل يد ذاك اللص، وأنه لم يأذن بموت الدوق إلا اجتنابًا لمصيبة أعظم، وهي وقوع الفتاة الطاهرة بين مخالب الوحش الضاري.

– إني من رأيك يا سيدي الكونت، ولكني لا أعلم كيف نغل يد ذلك اللص.

فقال الكونت دي كركاز: يجب أن لا نغفل عن أمر خطير، وهو أننا إذا فضحنا روكامبول، وأظهرنا اسمه الحقيقي فإننا نفضح عائلة شريفة تتناولها أقلام الجرائد، فيظهر للناس قاطبة كيف أن هذه المرأة الطاهرة أحبت لصًّا سفاكًا، وهي تعتقد أنه أخوها، بل إننا نهين كثيرًا من العائلات التي فتحت أبوابها لاستقبال هذا الرجل، الذي لا ينبغي أن يكون مقره إلا في أعماق السجون.

– ولكننا لا نستطيع أن ندع هذا اللص يلقب نفسه بالمركيز دي شمري.

– لا ريب في ذلك، غير أننا قبل أن نبدأ في نزع اللقب منه يجب أن نعلم ما حدث لذلك المركيز الحقيقي، الذي اختلس منه روكامبول هذا الاسم.

وكان الكونت دي كركاز مصيبًا فيما قال، فعزمنا في الحال على السعي في كشف الحجاب عن غوامض هذه الأسرار.

وأول ما خطر لنا هو أن نعلم كيف كانت عودة روكامبول إلى باريس، فجعلنا نبحث حتى علمنا بعد يومين أن الذي يدَّعي أنه المركيز دي شمري وصل إلى باريس يوم وفاة أمه فيها، وأنه كان الرجل الوحيد الذي سلم من الغرق؛ لأن الباخرة التي قدم عليها غرقت، وذلك منذ ثمانية عشر شهرًا.

فلما وقفنا على هذه التفاصيل قال لي الكونت دي كركاز: إنه يرجح أن المركيز دي شمري الحقيقي وروكامبول اتفق وجودهما سوية في تلك الباخرة التي غرقت، فإذا صح ظني فإنه يسهل علينا أن نعلم الحقيقة؛ وذلك لأن المركيز دي شمري كان عائدًا من الهند، فلا بد له من المرور بلندرا ولا بد للأوراق الموجودة مع روكامبول أن يكون عليها كتابة من الأميرالية البحرية، وبالتالي فلا بد أن نجد في لندرا ضباطًا يعرفون المركيز من الذين خدموا في الهند، سواء كلكيتا أو في بمباي.

– إن ذلك ممكن لا سيما وأنه يرد في كل يوم إلى لندرا سفن من شركة الهند.

– إن المركيز الحقيقي إذا كانوا رأوه في لندرا؛ فهو إما أنه كان من جملة ركاب الباخرة التي غرقت، وإما أن يكون قُتِل قبل سفرها، فإذا كان الأول يكون قد فُقِد واستولى روكامبول على أوراقه، وإذا كان الثاني فإننا نستطيع الوقوف على آثاره في لندرا.

– لقد فهمت ما تقول وسأسافر إلى لندرا غدًا.

– وأنا أسافر معك أيضًا، فإن رأيين أحسن من واحد.

وفي اليوم التالي سافرت مع الكونت دي كركاز، وبعد اثنتي عشرة ساعة وصلنا إلى لندرا، فكان أول ما شرعنا به أننا ذهبنا إلى الأميرالية البحرية، وسألنا عن المركيز دي شمري، فأخبرنا أحد الموظفين أنه يذكر بأنه كتب الكتابات المألوفة على جواز المركيز دي شمري منذ ثمانية عشر شهرًا، وقال لنا: إنه يذكر أيضًا بأن هذا المركيز ضابط بحري في الهند الإنكليزية وهو مستقيل.

وأخبرنا ضابط في الأميرالية أنه يعرف المركيز، وأنه خدم وإياه في سفينة واحدة، فقلنا له: أواثق أنت من أن الذي قدم جوازه إلى الأميرالية هو نفس المركيز دي شمري؟

– كل الثقة وأذكر أيضًا أني سلمت عليه، وباحثته في أمور كثيرة، ثم أخذ دفترًا ضخمًا فقلب صفحاته ونظر فيها، وقال: كان يصحبه حين حضوره القائد جوكسن وهو من أصحابه الأخصاء، أما هذا القائد فلا بد أن يكون الآن في لندرا؛ لأنه قدم إليها عائدًا من إفريقيا منذ عشرة أيام، فإذا أحببتم أن تروه، فإنكم تجدونه دون شك في فندق جنوا في شارع بلغراف.

فشكرنا هذا الضابط ثم غادرناه، وانطلقنا مسرعين إلى هذا الفندق، وكان القائد جوكسن موجودًا فيه.

فذُهِل هذا القائد في البدء لأسئلتنا الكثيرة إلى أن أخبره الكونت كركاز باسمه، وأنه لا يسأله عن المركيز إلا لأمر عائلي، فقال عند ذلك ما يأتي: إن المركيز شمري كان من أخلص أصدقائي، وقد سافر منذ ثمانية عشر شهرًا من لندرا إلى فرنسا على سفينة شراعية، وكنت من الذين ودعوه.

– أتعرف هذه السفينة؟

– نعم، اسمها مويات.

– أرأيته صعد إليها؟

– بل رأيتها سافرت به، وبقيت واقفًا على الرصيف أودعه بالإشارات إلى أن توارت السفينة عن الأنظار.

وكان هذا جميع الذي نريد أن نعرفه؛ إذ ثبت لنا أن المركيز دي شمري الحقيقي سافر دون شك في السفينة التي غرقت.

فلما غادرنا القائد جوكسن وخلوت بالكونت، قال لي: لم يعد لدينا شك الآن أن أوراق المركيز قد سُرِقت، سواء كانت السرقة في السفينة أو بعد غرقها، فإذا كانت سُرِقت في السفينة فلا بد أن روكامبول كان موجودًا فيها، وإذا كانت بعد غرقها فقد يكون حدث اتفاقًا أن روكامبول كان على الشاطئ متى غرقت فيه السفينة، وأنه عثر بجثة المركيز فسرق الأوراق.

– هذا لا يمكن احتماله.

– لماذا؟

– لأن روكامبول لا يعود إلى فرنسا إلا إذا دفعه أمر خطير إلى العودة إليها، فاستصوب الكونت كلامي.

ولم يبقَ علينا بعد ذلك إلا أن نستطلع بعض الأمور من البوليس، فذهبنا إلى إدارة قلم الجوازات، وعلمنا منها أنه يوم سفر السفينة مويات أخذ منها رجل جوازًا باسم السير أرثير، ثم وصف لنا أوصاف هذا الرجل كما هو مبين عنده في الكتاب، فوجدنا أنها تنطبق أشد الانطباق على أوصاف روكامبول.

وبعد ذلك عدنا إلى الهافر، فدقق الكونت كركاز بالاستعلام عن غرق تلك السفينة، فعلم أنه لم يسلم أحد من ركابها غير أنه كانوا يُشيعون أن أحد أصحاب قوارب الصيد في إيترات كان يقول: إن رجلًا عليه ملامح رجال البحرية قد بلغ سباحة إلى الشاطئ.

فذهبنا من الهافر إلى إيترات، ولم تكن حادثة غرق السفينة قد تنُوسِيت بعد، فأخبرنا الصيادون الذين كنا نسألهم أنهم جميعهم يذكرون الحادثة، وأن معظم الغرقى قذفت الأمواج جثثهم إلى الشاطئ.

ولما أوشكنا أن نقنط من معرفة الحقيقة قال لنا أحد الصيادين: إذا شئتم أن تعرفوا الحقيقة بتفاصيلها فاسألوا الصياد فانتيال إنه يعلم جميع التفاصيل.

فدعونا هذا الصياد وسألناه عما يعلمه، فأخبرنا أنه لم يسلم من ركاب السفينة غير رجل واحد، ولكننا لم نعرف اسمه، فإنه لم يحدثنا بكلمة بل اكتفى أنه اشترى منا رداء ولباسًا.

– وأين ذهب؟

– ركب مركبة وسار بها إلى الهافر، ويظهر أنه قضى ليلة قبل وصوله في جزيرة صغيرة قريبة من الشاطئ، ثم إنه يوجد شاب آخر قد نجا من ركاب السفينة، ولكن هذا الرجل لم تطأ أقدامه الأرض.

فتعجبنا من البيان، وقلنا: ماذا تريد بذلك؟

– إن لذلك حكاية غريبة، وهي أنه بعد غرق السفينة بثلاثة أيام كنت عائدًا مع ابني في قارب إلى الهافر، فرأينا سفينة كبيرة ذات ثلاثة صواري عليها علم نروجي وهي شاحنة خشبًا من الشمال، وكنا قد اصطدنا صيدًا كبيرًا، وكان البحر هادئًا فاقتربنا من السفينة قصد أن نبيعها سمكًا من صيدنا، فصعد ابني إليها فعرض سمكه على الربان فاشترى منه، وقال له: أغرقت سفينة حديثًا عند تلك الشواطئ؟ فقال ابني: نعم، وحكى له عن غرق موبات، فسأله الربان، إذا كان نجا أحد من ركابها، فقال له: لم يسلم غير واحد، فإنه نجا سباحة حتى بلغ الشاطئ، فقال الربان: إذن فإن الذين نجوا اثنان.

ثم أخذ ولدي بيده وذهب به إلى غرفة، فرأى فيها سريرًا ممدودًا عليه شاب يناهز الثامنة والعشرين من عمره، وهو منطبق العينين كأنه نائم وأمامه طبيب السفينة.

فسأل الربان الطبيب كيف حاله قال: أرجو أن أشفيه، ولكن شفاءه يطول وأخشى متى شُفِي جسمه يذهب عقله.

وعند ذلك أخبره الربان أن الشاب المنطرح على السرير ضائع الرشد، وليس عليه من الملابس غير بنطلون وقميص، وجده بحارة السفينة منذ ساعتين مغميًّا عليه في حفرة كائنة في جزيرة صغيرة، وقد كان البحارة نزلوا إليها لجمع الأصداف فعثروا به.

ثم أخبره الربان أنهم يرجحون بأنه سقط في الحفرة بالليل، وأنهم عندما وجدوه كان في وشك الموت.

فقال الكونت: أواصلت السفينة النروجية سيرها؟

– نعم واصطحبت معها الشاب.

– أعرفت اسم تلك السفينة؟

– نعم فإنها تُدعَى إنفسييل، وكانت رافعة راية نروجية.

فوضع الكونت يده على جبينه كمن يتذكر أمرًا، ثم قال: لقد ذكرت الآن فلقد قرأت منذ ستة أشهر في جريدة إسبانية أن إحدى البوارج الإسبانية أسرت سفينة نروجية ذات ثلاثة صواري، وقبضت على بحارتها وهم اثنا عشر رجلًا فحكمت عليهم بالليمان.

قالت باكارا: ولما قال الكونت هذا القول أعطى الصياد دينارين مكافأة له عن تعليماته، ثم قال لي: أظن أننا قد أصبحنا عارفين مقر المركيز دي شمري الحقيقي.

هذه هي الحكاية التي قصتها باكارا على الطبيب صموئيل، فلم نجد بدًّا من ذكر بعضها مما لا غنى عن إيضاحه في سياق هذه الرواية، فنقف من حديثها معه عند هذا الحد، ونقول: إنها في اليوم التالي برحت باريس مع الطبيب في رحلة سرية سيعلم القراء تفاصيلها والغرض منها.

ثم نذهب بالقارئ إلى البلاد الإسبانية، حيث نجد فيها كثيرين من أبطال هذه الرواية العجيبة.

٤

هو ذا الفجر قد انبثق وتفجرت أشعته اللامعة على قمم الجبال، وسكنت مياه البحر، فكانت نسمات الصباح تنقش على صفحاته زردًا، وكانت مياهه لا تزال زرقاء تشبه زرقة السماء التي كسف الفجر أنوار نجومها.

وكانت الجبال الشامخة تشرف على ذلك البحر، الذي كانت فيه السفن الشراعية كالحمائم عائدة بالصيادين مشحونة بالأسماك، وبينها مدينة بيضاء القصور بُنِيت منازلها على الطريقة المغربية، وكان أهلها لا يزالون نيامًا في ذلك الصباح.

أما هذه المدينة فهي كاديس ميناء الأندلس، وهي لا تزال حافظة أثر سلطانها المغربي الذي فارقها، والدمع ملء عينيه، وهو يعلم أنه فارق الأقطار الإسبانية فراق الأبد.

وكان المار في شوارع تلك المدينة الضيقة عند تبلج الفجر يجدها خالية قفراء؛ لأن سكانها كانوا لا يزالون نيامًا غير أن باب فندق الأندلس فيها فُتِح، وخرج منه شاب جميل مرتدٍ بملابس يظهر من حسن هندامها على بساطتها أنها باريسية، وكان يصحب هذا الشاب امرأة حسناء على كتفيها شال من الكشمير الثمين، وقد تأبطت ذراعه وسار الاثنان إلى جهة البحر، فكان الشاب يقول لها: سترين يا حبيبتي هرمين أجمل منظر تبتهج له النفوس، وهو شروق الشمس وأنت في البحر.

– لقد رأيت هذا المنظر في العام الماضي حين كنا مسافرين من الهافر إلى بليموث.

وكان هذا الشاب فرناند روشي وامرأته هرمين، اللذين عرفهما القراء فيما تقدم من فصول الرواية.

فابتسم فرناند لزوجته، وقال لها: إن الأوقيانوس المحيط يشبه البحر المتوسط، كما يشبه الزجاج البراق الألماس، وإن سماء أوروبا تشبه سماء الأندلس كما تشبه الأشعة المنعكسة نور الشمس.

ثم ذهب الاثنان إلى الميناء وهما يتحادثان.

وكان فرناند قد رجع إلى زوجته بعد ذلك الهجر القديم، الذي دعاه إليه شغفه بتلك الفتاة التي كانت تُلقَّب بالفيروزة، وكان يسافر في ذلك العهد مع امرأته سائحًا في إسبانيا، فبعد أن ذهب إلى غرناطة برحها قادمًا إلى قاديس.

وكان يقول لها وهما سائران إلى الميناء: أتعلمين أيتها الحبيبة أن قومندان الميناء، القائد بيدرو هو ابن عم الجنرال الإسباني صديقنا الذي يقدم في كل شتاء لباريس؟

– كلا لم أعرف ذلك من قبل.

– إذن فاعلمي أنه عندما كنت منهمكة في ترتيب ملابسك أمس اغتنمت فرصة انشغالك، وأرسلت إليه كتاب التوصية الذي أعطاني إياه ابن عمه الجنرال ليلة سفرنا …

– وهل أجابك على ذلك الكتاب؟

– نعم ولذا فقد بادرت إلى إيقاظك قبل الفجر؛ كي لا تفوتنا نزهة البحر شروق الشمس، ولكن أتعلمين كيف نتنزه في هذا البحر الهادئ؟

– في إحدى سفن الصيد دون شك.

– كلا أيتها الحبيبة في سفينة القومندان نفسه، وهو الذي سيصحبنا في هذه الرحلة الفجرية.

– يظهر أن هذا الرجل رقيق الحاشية، وأنه يبالغ في إكرامنا.

– وستكون بحارة السفينة من الأشقياء المحكوم عليهم بالليمان لاستفحال شرورهم.

ورأى فرناند أنها أجفلت، وخافت من أولئك الأشقياء، فقال لها: اطمئني فإنهم سيكونون أشد وداعة من الحمام بحضرة القومندان.

وعند ذلك وصلا إلى الشاطئ، فرأيا تلك السفينة بانتظارهما، فلما رآهما القومندان هُرِع إلى استقبالهما وأنزلهما إلى سفينته، وكان فيها اثنا عشر رجلًا من أولئك الأشقياء مقيدة أرجلهم بالسلاسل الضخمة، وأربعة من جنود البحرية.

وبعد أن تبادلوا التحيات المألوفة أمر القومندان أن تُرفَع المراسي، ثم نظر إلى أحد أولئك المجرمين، وقال له: لقد وليتك قيادة السفينة يا حضرة المركيز.

وكان المجرم الذي ناداه القومندان باسم مركيز شاب جميل الطلعة، رشيق القد، أزرق العينين، أشقر الشعر، وعلى محياه ملامح الاكتئاب غير أن هيئته كانت تدل على الأنفة والسلامة خلافًا لرفقائه المجرمين، فلما سمع أمر القومندان انحنى أمامه احترامًا، وشرع بقيادة السفينة بمهارة فائقة تدل على أنه ممرن في فنون البحر.

فقال أحد المجرمين لرفيق له: إن هذا المركيز حسن البخت، وقد بات القومندان يحبه ويميزه علينا، حتى لقد بت أخشى أن يطلق سراحه ويوليه مكانه.

فانتهره رفيقه، وقال له: كفاك حقدًا على هذا الرجل، فإنه يفضلنا جميعًا بلين أخلاقه وحسن آدابه، وإنك لا يدفعك للهزء به غير حسدك.

فتمتم المجرم بكلمات لا تُفهَم، ثم سكت خوفًا من أن يسمعه القومندان.

وكانا يتكلمان باللغة الإسبانية وفرناند قريب منهما، فلم تفته كلمة من حديثهما؛ لأن فرناند كان يعرف هذه اللغة، وقد هاج به الفضول إلى أن يعلم السبب في تلقيب ذلك المجرم بالمركيز، فدنا من القومندان، وكان يحادث امرأته هرمين، وقال له: إني عجبت لأمر الشاب الذي دعوته بمركيز، فكيف أتاه هذا اللقب، بل كيف وجد بين المجرمين على ما يبدو منه من ظواهر السلامة والدعة.

فابتسم القومندان وقال: لقد تولتني قبلك الدهشة، فإني عندما توليت رئاسة الميناء، وذلك منذ تسعة أشهر، حُكِم على هذا الشاب بالسجن والقيد خمسة أعوام.

فتأثرت هرمين لنكبته، وكانت تنظر إليه نظرة إشفاق، وقالت للقومندان: أي ذنب جناه، ولماذا حُكِم عليه؟

– ذلك لأنه وجد في سفينة قرصان نروجية أسرتها إحدى مدرعاتنا، فحُوكِم بحارتها ومن جملتهم هذا الشاب في مجلس عسكري، وحُكِم عليهم بالسجن خمسة أعوام.

فقالت هرمين بلهجة ظهر منها عدم التصديق: أيمكن لهذا الشاب أن تكون مهنته النخاسة، فيسرق العبيد ويبيعهم بيع السلع؟

– نعم يا سيدتي …

– ألعله نروجي؟

– كلا فإنه يقول: إنه فرنسي ولكني أرى من لهجته أنه إنكليزي.

– إني أعجب كيف تكون هذه الملامح النبيلة في وجه قرصان نخاس.

– بل هو أعظم من ذلك يا سيدتي، فإنه بلغ من التزوير مبلغًا لم يخطر لأحد من قبل حتى لقد كاد يقنعني فيما يدعيه.

– كيف ذلك؟

فسار القومندان بفرناند وزوجته إلى محل فسيح في آخر السفينة، وقال: تصوري يا سيدتي أن رفقاءه لا ينادونه إلا بلقب مركيز.

– أهو مركيز حقيقة؟

– هذا ما كان يدعيه، ويحاول أن يحملني على تصديقه، وهي حكاية لطيفة سأقصها عليكما فاسمعا.

٥

إنه في اليوم التالي لدخوله إلى السجن التمس هذا المركيز أن يقابلني، فأشفقت عليه وأذنت له بهذه المقابلة، وقد دُهِشت كما دُهِشتما لحسن منظره وملامح نبله، فقال لي: إني يا سيدي أُدعَى المركيز ألبرت أونوريه دي شمري، وقد كنت في البحرية الإنكليزية الهندية.

فصحت صيحة انذهال لقوله، ولكنه لم يأبه لي فأتم حديثه وقال: إني وُلِدت يا سيدي في باريس، وفارقت عائلتي وليس لي من العمر غير عشرة أعوام فما رأيتها بعد ذلك.

وقد رجعت منذ شهر من الهند إلى لندرا بعد أن استقلت من الخدمة، وعزمت على الرجوع إلى فرنسا لورود كتاب لي من أمي تدعوني فيه إلى الحضور، فسافرت من لندرا على باخرة تجارية كانت مسافرة إلى الهافر.

ولما قربنا من الشواطئ الفرنسية هبت عاصفة شديدة، فجنحت السفينة فغرق ركابها ونجوت أنا سباحة، وكان يحاول النجاة معي شاب إنكليزي، فأنقذته من الغرق وصعدت به وهو مغمى عليه إلى جزيرة صغيرة.

وكان الليل حالك السواد وقد أُصِبت بعطش قوي، فوضعت رفيقي وهو لا يزال مغميًّا عليه على الرمل، وجعلت أمشي في الجزيرة ألتمس ما خلفه الشتاء في إحدى حفرها، وبينما أنا أمشي زلت قدمي وسقطت في حفرة عميقة استحال علي الخروج منها، فبقيت فيها إلى أن أشرق الصباح.

ولما رأيت أن صعودي منها محال جعلت أستغيث بملء صوتي راجيًا أن يكون رفيقي عاد إلى رشده فيسمعني، فما أخطأ ظني وأسرع إليَّ فأخبرته بما أصابني وقلت له: إني تركت منطقتي وغدارتي وحزامي على الأرض، ثم رجوته بأن يأتي بذلك الحزام إلي فأتعلق به، وأصعد عليه من الهوة.

فذهب الشاب، وكان هذا آخر العهد به فتوالت الدقائق والساعات، ثم أقبل الليل ولم يحضر فتغلب علي الجوع والعطش والقنوط والضعف، فانطرحت مغميًّا علي، ولم أعلم ما جرى لي بعد ذلك، غير أني حين استفقت رأيت نفسي ممددًا فوق سرير في سفينة يحيط بي بحارة ما عرفتهم من قبل.

ثم عرفت بعد أن سألتهم أنهم وجدوني بين حي وميت في هوة، وأني بعد أن أفقت من إغمائي أصبت بحمى قوية عقبها هذيان اتصل بضعة أيام، ثم نقهت من علتي فارتأى ربان السفينة أن يجعلني بحارًا لقلة البحارة.

قال القومندان: ولما رآني هذا المخادع مصغيًا إليه متأثرًا لكلامه أتم حديثه، فقال: ولكني علمت بعد ذلك أن السفينة سفينة قرصان، غير أني كنت مكرهًا على الخدمة فيها، وقد حاولت الفرار فأنذروني بالقتل، ولما رأى الربان أني ماهر في فن البحارة رقاني إلى درجة نائب ربان، وما زلنا نحترف هذه المهنة الشائنة حتى قبضت علينا الحكومة الإسبانية، وهذا هو السبب يا سيدي في أن المركيز دي شمري يوجد مع المجرمين مكبلًا بالقيود.

قال الربان: فلما انتهى المركيز الكاذب من حديثه أشفقت عليه إشفاقًا شديدًا؛ لأني كنت أتبين الصدق الأكيد من لهجته لا سيما، وقد قال لي: إنه عرض أمره على المجلس الحربي فلم يُصغِ إليه، ولكنه يلتمس مني أن أكتب إلى لندرا وباريس في شأنه، فوعدته عند ذلك أن أكتب.

قال فرناند: وهل كتبت؟

– كتبت دون شك في اليوم نفسه لوثوقي من صدقه إلى أن ورد إلي الجواب، فعلمت أن حديثه ملفق، وأن حكايته كاذبة، فإن المركيز دي شمري موجود في باريس، حتى إنه أوشك أن يتزوج منذ شهرين بابنة وطنينا الدوق دي سالاندريرا، ولكن الدوق مات موتًا فجائيًّا يوم الزفاف، فتأجل اقترانه إلى انقضاء مدة الحداد.

فأظهر فرناند اندهاشه من هذه الحكاية الغريبة، وبينما القومندان يتكلم كانت هرمين تنظر إلى المركيز بإمعان، وتقول: أيمكن لهذا الشاب أن يكون منافقًا إلى هذا الحد، وليس في ملامحه ما يدل على ذلك؟

ثم دنت من زوجها، وقالت له بصوت منخفض: أرجوك أن تستأذن لنا القومندان بمحادثة الرجل حين رجوعنا إلى البر، فإني أراه نبيلًا بعيدًا عن المنكر والنفاق، وقد أكون صادقة بظنوني.

قال: لا بأس فسألتمس منه هذا الالتماس.

وعند ذلك أشرقت الشمس تبعث أشعتها الذهبية، فتخرق قمم الجبال وتُبسَط على مياه البحر، فيلاعبها نسيم الصباح، وترقص الأمواج احتفاء بها، فنسي الجميع عند ذاك المنظر حديث المركيز معجبين بجمال الطبيعة.

٦

بينما كان الكونت إرمان دي كركاز يطالع بريده بعد هذه الحوادث المتقدمة بأسبوعين، أخذ رسالة وجد عليها طوابع إسبانية، فاستلفتت نظره وفضها مسرعًا، ونظر إلى التوقيع فإذا هي من فرناند روشي، فقال في نفسه: ما عسى أن يريد مني هذا الصديق، وما دعاه إلى كتابة هذا الكتاب الطويل؟ ثم جعل يقرأ ما يأتي:

سيدي الكونت …

لو لم نلقَ من مكائد الخيانة أشدَّها، ونشترك من صروف الدهر بأمرِّها، ونعمل يدًا واحدة في كثير من الأحيان؛ لدفع غارات الزمان ورد كيد الإنسان، لما كنت كتبت إليك هذا الكتاب؛ لأن ما أكتبه إليك من أغرب ما خطته يد الجرائم في هذا الباب فاسمع.

أعرفت في باريس هذا الشاب الجميل الذي كان في البحرية الهندية الإنكليزية، وهو المركيز دي شمري ابن عم الكونت فابيان دي أسمول؟

إني عرفته قبل سفري إلى إسبانيا فقد عرَّفني به أحد الأصدقاء …

فإذا كنت عرفت هذا الرجل أو سمعت بهذا الاسم، فاعلم أني وجدت في قاديس رجلًا يُدعَى بهذا الاسم، وهو يدعي أيضًا أنه خدم في الهند في البحرية، وأنه أيضًا ابن الكولونيل دي شمري شقيق بلانش دي شمري، التي تزوجت الفيكونت فابيان منذ عام، ثم يضيف إلى هذه الأقوال كثيرًا من التفاصيل بلهجة يتبين منها الصدق، ولا تحمل على شيء من الشك.

إذن فإن المركيز الأول هو الآن في قصره في باريس، وهو سيتزوج المدموازيل سالاندريرا، والمركيز الثاني في قاديس، ولكن أتعلم أين وفي أية حالة، إنه في السجن مكبل بالقيود محسوب في مصاف المجرمين … لا تدهش لما تقرأ، واقرأ البقية.

وهنا ذكر له فرناند جميع ما تقدم لنا ذكره من أمر السجين، وحكايته للقومندان، ولما فرغ من جميع ذلك قال له:

إني التمست من القومندان بناء على طلب امرأتي أن يأذن لي بمحادثة هذا المركيز؛ لأنها كانت تعتقد أنه بريء.

وقد أذن لنا القومندان، وذلك أنه دعانا إلى العشاء في منزله، واستدعى المركيز فقال له أمامنا: إني قصصت حكايتك في هذا الصباح على ضيفي فاستغرباها، ورغبا أن يسمعاها من فمك.

وكان المركيز واقفًا يحمل قبعته بيده وهيئة كآبته تقطع القلب من الإشفاق.

فانحنى أمامنا باحترام، ثم نظر إلى القومندان فابتسم ابتسام الحزين، وقال له: إنك أبيت أن تصدقني يا سيدي القومندان، ولكني أرجو أن تصدقني السيدة وزوجها، وهما مثلي فرنسيان.

فهز القومندان كتفيه إشارة إلى أن اعتقاده راسخ بكذبه، ثم استأذن منا وتركنا وإياه.

فقص علينا المركيز نفس القصة التي قصها عليَّ القومندان بلهجة صادقة، ولما أتم حكايته قلت له: ألا تعلم أنه يوجد في باريس مركيز يُدعَى المركيز دي شمري، وأن جميع نبلاء باريس عرفوه؟

– إن ذلك محال إلا إذا … ثم وقف مترددًا.

قلت: قل إلا ماذا؟

– إلا إذا كان الذي أنقذته، ثم صاح صيحة قانط، وقال: لقد عرفت كل شيء، فإن الرجل قد سرق أوراقي واختلس اسمي، وهو يعتقد أني ميت.

قلت: إن هذا صعب التصديق، فإن المركيز دي شمري الموجود الآن في باريس رُوي عنه أنه حزن حزن الخنساء على أخيها حين وفاة أمه.

فما قلت هذا القول حتى شعرت كأن الصاعقة قد انقضت على رأس هذا المسكين، فجعل يصيح ويقول: أمه … أمه … أي: أمي التي ماتت، وعند ذلك وهت رجلاه وسقط على الأرض، وهو ينتحب ويبكي بكاء الأطفال، ويذكر أمه بأشجى الألفاظ.

فلم أشكك بعد هذا البرهان الجلي بصدق كلامه، وأنه هو المركيز الحقيقي.

وفي ذلك الحين دخل علينا الربان، فوجدني مع امرأتي محيطين بهذا التعس المنكود نعزيه على مصابه، ونبكي لبكائه فأجفل لما رآه؛ لأنه كان لا يزال معتقدًا بأنه من الكاذبين، ولكني عندما رويت له ما جرى مال إلى التصديق، فأخبرته أني سأكتب إليك ووعدني أنه سيبذل جهده لإطلاق سراح المركيز، وهو الآن قد أخرجه من السجن، فجعله في خدمته الخاصة تخفيفًا لشقائه.

والآن فاعلم يا سيدي الكونت لماذا أكتب لك، فإن المركيز سواء كان صادقًا أو كاذبًا، فإنه يقول: إن لعائلته أرضًا تُدعَى الأورنجرى وإن فيها قصرًا كبيرًا، وهو يقول إنه يوجد في القصر صورة تمثل رسمه، وهو في التاسعة من عمره، وإنه قد مثل في الرسم لابسًا لباس الأيكوسيين، وعلى رأسه قلنسوة عليها ريشة عقاب، وصورة عليها خطوط زرقاء وبيضاء، ورجلاه عاريتان إلى الركبتين.

ثم إنه كشف أمامنا عن ساقه، وأرانا لطخة حمراء تشبه آثار الخمر على القماش الأبيض، وقال لنا: إن اللطخة مرسومة في الصورة بشكلها وحجمها، ولونها كما هي الآن.

ولذا يا سيدي الكونت قد كتبت لك هذه التفاصيل، فإذا رأيت تلك الصورة، وعثرت بهذا الأثر فيها، فإن المركيز هو المركيز الحقيقي دون شك، وإن مركيز باريس أعظم منافق خداع عُرِف إلى الآن.

وأنا أرجو بعد أن تقف على حقيقة هذه التفاصيل أن تشير عليَّ بما يجب أن أصنعه في شأن هذا الرجل، فإني لا أقدم على أمر قبل أن ترد إليَّ مشورتك والسلام.

فرناند روشي

فما أوشك الكونت أن يتم قراءة الكتاب، حتى دخل خادم غرفته يخبره بقدوم الكونتس أرتوف، فسُرَّ الكونت لقدومها، وأسرع وهو يقول: لقد وجدته.

فاندهشت باكارا، وقالت: ماذا وجدت؟

– بينما كنت عازمًا على الكتابة إلى إسبانيا أستعلم عن تلك السفينة، التي فقدنا فيها آثار المركيز دي شمري وردتني رسالة من إسبانيا عن هذا المركيز.

– من الذي كاتبك من إسبانيا؟

– فرناند.

فارتعشت باكارا عند ذكر اسم فرناند، كأنها لا تزال تحبه، وقالت: ماذا عمل؟

– إنه وجد المركيز الحقيقي، ثم أخذ الرسالة وأعطاها إياها فتلتها بإمعان، وعلائم الدهشة تبدو عليها حين تلاوة كل سطر، فلما أتمتها قال لها الكونت إرمان: ماذا ترتئين؟

– إن الآنسة سلاندريرا لا تزال في إسبانيا والمركيز الحقيقي فيها، فيجب إذن أن أذهب إلى تلك البلاد.

– أنت تذهبين إلى إسبانيا؟

– نعم وسأصحب معي الطبيب صموئيل وزامبا خادم الدون جوزيف، والدوق دي مايلي المتوفيين.

– إذن فما ينبغي أن أكتب لفرناند؟

– لا تكتب له شيئًا، فإني سأصل إلى قاديس في اليوم الذي يصل فيها كتابك إليها؛ لأني مسافرة غدًا، فأية فائدة من كتابك؟

– ولكن هذه الصورة التي ذكرها فرناند في كتابه؟

– سأحصل عليها.

فقال إرمان: إني تعودت يا سيدتي الكونتس أن أثق ثقة عمياء من فوزك بكل ما تفعلين، فاذهبي بأمن الله واصنعي كما تشائين.

– سأسافر غدًا كما قلت لك، غير أني أرجوك أن تكتب كتابًا ثانيًا إلى قنصل فرنسا في قاديس.

– سأكتب له في المساء.

– والآن أعطني كتاب فرناند، فإني أحتاج إلى مراجعة ما تضمنه من التعليمات.

فأعطاها إياه، وعند ذلك نهضت، فودعته ووعدته أن تكتب إليه من قاديس ومضت.

وفي الساعة نفسها بعد أن أخذت الكتاب كتبت إلى الطبيب صموئيل ترجوه أن يحضر معها، وقد عرف القراء ما جرى بينهما من الحديث عند اجتماعهما، فإنها عندما أخبرت هذا الطبيب أنها ستسافر وإياه في الغد إلى إسبانيا، قالت له: أتظن أن زامبا قد شُفِي من جنونه شفاءً أكيدًا؟

– لا ريب عندي في شفائه التام.

– أيستطيع أن يصحبنا في هذه الرحلة؟

– نعم.

– إذن يجب أن تسأل قاضي التحقيق، الذي أذن لك بمعالجته بواسطة الكونت كركاز أن يأذن لك أيضًا بالذهاب به إلى إسبانيا، وأرسله إليَّ في المساء.

– سأفعل ما تشائين ولكنك لم تقولي لي شيئًا عن السبب الذي نذهب من أجله إلى إسبانيا.

– إننا نذهب لنجد المركيز دي شمري.

– أهو في إسبانيا؟

– إنه في سجن قاديس، فاذهب وأعد معدات سفرك وأرسل إليَّ زامبا.

– وماذا نصنع بالكونت أرتوف زوجك؟

– نصحبه معنا.

– إن هذا محال فإنه آخذ في النقاهة، وأخشى عليه إذا صحبناه معنا أن ينتكس، ولكني سأعين للاعتناء به طبيبًا من إخواني، فيعالجه بطريقتي.

وافقته باكارا على ذلك وانصرف، وبعد ذلك بنصف ساعة قدم إليها زامبا، وقد عاد إليه صوابه ولم يبقَ له شيء من أعراض الجنون، فسلم على باكارا باحترام ولبث واقفًا ينتظر أوامرها.

فقالت له باكارا: ألا تزال تذكر حالتك وموقفك الخطر؟ فإنك محكوم عليك بالإعدام في إسبانيا، وأنت في باريس أسير تحت مسئولية الطبيب صموئيل، فإذا بلغ هذا الطبيب الحكومة أنك شفيت من جنونك تعود إلى قبضة الحكومة الفرنسية.

فركع زامبا أمامها وقد وجف قلبه لذكر المحاكم والجرائم، وقال: ارحميني يرحمك الله.

– إن الحكومة الفرنسية تبدأ بالبحث في قضيتك، ثم لا تزال تنتقل من تحقيق إلى تحقيق حتى تنتهي إلى معرفة حقيقة حالك.

– إذن أنت تريدين تسليمي إلى الحكومة؟

– كلا، إلا إذا لم تطعني.

– إنك تعلمين يا سيدتي بأني سأكون لك أطوع من العبيد.

– لا أريد أن تكون عبدي الآن، بل أكتفي أن تكون خادمي في السفر.

– وإلى أين تريد سيدتي السفر؟

– إلى إسبانيا.

– ويلاه إن الحكم بالإعدام صدر عليَّ في إسبانيا وهناك القضاة …

– إنك عشت فيها أربعة أعوام في خدمة الدون جوزيف بعد صدور الحكم عليك.

– هذا أكيد ولكن الدون جوزيف …

– إنك ستكون أيضًا آمنًا في خدمتي على نفسك، فلا يمسك أحد بسوء.

فأحنى زامبا رأسه، وقال: سأمتثل لما تريدين.

– والآن أتعلم لماذا أكرهك على السفر معي؟

– كلا.

– إن الآنسة سالاندريرا في إسبانيا، وأنا أذهب بك إليها؛ لأني أريد أن تخبرها كيف مات الدون جوزيف والدوق مايلي.

– وإذا فعلت ذلك أأنجو من المحاكم؟

– إنك ستنال العفو في اليوم الذي يُقبَض فيه على ذلك الرجل، الذي جازاك عن صدقك في خدمته بضربة خنجر، فيُرسَل إلى السجن أو إلى المشنقة.

٧

وفي اليوم التالي في الساعة الثامنة من المساء سافرت باكارا، وبصحبتها الطبيب صموئيل وزامبا جالسًا وراء المركبة.

وكانت باكارا متنكرة بزيِّ الغلمان، كما فعلت حين سافرت مع رولاند دي كايلت، فكانت تمثل فتى من الأسرات النبيلة في المستعمرات يسيح في أوروبا مع مؤدبه وخادمه، غير أنها لم تكتفِ بعقد شعرها كما فعلت في المرة الأولى، بل إنها قصته غير مشفقة عليه، وجعلته كشعر الفتيان كي يتم الشبه ولا يبقى مجال للشك.

أما زوجها الكونت أرتوف، فإنه بقي في باريس وقد عين له الطبيب صموئيل طبيبًا يراقبه حسب إرشاداته، وقد كانت حالته تحسنت تحسنًا بينًا.

وفي اليوم التالي لسفرها كانت مركبتها تجتاز أرض التورين، وقد وصلت عند غروب الشمس إلى قرية صغيرة، فقالت للطبيب: إني لم أقل لك بعد إلى أين نحن ذاهبون.

– كيف ذلك ألم تقولي: إننا ذاهبون إلى إسبانيا؟

– نعم ولكننا سنقف قبل ذهابنا إليها في مكان يبعد مرحلتين عن هذه القرية التي نحن فيها.

– أين ذلك؟

– في الأورانجري وهي أرض المركيز دي شمري.

فعجب الطبيب لكلامها، ولكنه قبل أن يسأل قاطعته بإشارة، وقالت له: ألم تشر على المركيز، بل على الرجل الذي اختلس هذا الاسم النبيل أن يذهب إلى الأورانجري، كما أوصيتك تبديلًا للهواء لما أصابه من الهزال.

– نعم وقد قال لي إنه سيسافر.

– إنه سيسافر في هذا المساء من باريس فيصل إلى أرضه غدًا، ونكون قد سبقناه إليها بليلة.

– ألعلنا ننتظره في قصره فيها؟

– كلا، بل ننام هذه الليلة في القصر.

– لماذا؟

– ستعلم ذلك فيما بعد، واكتفِ الآن بأن تعلم أن السائق الذي يقود مركبتنا سيسقط المركبة بنا في حفرة واقعة عند مدخل بستان القصر.

وكان الطبيب قد تعود من باكارا أنها تكتم سرها، فلا تبوح به إلا عند الاقتضاء، فلم يلحَّ عليها بمعرفة السر، ولم يكترث لوقوعه في الحفرة.

وبعد ساعة كانت الشمس قد غابت، وساد الظلام، والمركبة قد دنت من ذلك البستان، فاندفعت المركبة بسرعة عظيمة.

وعند ذلك قالت باكارا للطبيب: احذر فقد وصلنا إلى الحفرة.

ولم تكد تتم قولها حتى سقطت المركبة في تلك الحفرة.

وكانت باكارا والطبيب قد رجعا إلى الوراء، وتأهبا فلم يصبهما ضرر خلافًا لزامبا فإنه سقط عن كرسيه من وراء المركبة، وجعل يصيح ويستغيث بصوت مرتفع، وكذلك السائق.

وما زالا يستغيثان حتى فُتِح باب البستان، وخرج أربعة من الفلاحين يتقدمهم رجل كهل كان نافذ الكلمة بينهم، فأخرجوا زامبا من الحفرة، وقد ابتُلَّت ثيابه بمائها، وتلوثت بوحلها وخرج الطبيب وباكارا وهي بملابس الغلمان كما تقدم.

ثم أخرجوا المركبة وجيادها، وفيما هم يخرجونها رأت باكارا دولاب المركبة قد انكسر، فأظهرت أسفها، وبعد أن شكرت زعيم أولئك الفلاحين لاهتمامه بهم قالت له: إن دولاب المركبة قد انكسر، ونحن مضطرون إلى اجتياز ثلاث مراحل بعد أن نصل إلى المحطة فأين نحن الآن؟

فأجابها الزعيم، وكان اسمه أنطوان: إنكم في أرض الأورانجري ملك المركيز دي شمري، وهذا القصر قصره وأنا وكيله.

فقالت باكارا وهي تمثل دورها أتقن تمثيل: إني أعرف هذا المركيز وصهره الفيكونت دي أسمول من أخلص أصدقائي.

– إذا كنت تعرف يا سيدي مولاي المركيز، فاسمح لي أن أدعوك باسمه إلى المبيت الليلة في قصره إلى أن يُصلَح دولاب المركبة.

– لا بأس إنما أرجوك أن تقول لي كم يقتضي من الوقت لإصلاح الدولاب؟

– عند الصباح يكون قد تم إصلاحه، فتستطيعون مواصلة السير.

وعند ذلك مشى أنطوان أمامهم، فتبعوه إلى داخل القصر، ودخل بهم إلى القاعة الكبرى المعدة للاستقبال، ثم تركهم وانصرف كي يعد لهم عشاء فاخرًا.

ثم جلسوا جميعًا على المائدة إلى أن حضر الطعام، فجعلت باكارا تحادث أنطوان، فقالت له: أيأتي المركيز دائمًا إلى قصره؟

– إنه لم يزره منذ عودته من الهند.

– إذن فسأنبئك نبأ تُسَرُّ له، وهو أن المركيز سيكون هنا غدًا، فقد كنت وإياه في النادي أول أمس، فأخبرني أنه مسافر غدًا إلى أرضه في الأورانجري، وهو قد برح باريس أمس، فلا بد أن يكون هنا غدًا كما قلت لك.

ففرح أنطوان فرحًا عظيمًا، وقال: إذن سأرى هذا المركيز قبل أن أموت، فإني ما رأيته إلا صغيرًا كما هو ممثل بهذا الرسم، أي: وهو في التاسعة من عمره ثم أشار بيده إلى صورة معلقة في الجدار.

فأخذت باكارا المصباح بيدها ودنت من الصورة، فجعلت تتأملها بإمعان شديد، فقالت في نفسها: إنها الصورة التي فصلها فرناند في كتابه، وهذه هي البقعة الظاهرة فوق ساقه تشبه لطخة الخمر فوق الثوب الأبيض.

ثم نظرت إلى أنطوان، وقالت له: عجبًا أهذا المركيز؟

– نعم وهو في التاسعة من عمره وهذه الصورة تمثله أحسن تمثيل.

– إذن فقد تغير تغيرًا عظيمًا بحيث يستحيل على من لم يره من ذلك العهد أن يعرفه الآن.

– إني لم أره منذ عشرين عامًا، ويندر جدًّا أن تبقى للشبان الملامح التي كانت لهم في دور الطفولية.

وبعد أن تحادثا قليلًا خرج أنطوان لبعض الشئون، ودخل زامبا فقالت له باكارا: إنك لص ماهر، أليس كذلك؟

فانحنى زامبا دون أن يجيب، ولكنه كان يشير بانحنائه إلى الامتثال.

فقالت باكارا: إذن سأعهد إليك بمهمة تعود فيها إلى مهنتك القديمة، أترى هذا الرسم المعلق في الحائط؟

– نعم.

– يجب أن تسرقه، واعلم أننا سنبيت الليلة في القصر، ونسافر في الساعة الخامسة من الصباح، فانزع الرسم من الإطار المحيط به وضعه بين ثيابنا، واحذر من أن يراك الوكيل.

– سأفعل يا سيدتي ما تريدين.

وعند ذلك عاد الوكيل إلى الغرفة، فقالت له باكارا: لقد قلت لك إني صديق لمولاك المركيز، ولكني لم أقل اسمي، فإني شريف برازيلي أسيح متجولًا في أوروبا يصحبني مؤدبي، وقد أقمت في باريس سنة كاملة، فعرفت في خلالها المركيز وكان من أخلص خلاني وهذه رقعة زيارتي.

فأخذ الوكيل رقعة الزيارة، ورأى عليها تاج المركيزية فعلم أن صاحبها من النبلاء، وانحنى أمامها باحترام عظيم.

– أعتمد عليك بإصلاح المركبة، بحيث أستطيع السفر عليها عند الفجر.

– كل الاعتماد يا سيدي، فإن العمال لا ينامون قبل إنجازها.

ثم رأى الوكيل أن هذا السائح ومؤدبه يريدان أن يناما، فنادى خادمًا كهلًا مثله، وأمره أن يذهب بهما إلى الغرفة التي أعدها للزائرين.

ولما كانت الساعة الرابعة قرع زامبا غرفة باكارا قرعًا خفيفًا، وكانت قد استيقظت منذ حين، ولبست ملابسها ففتحت له الباب، فدخل وقال لها: إن المركبة يا سيدتي معدة للسفر.

– والصورة؟

– في المركبة.

– ألا تخشى أن ينتبه الوكيل لفقدها؟

– لا أظنه ينتبه يا سيدتي فإنها موضوعة قرب باب الغرفة، وباب القاعة يبقى دائمًا مفتوحًا بحيث يحجبها، وفوق ذلك فإن الوكيل لا يزال نائمًا وسنسافر قبل أن يصحو.

وكان زامبا مصيبًا في ظنه، فخرجت باكارا يتقدمها زامبا إلى أن وصلت إلى المركبة، فوجدت الطبيب ينتظرها فيها والسائق متأهب للرحيل.

ولما صعدوا جميعهم إلى المركبة شاهدوا الوكيل يركض مسرعًا إليهم، وقد كان نومه ثقيلًا فاضطر الخدم إلى إيقاظه، فأسرع إلى ضيوف مولاه يعدو كالمجانين، وهو يخشى أن لا يدركهم.

فقالت له باكارا: أرجوك أن تهدي سلامي إلى المركيز، ثم شكرته لحسن ضيافته ونفحته بورقة مالية، وأشارت إلى السائق بالرحيل، فسارت الجياد تنهب الأرض نهبًا حتى تجاوزت القرية، وبلغت إلى الطريق العام.

وفي خلال هذه المدة كان الوكيل أنطوان عاد إلى القصر، وهو مهتم بهبة باكارا أكثر من اهتمامه بقدوم المركيز، فدخل إلى القاعة كي يقفل أبوابها، وكان لا بد له عند ذلك من إعادة النظر إلى صورة المركيز، الذي سيراه غدًا بعد فراق عشرين عامًا، ولكنه ما لبث أن رفع نظره إليها حتى صاح صيحة القانط؛ لأنه رأى الإطار ولم يرَ الصورة.

وعند ذلك دخل عليه أحد الخدم، وقال: أرأيت هذا الشاب الصغير الذي بات عندك أمسِ، إني أراهن على ما تشاء بأنه لم يكن غلامًا بل امرأة بزي غلام.

وكان الاضطراب قد بلغ مبلغًا عظيمًا من الوكيل، فقال له: ليكن ما يشاء فإن الذي أعرفه أنه سرق صورة المركيز.

ثم خرج من القاعة، وانطلق يعدو وهو يحاول اللحاق بعربة المركيز، ولكنها كانت قد ابتعدت بعدًا شاسعًا، فرجع قانطًا وقد ضاقت به الدنيا على رحبها، وأقبل الخادم يعزيه، ويقول: إنها لا شك امرأة وإنها عاشقة للمركيز، فسرقت صورته ولا بد للمركيز أن يعرفها، فيسترد الصورة منها إذا شاء.

٨

ولنعد الآن إلى المركيز الكاذب إلى روكامبول، الذي غادرناه مغميًّا عليه في المركبة حين رأى آلة القضاء قد قطعت رأس ذلك المجرم.

وقد كان صهره فابيان معه كما تقدم، ولكنه حين وقعت الآلة على عنق ذلك المسكين أغمض عينيه، فلما فتحهما رأى روكامبول بجانبه مغميًّا عليه، فذُعِر وأمر السائق أن يسرع إلى القصر حتى إذا بلغ إليه نزل فابيان، وأمر بإحضار طبيب في الحال، ثم نقلوا روكامبول إلى غرفة، وهو لا يزال مغميًّا عليه.

وبقي على ذلك إلى أن حضر الطبيب، ففحصه وعلم السبب في إغمائه، فقرر أن هذا الإغماء غير خطر، وأنه ما دعا إليه غير الرعب والتهيج العصبي الناتج عما أصابه من الانفعال النفساني، ثم قال: إنه سيفيق من نفسه دون واسطة، غير أنه قد يُصاب بعد ذلك بحمى يصحبها هذيان مؤقت لا يحمل على الخوف.

ومع ذلك فإنه لم يجد بدًّا من وصف علاج، كما تقتضيه واجبات المهنة، فكتب العلاج وانصرف.

ولم يطُل تحقيق نبوءة الطبيب، فإن روكامبول أفاق على أثر ذهابه من إغمائه، ففتح عينيه وجعل ينظر نظرًا تائهًا إلى ما حوله، فرأى أنه في مكان لم يعرفه من قبل، ولم ينظر صهره فابيان الذي كان جالسًا على كرسي بجانب السرير، ثم بدأت الحمى كما قال الطبيب، فجعل يقول: أين أنا؟ ويجيل في الغرفة نظرًا قلقًا مضطربًا، فلا يذكر شيئًا مما هو فيه، وحاول أن يجلس في سريره فلم يستطع.

كل ذلك وفابيان جالس بقربه لا يجسر على الدنو منه حذرًا من إزعاجه.

ثم بدأ معه دور الهذيان، فوضع يده على جبينه، وقال: لقد ذكرت الآن … إني رأيت الجلاد، نعم رأيته وكان عاري اليدين … فضحك عندما رآني وأراني الخنجر، ثم جعل يضحك ذلك الضحك العصبي الذي يُصاب به من يتولاه الرعب أو القنوط.

فدنا صهره عند ذلك، وحاول أن يمسك يده، فصاح به روكامبول: إلى الوراء، ارجع ولا تدنُ مني، أأنت آتٍ كي تقبض عليَّ؛ لأني أنا أيضًا قتلت أمي التي ربتني خنقًا بيدي … ارجع فإني سأنجو منك، ويا طالما أفلت من أعماق السجون، ونجوت من أعماق البحار … فإني أُدعَى … إن اسمي الحقيقي …

وهنا توقف عن الكلام كأنما بارق من الصواب قد لاح له حين هذيانه، فامتنع عن ذكر اسمه ولكنه قال: إنك تريد أن تعرف اسمي، ولكنك لن تعرفه.

ثم عاد إلى ذلك الضحك المؤلم، وجعل بعده يبكي وينطق بألفاظ متقطعة وجمل مقتضبة، فكلما أوشك أن يظهر شيئًا من حقيقة أمره يختلط هذيانه بالصواب، فتقتضب الجمل وتلتبس معانيها، ثم تراجع إلى الوراء كأنما الرعب قد تولاه، وجعل يصيح بصوت مختنق: إلى الوراء أيها الجلاد، إلى الوراء وأشفق على نفسك.

وقد دامت هذه النوبة نحو ساعتين، ثم نام بعدها نومًا هادئًا إلى المساء.

ولما صحا من رقاده لم يبقَ أثر للهذيان، وعادت إليه سكينته، ولكنه بقي متعجبًا لوجوده في مكان يجهله.

وكان صهره لا يزال في غرفته، فلما رآه قد فتح عينيه ورأى ما هو عليه من السكينة دنا منه، فأخذ يده بيده، وقال: كيف أنت الآن يا ألبرت؟

فنظر إليه روكامبول بانذهال، وقال له: أهذا أنت … أين نحن الآن؟

– إننا في قرية ج، على بعد ثلاث مراحل من الأورانجري.

– ولماذا توقفنا في هذه القرية؟

– لأنك كنت مريضًا.

– أنا مريض؟! وكيف مرضت؟

– إنك كنت مصابًا بحمى شديدة على أثر إغماء أصابك.

– عجبًا، ولماذا أُغمِي عليَّ؟

فتردد فابيان في جوابه غير أن روكامبول ذكر السبب، وقال: نعم لقد ذكرت الآن المقصلة وذلك الرجل الذي قطع رأسه فيها.

فقال فابيان: نعم هو ذاك أيها الحبيب، وقد هالك ذلك المنظر الهائل، حتى إنك لم تطق احتماله، فأُغمِي عليك وحملناك وأنت فاقد الرشد إلى هذا المكان.

وكان روكامبول قد نفض عنه غبار الحمى، فانقضى هذيانه وعادت إليه الحكمة فقال: ما هذا الضعف الذي تولاني فكنت أشبه بالنساء، ولا بد أن أكون أُصِبتُ بالحمى.

– هو ذاك وقد عقب تلك الحمى هذيان.

فذُعِر روكامبول وخشي أن يكون باح بأسراره وهو لا يدري، فقال: ألعلي أصبت بهذيان؟

– كان هذيان شديد حتى إنك كنت تقول أشياء لم أسمع أغرب منها.

– كيف ذلك؟ وماذا قلت؟

– إن حديث هذا الرجل الذي قُضِي عليه بالإعدام، وحكوا لنا أمره قبل إعدامه قد أثر عليك تأثيرًا عظيمًا، حتى أصبحت تحسب أنك أنت هو ذلك المجرم المقضي عليه.

– ما هذا الجنون؟

– ولبثت ساعة كنت في خلالها تحسب أنك أنت الذي خنقت أمك التي تبنتك، وتعتقد أن الجلاد قادم للبحث عنك.

فاضطرب قلب روكامبول، وخشي أن يكون صهره قد اطلع على سره، فنظر إليه نظر المستطلع.

غير أن فابيان ابتسم له، وجعل يحدثه بجميع أخبار هذيانه بسلامة لا يداخلها شيء من الشك.

فارتاح بال روكامبول، وأيقن أنه لم يبح بشيء، ثم تشدد ونهض من سريره، فسأله فابيان: كيف أنت الآن؟

– على أحسن حال.

– إذن، أتستطيع مواصلة السفر إلى الأورانجري، والمبيت فيها هذه الليلة؟

– دون شك، وها أنا سألبس ملابسي فنسافر بعد العشاء.

وعند ذلك خرج فابيان وأمر بإعداد المركبة للرحيل.

ولما خلا المكان بروكامبول جعل يتخطر في أرض الغرفة ذهابًا وإيابًا، وهو يؤنب نفسه لما أبداه من الضعف، ويقول: أيُغمَى علي؛ لأني نظرت رجلًا يشنقونه كأني لم أر ميتًا قبلًا ولم أسفك دماء، ثم أُصاب بالحمى وأهذي بكلامي، فأذكر مدام فيبار فإنه ضعف شديد، وإذا جدت بي حادثة أخرى كهذه، كنت من الهالكين؛ لأنه لو اتفق أنه كان لفابيان أقل ريب بي، وحاول أن يعلم حقيقة أمري، لما فاته شيء من أسراري، ولقُضِي على تلميذ السير فيليام.

وكأنما أندريا قد تمثل له حين خطر في باله، فأجفل مرتعدًا، وقال في نفسه: لقد أخطأت الخطأ الشديد بقتل هذا الرجل، فإنه كان مرشدي في كل سبيل ومعيني في كل معضلة، أما الآن فقد ندمت لفقده، وبت أرى المشنقة منصوبة لقتلي، حتى إني أكاد أسمع صوت مطارق العمال الذين ينصبونها.

ثم سمع وقع أقدام صهره فابيان، فانقطع حبل هواجسه، وقال في نفسه: ما هذا الجنون؟ ومتى كان روكامبول يخضع للهواجس، ويخشى نكبات الأقدار؟ وأيه حاجة لي بهذا الرجل وقد مات؟ ألست المركيز دي شمري، وخطيب ابنة الدوق، فلأمشي إلى الأمام ولأكن جريئًا مقدامًا فقد كان يقول السير فيليام: إن الجرأة مفتاح الصعاب؟

وعند ذلك دخل صهره فابيان، وقال له: هلم بنا إلى المائدة، فإن الشمس قد غابت ولا بد أن تكون جائعًا.

– هو ما تقول؛ لأن شهيتي عظيمة.

ولبس روكامبول ملابسه بسرعة، ثم خرج الاثنان إلى المائدة، وبعد أن أكلا برحا ذلك الفندق، فركبا مركبة وسارت بهما إلى الأورانجري.

وكان روكامبول يعرف هذه الأرض ومداخل القصر، وجميع خدمه، فلما بلغ إليه مع صهره أظهر حنينًا عظيمًا، وجعل يذكر عهد حداثته، وجميع ما يعرفه من أحوال تلك الأرض.

ثم أقبل الخدم وجعلوا يقبلون يديه، فرحين مسرورين بعودة مولاهم ما خلا وكيل الأرض أنطوان، فإنه لم يكن موجودًا بينهم، وقد كانوا يعجبون كيف عرفهم.

ثم إنه نادى أحدهم باسمه، وهو الذي قال لأنطوان: إن باكارا لم تكن غير امرأة متنكرة بزي الغلمان، وقال له: أين الوكيل أنطوان؟ وكيف لا أراه بينكم؟

– إنه ذهب إلى قرية ج.

– إنني قادم منها فكيف لم أره فيها؟ وما دعاه إلى السفر؟

– إنه سافر يا سيدي المركيز في الصباح؛ كي يقدم شكواه للحكومة، لقد سرقونا في هذه الليلة.

– كيف سرقوكم وما سرقوا؟

– اسمع هذا الحديث الغريب يا سيدي، فقد قدمت أمس مركبة، وعند مرورها قرب البستان سقطت في حفرة فانكسر دولابها، وكان فيها ثلاثة سياح، وهم: فتى في مقتبل العمر — يقول إنه من أصدقائك، ومؤدبه، وخادمه.

– ما اسم هذا الرجل؟

– لا أعلم، ولكن أنطوان قد عرف اسمه.

– أهو هذا الفتى الذي سرق؟

– نعم.

– وماذا سرق؟

– سرق صورة مولاي المركيز التي كانت تمثله طفلًا، وكانت معلقة ضمن إطار في جدار القاعة الكبرى.

فصاح روكامبول صيحة اندهاش، وعادت إليه هواجس الشر.

٩

وعاد الخادم إلى إتمام حديثه، فقال: ومما يدل على أن الفتى كان يعرف سيدي المركيز أنه أنبأنا بقدومه.

– بقدومي أنا؟

– نعم يا سيدي فقد قال لأنطوان: إنك ستقدم إلى أرضك في اليوم التالي، فصدق فيما أخبر.

فحار روكامبول في أمره، وقال لصهره: أتذكر أنك أخبرت أحدًا بسفرنا؟

– لا أعلم، فإني لا أذكر شيئًا من ذاك.

فقال الخادم: إن الفتى يا سيدي قال إنه رآك في النادي، وإنك أنت أخبرته بعزمك على السفر في الغد.

– ماذا أسمع؟ وما هذه الألغاز؟ فإني منذ ثلاثة أشهر ما ذهبت إلى النادي!

ثم دخلوا جميعًا إلى القاعة، فأراهما الخادم إطار الصورة المسروقة، فوقف روكامبول فوق كرسي، وجعل يمعن النظر في طريقة إخراج الصورة من إطارها، فوجف قلبه وعلم أن يدًا ماهرة نزعتها من موضعها، ثم التفت إلى الخادم، وقال له: اذكر لي شكل الفتى.

– إنه ربعة القوام، أشقر الشعر، هزيل.

– أعرف أنطوان اسمه كما تقول؟

– لا بد أن يكون عرفه، فإنه أعطاه رقعة زيارته واسمح لي يا سيدي أن أقول: إن أنطوان طاهر القلب شديد الإخلاص، ولكنه متعنت في رأيه لا يسمع نصحًا، ولا يجري إلا ما يخطر في باله.

– كيف ذلك؟

– ذلك أنه ذهب إلى تلك القرية كي يعرض شكواه، وفاته أن من يحضر في مركبة لسرقة رسم لا يكون من عوام الناس.

– هذا لا ريب فيه ولا شك أن أنطوان بسيط القلب.

فتشجع الخادم لما سمعه، وقال: أتأذن لي يا مولاي أن أقول كلمة؟

– قل.

– أظن أن هذا السارق كان له فائدة عظمى بسرقة الصورة، حتى إنه قد يبذل في نيلها كل عزيز.

ثم دنا من روكامبول، وقال له بصوت منخفض: إن الفتى لم يكن غير امرأة متنكرة بثياب الغلمان.

وكان فابيان قد سمع ما قاله الخادم، فقهقه ضاحكًا، وأجاب: لم أكن أتوقع هذا الختام.

غير أن روكامبول خطرت له في الحال أوصاف ذلك الفتى، وهي أنه ربعة القوام هزيل أشقر الشعر لا نبات في عارضيه، فارتجف ولم يبتسم لضحك صهره، بل إن العرق البارد جعل ينصب في جبينه، وقال في نفسه: … باكارا!

فدنا منه فابيان، وقال: ماذا فعلت يا ألبرت؟ ألعلك محبوب إلى هذا الحد؟ وكيف تسمح بمثل هذا الغرام، وأنت على أهبة الزواج بابنة الدوق؟

ولم يكد فابيان يتم كلامه حتى سمعوا وقع حوافر جواد، فأطل الخادم من النافذة، وقال: هو ذا أنطوان قد رجع.

فقال فابيان: ستعلم الآن كل شيء، ادخل يا ألبرت إلى غرفتك؛ لأن المسكين سيُجَنُّ سرورًا برؤياك، وأنا سأقابله وأعلم منه كل شيء.

فدخل روكامبول إلى غرفة قاده إليها الخادم، وهو موجس شرًّا عظيمًا لا يعلم سره فيتلافاه، فوقف أمام نافذة الغرفة، وجعل ينظر إلى أنطوان الشيخ، وقد ترجل عن جواده وقال لفابيان وعلائم السرور بادية في ثنايا وجهه: إن مولاي لا بد أن يكون في القصر! … وقد عرفت ذلك من القرية التي كنت فيها، فقد أعطتني إدارة البريد كتابًا إليه وصله إلى باريس بعد سفره.

– من أين أتى هذا الكتاب؟

– من إسبانيا.

فلما سمع روكامبول كلامه فرح فرحًا عظيمًا، وقال للخادم الذي كان لا يزال معه: أسرع وأحضر لي الرسالة التي أتى بها أنطوان.

وكان روكامبول قد نسي في تلك الساعة سرقة الصورة وهواجسه ورعبه وباكارا، حين سمع بذكر تلك الرسالة، فلم يطل انتظاره حتى عاد بها الخادم إليه ففضها، وجعل يقرأ فيها بينما كان صهره فابيان يسأل أنطوان عن حادثة الصورة.

أما الرسالة فقد كانت من خطيبته كونسبسيون ابنة الدوق الإسباني، وهي كما يأتي:

أيها الحبيب

هو ذا ثمانية أيام قد مضت دون أن أكتب لك فيها حرفًا، ولا بد أن يجول في خاطرك أني نسيت عهدك على أني لا تمر بي دقيقة من دقائق حياتي دون أن أناجيك فيها، فإن حياتي لك.

ولقد كتبت إليك آخر كتاب قبل هذا من سالاندريرا، حيث أقمت فيها مع والدتي ستة أسابيع نبكي على ذلك الوالد الحنون، الذي اختطفته يد المنية من بيننا ليلة زفافنا، وندعو له الله في خلواتنا، وعسى أن يجيب دعواتنا ويحشره في زمرة الأبرار.

والآن أيها الحبيب فإني أكتب إليك من جرنادييز وهي أرض لنا قضيت فيها عهد الطفولية، وهي واقعة بين قاديس وغرناطة في قلب تلك الجنة المغربية، التي يدعونها بلاد الأندلس.

وفي هذه الأرض يتنازع في مخيلتي تذكاران من السعادة والشقاء، أحدهما ملذات الطفولية وأخراهما نكد الشباب، فإن في هذه الأرض سقت تلك النورية التي كانت تهوى الدون جوزيف، ذلك السم النقيع للدون بادرو فأودت بحياته الطاهرة.

ولا يخطر في بالك أني أتيت هذه الأرض مندفعة بتلك الذكرى، فإن قلبي بجملته لك بل إني أتيت إليها مع أمي؛ كي أعجل عقد قراننا.

وأنت تعلم أن عادات الإسبانيين شديدة في الحداد، ولو قدر الله أن يبقى أبي في قيد الحياة ساعتين لكنت الآن امرأتك أمام الله والناس، ولكنه أبى علينا هذا النعيم، فغادرنا باريس نصحب تلك الجثة الباردة إلى سالاندريرا فاستقبلنا أسقف غرناطة، وهو من أقارب أمي، فبقي معنا بعد الاحتفال بدفن الجثة ثمانية أيام كان يمتزج دموعه بدموعنا، وقبل ذهابه خلا بأمي، وتداول معها في أمر لم أعلمه إلا في هذه الأيام، وهذه خلاصته أنقلها إليك وهي: إن أمي والأسقف تداولا في شأن وفاة أبي ليلة عرسي، وبما لقيته من العناء لهذا الاتفاق الغريب، حتى إنهما كانا يخشيان علي عاقبة تلك الأحزان، فجعلا يفكران في طريقة تعجل عقد قراننا تخفيفًا لأحزاني، فقال الأسقف: إن أصول الكنيسة لا تؤذن بزواج الأبناء بعد موت والديهم قبل مضي شهرين ونصف على الأقل، ثم إن هناك مصاعب أخرى وهي العادة عند نبلاء الإسبان بإطالة زمن الحداد احترامًا للآباء، فلو نقضنا ذاك العهد لقامت علينا قيامة الأشراف، وسلقونا بألسنة حداد.

– إني أعرف جميع ما ذكرت ولذا بت قلقة البال على ابنتي لما أعلمه من شغفها بخطيبها.

– اسمحي لي أن أسألك بعض أسئلة قبل إبداء رأيي، فهل عقدت شروط الزواج بينكم وبين المركيز؟

– نعم.

– وهل أورث صهره اسمه وألقابه؟

– نعم.

– إذن فإن الأمر سهل، وهو أن الملك في حاجة إلى سفير من النبلاء يرسله إلى البرازيل، وقد كان عزم على تعيين زوجك الدوق في هذا المنصب، ولما عزم على الكتابة إليه واستدعائه فاجأه خبر نعيه، وهو لا يزال حائرًا فيمن يعينه.

فقالت أمي: وأية علاقة لما تقول بتعجيل الزواج؟

– اسمعي، فأنت تعلمين أن الملك لا يخيِّب لي رجاء، وسأذهب إلى مدريد وألتمس منه تعيين المركيز دي شمري في ذاك المنصب.

– لم أفهم بعد.

– إنه لا يعنيه إلا متى صار إسبانيًّا، ولا يصير إسبانيًّا إلا متى تسمى باسم الدوق سالاندريرا، ولا يتسمى بهذا الاسم إلا متى تزوج بابنتك، فمتى عرف الناس أن المملكة تحتاج إلى سفير ترسله في الحال إلى البرازيل، وأن الملك وقع اختياره على صهرك بطل عتبهم، وعلموا أن إرادة الملك قضت بتعجيل الزواج؟!

فصفقت أمي سرورًا وافترقا، فذهب الأسقف إلى مدريد بعد أن أوصى بكتمان الأمر مني وذهبنا إلى غرناطة.

وبعد شهر ورد إلى أمي كتاب من الأسقف يقول فيه: إن الأمور تجري على ما يريد، وأمرها أن تسافر بي إلى هذه الأرض التي أكتب لها منها الآن.

١٠

وبعد يومين ورد إليها هذا الكتاب الثاني، وخلاصته:

إن الأسقف قد تباحث مع الملك في هذا الشأن، فوعده جلالته أنه سيمر في أرضنا اتفاقًا ويعزي أمي لمصابها، ثم يعين ابنتها من نساء بلاط المملكة دلالة على احترامه للدوق الفقيد، ولما كانت نساء البلاط ينبغي أن يكن متزوجات، وقد صدر أمر الملك بتعييني في بلاطه، فلا بد إذن من زواجي وهو خير واقٍ لنقول الناس.

فلما اطلعت أمي على هذا الكتاب أخبرتني عند ذلك بكل شيء، فاسمع الآن ما حدث بعد ذلك.

إننا أصبحنا يومًا وإذا بخادمة غرفتي دخلت إلي منذعرة، وهي تقول: سيدتي إن الملك والملكة دخلا بموكبهما، وهما الآن على الباب.

فخرجت مضطربة فرأيت أمي قادمة إلي، فذهبت بي لاستقبال جلالتهما.

وجعل الملك والملكة يعزيان أمي، وأقاما في قصرنا ساعتين، ثم خلت الملكة بأمي وعند انصرافها مع الملك قالت لي: إني عينت بين نساء بلاطي مدام شمري سالاندريرا.

فهزتني هذه الكلمات كما تهز الرياح أوراق الخريف، حتى إني تلعثمت فما عرفت كيف أشكرها غير أن أمي تولت عني تلك المهمة.

وبعد ذهابها بساعتين قدم إلينا الأسقف ودعانا إلى الذهاب إلى قاديس، حيث نقيم في منزله مدة إقامة الملك في تلك المدينة، وسأكتب لك منها بعد ثلاثة أيام.

هذا ما أكتبه إليك الآن أيها الحبيب، وفي كل حال فكن متأهبًا للسفر قريبًا إلى إسبانيا، فإن يوم سعادتنا غير بعيد.

خطيبتك
كونسبسيون

فتلا روكامبول الكتاب والتأثر بادٍ في وجهه، فنسي موقفه الشديد ولم يخطر في باله غير أن ابنة الدوق تهواه، وأن ملكة إسبانيا اهتمت في شأنه، وأن أعداءه قد هلكوا وانقرضوا، فقال في نفسه: ممن أخاف ولماذا هذا الاضطراب؟ ألقتلي ذاك الرجل الذي يدعي نجم سعادتي؟ وماذا حدث لي الآن مما يحملني على المخاوف؟

ثم ضحك من أوهامه، وقال: إذا كان لا بد لي من الموت، فلا أحب أن أموت إلا سفيرًا.

وبعد ذلك خرج كي يرى فابيان الذي ذهب للقاء أنطوان.

وكان أنطوان أخبر الفيكونت فابيان بجميع الحوادث التي جرت قبل سرقة الصورة بأدق تفصيل، فلما فرغ من تفاصيله سأله فابيان، ماذا يُدعَى الشاب الذي سرق الصورة؟

فأخرج أنطوان من جيبه رقعة الزيارة التي تركتها باكارا، وأعطاها لفابيان، فأخذها منه فابيان وتركه وانصرف ذاهبًا إلى قاعة الأكل، ودنا من المصباح الموضوع على المستوقد كي يقرأ الاسم على نوره، وكان أنطوان قد تبعه إليها.

وفي ذلك الحين ظهر روكامبول على باب القاعة، وسمع فابيان يقرأ هذا الاسم: «المركيز دون أنجو دي لوس مونتس».

فلما طرق الاسم مسمعه تراجع إلى الوراء منذعرًا؛ لأن الاسم لم يكن غير الاسم الذي اختلقه له أندريا حين عهد إليه إغواء امرأة أخيه الكونتس دي كركاز، كما تقدم في رواية التوبة الكاذبة.

ولحسن حظه أن فابيان وأنطوان كان ظهراهما من جهة الباب، فلم يريا ما أصابه من الرعب والاصفرار حين تلاوة الاسم.

أما فابيان فإنه قلب الرقعة بيده، وقال: إني لا أعرف صاحب هذا الاسم.

ثم التفت فرأى روكامبول واقفًا في الباب، فقال له: أتعرف المركيز دون أنجو دي لوس مونتس؟

وكان روكامبول قد ضبط نفسه في هذه الفترة، وعاد إليه سكونه فأجاب صهره ببرود قائلًا: كلا.

أما الوكيل أنطوان، فإنه أسرع إلى روكامبول وهو يحسب أنه مولاه المركيز، فصاح صيحة فرح وقال: مولاي المركيز أهذا أنت؟

وكأنه أراد أن يعانقه، ولكنه وقف متهيبًا فقال له روكامبول: لا بأس أيها الشيخ تقدم وعانقني.

فهجم عليه أنطوان عند ذلك، وعانقه عناقًا طويلًا ثم قال له: تعالَ معي إلى نور المصباح؛ كي أرى ما بقي في وجهك من آثار الطفولية.

وبعد أن حدق به انفكَّ راجعًا وهو يقول: عجبًا إنه لا يوجد في وجهك أقل أثر من ملامحك القديمة، ولو رأيتك خارج القصر لاستحال علي أن أعرفك.

فقال روكامبول: أما أنا فقد عرفتك، أتعلم أنك لا تزال كما كنت في عهد الشباب؟

– ومع ذلك فإني قد تجاوزت السبعين من عمري.

وكان لا يزال يحدق به، فقال: من الغريب أنك لا تشبه نفسك في شيء حين كنت في عهد الحداثة.

فخفق فؤاد روكامبول، وقال في نفسه: أيجسر هذا الأبله على فضيحتي؟

وعند ذلك قطع فابيان كلام أنطوان، وقال لروكامبول: إذن فلا تعرف صاحب هذه الرقعة؟

– كلا!

– غير أن الخادم يوسف يقول إن هذا الفتى كان امرأة متنكرة بثياب الغلمان.

– إني لا أعلم شيئًا من تلك الألغاز، وفي كل حال فقد أحسن أنطوان بتقديم شكواه إلى الحكومة.

– وأنا من رأيك.

ثم أعطاه رقعة الزيارة التي تركتها باكارا، فلما وقع نظره عليها علم في الحال أنها الرقعة التي كان يستعملها حين كان يُدعَى باسم ذاك المركيز البرازيلي، وأن أشائر المركيزية نفسها وقطع الرقعة، والحروف المطبوعة عليها، ولون الورق كل ذلك واحد …

بعد ذلك بساعتين كان روكامبول في غرفته يمشي فيها ذهابًا وإيابًا بخطوات غير موزونة.

وكان يقول في نفسه: لم يعد لدي شك الآن بأن ذاك الفتى الأشقر الذي جاء إلى القصر، وتسمى بالاسم الذي كنت أُدعَى به من قبل، وسرق رسم المركيز دي شمري القديم لم يكن من الفتيان، بل كان امرأة، وأن تلك المرأة لم تكن إلا باكارا.

وعندما خطر في باله ذاك الخاطر وقف خائفًا، وداخل فؤاده شك هائل فقال: لماذا سرقت صورة المركيز؟

وفي الحال انتقل بتصوره إلى المركيز دي شمري الحقيقي، الذي تركه ملقى في الحفرة في الجزيرة، ينتظر أن ينتشله منها، وكان يعتقد أنها ستكون قبرًا له لصعوبة خروجه منها، فقال في نفسه وهو يرتعش: أيمكن أن يكون ذاك المركيز قد نجا من الموت، وعاد إلى باريس؟ وإلا فما قصد باكارا من سرقة الصورة؟

وعند ذلك طرق باب غرفته، وكان الطارق أنطوان فأذن له روكامبول بالدخول فدخل، وكانت الساعة قد آذنت بانتصاف الليل.

فقال الوكيل: أرجوك يا مولاي معذرة لدخولي إليك في تلك الساعة المتأخرة، ولكني أسمع خطواتك من ساعتين، فخشيت أن تكون محتاجًا إلى شيء.

فابتسم له روكامبول، وقال له: لست بحاجة إلى شيء الآن.

فحاول أن يخرج غير أن روكامبول أوقفه، وقال له: اجلس أمامي لنتحدث.

فجلس أنطوان وعاد إلى التحديق بروكامبول، وقال: عجبًا! ما هذا التغيير الذي طرأ عليك، فإن المرء مهما تغيرت ملامحه، فلا بد أن يبقى له شيء من الملامح القديمة.

فجعل روكامبول يحدق بذلك الشيخ بدوره، وقال: وأنا لم يبقَ لي شيء من تلك الملامح؟

– كلا فإني لا أجد منها أثرًا لا في ابتسامتك ولا في نظراتك، حتى إن لون عينيك قد تغير وهو من الغرابة بمكان، فإن لون العين لا يستحيل كأنما قد غيروك في الهند كما يبدلون الأحداث في مهودهم.

فضحك روكامبول ضحك الساخر، وقال له: لا شك أنك مجنون!

ثم إنه جلس على كرسي، وقال له: أعِنِّي على خلع حذائي، ودعني بعد ذلك وشأني، فإني أريد أن أنام.

ومد له رجله اليمنى، فركع أنطوان وعالج الجزمة التي كان يلبسها روكامبول، فأخرجها من رجله، وانكشف من تحتها بطة ساقه.

وكان على المستوقد مصباحان ينبعث منهما نور متألق، فجعل أنطوان يمعن النظر في ساق روكامبول، ثم خرجت من فمه صيحة تشير إلى الدهشة العظيمة والإنكار.

فسأله روكامبول: ماذا أصابك؟

– تقول: ماذا أصابني، أليس هذا ساقك الأيمن؟

– دون شك.

– إنه كان يوجد على هذا الساق بين البطة والركبة أثر لا يُمحَى ولا يزول.

– لا شك أنك مجنون قم وامضِ عني.

– كلا لست بمجنون، فأين ذاك الأثر؟

– إنه قد زال مع مرور الأيام، ألا تعلم أن آثار الندوب والجروح تزول من الأجسام بتوالي الزمن عليها؟

فلم يبقَ ريب عند ذلك لدى أنطوان، فوقف وقال له: لقد كذبت فإن ذاك الأثر لم يكن جرحًا أو ندبة، بل كان بقعة حمراء خليقة في ساقك لا يمكن زوالها.

فهاج غضب روكامبول وقال: ويحك أيها الشقي! أتجسر على تكذيبي؟!

فصرخ الشيخ يقول: إنك لست بمولاي وما أنت المركيز دي شمري.

فانقض كلامه على روكامبول انقضاض الصاعقة، وخشي الفضيحة، ولكنه تجلد وقال له: ليس ما يمنعني أيها الوقح أن أرمي بك النافذة لولا حبي لك، ولو لم يكن لك علي حق التربية.

غير أن أنطوان قد تغلبت عليه عواطف العدوان، فقال له: إذا كنت المركيز دي شمري كما تقول، فاكشف عن صدرك أمامي.

– لماذا؟

– اكشف عن صدرك.

– أتأمرني أمرًا أيها الوقح.

– اعلم يا سيدي أنه إذا اتضح أني كاذب، فلك أن تعاقبني بما شئت، وإذا أبيت أن تكشف صدرك أمامي ناديت جميع من في القصر، وقلت أمامهم: أنك لست بالمركيز.

فكان لذاك الإنذار تأثير شديد على روكامبول فلم يرَ إلا الامتثال للشيخ، ففتح صدرته وفك أزرار قميصه، ثم كشف عن صدره فأخذ أنطوان المصباح بيده، وجعل يتمعن في ذلك الصدر المكشوف حتى إذا أتم فحصه أرجع المصباح إلى موضعه، وقال له متهكمًا: إنك لو كنت المركيز دي شمري حقيقة لوجب أن يكون لك ثلاث شامات تحت ثديك الأيسر، فما أنت غير مزور محتال، ولا بد أن تكون فتكت بالمركيز أيها القاتل السفاك.

وعند ذلك ابتعد عنه وحاول أن يصيح مستغيثًا، فانقض عليه روكامبول، وقبض على عنقه وجعل يقول له: اصمت واسمع ما أقول.

١١

غير أن الشيخ كان يحاول الإفلات منه، ويصيح بصوت المختنق لشدة الضغط عليه، فيخرج متقطعًا كالأنين، فلما رأى ذلك منه روكامبول خلع عنه رداء المركيزية، وعاد لصًّا سفاطًا، فضغط على عنق الشيخ ضغطًا شديدًا حتى جعل الزبد يخرج من فمه، وجحظت عيناه، ولكنه مع ذلك كان يدافع دفاعًا شديدًا بالرغم عما يتطلبه سنه من الضعف، غير أن أيدي روكامبول كانتا قد نشبتا في عنقه كما تنشب الكلاليب، فلم يستطع صراخًا ولكنه لبث يئن.

وعند ذلك دقت الساعة مشيرة إلى انتصاف الليل، وكان جميع من في القصر نيامًا، فقال له روكامبول: كفاك تئن أو أقتلك، وإذا قتلتك فلا يشعر بي أحد؛ لأن الجميع نيام.

غير أن الشيخ لم ينقطع عن الدفاع ومحاولة الاستغاثة، فجذبه روكامبول وألقاه على الأرض، ثم وضع ركبته فوق صدره ويداه لا تزالان على عنقه، وقال له: إنك ترى نفسك تحت رحمة يدي، فإذا لم تنقطع عن الصراخ خنقتك دون إشفاق.

فلم يستطع الشيخ أن يجيبه، ولكنه نظر إليه بعينيه الجاحظتين نظرة ملؤها الاحتقار، وحاول أن يتخلص أيضًا.

وحاول روكامبول أن يجرب معه التمليق، فقال: إني أجعلك غنيًّا فأعطيك مائة ألف فرنك، وأهبك المنزل الذي في آخر البستان إذا طاوعتني فيما أريد، فإن المركيز مولاك قد مات، وأنا هو المركيز الحقيقي لدى جميع الناس، ومهما تقل فلا تجد من يصدق أقوالك … قل الآن أترضى بما وعدتك به، وتكتم هذا السر؟

ثم أفرج قليلًا عن عنقه كي يسمع جوابه، فلم يجبه بغير هذا القول: إلى الوراء أيها القاتل السفاك إلى الوراء.

فقال له روكامبول: إذن فلم يعد بد من قتلك فاستعد للموت، ثم ضغط على عنقه ضغطًا شديدًا، وهو لا يستطيع حراكًا؛ لأن ركبة ذلك اللص كانت فوق صدره ولكنه لم يخنقه.

وكان جميع من في القصر نيامًا كما قدمنا، ولما كان هذا الشيخ المسكين لا يستطيع حراكًا ولا صراخًا، كان الوقت فسيحًا لروكامبول للإمعان فيما هو فيه، فذهبت عنه آثار الرعب، وعادت إليه سكينته المعتادة، فقال للشيخ: إني في شرخ الشباب وأنا قوي الساعد متين العضل كما ترى، فلا رجاء لك بالخلاص مني؛ لأنك عارف بسري، ولا يجب أن يعرفه أحد سواي، إذن فلا بد من قتلك وسأفتكر بطريقة موتك.

وعند ذلك جعل روكامبول يقول في نفسه: إني إذا قتلته بالخنجر أو خنقته بيدي، فلا بد أن يروا في الغد أثر الخنجر في صدره، أو أثر اليدين في عنقه.

وفيما هو يفتكر شعر أن دبوس رباط رقبته قد برز منه صعدًا ولمس عنقه.

وكأن هذا الدبوس قد أوحى إليه فكرًا هائلًا، فابتسم ابتسام الظافر لفكره الجهنمي، وقال له: ستموت أيها الأبله من يدي، وسيحسب الناس أنك مت بالسكتة الدماغية.

وفي الحال أدار ذلك الشيخ المسكين الذي انتُهِكت قواه، فقلبه على بطنه وركع على ظهره، وكان بالقرب منه مخدة السرير، فوضعها تحت فمه كي يمنعه عن الصياح، ثم قبض على عنقه من القفا بيده اليسرى، وأخذ بيده اليمنى الدبوس من صدره فشكه في مخه.

فانتفض الشيخ انتفاضًا هائلًا ألقى روكامبول طريحًا على الأرض، ونهض لحظة ثم انقلب صريعًا لا حراك به، فإن الدبوس اخترق نخاعه وأماته في الحال.

أما روكامبول فإنه أسرع إليه والرعب ملء قلبه لخوفه من صياحه، فوجده لا حراك به، وعند ذلك اطمأن باله فأخذ المصباح بيده، واجتذب الدبوس من مخ ذلك الخادم الأمين.

وكان الدبوس قد ثقب في مخه ثقبًا رفيعًا بقدر جرمه، لا يبدو أثره للعين، ولم يسل غير نقطة صغيرة من دمه البريء فمسحها ذلك السفاك بيده، وأعاد ترتيب شعور الشيخ البيضاء إلى ما كانت عليه، فاختفى أثر الدبوس أتم الاختفاء.

ثم قال في نفسه: إن سر هذا الموت لا يدركه غير حكيم ماهر، وهو سيخفى على طبيب هذه القرية الحقيرة؛ لأنه دون شك دجال، فإذا قلنا أمامه إنه مات بالسكتة الدماغية؛ وافق على قولنا أتم الموافقة.

وبعد أن مسح دبوسه وأرجعه إلى مكانه أقبل يفحص عنق الشيخ وقبضتيه، فما وجد فيها أقل أثر يكشف حقيقة ما كان بينهما، فوقف ينظر إلى وجهه المصفر وقوف الظافر المطمئن، ثم ابتسم ابتسام الأبالسة، وقال: لقد أخطأ من يقول: إن حسن الذاكرة من نعم الله، فإن هذا الأبله لم يقتله غير ذاكرته إذ إنه لو لم يذكر ذلك الأثر في ساق المركيز، وتلك الشامات في صدره لما قُضِي عليه بالموت، ولأبقيته حيًّا يتمتع بالوكالة عني في أملاكي.

ولما انتهى من تأبينه حمله إلى زاوية الغرفة وغطاه، ثم قال: لنبحث الآن في هذه الحالة الحاضرة، فإنه يجب قبل كل شيء أن أضع هذا الرجل في غرفته وعلى فراشه؛ إذ يجب أن يجدوه ميتًا فيها، ولكن أين هي غرفته فإني لا أعرف شيئًا من أحوال هذا القصر فلنبحث.

وخرج من غرفته وبيده المصباح، فأقفل بابها وأخذ مفتاحها من قبيل الحذر، وجعل يمشي في الرواق مشي اللص الخائف.

وكان روكامبول قد تنكر منذ عامين بزي الشحاذ، وأتى إلى القصر مستطلعًا أحواله، فعرف كل شيء من أمره، ولكنه لم يخطر في باله أنه سيُضطر إلى قتل وكيله، فلم يهتم بمعرفة المكان الذي ينام فيه هذا الوكيل المنكود.

وكان يعلم أن الخدم ينامون في الدور الثاني، ولكنه كان يرجح أن أنطوان بصفته وكيلًا في القصر يميز نفسه عن الخدم، وينام في الدور الأول لا سيما بعد غياب مواليه عن القصر أعوامًا طويلة.

فلما بلغ إلى منتصف الرواق وقف وبيده المصباح، وقال في نفسه: إن هذا الأبله قد طرق باب غرفتي، ودخل عليَّ وقال إنه كان يسمع صوت خطواتي فلا بد إذن من أن تكون غرفته ملاصقة لغرفتي، وإلا فلا سبيل له إلى سماع صوت.

فدنا من الغرفة المجاورة فرأى فيها نورًا ضعيفًا، فأطفأ مصباحه واقترب من الباب، فوضع عينه على ثقب القفل، وجعل ينظر من خلاله موجودات الغرفة، فكان أول ما رآه طاولة كان عليها مصباح، ورأى بجانب المصباح علبة للتبغ ذكر أنه رآها بيد الشيخ في أول الليل.

ثم نظر إلى الجدار، فرأى معلقًا عليه أسلحة وملابس ورداء طويلًا كان رأى الشيخ مرتديًا به، فلم يبقَ لديه شك أن الغرفة غرفة القتيل.

فأصغى أتم الإصغاء؛ كي يعلم إذا كان يوجد أحد في الغرفة، ولما وثق من خلوها دفع الباب ودخل ففحص الغرفة فحصًا مدققًا، ووجد على الطاولة جريدة ملفوفة بقطعة من الورق مطبوع عليها هذا العنوان «إلى الموسيو أنطوان وكيل قصر الأورنجري»، فلم يبقَ لديه شيء من الشك، فأنار مصباحه وخرج إلى غرفته، فحمل القتيل على كتفه، وجاء به إلى الغرفة فجرده من ثيابه، وألبسه ملابس النوم ووضعه في سريره، وفتح الجريدة فقلب صفحاتها ثم ألقاها إلى الأرض؛ كي يُقال إنه كان يقرأ قبل أن يموت هذا الموت الفجائي.

ولم يبقَ عليه إلا صعوبة واحدة، وهي إقفال الغرفة من الداخل والخروج منها؛ كي لا يبقى مجال للشك أنه مات حتف أنفه، وبعد الإمعان رأى فوق الطاولة التي بإزاء السرير نافذة واحدة، فصعد إلى الطاولة وفحصها، فوجد أنها تشرف على الرواق، ففرح فرحًا وحشيًّا ونزل فأقفل باب الغرفة من الخارج، ثم عاد إلى الطاولة، فصعد منها إلى النافذة وسقط إلى الرواق.

فلما وصل إلى حجرته اطمأن خاطره، وتنهد تنهد المنفرج بعد ضيق شديد، وقال: ليس من يشك في الغد أن هذا الشيخ قد مات بالسكتة الدماغية، ثم عاد إلى كتاب خطيبته ابنة الدوق يتغزل بمعانيه، ويعلل النفس بما سيناله من الوجاهة في البلاط الإسباني، وبتلك السعادة التي سينالها كأن يده الأثيمة لم تتلطخ بدم ذلك القتيل المنكود.

وفي الساعة السابعة من صباح اليوم التالي دخل روكامبول إلى غرفة صهره، وهو باسم الثغر وعليه ملامح السعادة والهناء، فدفع كتاب خطيبته إلى صهره، وقال له: ما رأيك في هذا الكتاب؟

فأخذه فابيان وجعل يقرأه بإمعان وهو يتبسم، فلما أتم قراءته قال له: أرى أنه يجب أن تغدو إسبانيًّا في أقرب حين.

وفيما هما يتباحثان إذ أقبل عليهما خادم وعليه ملامح الذعر، فأخبرهما بوفاة أنطوان.

فأجفل روكامبول، وقال له: ويحك! كيف مات هذا الخادم الأمين؟

– إننا وجدناه يا سيدي ميتًا في غرفته وهو في فراشه.

فقال روكامبول، وقد أخذ الكدر منه كل مأخذ: مسكين! فلقد مات مسرورًا بي وما قتله إلا الفرح.

١٢

ولنعد الآن إلى إسبانيا حيث تركنا فرناند روشي مع امرأته هرمين في قاديس، بعد أن علما من قومندان الميناء ما ذكرناه بشأن المركيز دي شمري الحقيقي، فنقول: إنه بعد مضي خمسة عشر يومًا على ما تقدم كانت سراي الحكومة في قاديس مزينة أجمل الزينة، والشعب الإسباني تتقاطر جماهيره في الشارع المؤدي إلى السراي.

وذلك لأن الملكة كانت تقيم في ذلك الثغر منذ خمسة عشر يومًا للاستحمام بمياه البحر، وكانت قد وعدت المجلس البلدي بحضور حفلة أعدها لمساعدة فقراء المدينة.

فبدأت المركبات تتوارد إلى السراي منذ الساعة التاسعة صباحًا، فتنزل من فيها من الزائرين والزائرات، ثم تعود فتقف في مواضعها المعينة.

وكانت الحفلة حفلة رقص اختلفت فيها أزياء المدعوين، وقلدت فيها ملابس جميع العصور والشعوب، بحيث باتت مناظر تلك الأزياء الغريبة مما تدهش الأبصار.

وكان نظام تلك الحفلة أن الرقص يبدأ الساعة التاسعة، ويُسوَّغ للراقصين والراقصات أن يلبثوا متنكرين إلى منتصف الليل، وعند ذلك تحضر الملكة فتُسفَر البراقع عن جميع الوجوه احترامًا لجلالتها؛ إذ لا يسوغ أن يقف أحد من رعيتها أمامها موقف التنكر.

فلما دقت الساعة التاسعة أقبلت مركبة يظهر من شكلها أنها فرنسية إلى السراي، وخرج منها رجلان وامرأة، فكان أحد الرجلين متنكرًا بملابس رجال البلاد في عهد لويس الخامس عشر، وكانت المرأة لابسة لباس المركيزات وهي متأبطة ذراعه.

وكان كلاهما سافر الوجه، فلما رآهما المتفرجون ذكروا أنهما رأوهما مرات كثيرة في الملاعب، وفي شاطئ البحر والمنتزهات العمومية؛ إذ إنهما كانا فرناند روشي وامرأته هرمين.

أما الرجل الآخر الذي كان يصحبهما، فقد كان متنكرًا بزي حرسي من الحرس الإمبراطوري الروسي، وهو شاب جميل الطلعة لم ينبت الشعر في خديه، أشقر الشعر، حاد النظر، تدل هيئته على الثبات وقوة الإرادة، وكان أيضًا كرفيقيه مسفر الوجه.

فلما دخل إلى القاعة الأولى بعد فرناند وامرأته، أحدقت به الأبصار لجماله، وقال إسباني من المدعوين إلى الحفلة لرفيق له: من هذا الفتى المرتدي بملابس الحرس الروسي؟

فأجابه رفيقه: إنه روسي حقيقة.

– ماذا يُدعَى؟

– إنك تسأل سؤالًا يصعب الجواب عليه، فإن اسمه ينتهي بلفظة «سكي» أو «أوف» كثير الحروف، بحيث يستحيل التلفظ به إلا بعد حفظه مرات كثيرة.

– ومتى قدم إلى قاديس؟

– منذ ثلاثة أيام …

– وأين يقيم؟

– في فندق أستيري ولا تسألني غير ذلك، فإن هذا كل ما أعلمه.

– الحق أنه بارع الحسن يفضل بجماله النساء.

وبينما كان الإسبانيان يتحدثان بشأن هذا الحرسي، كان ذاك الفتى الجميل يطوف في قاعات السراي مع فرناند وامرأته، وهم يبحثون عن قومندان الميناء العسكري.

فلما عثروا به تبادلوا التحية، ثم أخذ الروسي القومندان وسار به إلى حديقة السراي، وجلسا في محل منفرد لم يكن فيه أحد، ودار بينهما الحديث الآتي، فقال الروسي: أنجحت في مهمتك؟

– نعم يا سيدتي.

– لا تنادني بألقاب النساء، ثم لنتكلم باللغة الفرنسية مبالغة في الحذر.

– ليكن ما تريدين … عفوًا فقد غلطت وليكن ما تريد …

– قل الآن ما فعلت.

– ذهبت في هذا الصباح، إلى القصر الذي تقيم فيه الملكة والملك فالتمست من جلالته، أن لا يسألني عن السبب، ونلت منه حرية الأجراء، وذلك بعد أن قلت له: إن شرف أسرة من أعرق أسرات البلاد الإسبانية نسبًا يتعلق على تصرفي هذا، فاسمعي الآن بيان الخطة التي عزمت على أن أتبعها.

– قل لنرى.

– إنه سيحضر الآن فيتجول بين الراقصين والراقصات، وهو مقنع الوجه إلى أن ينتصف الليل فيترك الحفلة وينصرف.

– وبعد ذلك؟

– يعود إلى الحفلة بعد انصراف الملكة …

– ويزيح القناع عن وجهه؟

– كلا؛ إذ لا يوجد كثير من الناس.

– إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تريد أن يبرح الحفلة عند حضورها ويعود بعد انصرافها؟

– ذلك؛ لأنه مهما كانت براءته تامة جلية في أعيننا، فإنه لم يتبرأ بعد تبرئة رسمية، وإذ كان لا يزال من المجرمين في عين القضاء، فلا يجمل حضوره حفلة تحضرها الملكة، فإن ذلك يُحسَب إهانة لها وللقضاء.

– لقد أصبت وأما هي فماذا يكون من شأنها؟

– إنها تبقى في الحفلة بعد ذهاب الملكة.

– أتحضر حفلات الرقص بالرغم عن واجب الحداد؟

– نعم ولا جناح عليها في شيء، فإن جلالة الملكة قد عينتها بين نساء بلاطها، وحيث تكون الملكة يجب عليها أن تكون، وأما بقاؤها في الحفلة بعد ذهاب الملكة، فستأمرها الملكة بالبقاء دون أن توضح لها الأسباب.

– ألم تسألك الملكة شيئًا؟

– كلا فإني جثوت أمامها وقلت لها: إن ما ألتمسه من جلالتك سينقذ من العار أنبل أسرة إسبانية، فاكتفت بذلك ولم تسألني شيئًا.

فقال الروسي: إن الأمور تجري في خير المناهج.

ثم أخذ برقعًا مخمليًّا من جيبه، ووضعه على وجهه الجميل وقال للقومندان: دعني أفارقك الآن، فإني ذاهبة لمراقبة ذاك الرجل الذي تحميه إنما قل لي: أأنت واثق من أن الفتاة لابسة ثوبًا أسود وعلى كتفها شريطة حمراء؟

– كل الثقة.

– وهو ماذا يلبس؟

– إنه يبقى بثوبه العادي، ولما كان البرقع يستر وجهه، فلا يعرف أحد حقيقة أمره، ويحسبون أنه متنكر بملابس المجرمين.

ثم دخل الاثنان إلى قاعات الرقص وهناك افترقا، فذهب القومندان يبحث عن فرناند روشي وامرأته، وذهب الروسي إلى القاعة الأولى التي لا بد لكل مدعو من المرور بها حين قدومه، وجعل يراقب عند بابها وهو مقنع الوجه لا يعرفه أحد.

وأقام عدة دقائق يراقب في هذا الموقف، إلى أن دخل رجل استلفت أنظار الحضور بلباسه الغريب، وجعلوا يتحدثون بأمره وكلهم ينظر إليه ضاحكًا معجبًا.

وكان ذاك الرجل ربعة القوام، تدل خطواته وثبات أقدامه، وسرعة انتقاله على أنه لم يتجاوز عهد الشباب، وهو مقنَّع بقناع كثيف يحجب وجهه عن العيون.

على أن جميع حركاته وشكل سلامه كانت تدل على أنه من كبار النبلاء.

أما الذي كان يدعو الناس إلى العجب منه، فإنه كان مرتديًا بملابس المجرمين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.

فكان أحد الحاضرين يقول: ما هذا الثوب المخيف؟ ويقول آخر: لا شك أنه إنكليزي؛ إذ لا تخطر هذه الغرابة إلا في خواطر الإنكليز.

واتفق في ذلك الحين مرور القومندان، فقالت له إحدى السيدات على سبيل المزاح: ألعلك يا حضرة القومندان دعوت محابيسك لحضور الحفلة؟

– نعم ولكن اطمئني يا سيدتي؛ لأني ما دعوت إلا أعقلهم، ولا تخشي هذا المجرم؛ لأنه من الأشراف.

ثم تركها القومندان وانصرف ومشى المجرم أيضًا، فسار بأثره الروسي حتى إذا بلغ القاعة الثالثة وضع الروسي يده على كتف المجرم، وقال له: أتلعب لعبة الباكارا يا سيدي؟

فارتعش المجرم وأجابه بصوت منخفض: نعم يا سيدي.

– إذن، اتبعني.

ثم تأبط ذراعه وسار به إلى قاعة لم يكن فيها رقص، وكان فيها بعض المدعوين يتكلمون بأصوات منخفضة.

وكان بينهم امرأة لابسة لباسًا أسود، وعلى كتفها شريطة حمراء، ولكنها جالسة بمنعزل عن الحاضرين لا تكلم أحدًا، فدل الروسي المجرم عليها وقال له: تعالَ معي إليها.

وكانت هذه الفتاة غائصة في بحار من التأملات العميقة، فلما شعرت بدنو الرجلين منها، ورأت ملابس ذلك المجرم ذُعِرت لمرآه، وبدت عليها علائم الخوف.

فقال لها الروسي: لا تخافي يا سيدتي؛ فإن المجرمين الذين يحضرون مثل هذه المراقص لا خطر منهم.

فاطمأنت الفتاة وابتسمت معجبة بهذا اللباس، وجلس الروسي بإزائها فقال لها: إنك أتيت يا سيدتي من فرنسا قريبًا أليس كذلك؟

فانذهلت الفتاة؛ لأنها كانت متنكرة أشد التنكر، وقالت له: ألعلك تعرفني؟

– نعم وإذا كنت تريدين فإني أذكر لك اسمك.

ثم دنا منها وقال لها همسًا: إنك تُدعَين يا سيدتي كونسبسيون دي سالاندريرا، ولم أتجاسر على الدنو منك؛ إلا لأنك قادمة من فرنسا.

فجعلت ابنة الدوق تنظر إليه متمعنة، وقد خُيِّل لها أنها سمعت هذا الصوت من قبل، ثم قالت: ألعلك فرنسي؟

– إني روسي كما ترين من ملابسي التي ألبسها، وأما صديقي هذا …

ثم أخذ بيد المجرم وقدمه لابنة الدوق سالاندريرا قائلًا: إن هذا المجرم من أشرف العائلات.

فانحنى المجرم أمامها باحترام شديد أزال ما بقي في فؤادها من آثار الرعب لمنظره، فردت تحيته ودعته إلى الجلوس بجانبها.

فنهض الروسي عند ذلك، وانحنى أمام المجرم وهمس بأذنه قائلًا: إياك على الأخص أن تذكر أمامها اسمك، ثم تركهما ومضى.

فلما خلا المكان بالمجرم وابنة الدوق دار بينهما الحديث الآتي، فقالت الفتاة: إذن، أنت فرنسي؟

– نعم، يا سيدتي.

– وأنت قادم من باريس دون شك؟

– إني لم أرَ بلادي يا سيدتي منذ عشرين عامًا، وا أسفاه!

– إذا كان ذلك، فكم يكون عمرك؟

– سأبلغ الثلاثين بعد بضعة أشهر.

– إذن فقد غادرت بلادك وأنت في العاشرة من عمرك؟

– وا أسفاه! هي الحقيقة ما تقولين.

– وسكنت في إسبانيا بعد ذلك؟

فارتعش المجرم، وقال: إني لم أعرف إسبانيا إلا منذ إحدى عشر شهرًا وأنا في قاديس غير أني قبل ذلك … ثم وقف مترددًا.

– قل يا سيدي إني مصغية إليك.

فقال بصوت فيه لهجة الكآبة أثَّر على ابنة الدوق تأثيرًا عظيمًا: إنه قد يتفق يا سيدتي وجود امرأة تحضر حفلة راقصة، وهي بملابس الحداد، كما تفعلين ويتفق أيضًا وجود رجل في هذه الحفلة لا يحق له لبس الحداد كما اتفق لي.

– ماذا تعني بذلك؟

– أريد يا سيدتي أن حزني شديد يخترق أعماق القلب ولا يدري به أحد.

– إذن فقد تعذبت كثيرًا؟

– ولا أزال أتعذب.

وقد قال تلك الكلمات الأخيرة بلهجة حزينة اضطرب لها قلب الفتاة، ولكنه أسرع بعد أن تنهد إلى الحديث، فقال: لقد التمست يا سيدتي أن أقدم إليك فإنك قادمة من العاصمة التي طالما حن قلبي إليها، ولا أحب إلي من الكلام عن ذاك الموطن العزيز الذي تركت فيه من أحب، فلقد ذكر عن لطفك ما دفعني إلى أن أقدم إليك دون أن أتردد أو أخشى الخيبة.

وسكت الاثنان بعد ذلك سكوتًا قصيرًا، فإن ابنة الدوق تضايقت في أمرها حين رأت نفسها منفردة بهذا الرجل الذي اختارها كاتمة لأسراره دون أن يعرفها، ثم كأنما الرغبة الفطرية بالنساء للوقوف على الأسرار دفعتها إلى الاطلاع على أمره، فذهب ما عندها من الوجوم، وقالت له: ألعلي أستطيع خدمتك في شيء يا سيدي؟

فقال المجرم بلهف: حدثيني يا سيدتي بأحاديث باريس، فإن اسم هذه العاصمة حبيب إلى قلبي.

ولبث الاثنان ساعتين يتحدثان في تلك القاعة الخالية من الراقصين، فتحدثا عن باريس وفرنسا وأخلاق الباريسيين، فإن كل كلمة كان يسمعها ذاك المنفي الذي فارق الوطن منذ عشرين عامًا تدعوه إلى العجب والانذهال، وتدفعه إلى الأسئلة والاستفهام، فإنه كان باريسيًّا ولكنه لا يعرف باريس، وكان فرنسيًّا ولكنه لا يعرف فرنسا إلا كما يعرفها من يقرأ رواياتها من الغرباء عنها.

غير أنه كان حنون الصوت عذب الكلام رشيق التعبير، فكانت الفتاة تصغي لأقواله وهي تشعر أنها منجذبة إليه بجاذب سري.

وعند ذلك دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فارتجف المجرم ونهض مسرعًا.

١٣

فنظرت ابنة الدوق إلى اضطرابه منذهلة، أما المجرم فإنه قال لها: عفوك يا سيدتي؛ فإني مضطر إلى الذهاب.

– وإلى أين أنت ذاهب؟

فوضع أصبعه على فمه وقال: إن هذا سر من الأسرار.

ثم أخذ يدها، وتجاسر على تقبيلها وقال: إنك لا تبرحين المرقص قبل الساعة الثالثة.

– لماذا؟

– لأني في الساعة الثالثة أكون قد عدت إليه.

ثم انحنى أمامها مسلِّمًا باحترام شديد، وانصرف.

فجعلت ابنة الدوق تراقب خطواته إلى أن غاب عن أبصارها، فجعلت تقول في نفسها: ما هذا الرجل؟! وما هذا النظام السري الذي تخضع له القلوب هذا الخضوع؟! فإني ما رأيت وجه هذا الرجل ولا عاشرته من قبل، ولا عرفت شيئًا من أمره، ولكن لهجة صوته الحزينة تميل إليه القلوب، ولا بد أن يكون قد أُصِيب بنكبة شديدة أورثته هذه الكآبة الحنونة، وهو يبالغ في كتمان أمره.

ثم نظرت إلى ما حولها فرأت أنها وحدها في القاعة، فقامت تحاول الاختلاط بالناس. ولكنها ما لبثت أن رأت الفتى الروسي قد دخل وهو لا يزال مقنعًا، فدنا منها وقال: ماذا فعلت بصديقي؟

– إنه تركني فجأة حين دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل.

– إني أعلم سر انصرافه في هذه الساعة، ولكن هذا السر غير مختص بي ولا يسعني إفشاؤه، على أنك لو سألتني يا سيدتي إفشاء أسراري الخاصة لما تمنعت عن الإباحة لك بها.

– أنت محاط بالأسرار أيضًا؟

– هي أسرار غريبة يا سيدتي.

– وما يهمني إذا كان لا علاقة لي بها؟!

– لا شيء، ولكنها على عكس ما تظنين.

– وأيه علاقة لي بأسرارك يا سيدي؟! إني لا أفهم ما تقول، ولا أعرف من أنت.

– هذا أكيد ولكننا قد التقينا مرات عديدة في مجالس باريس، وأنا أعرف كثيرين من معارفك حتى إني أعرف المخلصين لك أيضًا.

فارتعشت ابنة الدوق، وقالت: أصحيح ما تقول؟

– لا ريب فيما أقوله، ودليل ذلك أني أقص عليك شيئًا من تاريخ حياتك إذا أحببت.

فقالت له بقلق: من أنت؟

– إنك ترين أيتها السيدة الحسناء أننا في حفلة رقص يجوز فيها التنكر.

– إذن، فلا تقول لي من أنت.

– كلا، ولكني مقابل هذا الكتمان أخبرك بأمور لا تعلمينها بعد أن تتذكري كثيرًا مما تعلمينه، مثال ذلك أني أعلم كيف مات الدون جوزيف خطيبك الثاني.

فاضطربت الفتاة واصفر وجهها تحت البرقع، وعاد الروسي إلى الحديث، فقال: وأعلم أيضًا كيف مات الدوق دي مايلي.

وكان روكامبول كتم عنها موت الدوق، فصرخت قائلة: كيف ذلك؟ أمات الدوق؟!

– إنه مات يا سيدتي في ذات اليوم الذي ذهبتِ فيه من باريس مع أبويك إلى أرض الفيكونت فابيان لشرائها.

فذُعِرت الفتاة، وقالت: من أنت أيها الرجل العارف بجميع تلك الأمور؟

– إنك ترين أيتها الحسناء أني من حرس جلالة إمبراطور روسيا.

– ولكن ذلك لا يدل على اسمك.

– إني أُدعَى أرتوف.

– أرتوف؟

– نعم يا سيدتي، فإنك تعرفين هذا الاسم، وأنا قريب الكونت أرتوف ذلك التعس المنكود الذي خدعته امرأته كما يُقال، وقد عرفت حكايته دون شك فإنه ذهب عقله وهو يحاول مبارزة رولاند دي كايلت.

– لقد سمعت بهذه الحادثة يا سيدي، فقد تناقلتها الأفواه.

ثم قالت بلهجة الساخر: أما أنت فلا بد أن تكون عرفت تفاصيلها من الكونتس أرتوف نفسها؟

ورأى الروسي أن اسم الكونتس أرتوف قد أثر ثأثيرًا سيئًا على الفتاة، فقال لها: إنك إذا أذنت لي يا سيدتي أخبرتك بأمر تجهلينه.

فقالت له مظهرة عدم الاكتراث: إني أأذن لك فقل ما تشاء.

– أتأذنين لي أيضًا يا سيدتي أن أذهب بك إلى الحديقة؟

– لماذا؟

– لأريك شخصًا تعرفينه، ولا يخطر في بالك أنه في قاديس.

– الحق يا سيدي أنك مكتنف بالأسرار والألغاز.

– ألم أقل لك يا سيدتي إني أعرف شيئًا من أسرارك؟

فأظهرت إشارة دلت بها على ريبها، فقال لها الروسي: مثال ذلك أنك كتبت أمس إلى خطيبك المركيز دي شمري.

فخفق فؤاد ابنة الدوق، وجعل ذراعها يرتجف تحت ذراع الروسي، ولكنها كانت تسير معه إلى الحديقة مندفعة بحب الوقوف على هذا السر؛ وكي ترى ذلك الرجل الذي قال لها الروسي إنها تعرفه، وقد خطر لها أن هذا الرجل يمكن أن يكون «هو» المركيز دي شمري.

وكان الروسي يسير بها إلى الحديقة، وفيما هو نازل وإياها على سلم القصر قال لها: لا تحسبي أيتها السيدة الحسناء أني أبالغ في ما ترينه من التحوط والكتمان إلا لأمر خطير.

فضاق ذرع الفتاه، وقالت له بلهجة الجازع: أوضح لي يا سيدي إذن هذه الألغاز.

– ستعلمين كل شيء فاتبعيني.

ثم سار الاثنان في رواق طويل تكتنفه الأشجار من الجانبين، ولم يكن يمر به غير بعض المتنزهين.

وكان يوجد في آخر الرواق غرفة أو كوخ من الخشب تغطيه الخضرة، ولم يكن فيها غير مصباح واحد معلق في وسط سقفها.

ففتح الروسي باب الكوخ، ودخل فتبعته ابنة الدوق، فرأت فتاة جالسة على مقعد وهي مقنعة بقناع كثيف ومتنكرة بملابس النور.

وكانت هذه الفتاة تنتظر قدومها دون شك، كما ظهر من نهوضها وبادرتهما بالتحية.

فانذهلت ابنة الدوق؛ لأنها لم تكن ترى في تلك الليلة غير أسرار يشكل عليها فهمها، فأغلق الروسي عند ذلك باب الكوخ، وقال لابنة الدوق: إننا الآن وحدنا، وسأريك هذا الشخص الذي قلت لك: إنك تعرفينه، وفاء للوعد.

ثم أشار إلى المتنكرة النورية، فأزاحت البرقع عن وجهها، ووقفت بقرب المصباح.

فصاحت ابنة الدوق صيحة انذهال وقالت: من أرى … الكونتس أرتوف؟

فجعل الفتى الروسي يضحك ضحكًا عاليًا، ثم وقف بإزاء تلك التي دعتها بالكونتس أرتوف، فأزاح القناع عن وجهه وقال: انظري إلي أيضًا يا سيدتي فإن في منظري ما يدهشك.

فلما رأته ابنة الدوق صاحت صيحة أخرى، وجعلت تجيل نظرها بينهما وقد بدت عليها علائم الانذهال الشديد، والحيرة الغريبة؛ ذلك لأنها كانت ترى أمامها امرأتين كلتاهما الكونتس أرتوف وكلتاهما باكارا، ولم ترَ فرقًا بينهما إلا بالملابس، فإن إحداهما كانت متنكرة بملابس النوريات، والأخرى بملابس حرسي روسي.

فقالت لها حينئذ باكارا، وكانت هي المتنكرة بلباس الفتيان: أتعلمين يا سيدتي أينا الكونتس أرتوف؟

– إني أحسبني حالمة فلا أفقه شيئًا من هذه الألغاز.

– كلا؛ بل أنت في اليقظة.

– إذن فقد ذهب عقلي الآن، وما أنا إلا من المجانين وإلا فما معنى ما أراه؟

– انظري يا سيدتي إلى هذه الفتاة، فإنها أختي وهي تُدعَى ريبيكا، ولكنها أختي من أبي، فإن أمها يهودية.

فنظرت ابنة الدوق عند ذلك إلى الفتى الروسي، وقالت: إذن أنت الكونتس أرتوف بالحقيقة.

وشفعت كلامها بابتسام دل على الاحتقار، فعظم ذلك عند باكارا وعلمت أنها أرادت احتقارها لاشتهار حادثتها في باريس، فقالت لها: سلي هذه السيدة حتى تجيبك أنها هي التي أحبها رولاند كايلت، وكان يحسبها الكونتس أرتوف وليس أنا.

فقالت ريبيكا: نعم؛ أنا هي، وقد دُفِعت إلى تمثيل هذا الدور الشائن.

فصاحت ابنة الدوق صيحة جديدة، ولكنها لم تكن صيحة اندهاش؛ ذلك أنها رأت بعد ما علمته أن حجابًا كثيفًا قد انجلى عن بعض الحوادث الغامضة لديها، غير أنها لم تعلم كل شيء بل إنها أوشكت أن تعلم.

ولما كانت هذه الفتاة من نبلاء الأسرات الإسبانية، فقد وبخها ضميرها لاتهامها باكارا بالخيانة، فمدت يدها إليها وقالت لها مستغفرة: أسألك العفو يا سيدتي فقد تجاسرت على اتهامك بما أنت بريئة منه.

فابتسمت باكارا ابتسامة حزينة، وقالت: لست أنت وحدك يا سيدتي التي تفردت باتهامي، بل إن جميع أسرات باريس قد حكمت علي حكمًا صارمًا لا يُطاق.

– ولكنها سترجع إلى ما هي مدينة لك به من الاحترام، كما رجعت أنا حين تشتهر الحقيقة.

– كلا فلم يحن الوقت بعد.

– لماذا؟

– لأن لدي مهمة خطيرة يجب أن أهتم بها قبل الاهتمام بنفسي.

ولما رأت باكارا أن انذهال ابنة الدوق قد بلغ أقصاه، قالت لها: لا تنذهلي يا سيدتي، فستعلمين كل شيء وستحمديني لاهتمامي بشئون غيري قبل الاهتمام بشئون نفسي، والآن فاسمحي لي أن أسألك ألست مقيمة مع سيدتي الدوقة والدتك في قاديس، في منزل قريبك أسقف غرناطة؟

– نعم.

– أليس هذا المنزل خارج المدينة، وهو على شاطئ البحر تتكسر الأمواج على جدرانه؟

– نعم.

– إذن أرجوك أن تكوني على سطح المنزل غدًا في مثل هذه الساعة، أي: بعد منتصف الليل.

– ولكن ألا تقولين لي …

– لا أستطيع أن أقول شيئًا الآن يا سيدتي سوى أن أخبرك بأنك معرضة لخطر هائل.

– رباه! ماذا أسمع؟! إنك تخيفينني.

– لا بأس فاسمحي لي بالذهاب.

ثم أخذت البرقع وتقنعت به، فقالت لها الفتاة: ألا أراك بعد هذه الليلة؟

– ربما ولكن لا تنسي أن الساعة قد بلغت بعد منتصف الليل.

فارتعشت الفتاة، وقالت: ماذا تعنين بذلك؟

– أعني أن الرجل المتنكر بملابس المجرمين قد وعدك أن يعود إلى المرقص في هذه الساعة ويجب أن تقابليه.

– وأية علاقة بيني وبين ذاك الرجل؟

– ذلك ما لا أستطيع أن أقوله أيضًا إنما حين ترينه قولي له: «إني رأيت الكونتس، وإنها تأذن لك بأن تقص عليَّ قسمًا من حكايتك.»

ثم أشارت باكارا إلى أختها ريبيكا أن تتبعها، فوضعت برقعها على وجهها وعند ذلك حيت باكارا ابنة الدوق، وقالت لها: ابقي في مكانك هذا فسأرسله إليك.

وعند ذلك خرجت الأختان، وبقيت ابنة الدوق في موضعها، وكانت قد تلاشت قواها لفرط ما سمعت من الغرائب، لا سيما حين علمت أنها معرضة لخطر هائل، فجلست على مقعد في ذلك الكوخ، ووضعت رأسها بين يديها، وقالت: رباه ما هذه الأسرار؟

وأقامت وحدها عدة دقائق فكانت الأنغام الموسيقية يحملها نسيم الليل، فيجتاز بها أشجار تلك الحديقة الغناء، فتبلغ إلى مسامعها رخيمة شجية لا يزاحمها غير حفيف الأوراق، ولكنها كانت بعيدة عن الإصغاء إليها لانصراف بالها إلى حديث باكارا، وما أورثتها من المشاغل، حتى إنها أرادت أن تفتكر بمن تهواه نفسها أي: بخطيبها المركيز دي شمري فلا تجد للافتكار به سبيلًا لشدة اضطرابها.

ولم يكن يصغي قلبها إلا لذلك الصوت السري، الذي كانت تخرج نبراته الحنونة من فم ذلك الرجل الذي تزيا بزي المجرمين، وهو أشد وداعة من الحمام كما يُستدَل من لطف حركاته، ومن صوته الحنون الرخيم، فكان يشغلها من أمر هذا الرجل شاغلان أحدهما ما وجدت في نفسها من الارتياح إليه، والآخر شدة توقها إلى الوقوف على حكايته.

وفيما هي غائصة في بحار تأملاتها إذ سمعت وقع أقدام، فرفعت رأسها ورأت رجلًا واقفًا على باب الكوخ، وكان هذا الرجل هو بعينه أي: ذلك المجرم الذي شغلها هذا الانشغال.

غير أنه لم يكن مقنعًا كما رأته قبل منتصف الليل، بل كان حاسر الوجه فأثرت هيئته على ابنة الدوق تأثيرًا عظيمًا.

وكان هذا المجرم يناهز الثلاثين من العمر، وهو أشقر اللحية أزرق العينين ينبعث منهما أشعة تمتزج بين الكآبة، ومظاهر الذكاء، ومجمل هيئته يدل على السلامة والدعة.

فدنا منها وقبل يدها باحترام، وقال لها: إن الكونتس أرتوف يا سيدتي قد أخبرتني الآن أنك في هذا المكان من الحديقة و…

ثم توقف مترددًا عن الكلام، فشجعته ابنة الدوق بابتسامة، فقال باضطراب: وأنك تنتظرينني يا سيدتي.

– هو الحق ما تقول يا سيدي فإن ما قالته لي الكونتس، وما قلته لي أنت قد هاجا مكامن الفضول مني.

فابتسم ابتساما كئيبًا، وسكت.

أما ابنة الدوق فإنها دعته بإشارة للجلوس بقربها، وقالت له: إن الكونتس تأذن لك أن تحكي لي شيئًا من حكايتك.

فمرت غمامة كثيفة فوق مخيلة الشاب، وكان يحاول دون شك أن يبدأ بقص حكايته، غير أنه ما لبث أن تأهب للحديث حتى رأى أن باب الكوخ قد فُتِح بعنف، وبرز منه رجل وجف قلب ابنة الدوق عند رؤياه.

وكان هذا الرجل لابسًا ملابس تدل ألوانها وشكلها على أنه من حراس السجون.

غير أن هذا الحارس لم يحفل بما رآه من اضطراب ابنة الدوق، بل إنه نظر إلى الفتى الجالس بقربها، وناداه باسمه وهو نمرة ٣٠؛ لأن كل سجين يستبدل اسمه بنمرة خاصة به فيُنادَى بها.

ثم قال له: ينبغي أن تعود، إنه يجب أن تعود في الساعة الرابعة، وإن الساعة الآن الثالثة ونصف، فلم يبقَ لك من الحرية غير نصف ساعة أيها المركيز.

ولما قال هذا القول بلهجة الآمر تركه وانصرف، فلما رأت ابنة الدوق أنه خرج نظرت إلى هذا الشاب الذي دعاه حارس السجن بنمرة ٣٠، ثم دعاه بالمركيز، وقالت له — والرعب ملء فؤادها: من هذا الرجل؟ وماذا يريد؟ وماذا يبغي من قدومه إلى هنا؟

فأجابها بلطف: إنه أتى يا سيدتي يبحث عني.

– يبحث عنك أنت؟

فلم يجبها الفتى ولكنه رفع الوشاح الذي كان يغطي ساقه، وقال لها: انظري يا سيدتي.

فذُعِرت ابنة الدوق ذعرًا شديدًا؛ لأنها رأت سلسلة من الحديد مربوطة في ساقه، وهي قيد المجرمين في السجون وتراجعت إلى الوراء.

فقال لها بكآبة ولكن دون خجل: إن هذا الرجل يا سيدتي هو حارسي، وإن الثوب الذي ألبسه لا أريد به التنكر في هذه الحفلة الراقصة، بل إني مجرم حقيقي أُكرِهت على لبس هذا الثوب، واستُبدِل اسمي بنمرة فهم يدعونني نمرة ٣٠.

١٤

ولقد يتوقع القارئ أن يُغمَى على ابنة الدوق من الذعر، أو أنها تخاف مما رأته فتصيح وتستغيث وتفر هاربة من هذا المجرم، غير أنها لم تفعل شيئًا من ذلك.

وذلك أن هذا الرجل كان مجرمًا حقيقيًّا، ولم يعد لديها ريب في أمره بعد أن رأت في رجله القيد.

غير أن لهجته كانت لهجة النبلاء، ورواء عينيه يدل على السلامة والخلوص، حتى إنه عندما أكد لها أنه من المجرمين كان يكلمها بكآبة ونبل تظهر أن شدة بعده عن مواقف الذنوب، فهدأ ثائر روعها وقالت: لا بد أن يكون هذا المسكين ضحية أغلاط القضاء، وأن له حكاية غريبة، فلم يجد سبيلًا إلى إظهار براءته مما هو متهم به.

وقد استحال نفورها منه وانذعارها من قيده إلى استئناس به وارتياح إليه، فقالت له: لقد رأيت قيدك يا سيدي، ولكني واثقة من براءتك فبأية جريمة قد اتهموك؟! ثم مدت إليه يدها إشارة إلى ارتياحها.

فأخذ يدها وبرقت عيناه من السرور والامتنان، وقال: أشكرك يا سيدتي ألف شكر لما تفضلت به علي من حسن الظن، ولأنك لم تصدقي أني من المجرمين.

– لا يمكن أن أحسبك مجرمًا؛ إذ ليس في نظراتك ما يدل على الذنوب، أما وقد ثبت لي أنك بريء فأرجوك يا سيدي أن تقص علي أمرك بتفاصيله، بل يجب أن تحكي لي جميع حكايتك، فإن لي شفاعة لدى الملكة وسأذهب إليها، وأنطرح على قدميها فلا تخيب رجائي.

فابتسم الشاب وقال: أشكرك يا سيدتي، فإن الوقت لم يحن بعد، وفوق ذلك فإن إطلاق سراحي وتبرئتي لا يتعلقان بالملكة.

– رباه! ما هذه الألغاز؟ وبمن إذن يتعلقان؟

– ربما كانا يتعلقان بك دون سواك.

فزاد انذهال ابنة الدوق حتى لم تعد تصدق ما تسمع، وقالت له: بي أنا؟! وكيف ذلك؟ إني لا أفهم شيئًا مما تقول.

– قلت لك يا سيدتي ربما كان أمري متعلقًا بك، وفي كل حال فإن الوقت لم يحِن بعدُ لكشف هذه الغوامض المشكَلة عليك.

– ولكني أرجوك أن توضح لي شيئًا من هذا، فإني أحسب نفسي حالمة أو أصبحت في عداد المجانين.

– وا أسفاه! يا سيدتي إني لا أستطيع …

– إذن قل لي على الأقل منذ أي حين أنت في …

وتوقفت عن لفظة السجن؛ إذ لم تجسر على قولها.

فشكرها بالنظر، وقال: إني في سجن قاديس منذ أحد عشر شهرًا، وقد حكم علي بالتكبيل بالقيود خمسة أعوام.

– وبأي ذنب أنت متهم؟

– بالنخاسة يا سيدتي، وقد كنت في ذلك العهد دون شك في باريس، ولكن لا بد أن تكوني قرأت في الجرائد أن دارعة إسبانية أسرت سفينة أسوجية شراعية …

– نعم، نعم … أذكر ذلك!

– وكانت هذه السفينة تشتري العبيد فتخبئهم في عنابرها، وتبيعهم بيع السلع للراغبين فيهم.

– لقد ذكرت جيدًا الآن، فإن أبي قرأ لنا هذه الحادثة.

– وقد حكم على ربانها ونائبه وتسعة من بحارتها بالسجن، وكنت أنا نائب ذلك الربان.

– أنت … أنت تحترف هذه المهنة؟

فنظر الشاب إليها نظرة ملؤها السويداء، وقال لها: إنك ترين يا سيدتي أني أصبحت مضطرًّا إلى أن أحكي لك شيئًا من حكايتي.

– ولماذا لا تحكيها بجملتها؟

– لأنه غير مأذون لي أن أذكر اسمي أو اسم عائلتي، ولا أن أقول الآن أين صرفت عشرين عامًا خارج موطني.

– إذن قل لي ما تستطيع قوله.

– كنت يا سيدتي منذ عامين مسافرًا على سفينة من إنكلترا إلى فرنسا، وكنت ممنطقًا بحزام علقت فيه حقيبة وضعت فيها أوراق ولادتي، وشهادة خدمتي بصفة ضابط في البحرية الإنكليزية، فثارت عاصفة شديدة أغرقت السفينة ومن فيها، ولكني نجوت من الغرق سباحة، وأنقذت معي شابًّا كان رفيقًا لي في هذا السفر، وعمره لا يزيد عن عمري ولا ينقص.

وهنا أخبرها بجميع ما جرى له في تلك الجزيرة المقفرة مما عرفه القراء، غير أنه عمل بما أوصته باكارا، فلم يذكر اسمه ولم يشر إلى سرقة أوراقه، ثم ذكر لها كيف وجده البحارة مغميًّا عليه، وهو بحالة تقرب من النزع لما تولاه من الضعف من الجوع والعطش، فأخذوه إلى سفينتهم وعالجوه حتى شُفِي، فأكرهوه على الخدمة في السفينة بصفة بحار، ولما رأوا أنه ماهر في المهنة جعلوه ربانًا ثانيًا للسفينة.

فقالت له ابنة الدوق — وكانت تسمع حديثه بإصغاء تام: لماذا لم تقصَّ أمرك بتفاصيله حين قبضوا عليك؟

– لقد حكيت كل أمري، ولكنهم لم يصدقوني في شيء.

– ألم تقل إنه كان لديك أوراق تثبت مولدك وحقيقة حالك؟

– نعم … ولكني عندما استفقت من إغمائي في السفينة لم أجد تلك الأوراق معي، وهي لا بد — وا أسفاه! — أن تكون باقية في تلك الجزيرة.

– أليس لك عائلة في باريس؟

– نعم أم وأخت …

– لماذا لم تلتجئ إليهما؟

– لقد التجأت إلى قومندان الميناء، وحكيت له جميع أمري فصدق حديثي، وكتب إلى باريس فأجابوه أني منافق مخادع، وأن الرجل الذي اتخذت اسمه موجود في باريس يراه سكانها كل يوم.

– ماذا أسمع … إن هذا مستحيل.

– ولكنها الحقيقة يا سيدتي.

– ولكن كيف تقول أن …

وقبل أن تتم كلامها فتح الباب فجأة، وظهر الحارس فنادى نمرته، وقال: هَلُمَّ بنا فقد بلغت الساعة الرابعة …

فنهض الفتى منذعرًا، فودع ابنة الدوق، وشكرها لرفقها به واعتنائها بأمره.

– كيف ذلك، أتنصرف الآن؟

فقال: لأنه لا بد لي من الانصراف، فإنهم لم يسمحوا لي بالخروج من السجن إلا من قبيل المجاملة، التي لا يطمع بها أحد المسجونين، وقد حان الوقت فلا بد من الانصراف.

– إذن فسأذهب بنفسي، وأرى قومندان الميناء فإنه كان صديقًا حميمًا لأبي.

– ألتمس منك يا سيدتي أن لا تفعلي شيئًا من هذا، فإنهم يسعون أجمل سعي في سبيل إنقاذي، وكل مداخلة جديدة تسد علي منافذ الخلاص.

– ليكن ما تريد، أفلا أراك بعد الآن؟

– ربما يا سيدتي، وهذا غاية ما أرجوه.

ثم تركها وانصرف مع حارسه، وغادر تلك الفتاة تائهة حائرة لا تعلم أفي يقظة هي أم في منام.

وقد حملت رأسها بين يديها، وجعلت تعيد في مخيلتها جميع ما مر بها من الحوادث الغريبة، وبعد أن أمعنت في التفكير جعلت تسائل نفسها، فتقول: كيف اتفق للكونتس أرتوف أن تعلم أمر هذا الرجل وهو قد عاش عشرين عامًا خارج بلاده، بل كيف اتفق أن يكون لي دخل في جميع هذه الحوادث، فقد قال: إن تبرئته وحريته يتعلقان بي دون الملكة، فما المراد بهذه الأقوال؟ وما معنى هذه الأسرار؟

وقامت تمعن الفكرة هنيهة، فلما لم تهتدِ إلى حل هذه المعميات نهضت، فغادرت ذلك الكوخ وذهبت إلى قاعات الرقص.

وكانت الحفلة قد قاربت النهاية، فإن قاعات كثيرة فرغت من الراقصين، وقصرت الشموع حتى إن بعضها ذاب وانطفأ، فلم يضعوا بدلًا منه وسكتت أصوات الموسيقى.

فذكرت ابنة الدوق عند ذلك أنها جاءت إلى هذه الحفلة بأمر خاص من الملكة، وأنه كان يصحبها إليها قريبة لها تُدعَى المركيزة دورنا جوزيفين، فتركتها حين قدومها في إحدى قاعات اللعب في بدء الحفلة، ثم انشغلت بباكارا وبذلك المجرم حتى نسيتها، ولكنها عادت إلى الحفلة ورأت نفسها وحيدة ذكرت تلك القريبة، وجعلت تبحث عنها، فذهبت في البدء إلى القاعة التي تركتها فيها فما وجدتها.

وبينما هي تبحث عنها في القاعات، إذ نظرت خادمًا يطفئ الشموع في إحدى القاعات، فعرفته في الحال وقالت منذهلة: زامبا.

وكان هو بعينه فوقف أمامها باحترام، وهو يظهر انذهاله أيضًا.

فقالت له: كيف أنت هنا؟

– إني خادم غرفة رئيس المجلس البلدي يا سيدتي …

– متى دخلت في خدمته؟ ومتى رجعت من باريس؟

– منذ وفاة الدوق دي مايلي …

فأثر هذا الاسم تأثيرًا جديدًا على ابنة الدوق، فقد ذُكِر أمامها مرتين في تلك الليلة، وفي المرتين ذُكِر بمناسبة موته.

فنظرت إلى زامبا وهي ترتعش، وقالت له: إذن فقد مات حقيقة هذا الدوق؟

– منذ شهرين يا سيدتي.

فنظرت الفتاة إلى ما حولها، ورأت أن القاعات خالية من الناس، فجلست على كرسي وقالت لزامبا: أخبرني كيف كانت وفاة هذا المنكود؟

فابتسم زامبا ابتسامًا معنويًّا، وقال: إن الجرائد يا سيدتي نشرت أنه مات بالجمرة الفارسية.

– ما هو هذا الداء؟ فإني لم أسمع به.

– إنه مرض يصيب الخيل فيقتلها …

– وكيف اتصل بالدوق؟

– قالت الجرائد يا سيدتي …

فقاطعته ابنة الدوق وقد طوت مروحتها بسأم، وقالت: لا أسألك عن آراء الجرائد، بل أسألك عما علمته أنت من أمر موته، فإنك كنت خادم غرفته.

– هذا أكيد يا سيدتي.

– إذن فأنت تعرف أكثر من الجرائد كيف مات؟

– هذا أكيد أيضًا، ولكن لا بد لي أن أذكر لسيدتي ما قيل!

– قل ماذا يقولون.

– إن الدوق كان عنده جواد مولع به ولعًا شديدًا، وقد أُصِيب هذا الجواد بداء الجمرة، وكان الدوق مفرطًا في حبه، فكان يعتني به اعتناءه بنفسه دون أن يحذر، فاتصل به المرض بالعدوى فمات، وهذا ما كانت ترويه الجرائد ويتناقله عنها الناس …

– أليست هي الحقيقة، أم أن الدوق مات بغير هذا المرض الغريب؟

– هي الحقيقة بعينها يا سيدتي غير أن العدوى ما سرت إليه من الجواد …

– أوضح يا زامبا؛ فإني لا أفهم ما تقول …

– إن الدوق يا سيدتي قد مات بالجمرة كما مات الجواد، إلا أن كلًّا من الدوق والجواد أُصِيبا بالمرض كل على حدة دون أن يعدي أحدهما الآخر، وأن يكونا قد ماتا بمرض واحد.

– كيف ذلك؟

– لأن الجواد قد شك بطنه بدبوس طويل يحمل مكروب هذا الداء من بطن جواد ميت كان مصابًا فيه.

– والدوق؟

– أما الدوق فإنه كان في اليوم نفسه جالسًا على مائدته يكتب رسائله، فلما فرغ من الكتابة وحاول النهوض استند بيديه على الكرسي الذي كان جالسًا عليه، وصاح صيحة ألم سمعتها؛ لأني كنت في الغرفة المجاورة، فأسرعت إليه ووجدت أن الدم يسيل من إحدى يديه.

وتوقف زامبا عند ذلك وجعل ينظر إلى ابنة الدوق، فعلم أنها لم تفهم شيئًا، فاستطرد حديثه قائلًا: وقد سال الدم من يده يا سيدتي؛ لأنها أصابت دبابيس كانت مشكوكة بوسادة الكرسي، وكانت الدبابيس تحمل أيضًا ذات المكروب الذي أُصِيب به الجواد.

– عجبًا! ومن الذي شك الدبابيس في كرسيه؟!

– أنا …

– أنت … كيف أنت … إذن فلا بد أن تكون وضعتها خطأ.

– كلا يا سيدتي بل قصدًا.

– ماذا تقول أيها الشقي …

– لقد فعلت ما فعلت يا سيدتي؛ لأني كنت أكره الدوق كرهًا شديدًا بعد ما علمت أنك لا تحبينه.

فصاحت ابنة الدوق صيحة رعب وإنكار، وقد هالها أمر الجريمة لاعتقادها أن هذا الخادم لم يدفعه إليها غير حبه القديم للدون جوزيف، وقالت له: ويحك أيها الشقي! أتحسب أنك تسرني بقولك إنك ارتكبت مثل هذه الجريمة من أجلي، وتظن أني سأتركك من دون عقاب، لقد ساء فألك وسترى ما يكون.

فأجابها زامبا بملء السكينة قائلًا: كلا يا سيدتي فإني ما شككت الدبابيس في وسادة الكرسي بغية إرضائك.

– إذن فلأي غرض شككتها أيها الشقي الخائن، ألعل الدون جوزيف أوصاك بارتكاب هذه الجريمة قبل موته؟

– لا هذا ولا ذاك يا سيدتي …

فسكتت الفتاة سكوتًا قصيرًا، ثم قالت: إذن فلأي سبب قتلته؟ ألعلك تحمل عليه حقدًا خصيصًا؟

– كلا، فإن الدوق كان من نبلاء القوم، فلا متسع لأن يحقد عليه حقير مثلي، وفوق ذلك فقد كان شريف المبدأ لا يميز بين الخدم والأسياد لاعتقاده أن الجميع واحد في الإنسانية؛ فكان من المحسنين إلي …

– إذا كان ما تقوله صدقًا فما حملك على قتله؟

– الخوف.

فبُهِتت ابنة الدوق، وقالت له: أي خوف تعني؟ وممن كنت تخاف؟

– يوجد رجل يا سيدتي يعرف أمورًا لم يكن يعرفها غير الله والدون جوزيف، وأنا وقد كان هذا الرجل يعرف أني محكوم عليَّ بالإعدام في إسبانيا، فكان قادرًا بكلمة تخرج من فمه أن يسلمني إلى الجلاد فينزع رأسي.

– ما هذه الأمور الهائلة التي أسمعها؟

– إن هذا الرجل يا سيدتي أمرني أن أقتل الدوق، فلم أجد بدًّا من الامتثال.

– من هو هذا الرجل؟

– لم أكن أعرف اسمه من قبل وقد عرفته هذه الأيام، إلا أنه لم يُؤذَن لي أن أصرح به.

– أتكتم اسمه عني أيها الشقي؟!

– إني أُضْطَر إلى كتمانه مكرهًا إلا أن سيدتي إذا شاءت أن تعلم أكثر مما علمت مني عن وفاة الدوق، وكثيرًا غير تلك من أمور تجهلها ويهمها أن تعرفها، فلتسأل الكونتس أرتوف.

ثم انحنى مسلِّمًا باحترام واحتجب عن الأبصار.

١٥

وكانت ابنة الدوق قد نهضت عن كرسيها، وحاولت القبض على زامبا وإكراهه على الكلام، ولكنه أفلت قبل أن تتمكن من القبض عليه، فسقطت على كرسيها لفرط ما تولاها من الشواغل بعد تلك المعميات.

وقد كانت أتت إلى هذه الحفلة وهي منقبضة الصدر لوفاة أبيها، ولكن قلبها ملؤه الأمل بالمستقبل.

ثم رأت نفسها أنها ستخرج من الحفلة والهواجس ملء فؤادها، والرعب يفعل في قلبها حتى أوشكت أن تُصاب بالحمى، وخالت أنها حالمة، وأن جميع ما مر بها من تلك الحوادث الهائلة لم يكن سوى أضغاث أحلام.

وكانت تدور في مخيلتها تذكارات ذلك المجرم، وتسمع صوته الرخيم يرن في أذنيها، فينقبض صدرها إشفاقًا لمصابه وحنوًّا على نكبته، ثم يخطر في بالها أحاديث الكونتس أرتوف ورواية زامبا، فتضطرب حواسها وتُصاب بذهول عظيم.

إلا أنه لحسن حظها قدمت إليها في هذه الساعة المركيزة جوزفين قريبتها، بعد أن بحثت عنها في جميع القاعات، وفي جميع أنحاء الحديقة وأروقتها، فلما رأتها سُرَّت سرورًا عظيمًا كأنها قد قنطت من لقائها، وقالت: أين كنت أيتها الحبيبة؟

فأظهرت ابنة الدوق مثل انذهالها، وقالت لها: إنما كنت أبحث عنك.

– وأنا أيضًا لم أدع مكانًا في القصر حتى بحثت فيه، أتعلمين أن الفجر قد انبثق، ونحن لا نزال في المرقص؟

– إذن فلنذهب …

فنظرت إليها المركيزة على نور مصباح قريب، فذُعِرت لمنظرها، وقالت لها: رباه! ماذا أصابك؟ وما علة هذا الاصفرار في وجهك؟

– إني رأيت أحد المدعوين إلى الحفلة بملابس المجرمين.

– وأنا رأيته أيضًا، فإن زيه من أغرب الأزياء، ألعلك خفت منه؟

– لقد خفت خوفًا شديدًا؛ لأني لقيته في الحديقة وكنت أتنزه فيها وحدي.

وقد تخلصت ابنة الدوق بهذه الكذبة من إلحاح قريبتها بالسؤال.

وكانت مركبتهما تنتظر على الباب، فودعتا رئيس المجلس البلدي، وخرجتا إلى المركبة، فذهبت بهما إلى القصر الذي تقيم فيه ابنة الدوق، وأمها خارج المدينة على شاطئ البحر، فلما بلغتا إليه ودعت ابنة الدوق قريبتها، ودخلت إلى المنزل أما المركيزة فإنها عادت بالمركبة إلى منزلها في داخل المدينة.

فلما دخلت ابنة الدوق إلى غرفتها رأت خادمتها تنتظرها فيها، فأعطتها غلافًا فيه كثير من الأوراق.

فتعجبت الفتاة، وقالت: من أين هذا الغلاف؟

– لا أعرف يا سيدتي الذي أحضرها، ولكنها لك.

– الذي أحضرها لي؟!

– في الساعة التي ذهبت فيها سيدتي إلى الحفلة الراقصة، فقد أحضرها رجل يظهر من ملابسه أنه من الخدم، فقال لي: يجب أن تقرأ سيدتك هذه الأوراق حين رجوعها، وقد سألته عن مرسلها فلم يجبني وانصرف.

قالت: دعيني الآن وحدي.

ثم دنت من المصباح ونظرت إلى الغلاف، فقرأت عليه بحَيْرة كبيرة: «تاريخ الكونت إرمان دي كركاز وأخيه السير فيليام، وتلميذ هذا الأخير روكامبول.»

فقالت في نفسها: ما عسى أن يكون هذا التاريخ؟ ومن هو السير فيليام وروكامبول؟ فإني ما سمعت بهذين الاسمين، أما الكونت دي كركاز فلم أره إلا مرة واحدة؛ فأية علاقة لي بهذا التاريخ؟! وما هذه الغرائب التي تتوارد أمامي من أول هذا الليل؟!

ثم فتحت الغلاف فرأت فيه دفترًا ضخمًا، ورأت ورقة منفصلة عنه مكتوبًا فيها ما يأتي:

عندما يقع هذا الدفتر بيد المدموازيل سالاندريرا تكون قد عادت من المرقص، الذي لا بد أن تكون وقفت فيه على كثير من الغرائب، ومرسل هذا الدفتر يلتمس منها أن تقرأ جميع صفحاته لخطارتها؛ ولتعلقها بمصلحة مقدسة.

فقالت في نفسها: لنرَ ما في هذا الدفتر!

وكانت تحسب أنها ستقرأ فيه حكايه ذلك المجرم الذي رأته في المرقص، ففتحته وجعلت تقرأ ما فيه بإمعان شديد.

وكان هذا الدفتر قد كتبته بجملته يد باكارا، وهو يتضمن خلاصة تلك القصة التي عرفها القراء منذ قتل والد إرمان الكونت دي كركاز إلى ذكر العقاب الهائل، الذي عاقبت به باكارا أندريا على السفينة فويلر.

على أن باكارا لم تُشِر أقل إشارة إلى عودة روكامبول، وقد اختفت آثاره في الدفتر حين سفره إلى إنكلترا.

ولبثت ابنة الدوق تقرأ حتى الساعة العاشرة من الصباح، وهي تغلب النعاس منتصرة عليه بوقائع الرواية الهائلة، فما تركت الدفتر إلا بعد أن أتت على آخره، وقرأت آخر كلمة منه.

فلما فرغت منه وهي لم تكن تعرف بين جميع أشخاص هذه الرواية غير الكونتس أرتوف تولاها الانذهال، وجعلت تقول في نفسها: أية علاقة لي بهذه الحكاية؟! ولماذا أرسلتها لي الكونتس؟! إذ لا شك أنها هي التي أرسلتها.

ولم يكن يخطر في بال هذه الفتاة العذراء أن ذاك المركيز الجليل دي شمري، التي تدلهت في حبه وأصبحت خطيبته، كان ذلك اللص السفاك الذي نشأ في خمارة مدام فيبار؛ إذ لا يخطر لأحد سواها أن روكامبول والمركيز دي شمري واحد.

ثم إنها لم تجد في تلك الحكاية أقل أثر لذلك المجرم، الذي لقيته في المرقص، فحارت في أمر هذا الدفتر وضاق صدرها لهذه الغوامض، وانكمشت نفسها لكثرة ما قرأت من الجرائم الهائلة، فخرجت من غرفتها إلى الرواق المطل على البحر؛ كي تجلي عن نفسها بمناظره الفسيحة صدأ هذه الهموم واستندت على رخام الرواق، وجعلت تسرح أنظارها في تلك المياه الزرقاء.

فكانت مياهه ساكنة هادئة والنسيم بليلًا يداعب هذه المياه، فيعقد فوقها زردًا ينعش منظره الصدور، والجبال مشرفة عليه تكتنفه من يمينه وشماله مفروشة ببسط العشب الخضراء، والشمس تتوهج وتتوقد فوق المياه فترقص أشعتها الذهبية لهيمنة النسيم.

وكان فؤاد ابنة الدوق قد ارتاح لهذه المناظر البهية، فنسيت حديث الدفتر ورجعت بتصورها إلى الماضي، فانصرفت بأفكارها إلى من تحبه، وجعلت تعد على أصابعها الأيام التي مضت على إرسالها إليه كتابها الأخير، وتقول: لا بد أن يكون وصل كتابي إليه يوم الثلاثاء، ونحن الآن في يوم الجمعة فإذا أجابني عليه حين وصوله فلا بد أن يرد إلي اليوم كتابه العزيز.

وكانت تناجي نفسها بهذه الأماني وهي تسرح نظرها في عرض البحر المحيط، وتتبع بأبصارها سفينة شراعية كانت تجول، وتحاول الدنو من الشاطئ.

وكانت السفينة جميلة الرواء سريعة الحركات تجري في تلك المياه بخفة الأسماك، فراقها منظرها ودخلت إلى غرفتها، فأحضرت منها نظارة مكبرة وعادت إلى الرواق، فما أوشكت أن توجهها إلى السفينة، وتضعها على عينيها حتى ذُعِرت وأُصِيبت باضطراب شديد.

ذلك أن هذه السفينة كانت لقومندان الميناء، وأن ابنة الدوق رأت بنظارتها البحارة، فعلمت من ثيابهم الحمراء أنهم من المجرمين.

وكانت السفينة تدخل إلى الشاطئ مسرعة، والشاطئ يبعد عن مدخل القصر الذي كانت فيه ابنة الدوق ٣٠ ذراعًا.

وكان المنظار لا يزال بيد ابنة الدوق، فلما رأت أن السفينة تدنو اضطرب قلبها؛ لأنها رأت جميع من كان في السفينة، فلم تعرف منهم غير اثنين وهما قومندان الميناء وهو، أي: ذاك المجرم الذي رأته في المرقص، فحاولت أن ترجع إلى غرفتها، غير أن قوة عظيمة تغلبت على إرادتها، فلبثت في موضعها طائعة مكرهة.

ولم تعد في حاجة إلى المنظار، فإن السفينة اقتربت منها حتى باتت تميز أشخاصها بالنظر المجرد، ورأت أن ذلك المجرم كان يتولى قيادة السفينة، ورأت أنه قد رفع نظره إليها وابتسم فزاد اضطرابها، ولم تعد تعلم ماذا تصنع لا سيما بعد أن رأت القومندان يسلم عليها بالإشارة، وأن السفينة قادمة إلى موقفها خاصة كأنما القومندان يريد زيارتها.

ثم طُوِيت قلوعها وجعل بحارتها يجدفون حتى بلغوا بها إلى الشاطئ، فنزل القومندان وحيى ابنة الدوق بالإشارة ثم صعد إليها، فلبثت في موقفها تنظر إلى السفينة وإلى ذلك المجرم فيها، غير أنه كان مطأطأ الرأس كأنه يخشى أن ينظر إليها.

وأقام القومندان معها هنيهة يتحادثان عن المرقص، ثم عاد إلى سفينته فأقلعت به، غير أن ابنة الدوق لبثت في مكانها تنظر إلى ذلك المجرم، وهي تشعر بعاطفة سرية تجذبها إليه.

وعند ذلك دخلت خادمة غرفتها إليها وأعطتها كتابًا قائلة لها: إنه من فرنسا.

فصاحت ابنة الدوق صيحة فرح، ونسيت ذلك المجرم ثم فضت ختام الكتاب مسرعة وهي عالمة أنه من روكامبول.

١٦

ولندع الآن قاديس عائدين إلى روكامبول، حيث تركناه وقد فتك بذلك الشيخ المنكود دون أن يعلم بجريمته غير الله.

فإن سكان الأورانجري رأوا ذلك الشيخ ميتًا في غرفته، فحكوا أنه مات فجائيًّا ودفنوه آسفين عليه، وبعد ذلك بأسبوع سافر قاتله المركيز فردريك ألبرت أونوريه دي شمري إلى باريس.

وقد نهض يومًا مبكرًا فجلس على كرسي أمام نافذة تشرف على حديقة القصر، وجعل يسرح نظره في مناظرها الجميلة غير أن علائم القلق الشديد كانت بادية في وجهه، ثم وضع رأسه بين يديه كأن هذه المناظر الخضراء لم ترقه، وجعل يناجي نفسه فيقول: إنهم سرقوا الصورة وتركوا لي رقعة زيارة طُبِع عليها اسم كنت أُسمَّى به من قبل في عهد أندريا وإرمان، وقال الخادم: إن الشاب الذي سرق الصورة كان امرأة متنكرة بزي الغلمان، ومن عسى تكون هذه المرأة غير باكارا، وما هذه المعميات؟ ألعلها واقفة على أسراري؟

إنها ما عرفتني إلا باسم المركيز دي شمري، فهل رأتني غير مرة بزي آخر فعلمت أني روكامبول؟ وأين ذلك ومتى؟ فإنها لم ترني غير مرة واحدة، وذلك في منزلها، وأذكر أنها نظرت إلي عرضًا نظرة لم تظهر فيها شيئًا من الاهتمام، وهي لو كانت عرفتني فيها لعلمت ذلك من اضطرابها أو انذهالها، ولكنها لم يبدُ منها شيء؛ لأني كنت محدقًا بها أراقبها أشد مراقبة، فأين إذن رأتني؟

ثم إننا لو افترضنا أنها عرفتني، وأنها إذا طاردت المركيز دي شمري فهي تطارد روكامبول، فلماذا سرقت صورة المركيز الحقيقي؟ ألعل هذا المركيز في قيد الحياة؟

لما بلغ بتصوره إلى هذا الحد ذُعِر، وجعل قلبه يخفق خفوقًا شديدًا، ثم قال: لم يبقَ لدي ريب أنه إذا كان المركيز حيًّا، فقد قُضِي علي قضاء مبرمًا وبت من الهالكين، وخير ما ينبغي إجراؤه في هذا الموقف الحرج أن أسرع بمغادرة باريس والسفر إلى إسبانيا، فأتزوج ابنة الدوق.

وإني أرى كل شيء قد جرى في خير المناهج، فإن جميع الذين كانوا واقفين على سري، وهم: فانتير، وأندريا، وزامبا، ومدام فيبار، والشيخ أنطوان. قد هلكوا وانقرضوا، وجميع نبلاء باريس يشهدون عند الاقتضاء بأني هو أنا المركيز الحقيقي ذلك فضلًا عن الأوراق التي تؤكد حجتي.

غير أنه إذا كان المركيز الحقيقي الذي أحسبه ميتًا قد نفض غبار الموت، وإذا كانت باكارا قد اتصلت به، فإن جميع هذه الحسابات ضائعة.

وعند ذلك سمع أن باب غرفته يُطرَق، فقام إلى الباب وفتحه، وكان القادم إليه صهره فابيان، فقال له: يسرني أيها العزيز أن أراك نهضت من الرقاد.

– لماذا؟

– إذ يجب علينا أن نخرج في الحال.

– إلى أين؟

– إلى السفارة الإسبانية، فقد أعددت كل شيء لتغيير تبعتك، ولم يبقَ إلا أن توقِّع على الأوراق التي ستُعرَض عليك.

– لقد عجلت في قضاء هذه المهمة؛ فألف شكر لك.

– ذلك لأني أحب السعادة، ولأنه ينبغي أن تسافر مساء غد إلى إسبانيا.

– سأذهب دون شك، ولكني لا أزال قلقًا على كثرة سعادتي.

– من أي شيء؟

– من الصورة؛ فإن سرقتها لا تزال تقلقني.

– لا أخالفك هذا القلق؛ فإن سرقتها تشغل البال.

– إني أخاف أن تكون إحدى المومسات قد سرقتها، وذهبت بها إلى ابنة الدوق لشأن سافل؛ لأن أمثال هؤلاء النساء يقدمن على كل شيء.

– لا تخشَ شيئًا من ابنة الدوق؛ فإن قلبها قد خُتِم على حبك.

– لا ريب عندي في حبها.

– حتى إنهم لو برهنوا لها غدًا أنك مجرم تستحق السجن، لما رجعت عن حبك.

فضبط روكامبول نفسه عند ذكر السجن، وقال: هذا لا ريب فيه.

وكان روكامبول قد أتم لبس ثيابه عند ذلك، فخرج الاثنان إلى السفارة، ووقَّع روكامبول على جميع الأوراق التي عُرِضت عليه.

وقد لقيا في السفارة ذلك الجنرال الإسباني ابن عم قومندان الميناء في قاديس، وهو ذلك الجنرال الذي قتل الدون جوزيف في منزله في الليلة الراقصة، فسلم روكامبول عليه وعندما أتم التوقيع على الأوراق قال له: إني مسافر إلى إسبانيا فهل أستطيع خدمتك فيها بشيء؟

فابتسم الجنرال ابتسام الحزين، وقال له: إني منفي متطوع لا يريد أن يسمع كلمة عن وطنه، ثم قال له: متى عزمت على السفر يا حضرة المركيز؟

– غدًا مساء.

– وإلى أين تذهب؟

– إلى قاديس.

فابتسم أيضًا وقال لفابيان: إني أعلم السبب في ذهابه، فإنه قد عرف الطريق إلى قلب ابنة الدوق.

– نعم ولكنه يحبها حبًّا شديدًا.

– إذا أردت أيها المركيز أن أعطيك كتابًا إلى ابن عمي قومندان الميناء فعلت بارتياح.

– أقبل كتابك بشكر وغبطة.

– ولا أجد بدًّا أيضًا من أن أحملك كتابًا إليه، فقد كتب لي عن حكاية عجيبة لم أكن لأطلعك عليها لو لم تقل لي إنك ذاهب إلى قاديس.

– ما هي هذه الحكاية العجيبة؟

– إنك خدمت مدة طويلة في الهند، أليس كذلك؟

– مدة طويلة، لا تنقص عن ١٨ عامًا.

– أكان يوجد تحت إمرتك نوتي فرنسي؟

– ربما كان ذلك ولكني لا أتذكر، فقد كان تحت أمري كثيرون من البحارة، ثم تطلع إلى الجنرال تطلع المستطلع، وقال له: ولماذا تسألني هذا السؤال؟

– ستعلم السبب، فاسمع إنه يوجد بحار لم تعلم تبعته بعد، ولكنه يقول: إنه فرنسي، ويبدو أن هذا البحار خدم في الهند بقيادتك؛ لأنه يعلم جميع عاداتك وعلائقك وأخلاقك وذوقك، وكل علائقك مع عائلتك.

فارتعش روكامبول، وقال له: كيف ذلك؟

– إن هذا الرجل قُبِض عليه مع رفقاء له في سفينة قرصان، وحُكِم عليه بالسجن.

– وبعد ذلك؟

– أتعلم كيف تجاسر هذا الرجل أن يدافع عن نفسه؟

– كيف أستطيع أن أعلم؟

فضحك الجنرال الإسباني ضحكًا عاليًا، وقال: إنه ادعى بأنه المركيز دي شمري.

ولو سمع هذه المباغتة من الجنرال غير روكامبول، لكان اصفر لونه واضطربت أعضاؤه؛ لأن حياته موقوفة على هذا المركيز. وقد قيل له فجأة إنه لا يزال حيًّا يُرزَق، ينذره بالفضيحة والسجن، بل بالموت موت المجرمين السفاكين غير أن تلميذ أندريا تمالك نفسه، فلم يبدُ عليه شيء من ملامح اضطرابه الداخلي، بل إنه ابتسم بسكينة طالما أنقذته من أصعب المواقف حين كان رئيسًا للجمعية السرية في عهد أستاذه، وقال بلهجة المتعجب: إن هذا التزوير عظيم، لا يقدم عليه غير الأشداء.

– وأنا من رأيك، فأصغِ إلى تتمة حديثي.

– قل يا سيدي الجنرال، فقد شغلتني هذه الحكاية لغرابتها.

– إن هذا المزور تمكن من إقناع ابن عمي قومندان المرفأ في قاديس على أنه هو المركيز دي شمري.

– لا عجب في ذلك، فإن ابن عمك لا يعرف عائلتي، ولا يعلم أني مقيم في باريس.

– فلما وثق ابن عمي من حكايته الملفقة كتب إليَّ منذ بضعة أشهر يخبرني بحكاية هذا الرجل، ويسألني إرسال التفاصيل عن عائلة دي شمري إلى غير ذلك من هذه الأبحاث.

فقال روكامبول ضاحكًا: وماذا أجبت يا سيدي الجنرال؟

– أجبت ابن عمي أن هذا الذي يدعي أنه المركيز دي شمري كاذب منافق؛ لأن المركيز دي شمري من أصحابي، وكان أمس من المدعوين إلى حفلة راقصة أعددتها في منزلي في باريس.

– ما هذه الغرائب؟! إن جسارة هذا الرجل لم نقرأها حتى في القصص.

– ولكنك ذاهب إلى قاديس فسترى فيها دون شك الرجل.

– ذاك لا ريب فيه، ولقد خطر لي خاطر يا حضرة الجنرال، فاكتب لي كتابًا إلى ابن عمك.

– إني عرضت عليك هذا الكتاب.

– نعم ولكني أحب أن تقدمني إلى ابن عمك باسم غير اسمي الحقيقي.

– لأي قصد؟

– لأني أحب أن أقيم في قاديس ثمانية أيام متنكرًا، بحيث أستطيع أن أرى هذا الرجل كما أريد، وأسمع حكايته العجيبة من فمه.

– ليكن ما تريد، وسأرسل لك في هذا المساء كتابًا بعنوان ابن عمي القومندان بيدرو أوصيه بك خير وصاية، فبأي اسم تريد أن أقدمك إليه؟

– باسم الكونت بولاسكي، وتخبره أني من أعيان بولونيا.

فابتسم الجنرال وأجاب: سأرسل لك الكتاب في المساء.

ثم ودعه وافترقا.

وكان الكونت فابيان يتحادث في ذلك الحين، مع السفير الإسباني، في الطرف الآخر من القاعة، فلم يسمع كلمة واحدة مما دار بين الجنرال الإسباني وروكامبول.

فدنا منه روكامبول، وقال له: هلم بنا الآن إلى دائرة البوليس لنأخذ الجواز.

بعد ذلك ببضع دقائق بينما كان فابيان وروكامبول ذاهبين بمركبتهما إلى دائرة البوليس، مرت بهما مركبة كان فيها صديق لفابيان، فأشار كل منهما إلى مركبته بالوقوف وحيى الثاني.

وكان الرجل يُدعَى سيرفيل، وهو شاب من رجال القضاء درس الحقوق مع فابيان في مدرسة واحدة، وتعين حديثًا قاضيًا للتحقيق.

فقال له فابيان: من أين آتٍ؟

– من منزلي في سانت لويس.

– وإلى أين أنت ذاهب؟

– إلى المجلس.

فابتسم فابيان، وقال له: إنك من حين تعينت قاضيًا للتحقيق لم يعد أحد يراك.

– لا تذكرني بمنصبي أيها الصديق، فإنك تهيج أحزاني.

– لماذا؟ وأي حزن يعتريك من مثل ذاك المنصب الرفيع؟!

– ذلك لأن أول عمل عُهِد إلي التحقيق فيه كان أعقد من ذنب الضب، ولا أزال تائهًا في ظلماته.

– في أي تحقيق؟

– في مقتل مدام فيبار والحادثة التي حصلت في غرفتها.

فارتعش روكامبول ارتعاشًا شديدًا حين سماع القاضي، ولكنهما لم ينتبها إلى اضطرابه؛ لأنه كان داخل المركبة.

فسأله فابيان: إني لم أسمع بهذا القتل، فكيف اتفق؟

– إنها مشكلة من أصعب المشاكل أيها الصديق، فقد وجدوا منذ شهرين في غرفة تلك العجوز المياه قد فاضت في قبو تحت غرفتها، ووجدوا جثتين طافيتين فوق المياه إحداهما جثة العجوز صاحبة الغرفة وهي مخنوقة، والثانية جثة رجل مطعون بخنجر، ولقد تبين أنه من مشاهير المجرمين.

– ما هذه الحادثة الهائلة؟

ثم رأوا رجلًا حيًّا جالسًا في زاوية من الغرفة.

فارتعد روكامبول ارتعادًا عظيمًا؛ لأنه علم الآن أن زامبا لم يمت.

فقال فابيان: إنه كان القاتل دون شك.

– كلا أيها الصديق فقد كان هو أيضًا مجروحًا بظهره وثيابه مبتلة؛ مما يدل على أنه كان في المياه ونجا منها.

– لا بد أن تكون سألته عن هذه الجناية.

– لم أستطع أن أسأله شيئًا؛ لأنه كان مجنونًا.

وهنا تنفس روكامبول الصعداء وبقي له شيء من الأمل.

فقال القاضي: إن ذاك المجنون لم يكن يتكلم غير الإسبانية والبرتغالية، وقد سُلِّم إلى طبيب حاذق يتولى معالجته حتى إذا شُفِي نستطيع أن نعرف الحقيقة.

– من هو هذا الطبيب؟

– إنه الطبيب المشهور صموئيل.

فالتفت فابيان إلى روكامبول، وقال له: إنه طبيبك الخاص.

وبعد ساعة عادا إلى القصر بعد أن أخذ روكامبول جواز السفر إلى إسبانيا، فما صدق روكامبول أن افترق عن صهره فابيان حتى دخل إلى غرفته، وأوصد بابها وارتمى على مقعد وهو يوشك أن يُجَن من اليأس، فقال: إن المركيز الحقيقي في قيد الحياة، وزامبا لم يمت … لقد فقدت كل شيء، وما أنا إلا من الهالكين.

غير أن اليأس لا يتمكن في صدر روكامبول، ولا يلبث أن يحل محله الرجاء، فإنه عندما رأى أن الأخطار تحيط به من كل جانب، وأمعن في موقفه الحرج الشديد، هبت إليه جرأته النادرة فاتقدت عيناه ببارق من الأمل، وزال عن قلبه كل خوف، وقال في نفسه: أنا الغريق، وما خوفي من البلل؟! وسأمثِّل الدور الأخير من الرواية، فإما أن أفقد كل شيء أو أنال كل شيء.

١٧

وفي صباح اليوم التالي خرج روكامبول من منزله ماشيًا على الأقدام، بعد أن أمر خادم غرفته بإعداد مهمات سفره، وبرح شارع فرنيل ذاهبًا إلى شارع سيرنس، حيث جعل فيه منزله السري.

وكان خادم ذلك المنزل لم يره منذ شهرين، غير أن روكامبول قد عوَّده على مثل هذا الغياب، بحيث لم يجسر الخادم أن يسأله كلمة عن غيابه.

فدخل روكامبول إلى تلك الغرفة العجيبة، التي كان يعدها لتغيير سحنته وأزيائه عندما يريد التنكر لغرض من أغراضه الجهنمية، فأخذ من الملابس والبراقع، والمواد الكيماوية ما وقع اختياره منها، وهي مواد يستطيع بها تغيير لون جلده كما يشاء.

ثم وضع جميع هذه الأشياء في صندوق، وأقفله بقفل سري، وحمله بنفسه إلى المكان الذي يقيم فيه البواب، وطلب أن يحضر له حمالًا.

فامتثل البواب وهو مندهش مما يراه، وعاد بعد حين بحمال لقيه في الشارع، فأعطاه روكامبول الصندوق، وأمره أن يتوجه به إلى منزله في شارع فرنيل.

ثم إنه بدلًا من أن يسير في أثر الحمال تركه يسير في شأنه بعد أن دله على منزله، وذهب إلى شارع سانت أونوريه، حيث يقيم الدكتور صموئيل إليوت.

ولم يجد حاجة إلى التنكر في هذه المرة؛ لأنه لم يخطر له في بال أن هذا الطبيب متفق مع باكارا على إهلاكه، ثم إنه وجد حجة معقولة في زيارته لذاك الطبيب، ومعرفة ما حدث لزامبا عنده، وهي أنه مسافر وأنه يريد أن يقابل هذا الطبيب، فيقول له: إني سأبرح باريس في هذا المساء إلى إسبانيا لأتزوج فيها ابنة الدوق سالاندريرا، وسأسافر في اليوم التالي لزواجي إلى البلاد الأميركية، فأنا آتٍ لأودعك قبل هذا السفر الطويل، ولأسألك أن تعطيني كتب توصية إلى أصحابك في تلك البلاد؛ لأنك من أبنائها وقد نشأت فيها.

وقد وجد روكامبول أن هذه الحجة مقبولة، فقال في نفسه: إني لا أبرح منزله حتى أعلم حقيقة شأن زامبا ومبلغ جنونه.

غير أنه دُهِش دهشة عظيمة حين بلغ إلى ذلك المنزل، وأخبره بوابه بسفر الطبيب فسأله: كيف يستطيع طبيب أن يغادر زبائنه على كثرتهم في باريس؟ إن هذا محال!

– ولكنها الحقيقة يا سيدي.

– متى ذهب؟

– منذ ثمانية أيام.

– وإلى أين ذهب؟

– لا أعلم، ولكنك إذا سألت في شارع بيبينيار يخبروك.

فارتعد روكامبول لاسم الشارع الذي تقيم فيه باكارا، وسأله: ألعله يقيم في ذلك الشارع؟

– كلا؛ ولكنه يعالج فيه عظيمًا من عظماء الروسيين أُصِيب بالجنون.

فاستند روكامبول على الباب، وقد كاد يضيع صوابه، ولكنه ضبط نفسه بسرعة، وقال: لقد علمت الآن، فإنه يعالج روسيًّا يُدعَى الكونت أرتوف.

– هو ما تقول يا سيدي، فقد ذكرت اسمه الآن.

فتركه روكامبول وذهب، فلما وصل إلى الشارع تراكمت عليه الهموم، فاشتدت هواجسه ووهنت قواه حتى أوشك أن يسقط.

واتفق مرور مركبة في ذلك الحين، فركب بها وأمر السائق أن يذهب به إلى شارع سيرسنس، فسارت به إلى حيث يريد وهو ضائع الرشد مشتت الحواس.

غير أن مدة يأسه لم تطل، فلم تسر به المركبة مسافة قصيرة حتى ثاب إليه رشده، وتمثلت له تلك الأخطار المحيطة به، فقال في نفسه: لقد أصاب أندريا فيما أنذرني به من أفول نجم سعدي حين يموت.

والآن فإن الكونت أرتوف الذي سقيته ذلك السم فذهب بعقله، يعالجه الطبيب صموئيل الذي سرقت منه ذلك السم، وعلى ذلك فلا بد لهذا الطبيب أن يعلم كيف أُصِيب الكونت بالجنون، ومن يدري فقد يعلم أني أنا الذي سرقت منه السم.

ثم إن الطبيب الذي يعالج زوج باكارا قد يكون علم منها جميع تاريخي، واتفق معها على هلاكي.

وعندما خطر له هذا الخاطر المخيف جمد الدم في عروقه من الرعب، ونادى السائق، فقال له: توجَّه بي إلى منزل الكونت أرتوف في شارع بيبينيار.

وقد خطر له ما يخطر للقانطين في موقف الخطر الأكيد، فقال في نفسه: سأذهب إلى باكارا فأقرأ ما في نفسها من عينيها، وأعلم كيف يجب أن أنهج في القتال، وأتخذ حجة في ذهابي إليها، إني آتٍ من قبل صهري صديق الكونت أرتوف للسؤال عن صحة زوجها والاطمئنان عنه.

وعند ذلك دخلت المركبة إلى ساحة منزل الكونت أرتوف، فحكم روكامبول لأول وهلة أن أصحابه غائبون عنه؛ لأنه رأى النوافذ في الدور الأول مقفلة جميعها.

ولما وقفت المركبة نزل منها روكامبول وتقدم إلى الباب، فدنا منه البواب وقال له: بماذا يأمر مولاي؟

– إني أرى النوافذ مقفلة، فهل أسيادك غائبون عن المنزل؟

– نعم يا سيدي.

– متى برحوه؟

فبدت ملامح التردد على البواب، غير أن روكامبول تكلف من هيئة النبل جهد ما استطاع، وقال له: إني أدعى البارون دي كيروف وأنا ضابط روسي أتيت من بطرسبرج إلى باريس لأرى فيها خالي الكونت أرتوف.

فوقف البواب موقف الاحترام حين علم أنه قريب مولاه، وأجاب: إذن فإن سيدي يعلم المصيبة التي فاجأت سيدي الكونت.

– نعم علمت أنه أُصِيب في عقله، ولكنهم يرجون له الشفاء العاجل، كذلك فقد كتبت لي الكونتس أن الذي يتولى علاجه هو الدكتور صموئيل إليوت.

– نعم يا سيدي وهو من أشهر الأطباء.

– وأسيادك غائبون كما تقول؟

– إن سيدتي أمرتني بالكتمان، ولكني لا أظنها تريد كتمان هذا الأمر عنك.

– ذلك لا ريب فيه، وهي تعلم أني آتٍ خاصة من بطرسبرج لأراهم.

– إن سيدي الكونت مقيم الآن في أرض له في فونتيناي.

– مع الطبيب صموئيل؟

– كلا، بل صحبه أحد تلامذة هذا الطبيب الذي عُهِد إليه العناية به مدة غيابه.

– إذن، فإن الطبيب غائب؟

– نعم يا سيدي فقد سافر مع الكونتس منذ ١٠ أيام.

– إلى أين ذهبا؟

– لا أعلم وليس من يعلم وجهتهما، فإنهما لم يخبرا أحدًا.

– سأعلم ذلك في فونتيناي.

ثم ترك البواب وركب مركبته وانصرف.

ولم يذهب روكامبول إلى فونتيناي — كما قال — فإن ما قاله له البواب، وهو أن الطبيب سافر مع باكارا منذ عشرة أيام قد أرشده إلى معرفة شيء من هذه الحقيقة الهائلة، وذكره بما قال له خادمه في الأورنجراي، وهو أن الفتى الذي اتُّهِم بسرقة الصورة لم يكن غلامًا، بل كان امرأة متنكرة بزي الغلمان، ثم إنه كان يصحبه رجل بصفة مؤدب، ذكر له من أوصافه ما ينطبق على أوصاف الطبيب صموئيل، وخادم تشبه أوصافه أوصاف زامبا، فلما انتهى روكامبول بذكراه إلى هذا الحد قال في نفسه: لم يبقَ ريب الآن أن الدكتور صموئيل وزامبا كانا يصحبان باكارا، وأنهم قد اشتركوا في سرقة الصورة …

وبعد حين وصلت المركبة به إلى منزله في شارع فرنيل، فدخل إلى غرفته وكتب إلى خطيبته ابنة الدوق الكتاب الآتي:

خطيبتي العزيزة …

لم أرَ ولم أقرأ غير شيء واحد في كتابك، وهو أن ساعة السعادة قد دنت، ولست أبالي بالدوقية، ولا يسرني أن أكون من عظماء الإسبان، وسفيرًا لإسبانيا إذ لا مطمع لي بسواك، وإذ كنت لا أستطيع أن أنالك إلا بعد نيل هذه الألقاب، فأنا أقبلها امتثالًا لك.

توسعي في لومي أيتها الحبيبة كما تشائين، فإن كتابك إليَّ وصل باريس منذ خمسة أيام، ولكني لم أفتحه إلا في صباح اليوم وإليك بيان السبب: إني كنت غائبًا عن باريس، فقد ذهبت مع صهري فابيان لزيارة أرض لنا في التورين لإقامة عشرة أيام في قصر الأورانجري، والعودة إلى باريس، وقد فاتني أن آمر بإرسال رسائلي إلى الأورانجري.

فأقمنا في ذلك القصر ثمانية أيام بين اضطرابات شديدة؛ وذلك أننا حين وصولنا وجدنا خدام القصر مضطربين مسلحين تأهبًا للطوارئ، وعلمنا أن وكيل القصر قد سافر مسرعًا إلى المدينة المجاورة.

وذلك لأن القصر قد سُرِق، ولكنها سرقة غريبة لا تخطر في بال، والحكاية أن مركبة بريد سقطت في حفرة قرب باب بستان القصر فكُسِر دولابها، وكان فيها شاب طلب الضيافة إلى أن يتم إصلاح مركبته، فأضافه الخدم لقوله إنه من أصحابي، وفي الصباح أصلحت مركبته فسافر، ولكن أتعلمين ماذا سرق؟

إن ذلك لا يخطر لي في بال، فإنه سرق صورة تمثلني حين كان لي من العمر تسعة أعوام، وكانت هذه الصورة معلقة في جوار القاعة الكبرى.

أما السبب في سرقة هذه الصورة، فلم أقف عليه إلا حين عودتي إلى باريس، ويمكنك أن تعرفيه بالتلميح عنه، والرجوع إلى حياتي السابقة في زمن لم أكن أحلم فيه بسعادتي المستقبلة، أيام كان يدفعني غرور الصبا وخلو الفؤاد من الحب الطاهر الشريف إلى الاندفاع في حلبة الملاهي.

وما زلت على هذا الطيش إلى أن لقيتك في غابات بولونيا، فعلمت كيف يكون الحب الصحيح، ولكني كنت قد غادرت امرأة شقراء، وتخلفت عنها دون أن تتخلف عني.

وقد سألتني هذه المرأة أن أهبها تذكارًا مني، فكنت أرفض طلبها، إلى أن أعياها الأمر فسرقت رسمي كما علمت الآن.

وفي هذا المقام ألتمس منك العذر أيتها الحبيبة لجسارتي لهذا الإقرار، ولكني لم أجد بدًّا منه إذ يجب أن أحذرك؛ كي لا تستطيع تلك المرأة أن تتخذ تلك الصورة سلاحًا تحاربني به أمامك، فإني أحبك ولا أريد أن يدخل إلى قلبك شيء من الشك بصدق حبي.

والآن فاسمعي ما جرته هذه السرقة من المصائب، فإن وكيلي في قصر الأورانجري، وهو شيخ عجوز كان يخلص لي أشد الإخلاص هالته سرقة الصورة، وأثرت عليه تأثيرًا عظيمًا، فمات — رحمه الله — موتًا فجائيًّا، فأسفت لموته أسفًا شديدًا؛ لأنه مات بسببي، وبقيت مع صهري في القصر إلى أن شُيِّعت الجنازة، ووُرِي هذا الخادم الأمين في التراب.

هذه هي الأسباب التي منعتني أيتها الحبيبة عن الاطلاع على كتابك قبل صباح اليوم.

ولمثل تلك الأسباب سيطول زمن سفري إلى أربعة أو خمسة أيام، إلى أن أتمكن من الحصول على جوازات السفر، والتجنس بالجنسية الإسبانية، وإنهاء جميع شئوني الخاصة، وفي كل حال فسأكون بعد ثمانية أيام جاثيًا على قدميك.

محبك
ألبرت

وكان يرمي بهذا الكتاب إلى غرضين، أحدهما أن يهيئ ابنة الدوق لما ستجريه باكارا بشأن الصورة فيضعف تأثيرها، والثاني أن تمكنه من السفر إلى قاديس، والإقامة فيها متنكرًا أربعة أو خمسة أيام؛ لأن ابنة الدوق لا تنتظر قدومه بعد ذلك الكتاب إلا بعد ثمانية أيام على الأقل.

وقد قال في نفسه: إني قد قتلت الدوق دي مايلي، والدون جوزيف، وأندريا، وجميع الذين كان وجودهم مثقلًا عليَّ، ولكني إذا لم أقتل السجين في سجن قاديس، فلا أكون قد فعلت شيئًا وأغدو من الهالكين.

ثم إنه لما شعر بحرج موقفه وما يحيط به من الأخطار هبت إليه قوة عظيمة، ورجعت له جرأته النادرة، وإقدامه الغريب وفظاعته الوحشية، وتلك السكينة الفطرية فيه الدالة على مبلغ قوته.

وقضى بقية ذلك اليوم بين صهره فابيان وأخته بلانش إلى أن حان موعد السفر، فركب المركبة وشيعه إليها صهره النبيل، فصافحه مصافحة الإخوان وتلك المرأة الطاهرة، فقبلته قبلة صادقة وهي تحسبه أخاها فقبلها روكامبول، وقد أحس بدموعها تنفجر على خده فتأثر لحنوها، وقال في نفسه: لا شك أني خُلِقت لأكون نبيلًا؛ إذ لا أجد أشهى إليَّ من العواطف الصادقة.

ولكنه ما لبث أن اندفعت به المركبة، وبعد عن ذلك الموقف حتى ابتسم تلك الابتسامة الجهنمية، التي تعلمها من أستاذه القديم وقال: لقد سرت في طريق القتال، فإما الفوز وإما الموت، وإما أن أكون دوقًا إسبانيًّا أو أُزَج في ظلمات سجن قاديس.

١٨

في اليوم التالي لتلك الحفلة الراقصة، التي أحياها المجلس البلدي، وجرت فيها تلك الحوادث التي يعلمها القراء كانت مركبة بريد يجرها أربعة بغال، تدخل في الساعة الثامنة من المساء إلى ساحة فندق السحرة.

وهو الفندق الذي يقيم فيه فرناند روشي وزوجته.

ولم يكن في هذه المركبة سوى سيد واحد عليه مظاهر النبلاء، وبين يديه أربعة من الخدم كانوا في المركبة بين جالس أمامه، وبين جالس في مؤخر المركبة، وبين جالس بجانب السائق.

فنزل هذا السيد من المركبة، وأسرع إليه الخدم، فجعلوا يمشون أمامه إلى الفندق بين صفوف مستخدميه، الذين كانوا واقفين بملء الاحترام؛ لما رأوه من ملامح ضيفهم الدالة على العظمة.

وهو رجل يظهر من وجهه أنه في الخمسين من سنه، ربعة القوام، هزيل، أصفر الوجه، مجعد الجبين، وكان لابسًا ثوبًا طويلًا فوق ثيابه مبطنًا بالفرو الأشقر، وله لحية شقراء تشبه بلونها لون ذلك الفرو.

أما عيناه فكانتا تتقدان، وترسلان أشعة تدل على ما في نفس صاحبهما من الهمة والإقدام.

وكان أحد خدامه يتكلم جميع اللغات الحية خلافًا للثلاثة الآخرين، فإن كلًّا منهم لم يكن يتكلم غير لغة واحدة، ومجموع لغاتهم الثلاث الروسية والبولونية والألمانية؛ ولذلك كان الأول عليهم وقد تشرف بمهمة الترجمة لمولاه؛ لأنه لم يكن يعرف اللغة الإسبانية، فأخبر صاحب الفندق وزوجته أن مولاه عظيم من عظماء بولونيا، يُدعَى البارون ونسلاس بولاسكي، وهو من الأغنياء العظام، فقد زوجته دون أن يلد له منها بنون، وقد فقدها منذ عشرين عامًا، ولكنه لا يزال يندبها وهو يسيح في جميع أنحاء الأرض بغية نسيانها.

فبينما كان صاحب الفندق يسمع حديث هذا الترجمان معجبًا به، كانت زوجته قد سمعت بعضه، فأسرعت إلى ذلك السيد البولوني وذهبت به إلى خير محل في الفندق.

وكان فندق السحرة هذا قائمًا في محل مجاور للميناء، فأعطته صاحبته محلًّا فيه يطل على البحر؛ كي يُسَرَّ بمناظره الجميلة، ثم تركته وانصرفت، وصعد الخدم يحملون إليه أمتعته.

أما البارون فلم يكترث بهم، بل إنه خرج إلى المشرف، وجعل ينظر منه إلى ما حول الفندق نظر الباحث المستطلع.

وكانت أشعة الشفق لا تزال تملأ الكون نورًا، وتصبغ السماء بأنوارها الذهبية، فأشار البارون إلى أحد خدمه، وأمره أن يفتح أحد الصناديق وأخرج منه نظارة مكبرة، وعاد إلى موقفه في المشرف، فجعل ينظر في المنظار إلى ما حوله وهو يعرف قاديس قبل اليوم.

فكان أول ما أصاب نظره بناية ضخمة، فعلم أنها سراي الحكومة، ثم حوَّل منظاره إلى مكان آخر، فرأى بناية أضخم من الأولى جدرانها مائلة إلى السواد، فاستلفتت أنظاره وتأملها طويلًا، وقد كانت هذه البناية دار السجن.

ثم أدار منظاره إلى الجهة اليمنى كأنما منظر السجن قد أُثقِل عليه، فرأى قصرًا جميلًا مبنيًّا فوق قمة على شاطئ البحر المتوسط يحيط به بستان كبير، مزروع بأشجار الليمون والرمان، فاستوقف منظر هذا القصر الجميل انتباهه، ففحصه فحصًا مليًّا، ثم نظر إلى ترجمانه وكلمه باللغة الإنكليزية.

فخرج ترجمانه وعاد بعد حين وجيز مع صاحب الفندق، فقال الترجمان: إن مولاي البارون يريد أن يعرف صاحب هذا القصر الجميل، المبني فوق هذه القمة على شاطئ البحر، فأجابه صاحب الفندق: إنه لأسقف غرناطة غير أن الأسقف لا يقيم فيه الآن، فقد تخلى عنه للدوقة سالاندريرا وابنتها، وهما تقيمان فيه الآن.

انحنى البارون احترامًا لهما، وكان هذا جميع ما يريد أن يعرفه، ثم أخذ من جيبه محفظة، فأخرج منها رقعة زيارة عليها اسمه وتاج البارونية، فكتب عليها بقلم من الرصاص اسم الفندق النازل فيه، وبعد ذلك أخرج من جيب آخر محفظة كبرى، ففتحها بحيث ظهرت فيها الأوراق المالية مكدسة، ثم أخرج منها كتابًا كان عليه عنوان السنيور بادرو قومندان الميناء في قاديس، فوضع الكتاب ورقعة الزيارة على الطاولة، وأشار لصاحب الفندق بيده إليها.

فأخبره الترجمان أن مولاه يريد إيصال هذا الكتاب إلى قومندان الموقع، فإنه مرسل من ابن عمه الجنرال، وهذه الرقعة من البارون.

فانحنى صاحب الفندق بملء الاحترام، ثم أخذ الرقعة والكتاب ومضى.

وعند ذلك أشعل البارون سيجارًا، وجعل يتفقد الفندق وصعد يطوف في رواقاته بحجة الرياضة، والتنزة إلى أن يتهيأ طعام العشاء.

وفيما هو يجتاز رواقًا قرب غرفته رأى امرأة تتأبط ذراع رجل، فأجفل لمنظرهما، ولكنه لم يستطع أن يتحقق أمرهما لعدم وجود نور في ذلك الرواق، أما الرجل والمرأة فإنهما استمرا في سيرهما دون أن ينتبها إلى هذا البارون البولوني.

فنزل البارون من الباب الخارجي، وبعد نصف ساعة صعد إلى غرفته، وتناول طعام العشاء فيها وأكل بشهية فائقة.

ولما فرغ من الطعام دخل إليه صاحب الفندق يحمل بيده دفترًا ضخمًا، وهو سجل يقيد فيه أسماء النازلين في فندقه، فيكتب كل مسافر فيه اسمه بخطه، ويذكر تحت اسمه نوع أعماله وتبعته والبلد التي جاء منها.

فنظر البارون إلى هذا الدفتر بيد صاحب الفندق، وظهر عليه أنه لم يفهم المراد منه، فوضع صاحب الفندق الدفتر على الطاولة، وقال للترجمان بعض كلمات ترجمها للبارون، فهز رأسه إشارة إلى المصادقة، وأخذ الدفتر فجعل يقلب صفحاته ويقرأ الأسماء المكتوبة فيه منتظرًا أن يأتيه صاحب الفندق بأدوات الكتابة.

وفيما هو يقلب الصفحات إذ قرأ اسمًا ارتجف له، وذكر في الحال الرجل والمرأة اللذين رآهما في الرواق قبل العشاء؛ لأن هذا الرجل البولوني كان يعرفهما كما يظهر، أما الاسم الذي قرأه فهو فرناند روشي من باريس.

وكان هذا الشريف البولوني قد اضطرب اضطرابًا شديدًا حين قرأ هذا الاسم، غير أنه تمالك نفسه فلم يظهر عليه شيء من ملامح اضطرابه الداخلي، وكتب اسمه في السجل بأتم البرود والسكينة.

وبعد ذلك خرج الجميع فلم يبقَ في الغرفة غير هذا الشريف البولوني، فجلس على كرسي طويل، وجعل يناجي نفسه بهذا الحديث ويقول: أي روكامبول إنك في موقف شديد، فإما أن تكون بلغت منك البساطة حد البلاهة، أو أنه يجب أن تعلم أمورًا كثيرة من وجود فرناند وامرأته في قاديس، فإنهم لا بد أن يكون لهما علاقة بالدون بادرو قومندان الموقع، ولا بد لهذا القومندان أن يكون أخبرهما بأمر السجين الذي يدعي أنه المركيز دي شمري الحقيقي، ولا بد أيضًا أن يكونا قد كتبا إلى باريس، وأرجح أنهما كتبا إلى الكونتس أرتوف، فإذا لم تكن باكارا في قاديس، فهي ستحضر إليها دون شك.

وفيما كان البولوني يناجي نفسه بهذه الأحاديث؛ إذ سمع أنهم يطرقون باب غرفته بلطف فأذن للطارق بالدخول.

وكان روكامبول عند ذلك جالسًا على كرسي طويل وراء الطاولة، التي أكل عليها وفوقها المصباح، بحيث إن الداخل عليه لا يرى وجهه من الباب لعدم وقوع نور المصباح على وجهه خلافًا للداخل، فإن وجهه يكون معرضًا لهذه الأشعة، بحيث إذا التفت روكامبول يراه.

فدخل الترجمان وكان هو الطارق، فقال: إن خادم غرفة قومندان الميناء في الباب.

وكان هذا القومندان قد تلقى كتاب روكامبول، فأسرع إلى إجابته أنه ينتظر زيارته في الغد، وعهد بإرسال الجواب إلى رجل أدخلته باكارا في خدمته في الليلة التالية لتلك الحفلة الراقصة.

فلما أخبر الترجمان روكامبول أن الخادم واقف بالباب التفت إليه، ثم حول وجهه عنه بسرعة وقد ذُعِر ذعرًا شديدًا؛ لأنه علم أن هذا الخادم كان زامبا.

ومن غريب الاتفاق، أن اللباس الذي كان متنكرًا به روكامبول في قاديس، كان نفس اللباس الذي كان يتنكر به حين كان يقابل زامبا في باريس.

ولكن لحسن حظه لم يرَ زامبا وجهه؛ لأنه كان في الظل كما قدمنا، أما روكامبول فإنه أشار في الحال إشارة خفية للترجمان فخرج، وبعد خروجه دخل زامبا فأخذ منه الكتاب دون اكتراث، وهو واضع منديله على وجهه كي يستره ووضعه على الطاولة، ثم رجع خطوتين إلى الوراء، ودخل إلى غرفة صغيرة كانت ضمن الغرفة الكبيرة، وبعد أن لبث فيها برهة قصيرة خرج منها وعرض وجهه للنور أمام زامبا، فتراجع منذعرًا إلى الوراء وقد عرف أنه الرجل الذي كان يستعبده في باريس.

وكان روكامبول يحمل بيده مسدسًا، فصوبه إلى قلب زامبا ووضع أصبعه على شفتيه إشارة إلى الصمت، وقال له باللغة الفرنسية الفصحى وليس باللغة الإنكليزية كما كان يكلمه من قبل: يظهر أننا صديقان من عهد بعيد.

فاضطرب زامبا من المسدس، وقال: نعم فقد عرفتك من عهد بعيد …

– إذن فأصغِ إليَّ واجلس أمامي لنتحدث؛ إذ لدينا كثير من المهمات التي يجب النظر فيها …

فجعل زامبا يرتجف ارتجافًا شديدًا حتى كاد يقع، وقال له: ليكن ما تريد.

– اجلس وسكن روعك فإني أراك ترتعش ارتعاش النساء، ثم شفع قوله بضحكة عالية، وأسرع إلى الباب فأقفله من الداخل وعاد إلى زامبا، وجلس أمامه فجعل يضحك ويلعب بالمسدس وهو يصوبه إليه.

١٩

لقد تركنا ابنة الدوق سالاندريرا تفض أختام الكتاب الذي ورد إليها من باريس، وقد عرفته للحال من خطه أنه من خطيبها.

ومثل هذا الكتاب يرد إليها من خطيب تهواه يشغلها بالطبع عن سواه، ويطرد من مخيلتها تلك المؤثرات التي شغلتها في الحفلة الراقصة ولو إلى حين، فقرأت الكتاب وأعادت تلاوته ثلاث مرات، فكان المركيز دي شمري يتمثل لها في خلال السطور.

أما الكتاب فهو الذي كتبه روكامبول يوم سفره إلى ابنة الدوق، فأخبرها فيه عن سرقة الصورة بالشكل الذي أراده، ثم أخبرها أنه لا يستطيع مبارحة باريس قبل ثمانية أيام لإعداد مهماته.

ولكنه سافر في اليوم نفسه مع ذلك الكتاب متنكرًا باسم البارون ونسلاس كما علمناه، ونزل في الفندق الذي كان ينزل فيه فرناند روشي وزوجته.

فلما شفت ابنة الدوق غلها من تلاوة كتاب خطيبها دفعته إلى أمها، فقرأته وقالت معجبة: لا أدري كيف يقول: إنه لا يحضر قبل ثمانية أيام، ألا يعلم أن جلالة الملكة لا تقيم إلى الأبد في قاديس، وأنها قد تبرحها قبل مجيئه وأنه لا بد أن يقدم لها وللملك بصفة رسمية.

فتمتمت الفتاة تقول: ثمانية أيام … إنها دهر طويل فما أصعب الانتظار!

فابتسمت الدوقة، وقالت: إذن أنت تحبينه حبًّا شديدًا يا ابنتي.

فعبق خداها بالاحمرار وأطرقت بنظرها مستحيية، فكان استحياؤها أبلغ جواب.

ثم عادت إلى التأمل بمياه البحر، فكانت فرحة القلب بما كانت ترجوه من قرب حضور المركيز، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الحوادث التي مرت بها في الليلة الراقصة حتى تولاها الانقباض، وبدت على وجهها الجميل ملامح الكآبة والانكماش.

وكانت كلما أرادت طرد هذه الأفكار من مخيلتها بالإفكار بروكامبول، غالبتها تلك الحوادث، وتمثل لها ذلك السجين بمظاهر رجل شريف نكبه القضاء وحاربته الأقدار، فحنت لمصابه ورثت لبلواه إلى أن أعياها أمره، ولم تجد سبيلًا لإبعاده عن تصورها، فقالت في نفسها: هب أن الرجل كان صادقًا فيما يقول، فأي دخل لي في شأنه؟ أليس من الحمق والشين أن أفتكر به أكثر مما أفتكر بخطيبي، وما هذا السر بحنيني إليه؟

ثم وضعت يدها على جبينها تحاول طرد ذاك الفكر، كأنها لم تتجاسر على إتمامه.

وانقضى النهار، فذكرت ابنة الدوق الموعد الذي اتفقت عليه مع الكونتس أرتوف، فكانت كلما قربت ساعة الموعد يزيد سأمها ويفرغ صبرها، فقد كان يتنازعها عاملان من شوق إلى معرفة تلك المعميات، ومن رعب كان مستوليًا عليها وهي لا تعلم السبب فيه.

غير أنها حملته على ما جاء في رسالة باكارا التي كتبتها إليه في مقدمة الدفتر، من أنها لها دخل في حوادث تلك الرواية الهائلة التي قرأتها، ولكن الذي كان يدهشها أنها لم تكن تعرف أحدًا من الأشخاص الذين ورد ذكرهم فيها.

فصرفت جانبًا من الليل مع أمها إلى أن تركتها الدوقة، ودخلت إلى غرفتها لتنام، فعادت الفتاة إلى موقفها السابق في الرواق المشرف على البحر؛ وذلك لأن باكارا قالت لها في الحفلة: قفي على الرواق عند انتصاف الليل وانتظري.

وكان جميع من في القصر نيامًا، ولم يبقَ للموعد المضروب غير نصف ساعة، فوقفت ابنة الدوق في ذلك الرواق مسندة كوعها إلى الرخام، وجعلت تنتظر وتتأمل ذلك الفضاء الواسع، فلا ترى غير النجوم لاشتداد الظلام، فجزعت وجعلت تعد الدقائق كما تعد الساعات، وتصغي إلى كل حركة تسمعها من البحر؛ لعلمها أن الكونتس ستحضر في سفينة، ولكنها على جزعها وخوفها لم تتمالك عن الافتكار بذلك المجرم السجين.

ثم خُيِّل لها أنها تسمع صوت حركات متشابهة، فعلمت أنها أصوات المجاذيف، وجعل قلبها ينبض نبضًا شديدًا، فأطلت إلى الجهة التي خرج منها الصوت، فشاهدت شبحًا يدنو مسرعًا إلى جهة القصر، فما شكت أنها سفينة الكونتس أرتوف التي تنتظرها على أحر من الجمر.

ووصلت السفينة إلى الشاطئ، فخرج أحد بحارتها فربطها بحبل إلى حلقة من الحديد في الشاطئ، ثم خرجت امرأة من السفينة، وصعدت سلم الرواق الذي كانت تقيم فيه ابنة الدوق، فتراجعت الفتاة إلى آخر الرواق كأنها خشيت أن تستقبل تلك الزائرة.

فأسرعت إليها باكارا، وقالت لها بعد التحية: ألعلك وحدك؟

– نعم فإن أمي قد نامت.

– وأنا أيضًا قد أتيت وحدي.

فارتعشت ابنة الدوق، وسألت: من الرجل الباقي في السفينة؟

– بحري من بحارة الميناء.

فبدت على ابنة الدوق ملامح الاكتئاب، كأنها كانت تتوقع أن يكون هذا الرجل المجرم الذي لم يكن يبرح من بالها، فأخذت باكارا بيدها وقالت لها: إني كنت عازمة على إحضار زامبا معي.

– ألعلك تعرفينه؟

– كيف لا أعرفه، وقد اتفقت وإياه على أن يأتي إلي الليلة؟ ولكني انتظرته إلى الساعة الحادية عشرة فلم يأتِ، فاضطررت إلى الحضور وحدي.

– ألعلك كنت محتاجة إلى زامبا؟

– نعم وذلك؛ لأنه يعرف كثيرًا من الأمور التي يهمك شأنها، وهو يستطيع أن ينقلها إليك أحسن مما أنقلها أنا.

فارتعشت الفتاة وأجابت: ألعلك تريدين مباحثتي أيضًا بشأن الدوق دي مايلي؟

– ربما.

– أتأذنين لي يا سيدتي بكلمة؟

– تفضلي.

– يظهر أن الدوق دي مايلي قد مات مسمومًا، وأنا مشفقة عليه غاية الإشفاق، غير أني لا أراني مضطرة أن أسكب الدموع الغزيرة عليه، بعد أن كاد المكائد في سبيل الحصول على رضى أبي، لتزويجه بي.

– العفو يا سيدتي، فإني ما أردت أن أصحب معي زامبا إليك إلا لجلاء الغامض من هذه المكائد، فإن ذلك الرجل قد خدم الدون جوزيف والدوق دي مايلي، وهو يعرف كل شيء.

فذكرت ابنة الدوق أن الكونتس أرتوف كانت تذكر الدوق دي مايلي بالخير أمام أبيها.

فقالت: إني أعلم يا سيدتي أن الدوق كان من أصحابك، وكنت تحاولين مرات كثيرة أن تبرهني عن فضله أمام المرحوم أبي.

– إني لم أكن أبرهن إلا عن الحقيقة.

– أية حقيقة تعنين يا سيدتي؟

– هي أن الدوق دي مايلي كان من أسرة سالاندريرا.

– إن هذا ما كان يدعيه، وليس هو من الحقيقة في شيء.

– بل هو الحقيقة بعينها، فأصغي إلي يا سيدتي كي أكشف لك النقاب عما تجهلين، إن هذا الكولونيل الروسي الذي هو من أسرة دي مايلي لا يزال حيًّا موجودًا في أودسا، وكان لديه أوراق حقيقية لا ريب فيها تثبت أن الدوق دي مايلي من أسرة سالاندريرا.

– إذا كان ذلك أكيدًا، فلماذا لم يظهر هذه الأوراق؟

– إنه أرسلها إلى قريبة الدوق.

– وهي لم تصل إليه؟

– كلا فإن الرسول الذي كان يحملها قُتِل في غابات فنسان.

– وسُرِقت منه الأوراق، أليس كذلك؟

– نعم يا سيدتي.

– إن لهجتك يا سيدتي تدل على أنك واثقة كل الوثوق من صدق هذه الأقوال، ولكني أؤكد أنهم خدعوك كما خدعوني.

– ومن تظنين أنه خدعني؟

– الدوق دي مايلي.

فهزت باكارا رأسها، وقالت: كلا يا سيدتي بل إنهم خدعوك بشكل هائل، ولا يزالون يخدعونك إلى الآن.

– أتظنين أن الأوراق كانت موجودة؟

– بل أؤكد وهذا لا ريب فيه عندي.

– إذن؛ فكيف اتفق أن الدوق دي مايلي قد خلا بي مرة، واعترف لي ولا أنكر أنه لم يعترف اعترافًا جليًّا، ولكنني علمت منه كل شيء؟!

– ماذا علمت يا سيدتي؟ وبماذا اعترف لك؟

– بأن الأوراق لا أثر لها.

– إني أعلم أن الدوق قد تمتم بعض الكلمات حين اضطررته إلى الإجابة.

– كيف تعرفين ذلك وقد كنت وإياه دون ثالث بيننا؟

– كلا يا سيدتي، فقد كان أبوك في غرفة مجاورة يراكما ويسمع كل ما تقولين.

– غير أن الدوق كان يحسب أنه منفرد بي.

– إنك منخدعة أيضًا يا سيدتي، فقد وصل إليه كتاب منك في ذلك الصباح، وكان في الكتاب أنه سيوجد في خلوتكما من يسمع حديثكما.

– كلا إن هذا محال لا صحة له في شيء.

– إن كتابك لا يزال موجودًا.

– لا صحة لذلك، فإني لم أكتب شيئًا من هذا.

– إن الكتاب عندي فادخلي معي يا سيدتي إلى غرفتك.

– لماذا؟

– كي أريك الكتاب؛ إذ لا يوجد نور في هذا المشرف.

– هلمي بنا يا سيدتي، وأظن أن واحدة منا قد فقدت صوابها.

ثم أخذتها بيدها، وقالت لها: هلمي معي، إنما أرجوك أن تخفضي الصوت ما استطعت؛ كي لا تستيقظ أمي؛ إذ لا أحب أن تعلم شيئًا من هذه الأحاديث.

ودخلت الاثنتان إلى الغرفة، فأنارت ابنة الدوق مصباحًا، وعند ذلك أخرجت باكارا من صدرها ملفًّا من الورق مربوطًا بخيط من الحرير وقالت لها: خذي هذه هي رسائلك إلى الدوق دي مايلي.

– رسائلي إلى الدوق؟! إذن فأنت التي فقدت صوابها يا سيدتي؛ لأني لم أكتب إلى الدوق غير رسالة واحدة في حياتي.

ثم نظرت نظرة الفاحص إلى تلك الرسائل، فما تبينت الخط حتى صاحت مجفلة منذعرة: إن الخط خطي لا سبيل إلى إنكاره، ولكني لم أراسل الدوق.

وقد أصابها في هذه الحادثة نفس ما أصاب باكارا منذ بضعة أشهر حين عرض عليها زوجها الكونت أرتوف تلك الكتابة، التي كانت تشبه خطها أتم الشبه إنها نفسها خُدِعت بها، ولم تجد سبيلًا لإنكاره.

وعند ذلك أسرعت ابنة الدوق إلى فض الرسائل، ودنت من المصباح، فلما تلتها صاحت قائلة: لا شك أني مجنونة أو قد مثل لي حلم رهيب.

– إنك غير حالمة يا سيدتي، بل إنك تسمعين الحقيقة كما هي دون زيادة ولا نقصان.

– إذن، فقد كتبت أنا هذه الرسائل؟

– كلا، ولكنهم قلدوا خطك أتم تقليد.

فوضعت الفتاة يدها على جبينها، وقالت: أوصلت جميع هذه الرسائل إلى الدوق؟

– كلها.

– وكان يظن أنها مني؟

– بل كان واثقًا يا سيدتي، وقد نزل معه هذا الاعتقاد إلى القبر.

– رباه إن هذا تزوير هائل!

– لا أنكر عليك ما تجدينه من فظاعة هذا التزوير، فاقرئي يا سيدتي إلى النهاية.

فامتثلت الفتاة، وجعلت تقرأ تلك الرسائل التي خطتها يد روكامبول، وكان يرسلها بواسطة زامبا إلى الدوق مايلي، كما عرف القراء في رواية الغادة الإسبانية أي: الجزء الثالث من هذه القصة.

فلما توغلت في قراءتها قالت: رباه! ماذا أرى؟! لقد انجلت الغمامة عن عيني وفهمت الآن.

– تقولين: إنك فهمت؟

– نعم؛ فإن الدوق كان يحسب أني أحبه.

– ذلك لا ريب فيه.

– وإنه كان يحسب أنه يوجد عدو له يحول دون زواجنا.

– كان يظن أن ذاك العدو هو أمك، فإنه مات وهو يعتقد أن أمك كانت الحائل الوحيد دون زواجك به.

– ومن كان يحمل إليه تلك الرسائل؟

– زامبا.

– تبًّا له من شقي خائن.

– ولكنه لم يكن غير آلة بيد سواه.

– أليس هو الذي كان يقلد خطي؟

– كلا.

– من عسى أن يكون هذا المزور الجريء؟

– سيقول لك زامبا عن اسمه.

– ولكن زامبا يقول إنه هو الذي سمَّم الدوق.

– هذا أكيد أيضًا، غير أنه لم يكن غير آلة كما قلت لك، ويجب البحث عن الدافع له إلى هذه الجناية الخفية.

فجعل العرق البارد ينصب من جبين ابنة الدوق لما تولاها من الذعر، وقالت: رباه! ما هذه الألغاز ألا تكشفين لي الحجاب عنها؟

– لا أستطيع الآن وسأجلو لك كل شيء فيما بعد، وفي كل حال فلا بد من وجود زامبا؛ لأنه هو وحده يستطيع أن يقول كل شيء.

– أيقول لي اسم الشخص الذي دفعه إلى قتل الدوق دي مايلي؟

– نعم، أما هذا الشخص فهو كهل ذو لحية شقراء وشعر أحمر، وقد كان واقفًا على أسرار زامبا، وهو يستطيع في كل حين أن يرسله إلى المشنقة.

– ألعل زامبا فعل ما فعله خوفًا منه؟

– إنه ارتكب الجريمة لخوفه ولأمله بالمكافأة.

– ألا تقولين لي — على الأقل — السبب الذي قُتِل من أجله الدوق؟

– إن الذي قتله كان يخشى أن يتزوج بك.

– إذن فإن خصمه كان راغبًا بزواجي؟

– هي الحقيقة التي خرجت من فمك.

– احذري يا سيدتي فقد قلت كلمة كبيرة؛ لأنه لا يوجد غير اثنين طلبا الزواج بي.

– أعلم ذلك حق العلم.

– وأن أحد الخطيبين هو الدون جوزيف.

– لقد مات قبل موت الدوق.

– وأن الثاني يُدعَى …

– إني لا أشكو أحدًا.

فقالت الفتاة بكبرياء: إن الثاني يا حضرة الكونتس يُدعَى المركيز دي شمري وكلامك يدل …

– قلت لك يا سيدتي: إني لا أشكو أحدًا، وفوق ذلك فإن المركيز دي شمري لا يزال في عهد الشباب، ولقد قلت لك: إن الشخص الذي دفع زامبا إلى قتل الدوق تجاوز حد الصبى، ثم أخبرتك أن هذا الشخص أشقر اللحية أحمر الشعر، وليس للمركيز شيء من هذه الأوصاف.

فتنهدت ابنة الدوق تنهد المنفرح؛ لأن كلام باكارا الأخير نفى التهمة عن خطيبها المركيز، وقالت لها: غير أني أرى أنه لا يزال يوجد من يحبني حبًّا خفيًّا؟

– ربما.

– ومن هو هذا المحب الخفي؟

– ألم تقرئي الدفتر الذي أرسلته إليك؟

– قرأته كله.

– ولكنك لم تفهمي شيئًا؟

– إن الذي أُشكِل علي فهمه في هذه الحكاية هو أني لم أعلم أية علاقة بيني وبين أشخاصها الذين لا أعرف منهم أحدًا.

– ذلك لأن الحكاية لم تتم بعد.

– ماذا تعنين بذلك؟

– أعني أنها لا تزال في حاجة إلى الخاتمة.

– وأية خاتمة تعنين، فقد قرأت فيها أن السير فيليام شقيق الكونت إرمان دي كركاز قد مات.

– كلا فإنه لم يمت إلا منذ أربعة أشهر.

– مهما يكن من أمره فهو بعيد عن أوروبا.

– إنه عاد إلى باريس منذ عام.

وكانت باكارا قد مثلت أندريا في تلك الحكاية أفظع تمثيل، بحيث لم تتمالك ابنة الدوق عن إظهار رعبها عندما سمعت باكارا تخبرها بعودته، فلما رأت باكارا أنها ذُعِرت أسرعت إلى تطمينها، فقالت لها: لا تخافي؛ فقد مات موتًا حقيقيًّا منذ أربعة أشهر دون أن يُسَر قلبه بنجاح المكيدة الهائلة، التي خطتها قريحته الجهنمية.

– ما هي هذه المكيدة؟

– كان الغرض منها زواجك.

فصاحت الفتاة صيحة رعب منكرة، وقالت: تزويجي أنا … أكان يريد أن يتزوجني.

– كلا، لم يكن يريد أن يجعلك زوجته، بل كان يحاول أن يزوجك تلميذه.

– ومن هو تلميذه هذا؟

– إنه شاب شديد المكر يدعونه روكامبول.

– روكامبول؟ أليس هو هذا اللص الذي كان يحاول إغراء الكونتس دي كركاز؟

– هو بعينه.

– وهذا اللص كان يريد أن يتزوج بي؟

– نعم يا سيدتي.

– رباه! ماذا أسمع؟

– إنه كان يريد أن يتزوج بك، وقد ضمن له أستاذه أندريا الفوز.

فجعلت ابنة الدوق تضطرب، وتقول: ما هذه الجسارة النادرة؟

– ولكن روكامبول كان ناكرًا لجميل أستاذه، فإنه قتل السير فيليام، وخسر بموته كل أمل من الفوز.

ولما اتضح ذلك لابنة الدوق لبثت حينًا واجمة منصعقة بما سمعته من تلك الأخبار الهائلة، وقد ثارت في هذا البدء عاصفة كبريائها حين علمت أن لصًّا سفاكًا مثل روكامبول تجاسر على الطمع بزواجها، ثم تلا هذه العاصفة سكون حزن، وبلاهة يصعب وصفهما، إلى أن ثابت من المؤثرات فنظرت إلى باكارا، وقالت لها بكبرياء: إن جميع ما تقولينه لي يا سيدتي هائل وحشي، ولا شك أني قد أُصِبت بعقلي فسمعت الحديث إلى آخره، بل لا شك أني قد أُصِبت بالبلاهة لما بدا علي من ظواهر تصديق الحديث.

– سيدتي؟

– ولكني أفترض أن ما تقولينه أكيد، وتفترض أيضًا أنه اتفق وجود لص في باريس يُدعَى السير فيليام، وشقي يُدعَى روكامبول، وأن هذين الاثنين قد اتفقا وتجاسرا على تزويجي بأحدهما.

– هذه هي الحقيقة بعينها ولا ريب فيها.

– قلت لك: إني أفترض ومع ذلك فلو سلمت بهذه الحقيقة وأتى روكامبول يخطبني.

– تريدين أن تقولي إنك ترفضينه.

فلم تتنازل ابنة الدوق إلى إجابتها.

أما باكارا فإنها لم تتكدر لكبرياء الفتاة، وما بدا عليها من مظاهر الاستهزاء والاستخفاف، بل قالت لها: لقد سبق وعدك لي يا سيدتي أن تصغي لحديثي إلى النهاية.

– وسأحافظ على هذا الوعد فقولي ما تشائين.

– إنه منذ عهد بعيد يا سيدتي أي: منذ ثلاثين عامًا حين عودة الملكية إلى فرنسا قدم رجل إلى باريس، ودعى نفسه الكونت سانت هيلانة، وقد عينه الملك كولونيلًا في الجيش، ففتحت له قاعات باريس الكبرى أبوابها، وكان الأعيان يستقبلونه بإجلال يوافق مقامه.

فبينما كان ذاك الكولونيل عائدًا يومًا من حفلة استعراض الجيش، وهو في ملابسه الرسمية الباهرة اصطدم كتفه بكتف شحاذ متسول كان واقفًا مع المتفرجين، فمد هذا الشحاذ يده إليه يصافحه، وناداه باسم بسيط خلو من كل لقب أو رتبة، فصده الكولونيل ودفعه باشمئزاز وأنفة، فارتفع صوت الشحاذ، وكثر اللغط وكان بين الاثنين خصام شديد حكم فيه المجلس بعد بضعة أشهر.

– لقد عرفت هذا الحكاية، ولكني لا أجد لها علاقة بما أنا فيه.

– ذلك لأنك لا تعلمين يا سيدتي، أن أندريا قد هذب تلميذه روكامبول أتم تهذيب، وألبسه خير لباس يتمكن من أن يجعله زوجك.

فابتسمت الفتاة وقاطعتها، فقالت: إن من كانت مثلي لا تنخدع بمن يقلد الأعيان تقليدًا وهو ليس منهم.

فأجابتها باكارا بتهكم: أتحسبين يا سيدتي أنك لا تنخدعين؟!

– بل أؤكد، حتى ولو قدموا لي المسيو روكامبول باسم جنرال، فلا أنخذع به.

– ليكن ما تريدين، والآن فاسمحي لي قبل أن أندفع إلى الحد الذي رسمته لنفسي، أن أكلمك عن رجل أظن أنه استلفت بعض انتباهك في الليلة الماضية.

فصبغ الدم وجنتيها، وقالت وهي ترتعش: ألعلك تريدين أن تحدثيني بشأن هذا الشاب الذي كان مرتديًا بملابس المجرمين؟

– هو ما تقولين يا سيدتي.

فزادت دقات قلبها، وقالت: ألعلك تريدين أن تقولي لي أيضًا إن له علاقة بي.

– نعم يا سيدتي.

– كيف ذلك؟

– ذلك أن الكونت سانت هيلانة الذي اختصم مع الشحاذ كان مجرمًا سفاكًا، فقتل الكونت الحقيقي وتسمى باسمه.

– وبعد ذلك؟

– وأن روكامبول تلميذ أندريا قد اقتدى بذلك السفاك؛ كي يكون له مقام في الهيئة يتمكن به من البلوغ إلى العائلات الكبرى.

– ماذا تقولين؟

– أقول إن روكامبول كان يحسب أنه قتل ذلك الرجل الذي رأيتيه أمس في الحفلة الراقصة، وكان بملابس المجرمين، ولكن هذا المسكين لم يمت كما يظن بل احتجب عنه لوجوده في السجن.

– الرجل الذي رأيته أمس؟

– هو بعينه! ألم يقل لك في الليلة الماضية إن العاصفة أغرقت السفينة التي كان فيها، فالتجأ إلى جزيرة صغيرة، وأُغمِي عليه فلم يجد نفسه إلا في سفينة عبيد أسوجية؟

– نعم أخبرني كل هذا.

– ثم إنه أخبرك بكل ما جرى له بعد ذلك، ولكنه لم يقل لك إنه حين نجا وسبح إلى الجزيرة كان يصحبه رجل آخر نجا مثله بالسباحة.

– وماذا فعل به هذا الرجل؟

– تركه ملقى في الحفرة، وهو واثق من أنه سيموت فيها إلى أن أنقذه رجال السفينة الأسوجية.

– وما كان غرض هذا الرجل؟ ولماذا تخلى عنه بالحفرة؟

فهزت باكارا كتفيها، وأجابت: إن الرجل تخلى عنه؛ لأنه كان يُدعَى روكامبول، وقد تركه بعد أن استولى على أوراقه وجوازه وملابسه.

– لقد فهمت الآن أليس أن روكامبول قد تسمى باسم هذا المنكود حين كان يريد أن يخطبني؟

– هو ما تقولين، فإنه لم يتداخل مع العائلات إلا بعد تنكره بهذا الاسم، وقد استولى بهذا التنكر الغريب على جميع ثروة ذلك المسكين، وصار من الأغنياء الشرفاء، حتى إنه بات يؤمل أن يتزوج بك.

– إن ما أسمعه غريب يا سيدتي، فإني عاشرت جميع الأعيان في باريس، وعرفت معظم أسراتها ورأيت كثيرين من شبانها، فلم أجد بينهم من تحمل هيئته وأحاديثه على شيء من الريب.

– تذكري جيدًا يا سيدتي.

– لماذا تريدين أن أجهد نفسي بالتذكر، وأنت تستطيعين بكلمة واحدة إماطة الحجاب، فتذكرين اسم المجرم الذي يُدعَى روكامبول، وقد سرق اسم هذا البحار المنكود وثروته وألقابه؟

وكانت باكارا تكلمها إلى ذلك العهد ببساطة، كمن يقص حكايته في مجلس، ولكنها عندما رأت أن ابنة الدوق تلح عليها بمعرفة الاسم الذي ادعاه روكامبول، ارتسمت على وجهها علائم الجد والكآبة، وقالت: إنك يا سيدتي من أشرف العائلات الإسبانية، وتجول في عروقك أطهر الدماء، فأنت بمقام أسرتك العظيمة تشبهين تلك الشجرة الضخمة، التي تهزها الرياح الشديدة ولكنها لا تقتلعها؛ ولهذا تجاسرت وأتيت إليك، وأنا أعلم بأن الحقيقة سيكون وقعها شديدًا هائلًا عليك، وعزائي بإبلاغك هذا الخطب الشديد أنك ستكونين بعد ملاقاته آمنة من كل طارئ.

فوقفت ابنة الدوق مضطربة مصفرة الوجه، وقالت: أنا مهددة بهذا الخطر؟ رباه! ماذا حدث وما عسى أن يكون أصابني؟

– إني أتيت لإنقاذك أيتها الفتاة المنكودة.

– ماذا أسمع … تكلمي أوضحي ما تقولين، فإني لم أعد أطيق الصبر تكلمي …

فترددت باكارا هنيهة، ثم قالت: إن الرجل الذي رأيتيه بملابس المجرمين في الحفلة الراقصة، هذا الرجل الذي سرقوا اسمه ولقبه، وثروته أتعلمين ماذا يُدعَى؟ إنه يُدعَى المركيز فريدريك ألبرت أنوريه دي شمري، وهو المركيز الحقيقي أما أنت فإنك ما أحببت إلا روكامبول! …

أما ابنة الدوق، فإنها لم تُصِح صيحة ولم تقل كلمة، ولكنها تراجعت خطوتين إلى الوراء، ثم انقلبت على ظهرها مغميًّا عليها.

وعند ذلك فُتِح باب الغرفة، ودخلت منه الدوقة، فلما رأت ابنتها دون حراك وباكارا بجانبها صاحت: أواه! لقد قتلت ابنتي؛ فإني سمعت كل شيء.

٢٠

مر على هذا المشهد المتقدم بضع ثوانٍ كانت المرأتان تخالهما دهرًا، ولكنهما بعد أن جعلت كل واحدة منهما تنظر إلى الأخرى هنيهة، وأسرعتا بعدها إلى الفتاة المنطرحة أمامهما، فحملتاها ووضعتاها على السرير الذي كان في الغرفة.

ثم دنت باكارا من جرس موضوع على المائدة، وحاولت أن تقرعه كي تستدعي الخدم غير أن الدوقة منعتها، وقالت لها: لا تفعلي؛ فلا أحب أن يعلم الخدم شيئًا من هذا.

وأسرعت إلى غرفة، فأحضرت زجاجة رائحة منعشة وزجاجة خل، فوضعت الرائحة قرب أنفها، وجعلت تفرك صدغيها بالخل، فلم يمر ربع ساعة حتى استفاقت من إغمائها وفتحت عينيها.

وقد نظرت أولًا إلى أمها، ثم إلى باكارا وهي منذهلة لاتفاق وجودهما معًا، ثم ضربت جبهتها بيدها بغتة، وقالت بلهجة غريبة: لقد تذكرت أيتها الكونتس.

ولم تكد تتم كلامها حتى وثبت من سريرها، ودنت من باكارا التي تراجعت خطوتين؛ كي تدع الدوقة تدنو من ابنتها، فقالت بسكينة تامة: خشيت المرأتان أن تكون مقدمة الجنون: سيدتي انظري إلي جيدًا، فإني أدعى كونسبسيون دي سالاندريرا.

فعلمت أمها أنه سيجري بين ابنتها وبين باكارا أمور هائلة، غير أنها لم تجسر على المداخلة، بل لبثت بعيدة عنهما ساكتة تنظر إلى ابنتها نظرات الخوف والإشفاق.

فقالت لها باكارا: إني أعلم يا سيدتي اسمك، وقد اضطرب صوتها؛ لأنها أدركت صعوبة موقفها.

– إنك متى عرفت اسمي يا سيدتي تعرفين أيضًا أني إسبانية أي: إني أعرف أن أكره وأن أحب إلى أبعد مدى الحب والكره، ولما كنت آخر من بقي من أسرة سالاندريرا، فإني أشعر أن دماء آبائي تجتمع كلها في عروقي.

وبرقت عيناها على أثر كلامها، ثم تابعت: إني قد أُغمِي عليَّ لأول وهلة، ولكني أذكر الآن كل ما تقدم حادثة إغمائي، وإن جميع كلامك قد طُبِع في ذاكرتي بحروف دهرية لا تُمحَى.

وقد أرادت باكارا أن تجيبها غير أنها قاطعتها بإشارة ملؤها الكبرياء، وتابعت: إنك أخبرتني قبل إغمائي أن الرجل الذي أحببته، وكاد يكون زوجي لم يكن المركيز دي شمري أليس كذلك؟

فأحنت رأسها بكآبة إشارة إلى الإيجاب.

– وأنت تقولين: إن المركيز دي شمري الحقيقي هو في سجن قاديس.

– نعم يا سيدتي.

– وأن الرجل الذي تسمى باسمه في باريس هو لص سفاك، وقد كتبت حكايته خاصة؛ كي تطلعيني عليها.

– نعم وهذا اللص هو روكامبول.

– انظري يا سيدتي إلى سريري ألا تجدين قربه صليبًا؟

– نعم …

– إذن فاسمعي يمين إسبانية من أسرة سالاندريرا، التي يتصل شرف نسبها منذ ألف عام، إني أقسم لك بهذا الصليب المقدس إنه إذا كان ما تقولينه أكيدًا، وكان هذا الرجل الذي أحببته اللص روكامبول فإنه سيُعاقَب، وإن حبي له يستحيل إلى كره عجيب ينطبق على جسارته النادرة برفع أنظاره إلي، ولمس يده ليدي، فأعذبه عذابًا لا يخطر في بال أحد من أهل هذا الجيل، ولم يحدث مثله إلا في القرون الوسطى المظلمة.

وكانت ابنة الدوق تتكلم بصوت منخفض وبلهجة شديدة تدل على مبلغ انفعالها، فإن عينيها كانتا تتقدان وتنفذ منهما الأشعة كوميض البرق، وقد اصفر جبينها وبدت بأعظم مظاهر الجلال والعظمة والكبرياء، فكان يظهر أن دماء جميع أجدادها قد تسربت بجملتها إلى عروقها.

ثم توقفت هنيهة عن الكلام، ونظرت إلى أمها فرأت عينيها تغرورقان بالدموع، وإلى الكونتس أرتوف فرأتها مطرقة بنظرها إلى الأرض تفكر بنكبتها، فعادت إلى الكلام ووجهته إلى باكارا فقالت: وأما إذا كنت كاذبة فيما تقولين، أو كنت منخدعة، أو كان جميع ما بدر منك زورًا وبهتانًا، وكان هذا الرجل الذي أحببته أهلًا لحبي، فإني أقسم بشرف أجدادي إني لا أشكوك إلى المحاكم انتقامًا منك، بل إني أنتقم لنفسي، ثم أخذت بيدها خنجرًا كان على الطاولة وتابعت: إذا كنت كاذبة فلا تموتين إلا من يدي بهذا الخنجر.

فرفعت باكارا رأسها وأجابت ببرود: اعلمي يا سيدتي أني لم أنهج هذا النهج، ولم أخبرك بهذا الخطر الهائل الذي كان ينذرك إلا وتوقعت أن أسمع منك ما سمعت، ولو لم تكن لدي البراهين الكافية المسببة لما قلته لك لما تجاسرت على إبراز هذه الحقيقة؛ لعلمي بمقدار تأثيرها عليك، أما وقد تحملت هذه النكبة التي لا يقوى عليها سواك بمثل ما بدا منك من الأنفة، فلا أجد الآن ما يمنعني عن تتمة الحديث فأصغي إلي.

إنه منذ عامين تُوفِّيت المركيزة دي شمري في قصرها في سانت جرمين، وكانت آخر لفظة خرجت من فمها اسم ولدها.

وكان بالقرب من سريرها عند نزاعها فتاة وفتى، وهما راكعان يبكيان فدخل رجل لا قلب له، فأخذ الشاب بيده وطرده من المنزل، وعاد إلى الفتاة، فقال لها: بلانش، إني أخوك. ثم ركع أمام سرير المركيزة، وهي جثة باردة وجعل يبكي بكاء شديدًا، كأنما هو ابن المركيزة الحقيقي وقد فُجِع بفقدها.

وفي اليوم التالي تبارز مع ذلك الرجل انتقامًا لأمه، فارتفع شأنه في العائلات وأيقن الناس أنه المركيز دي شمري لا ريب فيه.

فقالت الفتاة: إلى أين تريدين البلوغ بحديثك وأنا أنتظر البراهين؟

– سأظهر لك يا سيدتي إنما يجب قبل ذلك أن تعلمي كيف كنت، وكيف كان مركزي حين كشفت سر هذا المنافق، وعلمت أنه روكامبول يتنكر باسم المركيز.

– كلا، إني أريد البرهان.

– ما هذا الإلحاح والتقاطع؟! هو ذا الأبواب أمامك، فأقفليها إذا كنت تخشين أن أهرب، فإنك أنذرتيني بالقتل إذا كنت كاذبة، وأنا أفتح صدري لخنجرك متى يئست من إقناعك غير أنه لا بد لك من الإصغاء إلي.

فشعرت ابنة الدوق أنها مخطئة بإلحاحها، وقالت لها: تكلمي يا سيدتي وها أنا مصغية إليك.

– إن ذلك اليوم الذي هتكت فيه أسرار ذلك الماكر كنت أرى فيه فتاتين أمامي، إحداهما يا سيدتي أنت، فقد كنت معرَّضة لخطر الزواج بهذا السافل، ولكن الخطر كان يمكن ملافاته، والثانية يا سيدتي هي تلك المرأة التي قضى عليها نكد الطالع أن تكون أقل حظًّا منك، فإنها منذ عهد بعيد تنادي ذلك السفاك بأخيها، فتصافحه وتعانقه وتحبه كما تحب الأخت أخاها، وهي لا تعلم أن يدها كانت تصافح تلك اليد الملطخة بدم أخيها الحقيقي.

– يا للهول!

– وقد علمت يا سيدتي أنك شديدة صبورة، فإذا أخبرتك بالحقيقة تستطيعين الصبر عليها خلافًا لبلانش دي أسمول، فإنها إذا علمتها مني تموت لا محالة.

– ماذا تعنين أيتها الكونتس، ألعلك تريدين أن أتولى أنا إخبارها بالحقيقة؟!

– كلا … فإن السر سيبقى مكتومًا عنها، أما البرهان الذي تطلبينه بإلحاح، فهو الصورة التي تمثل المركيز الحقيقي، فإن الرجل المقيم الآن في السجن يشبهه شبهًا غريبًا حين كان في عهد الطفولة، ولما كنت قد رأيته أمس، وعرفت هيئته فإنك تعلمين أنه هو المركيز الحقيقي حين تنظرين إلى صورته وهو صغير.

ثم عرضت عليها الصورة، فما لبثت ابنة الدوق أن تأملتها حتى صاحت صيحة دهش؛ لأنها رأت أن الصورة تشبه السجين بالعينين والفم والابتسام، وتلك الهيئة الدالة على التفكير، وقالت: كيف عثرت على هذه الصورة؟

– إن زامبا سرقها.

– من أين؟

– من قصر الأورانجري في التورين.

فذكرت ابنة الدوق للحال ذلك الكتاب الذي ورد إليها من روكامبول، وما كتبه لها عن الصورة، فدنت من باكارا فهزتها بعنف، وقالت: أعطيني برهانًا واحدًا يدل على أن الصورة هي صورة المركيز دي شمري، وأنها أخذت من قصر الأورانجري أصدق كل شيء.

فوضعت باكارا أصبعها في آخر الصورة وقالت لها: إنك خبيرة يا سيدتي في فن التصوير فاقرئي هذه الكلمات المكتوبة المخطوطة بالدهان الأحمر؛ تعلمي من ذلك اللون أنها بعيدة العهد.

فقرأت ابنة الدوق تلك الكلمات، وهي توقيع المصور واسم المركيز واسم القصر، وفحصت ذلك الدهان فعلمت أنه قديم منذ عشرين عامًا على الأقل، وذكرت أن روكامبول كتب لها أن الصورة سُرِقت من قصر الأورانجري، ورأت أن الرسم يشابه السجين أتم مشابهة، فلم يبقَ لديها ريب بصدق أقوال باكارا، فمدت لها يدها تصافحها، وقالت: أرجوك الصفح أيتها الكونتس؛ فقد أسأت بك الظن.

ثم تلاشت قواها بعد أن ثبتت لديها تلك الحقيقة الهائلة، فسقطت على كرسي طويل، وهي تقول: رباه! ما أشهى الموت!

فأسرعت إليها باكارا والدوقة وجعلتا تعزيانها.

بعد ذلك بساعة كان الفجر قد بدأ ينبثق، فبرحت باكارا القصر ونزلت من المشرف إلى السفينة، فذهبت بها إلى الميناء.

وكان فرناند روشي ينتظرها، فقال لها — وهو منشغل البال: ما وراءك؟

– لقد قضي الأمر …

– أعلمت كل شيء؟

– كما أعلم أنا وأنت بحيث لم يعد يفوتها شيء؟

– ألم تمت لذلك الخبر الشديد؟

– لقد تركتها بين يدي والدتها، وهي مصابة بحمى شديدة، ولكنها باتت آمنة من كل خطر.

– أتحسبين أنه لم يبقَ خوف عليها؟

– هذا لا ريب فيه، فإن تنازع الحب والكره سينقذها …

– ما تعنين؟

– أريد أنها أحبت ذلك اللص السفاك روكامبول حبًّا شديدًا، ولا بد لذلك الحب أن يتحول إلى بغض أشد.

– هذا لا ريب فيه، ولكن أي حب سيتنازع مع البغض؟

فابتسمت باكارا، وقالت: إنها لا يمر بها أسبوع حتى تتولع بحب المركيز دي شمري الحقيقي.

فارتعش فرناند، وقال: إذا حدث ذلك، فما نصنع؟

– كن مطمئنًّا؛ فإن لديَّ خطة لا أستطيع إظهارها لك الآن.

ثم تأبطت ذراعه، وقالت له: سر بي الآن إلى الفندق ثم اذهب إلى قومندان الميناء واسأل عن زامبا؛ فإني انتظرته أكثر من ساعة فلم يحضر، وقد بت منشغلة البال في أمره؛ فإني لا أزال أخشى الخيانة.

وسار الاثنان فأوصلها فرناند إلى الفندق الذي كانت مقيمة فيه مع خادمتها، والطبيب صموئيل في شارع معتزل بعيد عن الفندق الذي يقيم فيه فرناند وروكامبول.

ولما وصلت إلى باب الفندق رأت رجلًا مقيمًا على بابه، فاندهشت اندهاشًا عظيمًا حين رأته؛ لأنه كان زامبا.

٢١

ولنعد الآن إلى البارون بولاسكي، أي: روكامبول الذي تركناه مشهرًا مسدسه على زامبا، الذي كاد يُجَنُّ من رعبه، فإنه لم ينسَ بعد هول هذا الرجل وسلطانه السابق عليه.

ولم يكن يخطر له في بال أنه سيلقى هذا الداهية؛ ولذلك أتى برسالة قومندان الميناء آمنًا مطمئنًّا، وهو موطد النفس بعد إيصال الرسالة على الذهاب إلى باكارا، التي كانت عازمة على أن تصحبه معها إلى ابنة الدوق؛ كي يخبرها بحقيقة أمر روكامبول.

فلما رأى أن البارون الألماني لم يكن غير روكامبول، وأن هذا الشيطان المريد يشهر عليه المسدس علم أنه لم يبقَ حائلًا بينه وبين الموت فتراجع إلى الوراء، والذعر ملء قلبه، وقال له ببساطة الأطفال: ألعلك تريد قتلي مرة ثانية؟

فضحك روكامبول ضحكًا عاليًا، وقال له: إن من لا ينجح في المرة الأولى، فلا بد له من أن ينجح في الثانية غير أني لا أريد قتلك اليوم، بل قد سُرِرت جدًّا بلقياك.

وكان زامبا قد عادت إليه جرأته لما رآه من بشاشة روكامبول، فقال له: ولكني أنا لم أُسَرَّ بهذا اللقاء.

فجلس روكامبول على كرسي، وصوَّب المسدس إلى زامبا، وقال له: إن الأبالسة لم تنقذك من الموت في المرة الأولى إلا خدمة لي؛ لأنها علمت بأني لا أزال محتاجًا إليك …

– ربما تكون الأبالسة قد أصابت، غير أني أخشى أن ينطلق المسدس، فتخسر انتفاعك بي.

– كلا … فأصغي إلي الآن … إني قد تسرعت بإرادة قتلك في ذلك القبو، غير أنك لو كنت في موقفي لفعلت فعلي دون شك، فإني سمعت حركة من خارج الغرفة، فاضْطُرِرْتُ إلى قتلك وإقفال القبو.

– ليس هذا يا سيدي، ولكنك كنت واثقًا من أني علمت اسمك الحقيقي، ونحن في تلك الغرفة فلم تجد بدًّا من قتلي …

فارتعش روكامبول وقال: كيف عرفت اسمي؟

– لأن مدام فيبار دعتك أمامي باسم روكامبول.

– إنه اسم مختلق أريد به التنكر.

– ولكنه اسم مشهور كما يظهر، كما أني أعلم أيضًا اسمك الآخر …

– أي اسم تعني؟!

– الاسم الذي تسمى به أمام العائلات.

فاصفر وجه روكامبول اصفرارًا خفيفًا لم يخفَ عن زامبا مما زاد في جرأته، فقال: أرجوك العفو يا سيدي؛ فقد رأيت أني أسأت إليك بهذه الأخبار، حتى بت أخشى أن ينطلق المسدس الذي بيدك.

– أهذا الذي يخيفك؟

– لا أنكر عليك الحقيقة يا سيدي، غير أني لا أخاف على نفسي بل عليك …

– كيف ذلك؟

– ذلك أنه إذا خرجت الرصاصة من المسدس خرج معها دوي شديد، فيسرع إليك رجال الفندق، وينزعون عن وجهك هذه اللحية الحمراء، وعن رأسك الشعر المستعار، وعن خديك ذلك اللون الأصفر، وعن جبينك تلك الغضون المصنوعة، فتبرز للعيون شابًّا من مشاهير باريس، وعضوًا في أعظم منتدياتها.

– اسكت أيها الوقح …

– إذن فقد رجعت عن قتلي اليوم؛ لأني عارف حقيقة أمرك يا حضرة المركيز دي شمري؟

– أتعلم اسمي الحقيقي أيضًا؟

– أعلم أكثر من هذا، فدع المسدس إذا أردت أن تعلم الحقيقة.

وقد تغير موقف اللصين بعد هذا الإقرار، فبعد أن كان روكامبول صاحب السلطة والسيادة على زامبا، أصبحت تلك السيادة لزامبا بعد أن برهن له أنه يعرف أسراره.

فقال له روكامبول بصوت يتهدج من الاضطراب: إذن فأنت تعلم اسمي؟

– بل أعلم أيضًا أنك عازم على الاقتران بابنة الدوق سالاندريرا.

فصوَّب روكامبول مسدسه إلى زامبا، وقال له: وبعد ذلك؟

– إنك تستطيع قتلي يا سيدي المركيز غير أنك إذا علمت كل ما أعلمه، وعلمت بأني قادر على نفعك لرجعت عن هذا القصد السيئ.

– ليكن ما تريد، فقد عفوت عنك، فقل الآن ما تعلم.

فابتسم زامبا ابتسام الساخر، وأجاب: إنك كريم الأخلاق يا سيدي المركيز، ولكني لا أريد أن أبيعك أسراري بحياتي بل بثروتك.

فراع روكامبول ما رآه من سكينة زامبا، وأجابه: حسنًا فسأعطيك من هذه الثروة ما يكفيك.

– إني لا أقنع بالقليل.

– سأعطيك ما تشاء بعد أن أتزوج بابنة الدوق.

فضحك زامبا بدوره ضحكة تقطع لها فؤاد روكامبول من الغيظ، ثم أجابه: لقد كان من حسن طالعك أنك أتيت في هذا المساء.

– لماذا؟

– لأنك لو أتيت في الغد لفات الأوان دون شك.

– كيف يفوت الأوان؟ وماذا تعني؟

– أعني أنك لو لم تأتِ في هذا المساء لكانت علمت ابنة الدوق غدًا كل شيء؛ أي إنها علمت أنك أنت روكامبول، وأن المركيز دي شمري الحقيقي … ثم توقف عن الكلام وتراجع خطوة إلى الوراء.

فقال له روكامبول: يا ويحك! أتعرف هذا أيضًا؟

– أعرف أن المركيز دي شمري في سجن قاديس.

فنظر إليه روكامبول نظرة من أُصِيب بالبله لما كان من شدة وقع هذا الكلام عليه، غير أن زامبا لم يعد يحفل به، فقال له: أترى كيف أصبحنا صديقين، وكيف أصبحت في مأمن منك؟

– قل ماذا تعلم أيضًا …

– اجلس أمامي ولنتحدث، فإني واثق من أننا سنتفق.

– وأنا واثق كل الثقة.

– إن الذين يحترفون حرفتنا يتفاهمون بالإشارة، فإذا شئت أن نتفق، فدع الآن مركيزيتك ودعني أكلمك بغير إضافة ألقاب السيادة، التي لا فائدة منها غير تطويل الجمل.

فأنَّ روكامبول من غيظه، وقال: تكلم كيف شئت، وقل ما تعلم.

– إذن فاعلم أنه يوجد امرأة تقتفي آثارك، وقد عهدت إلي أن أبحث عنك.

– ما اسمها؟

– الكونتس أرتوف.

– إني أعرف ذلك.

– وقد سرقوا صورة من قصرك في الأورانجري.

– من الذي سرقها؟

– أنا.

– أنت؟ وماذا صنعت بها؟

– أعطيتها للكونتس أرتوف.

– تبًّا لك من خائن.

– كيف تعد ذلك خيانة، فإني خدمتك فجازيتني بالقتل، وخدمتها فجازتني خير جزاء وهي تعلم حقيقة أمري كما تعلمه أنت.

– وأين هي الآن هذه الكونتس؟

– هنا في كاديس.

– يا للشقاء!

– ومعها الصورة وهي ستعرضها على خطيبتك العزيزة، ثم تقدم لها المركيز دي شمري؛ أي المركيز الحقيقي وليس أنت.

– إذن لقد دنت ساعتي وخسرت كل شيء.

– إلا إذا تداخلت أنا في أمرك.

– كيف تتداخل في أمري؟ وماذا تستطيع أن تفعل؟

– إني أستطيع أن أزوجك ابنة الدوق، وأعبث بباكارا، وأغرق المركيز الحقيقي وأصيرك دوقًا من عظماء الإسبان إذا أردت.

وكان زامبا يتكلم بلهجة الواثق من الفوز فيما يقول، فجعل روكامبول ينظر إليه، وقد علق به كل رجائه.

ساد السكوت مدة بين هذين اللصين، غير أن عيونهما كانت تتكلم بأفصح لسان، وقد خفض جانب روكامبول، وذل بعد عزته، وأطرق برأسه إطراق المغلوب الخاسر، ثم أيقن أن زامبا يصلح أن يكون شريكه في آرائه، فأعاد النظر إليه، وسأله: إذن فأنت تريد المساومة؟

– ربما.

– ما هي شروطك؟

– إن شروطي مسهبة، كثيرة التفاصيل، أيها الصديق العزيز.

قال هذا وجلس على الكرسي الذي تركه روكامبول.

وكان روكامبول قد وضع مسدسه على الطاولة حين أيقن أنه لا فائدة له من قتل زامبا أو إنذاره؛ فمد زامبا يده بسكينة وأخذ المسدس.

فلما رآه روكامبول ذُعِر ذعرًا شديدًا، وأسرع إلى زامبا كي يغتصب منه المسدس، غير أن زامبا صوبه إلى رأسه، وقال له: خير لك أن تبقى مكانك مطمئنًّا، فإني أعرف أن أدير المسدس كما تعرف أن تديره أنت، ويكفي أقل كلمة منك لقتلك، فقد ينطلق من يدي إذا بدر أقل بادرة منك، فلا يكون حظك غير الموت العاجل.

ولما رأى زامبا أن كلامه قد أثر على روكامبول أمره بالجلوس فامتثل، فقال له متهكمًا: أي يا حضرة المركيز … أكنت تعاملني في باريس حين كنت صاحب السلطان المطلق خيرًا مما أعاملك الآن، بعد أن خلعت عنك تلك السلطة؟

– وبعد … ماذا تريد؟

– أريد أن أعرض عليك شروطي.

– وأنا مستعد لسماعها …

– أولًا إني أريد أن أكون وكيل قصرك وأملاكك، بعد أن تصير زوج ابنة الدوق سلاندريرا كما كان اتفاقنا من قبل …

– لقد قبلت …

– ثم إني أرجو مولاي الدوق سالاندريرا شمري أن يعقد معي اتفاقًا …

– على أي شيء؟

– لا تخف فسأملي عليك صورة الاتفاق، ولكني لا بد لي قبل ذلك أن أشرح لك الحالة بتفاصيلها.

– تكلم.

– إن الكونتس أرتوف في قاديس.

– لقد قلت لي ذلك …

– ولديها صورة المركيز الحقيقي، وهي عازمة على أن تعرضها على ابنة الدوق، ثم تقدم لها المركيز.

فقال له روكامبول وقد تمكن منه الرعب: اسكت.

– كلا لا يجب الصمت يا سيدي، فإني إذا لزمت الصمت فلا تعلم شيئًا، اعلم الآن أنه يوجد أمر لا ينبغي أن تُنسَى خطارته.

– ما هو؟

– هو أنه إذا اجتمعت الكونتس أرتوف بابنة الدوق تقضي بإهلاكك، وتخسر كل شيء.

– ولكن باكارا ليس لديها برهان.

– إن لديها الصورة وفوق ذلك أخبرتها بكل شيء.

وكأن روكامبول قد نسي أنه أصبح في قبضة زامبا وقف وصاح به، وهو يزبد من الغيظ: ويحك أيها الشقي الخائن! كيف أطلعتها على كل شيء؟!

غير أن زامبا لم يحفل بغضبه، فاكتفى بتصويب المسدس إليه، وقال له بملء السكينة: إني لم أكتفِ بأني حكيت لها كل شيء بالتفصيل منذ موت الدون جوزيف إلى موت الدوق دي مايلي، بل وعدتها أن أبوح بكل شيء أيضًا إلى ابنة الدوق سالاندريرا، وأن أعطيها تلك الرسائل التي كنتم سيادتكم توقعون عليها باسمها بعد تزوير خطها، وكنت أنا أحملها إلى الدوق دي مايلي، فأخبره أنها من ابنة الدوق.

– كيف وصلت إليك هذه الرسائل.

– إنها لم تصل إلي، ولكني أنا وصلت إليها؛ وذلك أني سرقتها من خزانة الدوق المرحوم بعد وفاته.

– وستراها ابنة الدوق؟

– لا يمكن أن تراها إذا تم اتفاقنا، وإذا لم يحدث بيننا مصاعب في هذا الاتفاق، فإني أخدع الكونتس أرتوف، وأحضر لك صورة المركيز الحقيقي فتتلفها، ثم تفتك بهذا المركيز المسجون في سجن قاديس، فتلبث ابنة الدوق مقيمة على هواك وتقترن بها بعد أسبوعين.

فارتعش فؤاد روكامبول، وبرقت عيناه بأشعة الأمل، فقال له: قل إذن ما هذا الاتفاق الذي تريد أن نتعاقد عليه؟

– إنه لا يزيد عن أربعة سطور.

– وما هو؟

– اجلس على هذا الكرسي أمام مائدة الكتابة، فأملي عليك ما يجب أن تكتبه.

وكان زامبا يلقي إليه هذه الأوامر، وهو يلعب بالمسدس إرهابًا لروكامبول وتقليدًا له فيما كان يفعله من قبل، فعلم روكامبول أنه بات بجملته في قبضة هذا الرجل يعبث به كما يريد، فلم يسعه إلا الامتثال وجلس على مائدة الكتابة، ثم أخذ القلم بيده وجعل ينتظر، فأملى عليه زامبا ما يأتي:

في اليوم الواقع في … كنت في قاديس في فندق السحرة وحدي مع زامبا خادم غرفة الدوق دي مايلي سابقًا، وخادم غرفة السنيور بادرو قومندان ميناء قاديس الآن، فصرحت لزامبا المتقدم ذكره بما يأتي: إني لست المركيز ألبرت فردريك أونوريه دي شمري، كما يظن الناس بل إني أدعى روكامبول، وقد سرقت أوراق المركيز دي شمري الحقيقي.

وهنا توقف زامبا عن الإملاء؛ لأن روكامبول توقف بعد أن كسر القلم مغضبًا، وقال: إذا كان يخطر في بالك أني أعترف كتابة مثل هذا الاعتراف، فلا شك أنك أصبحت من المجانين.

– ربما كان ذلك غير أن إمضاءك على ما كتبته الآن لا بد منه.

– لا أمضي ولو فقدت يميني.

– إذن فإنك لا تتزوج ابنة الدوق، وتذهب إلى سجن قاديس مؤقتًا إلى أن تُرسَل إلى سجون فرنسا.

فاهتز روكامبول اهتزازًا عصبيًّا، واحمرت حدقتاه من الغيظ، وأوشك أن يبطش بزامبا، ولكنه تراجع عن هذا القصد لخوفه من المسدس، ولحذره من عاقبة الطيش.

٢٢

وساد السكوت هنيهة بين الاثنين اللذين بات أحدهما محكومًا من الآخر، بعد أن كان الحاكم المطلق عليه، ثم ضرب روكامبول الأرض برجله، وقال: إذن فأنت تريد إعدامي أيها الشقي؟

فضحك زامبا ضحك التهكم، وأجاب: أية فائدة لي من إعدامك؟ فلو كنت أريد ذلك لما احتجت إلى أن أستكتبك هذه السطور، بل كنت أطلق عليك المسدس وأبلغ هذا المراد، غير أنه لا فائدة لي من قتلك، ومتى أخبرتك بالسبب الذي دفعني إلى حملك على كتابة هذا التقرير تذعن لي، وتنقطع عن المقاومة.

فنظر إليه روكامبول نظراته السابقة كأنه يأمره بالإيضاح.

فقال زامبا: إني خدمتك بضعة أشهر بأكثر مما كنت تطمع به من الإخلاص، فإذا كنت أخلصت لك لخوفي منك، فقد كان معظم إخلاصي لما وعدتني به من الوعود الصالحة.

– ولا أزال مستعدًّا للوفاء بهذه الوعود.

– إنك أكدت لي مثل هذا التأكيد قبل أن تلقيني في القبو، وتطعنني تلك الطعنة النجلاء.

– هذا أكيد وأنا أقر بخطئي.

– أما أنا فقد استكتبتك هذه السطور؛ لأني أخاف أن يحلو لك هذا الخطأ مرة ثانية فتعود إليه.

– وماذا تريد أن تصنع بهذه السطور؟

– إني أضعها في غلاف وأختمه بالشمع، ثم أذهب به إلى أحد رجال القضاء فأدفعه إليه، وأقول له: هذه وصيتي قد أودعتها هذا الغلاف، وسأزورك في كل شهر، فإذا مر شهر ولم ترني فافترض أنني مت، وافتح الغلاف فتجد الوصية أفهمت الآن يا حضرة المركيز؟

فهز روكامبول رأسه إشارة إلى المصادقة، وهو مشتت البال.

فقال زامبا: إن هذه السطور ستضمن لي طول البقاء يا سيدي روكامبول، أليس كذلك؟ كفاك ذهولًا … تشجع ووقع عليها فتتزوج ابنة الدوق.

غير أن روكامبول بالرغم من الاسم الذي كان يجذب فؤاده بقي يتردد، وهو ينظر محدقًا إلى زامبا كأنه يريد أن يخترق حجاب نفسه، ويعلم ما في أعماقها من الأسرار ثم سأله: أهذا كل ما تطلبه …

– نعم … وليس لي مأرب آخر.

– أصحيح ما تقول؟

– إني أعجب كيف ترتاب بصحة قولي، وأية فائدة لي من خدمة المركيز الحقيقي؟! ألعله يعينني وكيلًا لأملاك سالاندريرا؟!

– إذا كان حقًّا ما تقول فإنك لا ترفض أن تكتب بضعة سطور، كالسطور التي كتبتها أنا فخذ القلم كي أملي عليك …

ثم أملى عليه ما يأتي:

إنهم يدعوننى زامبا، ولكن اسمي الحقيقي هو «جان الكانثا»، وأنا برتغالي وقد حُكِم علي بالإعدام لارتكابي جريمة القتل في … إلخ.

فقال له زامبا: إذا كان هذا كل ما تبغيه فهو سهل ميسور.

ثم كتب جميع ما أملاه عليه بوضوح، وجاء ووقَّع على ما كتبه باسمه الحقيقي؛ أي: جان الكاتثا.

وعندها مد روكامبول يده يريد أخذ الورقة، فأسرع زامبا إلى تصويب المسدس، وقال له: إني لا أسلمك الورقة إلا متى كتبت أنت أيضًا ما أمليته عليك، ووقعت عليها باسمك الصحيح فنتبادل الورقتين.

– ليكن ما تريد.

ثم أخذ القلم فوقع على السطور التي كان زامبا أملاها عليه من قبل، وأخذ كل منهما ورقة الآخر فوضعها بجيبه.

وبعد ذلك نهض زامبا، وقال: إني ذاهب الآن.

– إلى أين؟

– للاهتمام بأشغالك؛ فإنك ستنال الصورة غدًا.

– قبل أن تراها ابنة الدوق؟

– دون شك.

– وسجين قاديس؟

– نقتله …

– متى؟

– غدًا مساء، غير أني أرجوك أن تجيبني إلى سؤال، وهو أنك أتيت إلى قاديس؛ كي تتزوج فإذا كان هذا قصدك، فلماذا أتيت متنكرًا باسم البارون بولاسكي؟

– ذلك لأني أردت أن أرى المركيز.

– المركيز الحقيقي.

– نعم …

– إذن كنت عارفًا بأمره من قبل.

– بجميع تفاصيله.

– إن تنكرك لا يفيدك بشيء، وكان من حسن حظك أنك لقيتني فلا ينفعك غير خدمتي في هذه المهمة، والآن فاقرأ هذا الكتاب الذي جئتك به من عند القومندان، فقد شُغِلت عنه بي.

ففض روكامبول الكتاب وقرأه، فلما أتم تلاوته قال له زامبا: لقد فاتني أن أقول: إن سيدي القومندان يدعوك غدًا إلى العشاء، وستجد عنده دون شك المركيز دي شمري.

فانتهره روكامبول، وأجاب: اسكت أيها الوقح أيوجد غيري من يسمى باسم المركيز دي شمري؟

– لم يحن الوقت بعدُ، إنما غدًا ترتاح منه الراحة الأخيرة، ثم وضع المسدس في جيبه.

– لماذا أخذت المسدس؟

– لأني أحتاج إليه وسأرده إليك في الغد.

ثم ودعه وانصرف دون أن يزيد كلمة على ما قال: فلما انتهى إلى الشارع قال في نفسه: إن الكونتس أرتوف تنتظرني منذ ساعة في الميناء، وهي لا بد أن تكون اتهمتني بالخيانة لتأخري عن موافاتها.

وعندما لفظ لفظة الخيانة توقف، وجعل يقول في نفسه: إن الانتقام مسرة الآلهة كما يُقال، وأنا أراه مسرة الإنسان أيضًا، فإني عندما يخطر لي خاطر الانتقام من روكامبول، الذي أراد قتلي، أشعر بارتياح عظيم، ولكن العاقل من يرجو الفائدة بالانتقام، وأية فائدة لي إذا خنت روكامبول؟

ولا تزال الوسائط ميسورة لجعله دوقًا إسبانيًّا وتزويجه بابنة الدوق الإسباني، فإذا فعلت ذلك فإني أنال منه ثروة أصبح بعدها من الأغنياء، وأكون في مأمن من غدره بفضل هذا الإقرار الذي استكتبته إياه، وكنت قبل خروجي من غرفته أهزأ به وأضمر له كل شر، أما الآن فلا بد لي من الانتباه بينه وبين أعدائه، وبين انتقامي وفائدتي، فماذا أصنع؟ وإلى أي الأمرين أميل؟

إني إذا أنقذت روكامبول من موقفه الشديد أكون خادعًا لنفسي، خادمًا لرجل لا أرجو له غير الشر مخالفًا لعواطف انتقامي.

غير أني إذا أنقذته أصبح من الأغنياء، ولا أتوقع بعد مثل تلك الفرصة بعد بلوغي حد الشيب إذن، فإن إنقاذه أفضل لي من إعدامه.

ولأبحث الآن لأرى إذا كان إنقاذه ممكنًا، فإن ابنة الدوق خطيبته لا تعلم إلى الآن شيئًا من حقيقة أمره، فإني قد اتفقت مع باكارا على أن لا تعلم هذه الحقيقة إلا مني، وهذه الكونتس تنتظرني الآن في الميناء؛ كي نذهب معًا إلى ابنة الدوق، فإذا ذهبت وإياها في قارب صغير، فلا أسهل علي من إغراقها في الطريق، وهو خير ما يجب أن أعوِّل عليه.

ثم ابتسم ابتسام الرضى لرجائه بالفوز في هذه الخطة الهائلة، واندفع يسرع الخطى إلى الميناء؛ كي يلتقي بباكارا حيث كانت تنتظره.

•••

وكانت الساعة تدق عندما وصل إلى الميناء مؤذنة بانتصاف الليل، فلم يجد باكارا، ولكنه سمع أصوات المجاذيف ورأى خيال قارب صغير يبتعد، فخشي أن تكون باكارا سبقته.

ورأى قاربًا صغيرًا راسيًا في الميناء وفيه بحار يدخن بغليونه، وهو يتأمل النجوم، فدنا وسأله: أتعلم أيها الصديق من الذي يسير إلى الصيد عند انتصاف الليل في هذا القارب؟

وأشار إلى الجهة التي سمع منها صوت المجاذيف.

فأجابه النوتي: ليس الذي ذهب فيه بصياد.

– من هو إذن؟

– سيدة تريد التنزه مغتنمة سكون البحر.

فامتقع وجه زامبا، وقال في نفسه: لقد فسد كل حساب، فإن هذه المرأة هي الكونتس أرتوف، وهي ذاهبة دون شك إلى ابنة الدوق لتريها الصورة، وتطلعها على كل شيء، إذن فإن روكامبول سيئ الطالع ولا بد لي من التخلي عنه.

ثم ترك الصياد وجعل يطوف في شوارع المدينة إلى الساعة الثالثة، وتوجه إلى الفندق المقيمة فيه باكارا، وجلس على بابه ينتظر عودتها.

فلما عادت باكارا عند بزوغ الفجر رأته جالسًا على باب الفندق كما تقدم، فأسرع زامبا إليها وحياها بملء الاحترام، فقالت: لقد دعوتني إلى انتظارك ساعة، فما معنى هذا الإبطاء؟

فأشار زامبا بيده إلى فرناند، وأجاب: متى خلوت بك يا سيدتي أخبرتك بكل شيء.

– تكلم أمامه.

– أرجوك المعذرة يا سيدتي، وأسأل سيدي الصفح فإن ما أريد أن أقوله لك سر عظيم لا يُقال أمام اثنين.

– لا بأس، اتبعني.

ثم ودعت فرناند وصعدت إلى الغرفة المعدة لها في الفندق، فتبعها زامبا حتى إذا خلا بهما المكان دار بينهما الحديث الآتي، فقالت باكارا: إني أرى على وجهك ملامح الجد والاهتمام.

– ذلك لأن الأمر خطير.

– لماذا؟

– لأنه يتعلق بروكامبول.

فارتعشت باكارا، وقالت: ما وراءك من أخباره؟

– كل أمر خطير؛ فقد لقيته الليلة.

– ماذا تقول؟! ألقيت روكامبول؟ ألعله هنا؟!

– نعم؛ فهو في قاديس.

– متى أتى إليها؟

– منذ بضع ساعات، وقد جاءها متنكرًا باسم البارون بولاسكي.

– لا شك أنك مجنون.

– كلا يا سيدتي، بل إن ما قلته هو الحقيقة.

– أرأيته بعينك؟

– بل كلمته أيضًا، وهو الذي دعاني إلى التأخر عن موافاتك في الوقت المعين، فقد كنت عنده.

– ولكن أية غاية له بالقدوم إلى قاديس متنكرًا؟!

– إنه أتى لتغيير الهواء فيها أولًا، ثم لقتل المركيز دي شمري.

– كيف عرف أن المركيز حي؟

– إنه يعرف كل شيء، فقد عرف نصف هذه الخفايا في باريس.

– والنصف الآخر؟

– عرفه مني.

– إذن فلم يعد بدٌّ له من الفرار وسينجو من قبضتنا.

– كلا، فإنه ينام الآن آمنًا مطمئنًّا، وهو يحلم دون شك بزواجه بابنة الدوق.

– قل إذن ما حدث بالتفصيل.

– ليكن ما تريدين يا سيدتي.

ثم أخبرها بجميع ما كان بينه وبين روكامبول، وأراها الورقة التي خط عليها اعترافه بخطه وتوقيعه باسمه الصحيح، ثم قال لها: أظن أننا نستطيع بهذا الإقرار أن نفعل به ما نشاء.

– نعم؛ فلا بد من إرساله إلى السجن المؤبد، أو إلى ساحة الإعدام.

وأقامت باكارا مع زامبا نحو ساعة يتحادثان، فلم يعد يعلم أحد ما جرى بينهما، ولكنه عندما خرج زامبا ذهب إلى فندق السحرة حيث يقيم روكامبول، ودخل إليه فقال له: هذه هي صورة المركيز التى وعدتك بإحضارها.

ثم فتحها وأراه البقعة الظاهرة بها.

فأخذها روكامبول بيد مرتجفة، وقال: ما أصنع بها؟

قال زامبا: أحرقها، فإنه إذا ذهبت آثارها زالت الموانع بينك وبين ابنة الدوق.

وكان زامبا يقول هذا القول بلهجة المتهكم، غير أن روكامبول لم ينتبه إليه لانشغاله بالصورة، ولأن السير فيليام قد مات.

٢٣

بعد يومين مرا على اجتماع زامبا وروكامبول كانت مركبة خارجة في الليل من قاديس متوجهة إلى قصر أسقف غرناطة، الذي تقيم فيه الدوقة سالاندريرا وابنتها.

وكان يوجد في هذه المركبة رجل وامرأة، أما الرجل فكان فرناند روشي، وأما المرأة فكانت باكارا، ولكنها متنكرة بملابس الرجال كما أتت من باريس.

فكان فرناند يقول لها: ألم يحن الوقت بعد لإطلاعي على هذه الأسرار الغامضة؟

فابتسمت له باكارا، وقالت: نعم فسأوقفك على بعضها فسلني أجبك، أو أنا أبدأ بسؤالك فإنك قد أُشكِل عليك دون شك، كيف أني أريد أن تحب ابنة الدوق المركيز دي شمري الحقيقي؟

– نعم؛ ولكنك قلت لي إنك لا تريدين أن تسوقي روكامبول إلى المحاكمة؛ لأن مدام دي أسمول تعتقد أنه أخوها، وقد أحبته حبًّا أخويًّا.

– هذا أكيد.

– غير أن الذي لم أفهمه هو أنه لو تحققت أمانيك وأحبت ابنة الدوق المركيز الحقيقي، ثم تزوجت به بدلًا من هذا الجسور روكامبول، ألا تخشى ابنة الدوق أن تظهر الحقيقة في مستقبل الأيام؟

– لا أظن.

– ألا تعلم الفيكونتس دي أسمول هذه الحقيقة؟

– كلا!

– غير أني لا أرى ما ترينه، أو أني لا أفهم ما تقصدين.

– إذن فأصغِ إلي؛ فإني سأطلعلك على خطتي بتفاصيلها، فاعلم أن المركيز دي شمري قد أثر بلطفه وكآبته تأثيرًا شديدًا على ابنة الدوق، التي لم تكترث له في بدء الأمر لتعلقها بحب روكامبول، فلم تفهم سر ذلك التأثير، ولكنها ستفهمه الآن.

– وبعد ذلك؟

– سأبذل الجهد بإدخال الحب إلى هذين القلبين، فإذا نجحت فيما أقصده وأنا واثقة من النجاح، فلا أسهل من أن يحل المركيز في محل المركيز الكاذب.

– أتظنين؟

– بل أؤكد؛ فإنهم ينتظرون في باريس الذي يحسبون أنه المركيز الحقيقي، وكل شيء مهيأ لعقد الزواج الذي سيكون قرانًا بسيطًا في كنيسة قصر سالاندريرا، لا يحضره أحد بسبب الحداد، وبعد عقد القران يسافر العروسان إلى مدريد، وهناك يأخذ المركيز أوراق تعيينه من جلالة الملك سفيرًا لدى البرازيل، ويسافر مع زوجته في اليوم نفسه.

– إلى البرازيل؟

– دون شك.

– لم أفهم بعد …

– هب أن هذه الاستحالة قد تمت، وأن المركيز دي شمري نال ما كان يطمع بنيله روكامبول، فتزوج ابنة الدوق وعُيِّن سفيرًا في البرازيل، فإنه سيقيم في تلك البلاد عشرة أعوام.

– لقد بدأت أفهم.

– وإن روكامبول يشبه المركيز بقوامه أتم الشبه، ويشبه ذلك اللص في ملامحه بعض الشبه، فإذا مضت عشرة أعوام، فإن تلك الملامح تتغير، فإذا رأته أخته الفيكونتس دي أسمول بعد ذلك العهد الطويل في باريس، فلا تشك بأنها ترى أخاها.

لقد فهمت الآن كل شيء، غير أن الذي أراه أنه يوجد كثير من المصاعب في سبيل هذه الأمنية.

– لا شك أننا سنلقى مصاعب لا تُقاوَم، غير أننا نسعى من وراء هذا القصد، ويد الله من ورائنا.

– وبعد ذلك، فماذا تصنعين بهذا اللص روكامبول؟

فبرقت عيناها، وقالت: سأؤدب به رجال الشر، وسترى.

– بقي أمر لا يزال مشكلًا علي فهمه، وهو أنه ما زال روكامبول موجودًا هنا متنكرًا، فلماذا لا تقبضين عليه؟

– إني سأكتم عنك هذا السر ثلاثة أيام ثم أخبرك بكل شيء.

وعند ذلك وصلت المركبة إلى قصر الأسقف، فنزلت باكارا وفرناند ودخلا، فكان أول من قابلهما الدوقة، فإنها حين رأت باكارا أسرعت إليها وصافحتها بلهف، كأنها كانت تنتظر قدومها، فسألتها باكارا عن ابنتها، فأخبرتها أنها بكت بكاءًا شديدًا غير أنها عادت بعد ذلك البكاء إلى سكينتها، ثم قالت لها: إنها سألت عنك مرات كثيرة، وهي ترغب أن تراك.

– أين هي الآن؟

– إنها في غرفتها منذ الصباح، جالسة أمام نافذة مشرفة على البحر، وهي تنظر إليه بشرود بت أخاف عاقبته.

– إني لا أرى ما ترين يا سيدتي، بل إني بت أرجو كل خير.

– عسى أن يحقق الله رجاءك.

– أتأذنين لي أن أدخل إليها وحدي؟

– كما تشائين.

وتأبط فرناند ذراع الدوقة، وسار بها إلى قاعة الاستقبال، بينما كانت باكارا ذاهبة إلى غرفة ابنة الدوق، فلما بلغت إليها قرعت بابها ثلاث مرات فلم يجبها أحد، ففتحت باكارا الباب ودخلت فرأت ابنة الدوق مستندة على النافذة تنظر إلى البحر، كما قالت أمها وهي غارقة ببحار الهواجس.

فأغلقت باكارا الباب وتقدمت إليها حتى دنت منها، وهي لا تنتبه حتى لمستها بكفها، فانتبهت من ذهولها والتفتت إليها، فقالت باضطراب: أهذا أنت يا سيدتي الكونتس؟

فضمتها باكارا إليها وعانقتها بحنو شديد، وهي تقول: مسكينة فلا بد أن تكوني قد تألمت كثيرًا.

وكأن تلك الكلمات قد أثارت كبرياء الفتاة، فنظرت إلى باكارا نظرة إنكار، وقالت: أخطأت يا سيدتي الكونتس، فإني لم أعد أفتكر إلا بالانتقام.

– سننتقم لك في وقت قريب.

– بل أريد أن يكون الانتقام اليوم؛ إذ لا صبر لي على الانتظار، غير أني أشعر أني أحتقر ذاك الشقي احتقارا شديدًا، حتى إنني أخشى أن أرجع عن انتقامي منه؛ لأنه غير أهل لانتقامي.

– سيدتي، إنه غير أهل لانتقامك، ولكنك إذا كنت تستنكفين الانتقام من ذاك اللص، فإنه يحق لك معاقبته، والمعاقبة غير الانتقام، حتى إنني أتجاسر وأقول: إنه لا يحق لك أن تصفحي عنه، فإن ذلك الرجل قتل وارتكب جميع الموبقات، أفلا يجب أن يُسحَق كما تُسحَق الحية القاتلة؟

– إذن، اكشفي أمره وسلميه للشرع.

– كلا … فلم يحن الوقت بعد.

– ماذا تريدين أن تصنعي قبل تسليمه؟

– يجب أن نفتكر قبل عقاب هذا اللص.

– لقد علمت ما تقصدين، فإنني كنت أفتكر طول ليلي هذا الفكر؛ إذ يجب قبل كل شيء أن يخرج المركيز دي … شمري … من السجن.

– نعم … لقد أصبت.

– سأكتب للملكة وإذا دعت الأحوال ذهبت إليها.

فأوقفتها باكارا عن الحديث، وقالت: إنني أريد قبل أن أسدي إليك نصيحة أن ألتمس منك أمرًا.

– تفضلي يا سيدتي وسلي ما تشائين.

– أسألك أن تأذني للمركيز دي شمري بمقابلة.

فاصفر وجه ابنة الدوق، وكادت تسقط على الأرض، غير أن باكارا أسرعت إليها فأخذتها بيدها، وقالت لها: هلمي بنا إلى الرواق المشرف على البحر.

وكان القمر ساطعًا ترقص أشعته على الأمواج، وتظهر القوارب فيه كما تظهر في ضوء النهار، فأشارت باكارا بيدها إلى جهة الميناء، وقالت لها: انظري ألا ترين قاربًا صغيرًا يدنو من القصر، ألا ترين فيه رجلين؟ إن أحدهما هو المركيز.

فاتكأت ابنة الدوق على كتف باكارا، وجعل فؤادها يخفق خفوقًا شديدًا، فلم تعد تشكك باكارا أنها تهواه.

وجعلت كلتاهما تنظر إلى ذلك القارب يدنو من القصر، وكل منهما تفكر في شأن، إلى أن دنا منهما فرأت ابنة الدوق فيه رجلين أحدهما كان منحنيًا على المجاذيف، والآخر واقفًا في مؤخر القارب، فما أوشكت أن ترى ذلك الرجل الواقف حتى توردت وجنتاها لما تولاها من التأثير.

ثم وصل القارب إلى الشاطئ، فألقى المرسى ونزل منه ذلك الشاب الذي كان واقفًا فيه إلى الرصيف، وجعل يصعد السلم المؤدي إلى الرواق.

وكان هذا الرجل المركيز دي شمري الحقيقي، غير أنه لم يكن بملابس المجرمين كما رأته ابنة الدوق في الحفلة الراقصة، بل كان مرتديًا بملابس ضابط في البحرية، فزادت تلك الملابس ثقة ابنة الدوق به حتى لم يبقَ لديها أقل شك فيه، وجعلت تسائل نفسها بعد أن رأته في تلك الملابس، كيف أنها فضلت تلميذ السير فيليام على هذا الشاب الجميل النبيل.

على أن المركيز دي شمري لم يكن أقل اضطرابًا منها؛ ولذلك حين سلم عليها مقبلًا يدها لم يكن يعرف كيف يكلمها لتلعثم لسانه واضطرابه.

أما ابنة الدوق فإنها ابتسمت له ألطف ابتسام، ثم دنت من باكارا، وقالت لها همسًا: أرجوك يا سيدتي أن تذهبي إلى القاعة حيث تجدين أمي، وأن تدعيني هنيهة مع المركيز.

فضغطت باكارا على يدها إشارة إلى أنها عالمة بما سيجري بينهما، وخرجت دون أن تجيب بكلمة.

فلما خلا المكان بالمركيز وابنة الدوق، ولم يكن يحيط بهما غير سكون الليل الهادئ، وتحت أقدامهما مياه البحر وفوق رأسيهما تلك القبة الزرقاء المرصعة بالنجوم جعل كل منهما ينظر إلى الآخر بضع دقائق، فلا هو يجسر على أن يسأل كيف أنها طلبت أن تنفرد به، ولا هي تجسر على مفاتحته بالحديث إلى أن تغلبت على نفسها، ونظرت إليه نظرة الحزين المكتئب، وقالت له: لقد عرفت الآن يا سيدي اسمك وتاريخك، وعلمت أنهم سرقوا أوراقك كما أنك قد علمت أنت أيضًا أن الذي تجاسر على سرقتها …

فقاطعها المركيز، وقال لها: إني أعلم يا سيدتي أنك من أشرف النساء وأسوأهن حظًّا.

– كلا يا سيدي إني لا أريد أن أكلمك عن نفسي، بل عن سواي فإن رجلًا لصًّا سفاكًا تنكر باسم رجل شريف، وتعرض لي وقد تجاسر ذاك الشقي أن يرفع نظره إلي، فخُدِعت باسمه الذي اختلسه حتى أحسب أنني أحببته، وأنا مستعدة أن أتحمل كل عقاب وأن أسمع الناس يقولون من حولي: إن ابنة الدوق سالاندريرا أوشكت أن تتزوج برجل سفاك. غير أنه يا سيدي يوجد بالقرب مني ومنك سيدتان شريفتان قد تتحملان مثل عقابي، وهما أمي وأختك.

– لقد فهمت يا سيدتي ما تريدين، فإني إذا أظهرت نفسي ظهر مكر ذلك السفاك، فكانت تلك الفضيحة داعية إلى قتل أمك وقتل أختي، ومعاذ الله أن أدعهما يتحملان أقل سوء من أجلي! فأجلي يا سيدتي زواجك بهذا الشقي إلى أجل غير محدود، وأنا أتنازل عن اسمي وعن ثروتي، ثم أقتل ذاك الرجل فتتظاهرين أنت بالبكاء على خطيبك، وتبكي أختي ذلك الذي كانت تحسبه أخاها، فيسلم شرفنا جميعنا من الأذى، ولا يقول أحد إن لصًّا أثيمًا تجاسر على أن يسرق اسمي، وأن يلمس يد أشرف فتاة، وإني أكتفي أن تنقذيني من السجن، فلعلي أرى ولو مرة في حياتي تلك الأخت العزيزة.

وكان المركيز يتكلم بلهجة المكتئب، وقد هاجت عواطف حنوه، فسقطت دمعة من عينه على خده، ثم انسكبت على يد ابنة الدوق التي كانت بين يديه، فأثرت بها تأثيرًا شديدًا، وقالت له: لقد كنت يا سيدي منخدعة، ولكن بين جنبي قلبًا نبيلًا لا يعرف البهتان، فأنا أنفق حياتي كلها على قدمي ذلك الرجل الذي يمد إليَّ يده في حين الشدة.

فلم يجسر المركيز على أن يتظاهر بإدراك قصدها، فقال: ماذا تقولين يا سيدتي؟

– أقول: يا سيدي المركيز إنك رجل كريم نبيل، فهل تريد أن تخلصني من العار، وتنجي أمي من القنوط، وتنقذ أختك التي تحبها حب العبادة؟

– مري يا سيدتي أطع.

فقالت بصوت ثابت أجش: أتريد يا سيدي المركيز أن تتزوجني؟

فصاح المركيز صيحة فرح وركع أمامها، وهو يقول: نعم … نعم … لأني أحبك.

فأجابته الفتاة بصوت يتهدج من التأثير: وأنا أيضًا، فإني أشعر بأني سأحبك.

٢٤

بينما كان فرناند روشي وباكارا ذاهبين إلى القصر، الذي تقيم فيه الدوقة وابنتها كان البارون بولاسكي، أي: روكامبول يسير في مركبته إلى قصر قومندان الميناء.

وذلك أن القومندان زار روكامبول في الفندق النازل فيه، فدعاه إلى مناولة الطعام عنده في المساء.

فلما كان المساء ذهب روكامبول في الموعد المعين، فاستقبله القومندان باحتفال عظيم على الباب الخارجي، ودخل به إلى القاعة الكبرى فأقام معه هنيهة، ثم اعتذر منه فخرج إلى غرفة ثانية لقضاء بعض الشئون.

وعند ذلك دخل زامبا، وهو خادم القومندان — كما يذكر القراء، فدنا من روكامبول باحتراس، وبعد أن التفت حواليه التفات المتحذر قال له: إن لي كلمتين أقولهما لك ثم أمضي، فقل لي أوصلتك رسائلي؟

– نعم؛ فقد قلت لي فيها أن أبقى في الفندق طول النهار.

– ألم تخرج منه أبدًا؟

– كلا …

– إذن فكل شيء يجري على ما تريد.

– ماذا تعني بهذا القول؟

– أريد أن أحدثك بأمور كثيرة غير أن الوقت لا يسمح لي الآن، فاعلم أن الأمر سيتم في هذا المساء.

– أي أمر؟

– قتل المركيز دي شمري، فقد دبرت كل شيء، وفي هذه الليلة لا يبقى في الوجود غير مركيز واحد.

فاضطرب روكامبول، وقال: أحقًّا ما تقول؟

– كل الحق، فاسمع الآن، إنك بعد العشاء يجب أن تظهر أمام القومندان أنك ترغب التنزه في البحر لصفاء الجو، وسكون البحر أو غير ذلك من الحجج.

– سأجد حجة لهذه النزهة، وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك يضع القومندان في خدمتك قاربًا صغيرًا يقوده خادمه وأحد المجرمين.

– ومن يكون هذا المجرم؟

– المركيز دي شمري.

– أتظن أنه يرسل معي المركيز؟

– بل إنني واثق.

– والخادم؟

– اصمت فسأخبرك بكل شيء؛ إذ لا بد لي الآن من الذهاب.

وبعد ما خرج زامبا دخل القومندان ومعه امرأته، فعرفه بها وأقاموا في تلك القاعة هنيهة، ثم فتح باب قاعة الطعام، وأقبل زامبا يدعوهم إلى المائدة، فخرجوا جميعهم من قاعة الاستقبال إلى قاعة الطعام، وجعل روكامبول يتحفهم بخير أحاديث الموائد مما تعلمه من أستاذه أندريا، ومن ألفته لعشرة الأعيان والظرفاء.

وقد فرغوا من الطعام في الساعة الثامنة ونصف، فدعا القومندان ضيفه إلى شرب القهوة في الرواق المشرف على البحر، فجعل روكامبول يتغزل بالنجوم السابحة في الفضاء، وبصفاء السماء تغزل الشاعر حتى استطرد في أوصافه البحر، وأشار إلى رغبته بالتنزه فيه، فأسرع القومندان ونادى زامبا، فقال له: قل لأحد المجرمين ليعد قاربًا لنزهة البارون واذهب أنت مع المجرم في خدمته، فامتثل زامبا وخرج.

أما روكامبول فإنه تظاهر بالانقباض حين ذكر المجرم، وكان القومندان قد شعر بمخاوفه، فقال له: لا تخشَ؛ فإن المجرم الذي سنرسله معك من أفضل الذين لدي من المجرمين، وفوق ذلك فسأرسل معه خادم غرفتي الخاص.

وبعد ذلك قدم زامبا، وأخبر مولاه أن القارب قد أُعِد لركوب البارون، فودع روكامبول القومندان وسار مع زامبا إلى البحر.

فقال له زامبا على الطريق: إننا نستطيع الآن أن نتكلم فأصغِ إليَّ، إننا سنذهب ومعنا المركيز إلى عرض البحر، ونخرج من الميناء فنحتجب وراء صخورها عن الأنظار.

– وأية فائدة من هذا الحذر والظلام كافٍ لسترنا عن العيون؟

– لست من رأيك؛ فإن إطلاق النار على الرجل كافٍ لفضيحتنا.

– إذن نقتله بالخنجر، فهو أقرب إلى الغاية.

– كلا … لأن الطعن بالخنجر لا يضمن الموت السريع، ولا بد أن تذكر ذلك.

– كفى ما مضى ولا تعد إلى مثل هذا التلميح.

– كما تريد، إن رصاصة المسدس تضمن هذا القتل، وها أنا الآن أرد إليك مسدسك فخذه واقتله به على غرة، فإنه قوي نشيط، فإذا علم بقصدك تُضْطَر معه إلى عراك عنيف.

فأخذ روكامبول المسدس ووضعه في جيبه.

وسار الاثنان حتى بلغا إلى الشاطئ الراسي فيه القارب، وكان فيه المركيز دي شمري بملابس المجرمين.

فدنا زامبا من روكامبول، وقال له همسًا: لا تقتله إلا حين أقول لك كلمة خاصة تكون الإشارة بيننا إلى وجوب قتله.

– وهذه الكلمة؟

– هي أن أقول حين بلوغنا عرض البحر: «أيها المركيز أخبرنا بقصتك، فإنك مركيز حقيقي كما يُقال.»

– وعند ذلك أطلق عليه؟

– نعم؛ فإنه يوجد في مسدسك ست رصاصات، فإذا اضطررت فأطلقها عليه كلها إلى أن يموت.

– كن واثقًا، فسأقتله برصاصة واحدة.

ثم نزلا إلى القارب، فارتعش روكامبول حين رأى ذلك المركيز بملابس المجرمين، وقد كان رآه في تلك الباخرة قبيل غرقها منذ عامين بملابس الضباط، ولا يمكن اللص أن يرى الرجل الذي سلبه إلا أن يُصاب بمثل هذا الاضطراب، غير أن اضطراب روكامبول كان شديدًا، حتى إنه أوشك أن يسمع دقات قلبه، ثم اصفر وجهه كأنه قد نسي أنه متنكر، فلا خوف من أن يعرفه المركيز.

ولكن هذا الاضطراب لا يطول في قلب مثل قلب روكامبول، فما لبث أن عاد إلى السكينة، وذهب فجلس في مؤخر القارب وأدار ظهره للمركيز، فجعل هذا السجين يجذف وانطلقت السفينة.

وكان زامبا جالسًا أمام روكامبول، فقال له بصوت منخفض: إن المركيز يعرف الإنكليزية، فكلمه بها.

فهز روكامبول يده مشيرًا إشارة نفي، ثم قال له همسًا: إنه قد يعرفني من صوتي.

وعند ذلك دنا زامبا فجلس بقرب المركيز، وأخذ مجذافًا فساعده بالتجذيف حتى خرج بهم القارب، فقال له المركيز: إننا نستطيع الآن نشر الشراع.

فأجابه زامبا: كما تشاء يا حضرة المركيز.

ثم نهض المركيز فنشر الشراع، ولما أتم مهمته سأل زامبا قائلًا: إلى أين تريد أن نسير؟

– إلى عرض البحر.

– وبعد ذلك؟

– تسير بالقارب إلى ذلك الصخر البعيد الذي يبدو لنا بشكل نقطة سوداء.

فامتثل المركيز ودفع القارب إلى حيث أمره.

وعند ذلك دنا زامبا من روكامبول، وقال له: أليس من الغريب أن أصدر أوامري للمركيز دي شمري، وأن أقف أمامك في مواقف الاحترام.

فضغط روكامبول عليه ضغطًا شديدًا، وقال له همسًا: كفى، فلا تعد إلى هذه الأبحاث.

أما ذلك المركيز الحقيقي، الذي مدت إليه ابنة سالاندريرا يدها تسأله الزواج، فإنه كان يصدع بأوامر زامبا، ويسير بالسفينة كما يريد دون أن يظهر عليه شيء من الاكتراث بما كان يتحدث به زامبا وروكامبول بأصوات منخفضة.

وكانت السفينة تسير بسرعة عظيمة إلى أن بلغت القصر، الذي تقيم فيه الدوقة سالاندريرا وابنتها، فقال زامبا بلهجة المتهكم للسجين: أتعرف يا حضرة المركيز صاحب هذا القصر؟

– نعم؛ فهو لأسقف غرناطة …

– أهنا تقيم خطيبة سميك؟

فأجابه المركيز بعظمة: ليس لي سمي.

فالتفت زامبا إلى روكامبول، وقال له بصوت منخفض: انتبه؛ فقد آن الأوان.

وكان القارب قد اجتاز أسوار القصر، فبات خارجًا عن الميناء والمركيز جالس فيه أمام مصباح خلافًا لزامبا وروكامبول، فقد كانا مقيمين في مؤخر القارب لا تصل إليهما أشعة ذلك النور.

فعاد زامبا إلى محادثته، فقال له: كيف تقول إنه ليس لك سمي؟

– ذلك لأني أقول الحقيقة.

– ومن هو المركيز دي شمري؟

– هو أنا!

– والذي يقيم في باريس؟

– هو مزوِّر محتال.

وكان روكامبول في ذلك الحين أخرج المسدس من جيبه، وحمله بيده متأهبًا للإطلاق حين صدور الإشارة المتفق عليها.

أما زامبا، فإنه قال للمركيز: إذن فأنت مركيز حقيقي! فإذا كان ذلك فقُصَّ علينا حكايتك؛ فلا بد أن تكون غريبة.

غير أن المركيز لم يجد مجالًا للجواب، فإن روكامبول أطلق عليه المسدس، فانقلب المركيز في السفينة، وصاح صيحة شديدة، فأطلق روكامبول عليه ثلاث رصاصات من مسدسه، فصاح المركيز صياحًا مؤلمًا، وحاول أن ينقض على روكامبول غير أنه انقلب على ظهره، وسقط في البحر فوارته الأمواج عن الأبصار.

وعند ذلك أسرع زامبا إلى تولي أمر الشراع، وهو يقول لروكامبول: أهنئك الآن؛ فقد أصبحت مركيزًا حقيقيًّا لا ريب فيه.

٢٥

وقد فرح روكامبول في بدء الأمر فرحًا وحشيًّا لا يُوصَف لتخلصه من هذا المركيز، وأطل من القارب كي يرى جثة المركيز المقتول، فلم يرَ لها أثرًا، وأيقن أن الأمواج قد ابتلعتها.

وساد السكون هنيهة بين هذين اللصين، ثم قال زامبا لروكامبول: تولَّ أنت أمر الدفة وأنا أتولى أمر الشراع؛ إذ لا بد أن تكون خبيرًا في هذه المهنة.

– نعم؛ فلقد كنت في حداثتي بحارًا في بوجيفال.

– إذن سر بنا.

– إلى أين؟

– إلى حيث ننام.

– أتعود إلى قاديس؟

– إلى أين إذن تريد أن تعود إذا لم نعد إليها؟

– والقتيل؟

– إنه مات.

– أعرف أنه مات، ولكن كيف نوضح سبب اختفائه.

– إن أمره منوط بي فلا تخف؛ لأني سأقول للقومندان إنك قتلته.

– ويحك! أجننت؟!

– كلا، فإن القومندان سيشكرك لقتله أجمل الشكر.

وكان زامبا قد نال السيادة المطلقة على روكامبول في هذين اليومين، فلم يسع روكامبول غير الامتثال له؛ لأنه بات واثقًا به أتم ثقة، وسار بالسفينة عائدًا إلى قاديس.

فلما سارت السفينة في الخطة التي رسمها قال له زامبا: والآن يا حضرة الدوق دي شمري سالاندريرا والنبيل المختلط، اسمح لي أن أوقفك على حقيقة حالتنا، فلقد قلت لك إني سأخبرك بأمور كثيرة.

– قُلْ؛ فإنِّي مصغٍ إليك.

– لقد قلت لك قبلًا إنه لم يعد سبيل للخوف من الكونتس أرتوف.

– أتظن؟

– بل أؤكد؛ فإنها برحت قاديس في هذا المساء.

– لماذا؟

– كي تعود إلى زوجها، فإنه بات في حالة النزع.

– وابنة الدوق؟

– لم ترَ الصورة، وقد سافرت باكارا وهي تعتقد أن ابنة الدوق عالمة بكل شيء، وأنها لم تعد تخفى عليها خافية من حقيقة أمرك.

– كيف ذلك؟! فإني لا أفهم شيئًا من هذه الألغاز.

– ذلك لأنني خدعت الجميع من أجلك فاسمع: إن باكارا خافت في بدء الأمر أن تفاجئ ابنة الدوق بالحقيقة؛ حذرًا عليها من سوء العاقبة، فأرادت أن تتلطف بإطلاعها على الحقيقة بالتدريج، فبدأت بأن قدمت لها المركيز دي شمري.

– ماذا تقول؟

– لا تخف؛ فإن المركيز قد حكى حكايته لابنة الدوق، ولكن باكارا منعته عن أن يبوح باسمه إلى أن يحين الوقت اللازم، وقد عهدت إلي باكارا أن أقدم الصورة، وأن أنبهها إلى اسم المكتوب فيها؛ كي ترى بعد ذلك الشبه بينها وبين المركيز، وتعلم من تاريخها أنها قديمة لا ريب فيها وأنك خداع محتال.

ثم إنه ورد إلى باكارا تلغراف يفيد أن زوجها بعد أن تماثل إلى الشفاء أُصِيب فجأة بالفالج، وأنهم ينتظرون موته في القريب العاجل، فلم تجد بدًّا من الرحيل إلى زوجها، فعهد إلي بقضاء المهمة، وأعطتني الصورة فأعطيتك إياها.

– دون أن تراها ابنة الدوق؟

– هذا لا ريب فيه.

– وهي لا تعلم أن هذا السجين الذي رأته المركيز الحقيقي؟

– إنها لا تعلم شيئًا على الإطلاق، فإني ذهبت إليها بحجة تقديم احترامي لها، والتماسي منها أن تدخلني في خدمتها.

– وماذا أجابتك؟

– أجابتني أنه يجب أن ألتمس منك هذا الالتماس بعد بضعة أيام؛ أي: بعد عقد الزواج؛ فإن كل شيء قد أُعِد لحفلة القران.

فبرقت أسرة روكامبول، وقال: أقالت — حقيقةً — هذا القول؟

فابتسم زامبا ابتسامة هزء لم يرها روكامبول لاشتداد الظلام، وقال: لماذا تعجب من قولها ألا تعلم أنها تحبك؟ ثم إنها واثقة من أنك لا تزال في باريس، ودليل ذلك أنها أعطتني كتابًا لك كي أضعه في البوستة.

– كتابًا لي؟

– نعم؛ وهو معنون باسمك في شارع فرنيل في باريس.

– وهل وضعته في البوستة؟

– ما هذا القول؟! أتحسبني أبله إلى هذا الحد؟!

– إذن؛ ماذا صنعت به.

– إنه معي، ثم مد يده إلى جيبه، وأخرج الكتاب ودفعه إليه.

– ماذا أرى؟! أفتحته أيها الذميم؟!

– كيف لا أفتحه؟! ألسنا الآن شريكين، ويجب أن أعلم من أمورك ما تعلمه؟!

– لا أعلم الآن ما يصدني عن أن أسيل دماغك، فإنه لا يزال بمسدسي رصاصتان.

– يمنعك عن قتلي الحكمة.

– لماذا؟

– لأنك إذا قتلتني يفتضح أمرك، ألعلك نسيت ذلك الإقرار الذي كتبته بخطك؟

– وماذا صنعت به؟

– إني أودعته أمس عند أحد القضاة مختومًا، وقلت له: إذا مضى أسبوع دون أن تراني فافتحه.

– يسرني أنك أهل لي وأنني أهل لك، وسنتفق إلى آخر العمر، والآن خذ عني هذه الدفة ودعني أقرأ كتاب ابنة الدوق.

فامتثل زامبا وأدنى روكامبول المصباح منه، ففتح الكتاب وقرأ ما يلي:

أيها الحبيب

سأبرح مع أمي مدينة قاديس صباح غد، وقد تعجب لهذا السفر غير أن سببًا لا بد من ذكره لك، وهو أن الملكة غادرت قاديس بعد أن قالت لي: «الوداع أيتها المركيزة، إنني أنتظرك مع زوجك في مدريد بعد خمسة عشر يومًا، وأريد أن تصيري دوقة، فابرحي قاديس الآن إذ يجب أن يُعقَد قرانك في سالاندريرا، كما يقتضيه واجب الحداد.»

هذا هو السبب الذي دعانا إلى السفر، ونحن ننتظرك في قصر سالاندريرا، وسيُعقَد قراننا قربي أسقف غرناطة، فإنك تعلم أن الزواج المدني غير موجود في إسبانيا، وليس فيها غير الزواج الديني.

ثم لا أكتمك أنني أخبرت قريبي الأسقف بجميع ما كان بيني وبينك من حين تصادفنا إلى حين الخطبة، وما كتمت عنه غير مسألة الدون جوزيف، فلامني أشد اللوم لاندفاعي معك، وقال لي: إنه لا يجب أن تنظري المركيز قبل الزواج، فليحضر إلى سالاندريرا متى شاء غير أنه لا يحق له أن يراك، إلا في ساعة عقد القران، ولا يحق لك أن تخرجي من غرفتك قبل ذلك العهد.

وهذا آخر ما سأحتمله من الظلم أيها الحبيب، ولكن لا سبيل إلى مخالفة هذا القريب، فإنه شيخ شديد المحافظة على التقاليد القديمة، التي كانت سائدة في إسبانيا منذ قرنين، وهي أن الخطيب لا يحق له أن يرى خطيبته إلا في الكنيسة حين عقد القران، فيدخل كل منهما من باب، ويلتقيان أمام الهيكل.

فلنمتثل له إذ لا سبيل لمخالفته، وعلى ذلك فإنني أنتظرك في سالاندريرا بعد ثمانية أيام؛ لأن زواجنا سيُعقَد في ١٤ من الشهر الجاري، وهو تاريخ تتفاءل به عائلتنا خيرًا، فاحضر في ١٣ أو في صباح ١٤ الجاري، فإذا حضرت في ١٢ فلا تصعد إلى القصر إرضاءً للأسقف، بل أقم في منزل الصيد، وقد صدر الأمر إلى وكيل هذا القصر لاستقبالك.

إلى اللقاء أيها الحبيب، فاصبر على التقاليد القديمة التي لا بد من رعايتها، فإن ساعة الهناء آتية وكل آتٍ قريب.

خطيبتك
كونسبسيون

وقد تلا روكامبول الكتاب بإمعان شديد، فلما أتم تلاوته قال لزامبا: إنك فتحت الكتاب فلا بد أن تكون قرأته؟

– قرأته دون شك.

– ما رأيك فيه؟

– أرى أننا في اليوم السابع من الشهر، وفي اليوم الرابع عشر منه تصبح زوجًا لابنة الدوق.

– لا أنكر ذلك ولكني أسألك عن رأيك في هذا الزواج الغريب.

– وما وجه الغرابة فيه؟

– إنني لا أستطيع أن أرى خطيبتي إلا ساعة عقد الزفاف.

فابتسم زامبا، وقال: يظهر أنك لا تعرف أسقف غرناطة، فإنه رجل بسيط القلب إلى حد البله شديد التمسك بالتقاليد، حتى إنه يحسب في كل أحواله أنه لا يزال في عهد شارلكان.

– أتعرف أنت سالاندريرا؟

– نعم؛ فقد أقمت فيها ثلاثة أشهر مع الدون جوزيف.

– صف لي منزل الصيد الذي ذكرته لي ابنة الدوق في كتابها.

– إنه منزل جميل ستكون فيه على ما تريد.

– وما رأيك الآن؟

– أرى أنه يجب أن تبقى في قاديس متنكرًا بزيك هذا خمسة أيام.

– وبعد ذلك؟

– نذهب كلانا إلى سالاندريرا، وفي الطريق تغير زيك، وتستبدل البارون بولاسكي بالمركيز دي شمري الكاذب.

– قل: الحقيقي، أيها الوقح؛ إذ لا يوجد الآن مركيزان.

– لا تؤاخذني فقد نسيت أنك قتلته، ثم جعل يضحك ضحكًا شديدًا لم يحمله روكامبول على شيء من محامل الريب.

وبعد ذلك بعدة دقائق دخل القارب إلى الميناء، فطوى زامبا الشراع، وجعل يجذف حتى وصل إلى الشاطئ المبني عليه منزل القومندان.

وكان القومندان يتنزه في الرواق، فقال روكامبول لزامبا.

– ماذا عزمت أن تصنع بشأن المركيز؟

– كن مطمئنًّا ودعني أتكلم.

ثم نزل زامبا إلى الشاطئ، فتبعه روكامبول حتى وصلا إلى القومندان، فقال القومندان لزامبا باللغة الإسبانية: لماذا أسرعت بالرجوع؟ ألعل حضرة البارون أُصِيب بالدوار؟

– كلا يا سيدي، بل إن المركيز أُصِيب به.

– أي مركيز تعني؟

– المجرم السجين.

– فانذهل القومندان، وقال له: أين هو الآن؟

– لقد مات يا سيدي؛ فإن البارون قتله.

وكان روكامبول يتظاهر أنه لا يفهم شيئًا من هذا الحديث؛ لأنه أخبر القومندان أنه لا يعرف اللغة الإسبانية.

أما القومندان فإنه انذهل انذهالًا عظيمًا لما حدثه به زامبا، وقال له: ويحك! ألعلك تمزح فيما تقول؟!

– كلا يا سيدي، فإن هذا الذي كان يدعو نفسه مركيزًا كان يظهر بأنه يحاول الفرار منذ عهد بعيد، وذلك أنه حين بلغ بنا إلى عرض البحر قال لنا: «إنكما تعرفان أن تديرا القارب، أما أنا فإني أعرف أن أسبح.» ثم ترك الدفة وألقى نفسه في البحر، وعند ذلك عامله البارون معاملة بولونية.

– كيف ذلك؟

– ذلك أنه كان معه مسدس فأخرجه من جيبه، وأطلقه على الهارب بسكينة الإنكليز فقتله للحال.

فأسرع القومندان إلى روكامبول، وقال له بالإنكليزية: لقد أحسنت يا سيدي غاية الإحسان بما فعلت، فإن قتل الهاربين من السجون مأثرة عندنا تستحق كل ثناء.

فقال له روكامبول: إني عملت ما يجب علي؛ إذ لم أطق أن تتحمل من أجلي تبعة فرار هذا المجرم الذي أرسلته لخدمتي.

وفي اليوم التالي جاء زامبا إلى الفندق المقيم فيه روكامبول، وأعطاه نسخة من جريدة تُطبَع في مدريد، فقرأ فيها حكاية قتل المجرم السجين مشفوعة بالثناء العظيم على قاتله البارون بولاسكي، فقرأها روكامبول وهو يضحك من تغفل القومندان.

٢٦

مضى على هذه الحادثة خمسة أيام كان روكامبول يزور في خلالها القومندان، وقد أعد لضيفه حفلة راقصة حضرها روكامبول بزي البارون بولاسكي، فكانت الفتيات يتهافتن على مراقصته لاشتهاره بقتل السجين، الذي كان يحاول الهرب، على ما كان عليه من القبح بزيه الذي كان متنكرًا فيه، فإن للشهرة لدى أكثر النساء مقامًا فوق مقام الجمال.

وكان زامبا يأتي إليه في كل يوم، وقد أخبره بأن باكارا قد سافرت إلى باريس، وأن الدوقة وابنتها قد سافرتا إلى سالاندريرا، فصرف روكامبول تلك الأيام الخمسة بالتنزة في حدائق تلك المدينة ومينائها.

وفي اليوم الخامس جاء زامبا، وقال له: لقد حان زمن الرحيل إلى سالاندريرا.

فقال روكامبول: إني متأهب للسفر فقد سئمت الانتظار، ألا ترافقني في هذه السفرة؟

– كيف لا أصحبك؟! ألا يجب أن أحضر قران أسيادي؟

– ماذا تعني بأسيادك؟

– ألعلك نسيت أنك عينتني وكيلًا لثروتك بعد الزواج؟

– لقد أصبت، فلنسافر.

وذهب روكامبول إلى منزل القومندان، فودعه مدعيًا أنه وردت إليه أنباء خطيرة تدعوه إلى سرعة العودة إلى بلاده، وعاد إلى زامبا فركب وإياه مركبة، وانطلقت بهما إلى برسلونه.

وقد برح قاديس وهو متنكر بزي البارون، فلما وصل إلى برسلونه ذهب إلى أحد فنادقها للاستراحة، فاختلى مع زامبا في غرفة وهناك خلع رداء التنكر، وعاد إلى الشكل الذي عُرِف به في باريس، وهو شكل المركيز دي شمري.

وفي المساء برحا برسلونه وسافرا إلى بمبلين فأقاما فيها، وذهب زامبا يبحث عن جوادين للسفر عليهما إلى سالاندريرا؛ لأن الطريق إليها لا تصلح لسير المركبات، ثم عاد بعد أن قضى هذه المهمة، وجلسا حول مائدة معتزلة في الفندق يتعشيان.

فلما فرغا من العشاء اقترح زامبا على روكامبول أن يشرب زجاجة من الخمر، فقال له روكامبول: ألم تشرب على المائدة؟

– نعم، ولكني ظمآن وقد أعجبني خمر هذا الفندق، ثم إني أريد أن أشرب أيضًا لقصد آخر، وهو أننا سنجتاز مسافة طويلة لا بد لنا فيها من المسامرة على الطريق، وقد تعودت أن لا ينطلق لساني إلا متى ارتويت من الشراب؛ ولذلك فسأكون لك خير نديم ينسيك مشاق السفر الطويل.

ثم تركه هنيهة؛ كي يضع العلف للجوادين وعاد يطلب زجاجة، فجعل يكرع منها الكأس في أثر الكأس حتى فرغت، فطلب زجاجة أخرى وصب منها كأسًا فشربه، وقال: إن الشرب يفرح قلبي، ومتى كنت فرحًا أحب جميع الناس.

فكان روكامبول يضحك منه، ولكنه كان يخشى عاقبة شربه؛ لأنه رأى أن أعطافه تترنح من السُكْر.

ثم جعل لسانه ينعقد وأصبحت حركاته بطيئة فزاد خوف روكامبول، غير أنه لم يجد بدًّا من مسالمته، فصب له كأسًا، فشربها زامبا، وقال: الحق أنك تعجبني يا سيدي الدوق، وغدًا سيكون فرحي عظيمًا لا يُوصَف.

– لماذا؟

– لأنك ستتزوج غدًا ابنة الدوق، وثق يا سيدي أنني لا أفرح من أجل تعييني وكيلًا لأملاكك، بل إني أحبك.

– إذن، فلا يهمك أن تكون وكيلي.

– لا أحب هذا المنصب، إلا لأني سأكون دائمًا بقربك، أتحسب أن الصداقة لا تكون إلا حيث تكون الفائدة؟

– إذن فأنت صديقي؟

– إلى آخر العمر.

– أتبرهن لي عن هذه الصداقة؟

– عندما تريد.

– أحب أن أعرف ما يكون برهانك.

– لقد طرأ لي خاطر بديع.

– ما هو هذا الخاطر؟

– أتقول يا سيدي الدوق: إني لست صديقًا؟

– أنا لم أقل ذلك، ولكني أقول: إن الذي دعاك إلى هذه الصداقة هو أنك ستغدو وكيلي و…

فضحك زامبا ضحكًا عاليًا، وقال: إنك تريد أن تشير إلى هذه الورقة التي استكتبتك إياها؟

– نعم.

– ألعلك خائف منها؟

– كلا … ولكنها لو لم تكن موجودة لما أخللت بوعدي، وسيان كانت لديك أو فقدتها، فإنك ستكون وكيلي وصديقي في حين واحد.

– أحق ما تقول؟

– أقسم لك خير الأقسام إنني لا أنكث بوعدي لك، وأية فائدة لي من الغدر بك، فإذا لم أعينك وكيلًا فلا بد من تعيين سواك.

– إذا كانت هذه الورقة تسيئك؟

فقاطعه روكامبول، وقال: ليس أنها تسيئني فقط، بل إنها تنغص عيشي، وأنا أعلم علم اليقين أنك لا تستخدمها ما زلت حيًّا؛ إذ لا فائدة لك من فضيحتي، ولكن أليس الإنسان معرضًا للموت الفجائي، فإذا أُصِبت — لا سمح الله — بهذا المكروه، أفلا يفتح القاضي الغلاف الموجود فيه إقراري كما أوصيتك ويطلع على كل شيء؟

فقهقه زامبا ضاحكًا، وقال: ألعلك صدقتني؟

– بماذا؟

– بأنني أودعت إقرارك عند أحد القضاة إلى آخر ما لفقته من هذا الحديث.

– الحق أنني صدقتك، ولا أنكر عليك، فماذا صنعت به؟

– إنني أودعته جيبي وهو معي الآن.

– إنك تمزح دون شك.

– كلا … وسأطلعك عليه.

ثم مد يده إلى جيبه، وأخرج منه تلك الورقة التي استكتبها روكامبول، فلما رآها روكامبول اضطرب اضطرابًا شديدًا، ونظر إلى المائدة فرأى سكينًا فهم أن يقبض عليه، ويطعن زامبا التماسًا لهذه الورقة، غير أن زامبا لم يمهله فإنه قال: إنك تريد برهانًا عن صداقتي فانظر إلى هذا البرهان.

ثم أخذ الورقة فأدناها من المصباح، وجعل يحرقها إلى أن أصبحت رمادًا.

فجُنَّ روكامبول من فرحه، وقال: ماذا تصنع؟

– إنني أحرق ما كتبته لثقتي بك، فإنني ضامن أنك لا تخدعني وأنك ستفي بما وعدت.

فسُرَّ روكامبول سرورًا عظيمًا، وقام إلى زامبا فضمه إلى صدره، وقال له: ستكون خير صديق لي ما حييت فلا يفرق بيننا جاه وتباين ثروة ومقام.

وكان يظهر من زامبا أنه قد ضاع رشده من السكر غير أنه ما لبث أن نهض، وقال: هلم بنا إلى السفر، فإن ركوب الجياد وصفاء الهواء يذهبان عني ثقل هذه النشاة.

غير أنه بقي يترنح، فقال له روكامبول: توكأ علي …

ففعل وخرج الاثنان من الفندق، فأسرجا الجوادين.

ثم دنا زامبا من جواد روكامبول، ففحص سرجه، وقال له: لقد وضعت لك في عيني السرج مسدسين محشوين، فإن الطريق التي سنجتازها مقفرة وعرة حتى لقد يُقتَل السالك فيها دون أن يعلم أحد بخبره.

فاختلج فؤاد روكامبول، وقال في نفسه: لقد أخطأت أيها الصديق بإحراقك الورقة، فإنها كانت خير واقٍ لك من الموت.

٢٧

وركب الاثنان جواديهما فكانت أعراض السكر لا تزال بادية على زامبا، غير أنه جعل يشتد بالتدريج، فلما بعدا عن المدينة قال له روكامبول: سر أمامي كي تهديني إلى الطريق.

فأبى وقال له: إن الطريق لا تزال متسعة، بحيث نستطيع أن نسير فيها جنبًا إلى جنب.

ثم دنا منه وجعلا يتحدثان.

وكان الطقس صافيًا والهواء بليلًا، ونور القمر ساطعًا، فما زالا يسيران حتى ظهرت أمامهما سلسلة جبال، فانعطف زامبا في منعرج، وسار في طريق تلك الجبال وهو يقول: هذه هي الطريق إلى سالاندريرا.

فلحق به روكامبول وسار بجانبه، فدار بينهما الحديث الآتي فقال زامبا: إننا سنخترق هذه الجبال، وأنا واثق من أننا لا نلقى في طريقنا أحدًا من الناس، إلا بعض اللصوص الذين يكمنون للمسافرين.

– ألعلك خائف منهم؟

– كلا؛ فإن الذئاب لا تأكل بعضها بعضًا، ثم إننا بعد أن نخترق هذه الجبال سنمر بطريق ضيقة تشرف على هوة سحيقة لا حد لعمقها كما يُقال.

– وماذا تهمنا هذه الهوة؟

– لا يهمنا أمرها، ولكني أحببت أن أبين لك الطريق التي نسلكها.

– وأين هي هذه الهوة؟ ألعلها بعيدة من هنا؟

– كلا … فإنها قريبة جدًّا، وقد ذكرتها لك؛ لأنه ما مر أحد بها إلا انكمش قلبه وتولاه الخوف والذعر.

– لماذا؟

– لأن اللصوص يكمنون بالقرب منها، فإن قتلوا من يقع بأيديهم من المسافرين ألقوه فيها إخفاء لأثره، حتى باتت تُلقَّب بمقبرة المسافرين، ومن أخطارها ضيق الطريق المشرفة عليها، فلا يستطيع فارسان أن يمرا بها — جنبًا إلى جنب — لضيقها، بل يُضْطَر أحدهما أن يسير أمام الآخر، فإذا بُوغِت المسافر سقط بجواده إلى الهوة، فلا يعلم به غير الله.

– أحقيقة ما تقول عن عمق هذه الهوة؟

– لقد رأيتها بعيني في رائعة النهار، فما استطعت أن أرى عمقها، حتى إنك إذا ألقيت فيها حجرًا ضخمًا لم تسمع صوت هبوطه؛ إذ يستقر في غور بعيد من ذلك ما أرويه لك عن حادثة جرت أمامي، حين كنت في خدمة الدون جوزيف، وهي أنه خرج يومًا من سالاندريرا لصيد الذئاب، فجعلنا نطارد ذئبًا حتى بلغ إلى تلك الطريق الضيقة، فأطلق عليه الدون جوزيف رصاصة أصابت منه مقتلًا، فسقط يهوي إلى تلك الهوة السحيقة، فأسرعنا لنرى أين سقط فلم نرَ له أثرًا.

– ألعل فم الهوة متسع؟

– يبلغ اتساعه نحو مترين بحيث يسقط فيها الفرس والفارس.

فارتعش روكامبول، وقال: ألا تزال بعيدة عنا؟

– كلا، فقد قربنا منها جدًّا، وها نحن قد دخلنا في الوادي فلا يمر بنا ربع ساعة حتى نبلغ إليها، ولكنك لا تستطيع أن تراها لنكد الطالع، فإن القمر قد احتجب عن الأفق وبتنا في ظلام دامس.

– لا بأس، فسنأتي إليها مرة في النهار، ثم لكز بطن جواده فسار حثيثًا يتبعه زامبا، وكان روكامبول يفتقد المسدسين من حين إلى حين.

ثم وصلا إلى الطريق الضيقة، فتقدم زامبا من روكامبول؛ كي يرشده إلى الطريق وجعل يسير أمامه ساكتًا، وهو غارق في لجج التصورات فلم يزعجه روكامبول، وجعل هو أيضًا يفتكر، ويتمعن في خطة رسمها لنفسه.

وبعد ربع ساعة صحا زامبا من ذهوله، وقال لروكامبول: هو ذا الهوة فقد بلغنا إليها.

– إني لا أرى شيئًا؛ فإن الظلام دامس.

فترجل زامبا عن جواده، وقال له: اصبر فسترى.

ثم أخذ حجرًا ودنا من الهوة فألقاه فيها، وقال له بعد حين: أسمعت صوت سقوطه؟

– كلا، ولا بد أن تكون شديدة العمق، فإني سمعت صوت احتكاك الحجر بالعشب على جدرانها، ولكني لم أسمع صوت بلوغه إلى الأرض.

– إنها أعمق مما تظن.

ثم بحث عن حجر أضخم من الأول، فحمله بيديه وحاول أن يلقيه في الهوة، غير أنه قبل أن يتمكن من إلقائه أخرج روكامبول المسدس وأطلق عليه النار.

فصاح زامبا صيحة هائلة، وانقلب إلى الأرض ثم هوى إلى الهوة دون أن يسمع روكامبول صوت سقوطه، فضحك ضحك المنتصر، وقال: لا شك أن الأبالسة أخذت بناصري، فلقد تخلصت من أشد عدو لي.

وعندما بزغ الصباح وصل بالمركيز فردريك ألبرت دي شمري الذي لم يبقَ سواه يسمى بهذا الاسم إلى قرية صغيرة، فكان أول كلمة قالها سؤال أحد القرويين عن قصر سالاندريرا، فأرشدوه إلى الطريق، وأخبروه أنها تبعد خمس ساعات عن هذه القرية، فذهب إلى أحد الفنادق، فأكل ثم نام فيه إلى غروب الشمس، فركب جواده وسار إلى سلاندريرا، وهو يناجي نفسه بأماني السعادة، ويبني القصور في إسبانيا.

٢٨

وفي الساعة العاشرة وصل فسأل عن قصر الصيد، كما أمرته ابنة الدوق وذهب إليه فاستقبله الوكيل استقبالًا حافلًا، وأعد له مائدة فاخرة.

فأكل روكامبول بشهية عظيمة، وقد وجد على المائدة زجاجة من الخمر أيقن أن ابنة الدوق أرسلتها إليه خاصة من القصر، فشربها بجملتها ووجد بها لذة عظيمة، ولكنه بعد فراغه من الطعام شعر بأن الخمر أثر عليه تأثيرًا عظيمًا على فرط إدمانه على شرب الخمور، فحسب أن الغرفة تدور، ولم يعد يستطيع القيام.

فأسرع إليه وكيل القصر، وقال: لا بد أن يكون أثر عليك هذا الخمر؛ لأنه عتيق فتوكأ علي كي أوصلك إلى الغرفة التي تنام فيها.

فاتكأ روكامبول عليه، وسار معه حتى أوصله إلى غرفة مفروشة بأفخر الرياش، فقال في نفسه: لا بد أن تكون كونسبسيون قد أمرته بإعداد هذه الغرفة والمبالغة بإتقان فرشها، فإني أجد ما فيها يدل على حسن الذوق.

ولكنه ما لبث أن صعد إلى السرير، حتى أطبق عينيه ونام نومًا عميقًا تمثلت له السعادة في أحلامه بأبدع مظاهرها، فرأى نفسه دوقًا إسبانيًّا وزوجًا لأشرف وأغنى فتاة، ثم انتقل بأحلامه إلى البرازيل حيث عُيِّن سفيرًا إسبانيًّا لدى إمبراطورها، وما زال يتنقل فوق قنن هذه الأماني الجميلة إلى أن بلغت الثامنة من الصباح، فشعر أن يدًا تهزه ففتح عينيه منذعرًا وهو يود أن تبقى له تلك الأحلام، فرأى وكيل القصر واقفًا أمامه وقفة الاحترام، وقد حمل قبعته بيده، وقال: ليعذرني مولاي إذا تجاسرت على إيقاظه، فقد بلغت الساعة الثامنة وأزف الوقت.

ففرك روكامبول عينيه، ووضع يده على جبينه كمن يتذكر، وقال: لقد أصبت؛ فإن موعد الزفاف في الساعة التاسعة.

ثم وثب عن سريره إلى الأرض، وهو يقول: أليس من العار أن أنام يوم زفافي إلى مثل هذه الساعة المتأخرة.

فقال له الوكيل: ليأذن لي مولاي المركيز أن أخبره ببعض التفاصيل.

– عن أي شيء؟

– عن حفلة الزفاف.

فنظر إليه روكامبول دون أن يفهم ما يريد، وقال له: قل ما تشاء.

– إنه في إسبانيا يجب على كل نبيل أن يتزوج حسب التقاليد، التي كانت جارية في القرون الوسطى.

– ألعلهم يريدون أن ألبس خوذة ودرعًا؟

– كلا، ولكنهم سيلبسونك قبعة تستر جميع وجهك، ويكون معك فريق من الرهبان.

– ما شأن هؤلاء الرهبان؟

– إنهم يقبضون عليك وتكون خاضعًا لأوامرهم.

– إلى متى؟

– إلى حين انتهاء حفلة القداس.

– أهذا كل ما يطلبونه مني؟

– نعم، وقد حضر الرهبان وهم هنا الآن.

– ماذا يريدون؟

– يريدون أخذ سيادتكم إلى الكنيسة.

فأطل روكامبول من نافذة الغرفة المقيم فيها، فرأى الكنيسة تحيط بها أشجار باسقة، ولم ير أحدًا من الناس، وكل شيء حولها يدل على الكآبة، فانقبض صدره وقال في نفسه: ما هذا العرس الذي يشبه الجنازة؟!

أما الوكيل فإنه عاد إلى حديثه، فقال: إن الرهبان ينتظرونكم يا مولاي.

– لماذا ينتظرونني فهذه الكنيسة أمامي، وأنا أعرف الطريق وحدي.

– إنك لا تدخل إليها من هذا الباب الذي تراه يا سيدي، بل من باب آخر عيَّنه أسقف غرناطة.

– إن هذا الأسقف مجنون كما يظهر.

– إنه شديد التمسك بالتقاليد يا سيدي، وهو يريد أن يشبه زواجك بابنة الدوق بزواج المدموازيل كينا جوند دي سالاندريرا، الذي جرى من أربعمائة عام مع السنيور لورانزو دي ألفيمار في ملك فرديناند الكاثوليكي.

– كيف جرى ذلك الزواج؟

– إن هذا القصر الذي نحن فيه الآن كان كنيسة في ذلك العهد، فقدم إليها الزواج ليلة زفافه كما قدمت أنت، وبقي فيها طول ليلته منعكفًا على الصلاة، ثم جاء إليه أربعة من الرهبان فعصبوا عينيه، وألبسوه ملابس العرس، وهي قميص بسيط من الكتان يلبس فوقها ثوب راهب.

فقاطعه روكامبول، وقال: إن هذه التقاليد لا تُطاق، ولم يعد لدي شك أن أسقف غرناطة من أعظم المجانين.

– وأنا من رأيكم يا سيدي، وأظن أن المدموازيل كنسبسيون تشترك معنا بهذا الحكم، فإني سمعتها أمس تقول لهذا الأسقف: «إن هذه التقاليد لا تحتمل في عصرنا الحاضر.»

– وماذا أجابها الأسقف؟

قطب حاجبيه وسكت فلم تجد ابنة الدوق بدًّا من السكوت؛ لأن هذا الأسقف شيخ عجوز وثروته تُعَد بالملايين، وهو لا وارث له سواها.

فهان عند روكامبول ما يلقاه من الضجر عند ذكر الملايين، فقال له الوكيل: وفوق ذلك فإن سيدتي قد أعطتني كتابًا؛ كي أسلمه لكم وهذا هو.

فأخذ روكامبول الكتاب وفضه مسرعًا، فوجده خاليًا من التوقيع، ولكنه عرف أنه خط خطيبته ولم يكن يتضمن غير هذين السطرين:

صبرًا أيها الحبيب فلم يبقَ غير بضع ساعات؛ كي يغدو المركيز دي شمري زوجًا لكونسبسيون دي سالاندريرا.

فلما أتم تلاوته قال في نفسه: سأصبر كما تشاء، فإن كل عذاب يُعرَف أجله يخف وقعه.

ثم قال للوكيل: إذن فإنهم سيعصبون عيني؟

– نعم؛ إذ لا بد من ذلك.

– وفي أية طريق يسيرون بي إلى الكنيسة؟

– بدهليز تحت الأرض يصل بين هذا القصر وبين الكنيسة.

– وأسير به معصوب العينين؟

– ويحيط بك الرهبان.

– ما أشبه هذا الزواج بزواج العميان! أيريدون أن أتزوج وأنا معصوب العينين؟!

– كلا؛ فإنهم يزيحون العصابة عن عينيك في الكنيسة.

وعند ذلك طرق الباب، فقال الوكيل: هو ذا الرهبان قد حضروا.

ثم ذهب ففتح لهم الباب.

ودخل الرهبان الأربعة فذُعِر روكامبول لمرآهم، وخرج الوكيل بعد أن انحنى أمامهم باحترام.

فدنا أحدهم من روكامبول، وقال له باللغة الإسبانية: هل أنت مستعد أيها الأخ؟

فقال روكامبول في نفسه: ماذا أرى ألعلهم يحتفلون بإدخالي في الماسونية، ثم ضحك وقال: نعم؛ إني مستعد.

فاقترب أحدهم وعصب عينيه بعصابة سوداء، فلم يعد يرى بعد ذلك شيئًا، ولكنه بقي له حاستا السمع والإحساس، فسمع أولئك الرهبان يتلون صلاة لاتينية ارتعشت أعضاؤه حين سماعها، فإنها كانت صلاة العصر التي تُتلَى عن نفوس الأموات، وأحس أن أحدهم دنا منه، وجعل ينزع عنه ثيابه، ثم ألبسه بعد ذلك ثوبًا لم يستطع أن يعرف لونه.

ولكنه عندما لمسه علم أنه ذلك الكتاني الذي أخبره عنه الوكيل، ثم شعر أنهم ألبسوه فوق القميص ثوبًا أثقل منه، فعلم أنه ثوب الرهبان الذي أخبره عنه الوكيل أيضًا.

وبعد ذلك تأبط أحدهم، وقال له: هلم بنا.

فسار معهم وهو لا يعلم أين يسير، ولكنه ما لبث أن مشى حتى عاد الرهبان إلى الصلاة اللاتينية، فعاد صدره إلى الانقباض.

وأحس روكامبول في البدء أنهم ينزلون به درجات سلم، ثم انتهت تلك الدرجات، فسار في طريق مبلطة بضع دقائق، فشعر أن الهواء قد زادت رطوبته، وعلم أنه يخترق ذلك الدهليز تحت الأرض الذي أخبره عنه الوكيل.

وبعد حين قال له أحد الرهبان: ارفع رجلك واصعد.

فامتثل روكامبول، وجعل يمشي معهم مدة ساعة لم تكن تنقطع فيها صلاة الرهبان الخاصة بالأموات.

ثم شعر فجأة أن الهواء قد تغير، وتبدلت رطوبته بحرارة، فعلم أنه ترك الدهليز.

ثم سمع أصوات أبواب تُفتَح وتُغلَق، فما زالوا يمشون به حتى شعر أنه يمشي على بلاط من الرخام، فأوقفوه وقال له أحد الرهبان: ارفع العصابة عن عينيك.

فما صدق روكامبول أن سمع هذه الكلمة حتى أزاح العصابة، وجعل ينظر إلى ما حوله نظرًا مضطربًا، فرأى أنه واقف في مكان يبلغ عرضه ستة أقدام تحت قبة مرتفعة مثل قباب الكنائس، ورأى أمامه صورة كبيرة تمثل المسيح، وعلى يساره صورة كبيرة تمثل زواج إحدى بنات سالاندريرا مع الدون ألفامير، وعلى يمينه صورة أخرى كبيرة استلفتت أنظاره، وهي تمثل العقابات الفظيعة المختلفة التي كانت تجري في العصور الوسطى، وقد كتب تحتها تاريخ هذه العقابات وأسبابها.

غير أن روكامبول اضطرب لمنظرها، ولم يستطع أن يقرأ الكتابة، فأدار نظره إلى الرهبان الذين كانوا يصحبونه، فوجد أن ثلاثة منهم قد احتجبوا، ولم يبقَ غير واحد كان واقفًا وراءه ساكتًا لا يتكلم.

وفيما هو ينظر حوله مندهشًا مما يراه فُتِح أمامه ستار ظهر من ورائه أولئك الرهبان الثلاثة، الذين كانوا يرافقونه وهو معصوب العينين، وكان أمامهم أتون كبير تتأجج فيه النار الموقد، وفي وسط النار حلقة من الحديد.

فذُعِر روكامبول لمرأى النار، وما كان يحيط بها من الكلابات والمطارق على أن جميع ذلك مر أمام عينيه بسرعة، ثم نزل الستار.

وعقب نزول هذا الستار فُتِح ستار آخر أمام صورة المسيح ظهر من ورائه هيكل تتقد فيه آلاف من الشموع، وفيه كاهن يصلي، فرُدَّت إلى روكامبول روحه، وقال في نفسه: لا شك أن هذا الكاهن ينتظر قدوم الخطيبين.

ثم نزل الستار وفتح ستار ثالث، وكان قلب روكامبول يدق دقات شديدة، فرأى امرأة مرتدية بملابس بيضاء تقدم، وهي ماسكة بيد فتاة أخرى متشحة بملابس السواد.

فعرف روكامبول للحال أن تلك الفتاة هي خطيبته ابنة الدوق، غير أنه بينما كانت المرأتان تتقدمان إلى الهيكل نزل الستار، فاحتجبا عن نظره، واحتجب الهيكل وشموعه، ولم يجد روكامبول أمامه غير ذلك الراهب الذي بقي معه، فنظر إليه كأنه يستطلع كنه هذه الأسرار، ولكنه ما لبث أن نظر إليه حتى نزع الراهب القبعة عن رأسه، فصاح روكامبول صيحة منكرة، وتراجع منذعرًا إلى الوراء.

٢٩

إن هذا الراهب الذي ذُعِر منه روكامبول، وخافه هذا الخوف كان زامبا بعينه الذي رآه روكامبول يسقط أمامه في تلك الهوة الهائلة، وكان يحسب منذ لحظة أنه من الأموات.

فلم يصدق عينيه حين رآه، وحسب أن خياله قد تمثل له ثم ما لبث أن تيقن منه حتى أخذ يتراجع إلى الوراء، وقد جحظت عيناه من الرعب، وأخذ يبحث عن منفذ يهرب منه، ولكن الأبواب كانت مقفلة جميعها، فأسند ظهره إلى الحائط وعيناه محدقتان بزامبا.

أما زامبا فإنه كان ينظر إلى روكامبول نظر الساخر حين تراجعه، ثم ضحك ضحكًا شديدًا، وقال: كيف رأيت الآن يا حضرة المركيز ألا أجيد الاحتيال كما تجيده أنت؟

فلم يجب روكامبول وظل ينظر إليه مرعوبًا.

فقال زامبا: لقد حسبتني أيها الأبله ميتًا من السكر، فظننت أني أحرقت اعترافك لمجرد إرضائك.

ثم جعل يضحك ضحكًا عاليًا هازئًا به، أما روكامبول فلبث جامدًا لا يتحرك كالأصنام.

وعاد زامبا إلى حديثه، فقال: لقد علمت منك أنك لست لصًّا صادقًا، فإن اللصوص حسب مبادئهم لا يخون بعضهم بعضًا، ولكنك سافل دنيء لا تجازي من يخدمك بغير القتل، فلقد حاولت المرة الأولى أن تقتلني في باريس، فطعنتني من الوراء شأن الخائنين الجبناء، ثم حسبت بعد ذلك أني أصفح عن خيانتك، وأنسى لذة الانتقام … ثم لما رأيت أنك أصبحت في قبضتي عرضت علي المال الوفير، وأنت تحسبني راضيًا بتلك الوعود، ولكنك أخطأت يا حضرة الدوق، فلو عُرِض علي تاج إسبانيا، ومملكة الهند لما تخليت عن الانتقام من عدو يخونني، أعلمت الآن؟

ثم قل لي بعيشك فقد عهدتك خبيرًا بأساليب الاحتيال، ألم يكن حديث الهوة التي لفقته لك متقنًا لا شك فيه؟ وكيف يخطر لك في بال أن عمق هذه الهوة لا يبلغ عدة أقدام، وأن أرضها مفروشة بالعشب الأخضر؛ كي لا يُسمَع صوت الحجر الذي إذا أُلقِي فيها فتحسبها عميقة؛ وكي لا يُرضَّ جسمي إذا سقطتُ فيها؟ ثم كيف يخطر في بالك أن المسدس لم يكن محشوًّا بالرصاص، بل بالبارود وحده وقد وُضِع في سرج جوادك بعد نزع الرصاص؟

ولكني أعذرك لانخداعك، فقد أطلقت علي مسدسك، فتظاهرت أن الرصاصة وقعت في صدري، وصحت صياح المتألمين وسقطت في الهوة، ألم أمثل دوري خير تمثيل أيها المركيز؟

ثم جعل يضحك غير أن روكامبول ثاب من دهشته، وذكر أنه رأى خطيبته، وأنه لا يفصل بينه وبينها غير ستار رقيق، فوضع أصبعه على فمه، وقال: اسكت أو اخفض صوتك … إنني سأعطيك جميع ما تطلبه … قل أتريد ثروتي بجملتها؟

– لماذا تريد أن أخفض صوتي؟

– لأن خطيبتي وراء الستار تنتظرني.

– أتظن أنها تنتظرك؟

فجعل العرق البارد ينصب من جبين روكامبول، وقال: أما هي الآن وراء الستار أمام الهيكل؟

– نعم؛ إنها هناك ولكني نسيت أنك ستتزوج، وأنهم قد ألبسوك ملابس العرس، أتعلم يا حضرة المركيز ما هو هذا القميص الذي ألبسك إياه أسقف غرناطة تحت ملابس الرهبان؟

ثم دنا منه ونزع عنه ثوب الراهب، بحيث ظهر القميص لروكامبول فما لبث أن رآه حتى صاح صيحة منكرة؛ لأنه كان ذلك القميص الأحمر، الذي يلبسه المجرمون في السجون.

وعند ذلك دنا زامبا من الجدار، وأدار لولبًا فيه، فارتفع ستار آخر وظهرت كنيسة غاصة بالناس، فرأى روكامبول رجلًا جاثيًا أمام الهيكل، وبجانبه كونسبسيون والأسقف أمامهما يعقد عقد القران.

أما الرجل فكان المركيز دي شمري الحقيقي، الذي حسب روكامبول أنه قتله وجعله طعمًا للأسماك.

وفي الحال أدار اللولب ثانية، فنزل الستار ودنا من روكامبول الذي كان مستندًا إلى الجدار حذرًا من أن يقع، وقال له: لا يخلق بنا أن نكدر على المحتفلين حفلتهم، وأصغِ إلي الآن فقد تعلمت مما كنت أراه في مسارح التمثيل أنه لا بد لكل رواية من ظهور خفاياها في آخر فصل منها.

وإذ قد بلغنا إلى الفصل الأخير من روايتنا، فلا بد لي من إظهار غوامضها؛ كي لا يفوتك شيء من أسرارها، فاعلم الآن أن المركيز دي شمري الحقيقي وليس أنت، أي المركيز الذي تُعقَد الآن حفلة زواجه بابنة الدوق سالاندريرا لم يمت كما توهمت، ولم يفعل به رصاص مسدسك إلا كما فعل بي، وذلك أني نزعت الرصاص من المسدس، ولم يبقَ فيه غير البارود، فلما أطلقت مسدسك عليه تظاهر أنه أُصِيب برصاصة، وألقى نفسه في البحر كما ألقيت نفسي في الهوة، فغاص تحت المياه، وكان الظلام شديدًا فلم تره حين بلغ الشاطئ تحت منزل ابنة الدوق.

ثم بأنه عندما تُهان ابنة نبيلة كابنة سالاندريرا من مجرم سفاك مثلك، فهي تنتزع من قلبها كل رحمة وإشفاق في سبيل الانتقام؛ ولذلك فإني عندما سألتها أن تكتب إليك ذلك الكتاب الذي ألقاك في الفخ لم تتأخر هنيهة عن الكتابة.

فعلم روكامبول عند ذلك كل شيء، وأيقن أنه لم يخسر ابنة سالاندريرا ودوقيتها وملايينها ومركيزيته ومقامه، والأموال التي اغتصبها، بل إنه قد خسر أيضًا حياته؛ لأنه رأى نفسه محاطًا بأعدائه من كل جانب.

وكأنما هذا الموقف الشديد الذي بات فيه قد زاده جرأة لما تولاه من القنوط، فلم يحفل بما قاله زامبا، وابتسم له ابتسام الهازئ المستخف بالموت، فأجابه زامبا بأن ضغط على زر آخر، ففتح ستار ظهر من ورائه أولئك الرهبان الثلاثة يوقدون النار، التي تقدم لنا وصفها، فأيقن روكامبول أنهم الجلاد ومساعداه.

ثم رأى وراءهم شخصًا رابعًا، فهلع قلبه لمنظره، وذكر ذلك الشعر الذي قاله دانتي أبو الشعراء الإيطالي، وهو «هنا يقطع كل رجاء».

أما هذا الشخص فكان امرأة لابسة ملابس سوداء، كما يلبس القضاة وكانت هذه المرأة باكارا …

كثيرًا ما يتفق للمجرمين أن تخور قواهم، ويُغمَى عليهم في مقاعدهم حين يسمعون صدور الأحكام من أفواه القضاة، غير أن روكامبول لم يكن من أولئك المجرمين، فإنه كلما زاد موقفه حرجًا زاد جرأة بقدر ازدياد قنوطه يزيد إقدامه.

غير أنه لم يجد سبيلًا للإقدام في تلك الساعة الرهيبة، فاكتفى بالجرأة وعدم المبالاة بالموت، وجعل ينظر إلى باكارا نظرات الاحتقار كمن يريد أن يموت موت الأبطال، ثم قال لها بلهجة المتهكم: لقد عرفت أنك كنت تسيرين من وراء زامبا وتدفعينه إلى ما فعل، فإن هذا الأبله ليس من رجالي.

فقالت له باكارا ببطء: لا تشتم ولا تتهكم؛ فإن ساعتك قد دنت.

فشتمها شتمًا قبيحًا، وقال لها: إني أهزأ بك وبكل ما فعلتيه، ونعم إنك تستطيعين قتلي، غير أني لا أكترث للموت؛ لأني لم أكن مركيزًا ولكن ابنة أعظم عائلة في إسبانيا أحبتني، والكونتس دي أسمول دعتني أخاها.

ثم ضحك ضحك الهازئ، وقال: ثم إني هتكت عرضك، وجعلتك مضغة في الأفواه بعد أن أصبحت مثال التوبة الصادقة، وذهبت بعقل زوجك، فاقتليني الآن كما تشائين فقد انتقمت لموتي قبل أن أموت.

ثم برقت عيناه ببريق من الإنذار الجهنمي، كأنما روح أستاذه السير فيليام قد مرت بعينيه.

غير أن باكارا قالت له بهدوء: إنك منخدع يا روكامبول، فإننا لا نريد قتلك!

– إذن، فماذا تريدين مني؟

– انظر إلى ثوبك فإنه من ملابس المجرمين، وانظر إلى هذه الحلقة التي تُحمَى في النار المتأججة، فإنها ستطوق ساقك ويُربَط بها قيدك، فإن من كان مثلك لا يكفيه عقاب الموت؛ لأنه راحة لك، بل إن عقابك ينبغي أن يكون بالسجن المؤبد، حيث يندفع السجان بالسياط على كتفيك، ولا تلقى أثناء الليل وأطراف النهار غير الذل والشقاء والقنوط، وذكرى أيامك السابقة في باريس، أليس هذا العقاب أشد من الموت؟

ثم أشارت إلى الرهبان، فهجموا عليه وألقوه على الأرض وهو يصيح، ويقاوم دون جدوى، فلما تمكنوا منه رفع الجلاد ساقه إلى السندان، وأخرج آخر تلك الحلقة المحمية من النار، فأطفأها بالماء ووضعها على ساقه والدخان يتصاعد منها، ثم طواها وطرق بها الساق.

ولما انتهوا من وضعها تركوه ملقى على الأرض، وهو لا يستطيع حراكًا لما ناله من الألم.

ودنت منه باكارا، فقالت له: إنك أرسلت المركيز دي شمري إلى السجن، فمن العدل أن تحل محله فيه، وأردت أن تتزوج ابنة الدوق باسمه، فمن العدل أن يحل محلك منها، وإنما عاملناك دون إشفاق؛ لأنك لم تشفق على أحد.

فصاح روكامبول يقول: لقد ساء فألك فإني سأتظلم أمام القضاة، وسأخبرهم بأنكم كنتم قضاتي، فلا أريد أن يُحكَم علي إلا في المحاكم.

– إنك منخدع أيضًا، فإن الحكم عليك قانوني، وقد وقع عليه في المراجع العالية، فإذا كان قد نُفِّذ فيك العقاب داخل هذا الدير دون أن يقف على أمرك أحد، فما ذلك إلا صيانة لشرف أسرتين نبيلتين، وسيبقى سرهما مكتومًا بالرغم عنك في سجن قاديس إلى الأبد، فإنك ستكون باسم ذلك الرجل الذي كان يدعي أنه المركيز دي شمري، فلا يصدقه أحد أفهمت الآن؟

– لا! فإن هذا المركيز لا يشبهني بشيء، وسيرى السجانون والمسجونون أنني غير ذلك المركيز.

– إنك لا تزال منخدعًا، فاعلم أنه قد يتسنى لبعض المسجونين أنهم يحاولون الفرار، فيشوهون وجوههم كي لا يعرفهم أحد متى باتوا خارج السجن، ويأمنون مطاردة الجنود.

فصاح روكامبول صيحة رعب؛ لأنه علم كل شيء ولكن الصيحة كانت آخر ما قاله، فإن يدًا شديدة ضغطت على عنقه، وربض آخر على صدره كي يمنعه من الحركة، ثم أخذ راهب ثالث زجاجة، وصب ما فيها بإناء، بل به خرقة من الكتان، ثم وضعها على وجهه من الأنف إلى الذقن.

فأحس روكامبول بألم شديد لا يُطاق، ولم يستطع أن يصيح أو يتخلص.

وقد فعلوا ذلك به بسرعة زائدة، ثم رفعوا عن وجهه الخرقة، ودنا زامبا منه فأخرج مرآة من جيبه وقال له: انظر إلى وجهك.

فنظر روكامبول إلى تلك المرآة، وأنَّ أنينًا شديدًا؛ لأنه رأى أن وجهه قد تشوه أتم تشويه، بحيث لم يعد يعرف نفسه؛ لأنهم شوهوا وجهه بسائل الزاج.

وفي ذلك الوقت كانت أجراس كنيسة سالاندريرا تُقرَع، وكان المركيز دي شمري خارجًا مع امرأته ابنة الدوق سالاندريرا.

٣٠

بعد ذلك بخمسة أيام كان الفيكونت فابيان دي أسمول جالسًا مع امرأته، وهي ظاهرة عليها علائم الانقباض، تشكو إلى زوجها انقطاع أخبار أخيها روكامبول عنها منذ سفره إلى إسبانيا، وهو يلاطفها ويعزو هذا الانقطاع إلى انهماكه في شئون زواجه.

وفيما هما على ذلك دخل خادم يحمل رسالة من إسبانيا، فأسرع الاثنان إليها وفضها فابيان فقرأ ما يأتي:

شقيقتي العزيزة بلانش

إنني أكتب إليك وزوجي العزيز مقيم بجانبي في مدريد ينظر ما أكتب، وإني أحب أن أكتب إليك كثيرًا من الأمور، فلا أعرف كيف أبدأ، ولكن لا بد لي من القول قبل كل شيء أن أخاك أصبح زوجي، وأني بهذا الزواج من أسعد النساء.

إن عقد زواجنا قد تم أمس، وقد عقده لنا أسقف غرناطة في قصرنا في سالاندريرا بحضور أمي والموظفين عندنا.

وكان ينتظرنا على باب الكنيسة مركبة للسفر، وفيها أحد أركان حرب جلالة الملك، فسافرت فيها مع ألبرت إلى مدريد، وقدمت زوجي بنفسي إلى الملكة، فاستقبلته خير استقبال وقالت له: إني يا حضرة الدوق دي شمري سالاندريرا قد وقعت اليوم على الأوراق القاضية بنقل جميع ألقاب الدوق دي سالاندريرا إليك، وكنت عزمت من قبل على تعيينك سفيرًا لمملكتي في البرازيل، غير أني خشيت عليك وعلى امرأتك مناخ تلك البلاد، فعينتك لمثل هذا المنصب في الصين، حيث تغيب عن أوروبا أربعة أعوام على الأقل، وأنا أعلم بأن هذه المهمة شاقة صعبة عليك، ولكني أؤمل أن يخفف عنك حبك لامرأتك أثقالها.

ولما فرغت من إلقاء أوامرها قدمت له يدها، فقبلتها ثم دعتنا إلى العشاء على مائدتها الخاصة.

ويسوءني أيتها الحبيبة أننا سنفترق عنك أربعة أعوام، غير أن عزائي أن ألبرت قد دخل في سلك السياسة، فبدأ بالمنصب الذي ينتهي إليه أمل الطامعين أي: إنه بدأ بمنصب سفير، وهو خير ما يطمع به رجال السياسة بعد الصبر الطويل.

والآن فإننا سنسافر بعد يومين، وستبقى أمي في إسبانيا، ولكنها ستحضر إلى باريس في الشتاء القادم، فتحدثيها عنها بما تشتهين.

إن ألبرت يحب أن يكتب لكم بالرغم عما هو فيه، ولا يزعجك هذا القول، فإنه بينما كان يفتح أمس زجاجة كُسِرت، ودخلت قطعة من زجاجة في سبابة يده اليمنى فجرحتها، بحيث لا يستطيع الكتابة بيده اليمنى عدة أيام؛ ولذلك فهو يكتب لك باليد اليسرى.

الوداع أيتها الحبيبة، وعسى أن نلتقي في باريس قريبًا بإذن الله، والسلام عليك وعلى زوجك العزيز فابيان.

كونسبسيون

وقد أضاف المركيز دي شمري الحقيقي بضعة أسطر على هذا الكتاب بيده اليسرى، وإنما اختلقوا حكاية جرح يده؛ كي لا تنتبه الفيكونتس دي أسمول إلى تغير الخط؛ لأنها تعرف خط روكامبول.

وبعد أن اطمأن خاطر الفيكونتس على أخيها تركها زوجها فابيان، وذهب إلى النادي فوجد فيه العديد من أصحابه وأصحاب روكامبول، ولم يكن حديثهم غير زواج المركيز دي شمري بابنة الدوق، وليس بينهم من يعرف شيئًا من حقيقة حال روكامبول.

وبينما فابيان جالس بينهم إذ دخل رولاند دي كايلت، فعجب أعضاء النادي لقدومه بعد طول احتجابه عنهم، وكان معظم عجبهم مما رأوه من دلائل الرزانة بعد ما عهدوا به من الطيش والنزق.

غير أن رولاند لم يحفل بعجبهم، فحياهم بوقار إلى أن وصل إلى فابيان فسلم عليه، وقال له: أتأذن لي يا سيدي الفيكونت بمقابلة؛ فإني قادم من منزلك ولم أرك؟

فعجب فابيان، وقال له: إن العلائق مقطوعة بيننا، فما يدعوك إلى هذه المقابلة؟

وكان فابيان يكلمه بلهجة تشف عن الاحتقار، فلم يحفل به رولاند، وقال له: لا أنكر عليك حقك بهذا الاحتقار، غير أني ألتمس منك أن تأذن لي بهذه المقابلة.

– وماذا تريد مني؟

– لا أطلب إليك أن ترجع عن اعتقادك السابق بي، ولكني أسألك أن تزورني هذا المساء في منزلي.

– لأي قصد؟

– لا أستطيع أن أقول لك شيئًا الآن، غير أني ألتمس منك مقابلة باسم الصداقة القديمة المؤسسة بين عائلتينا.

– حسنًا فسأذهب، ففي أية ساعة تريد أن يكون اللقاء؟

– في الساعة التاسعة من المساء.

٣١

قبل أن نتبع الفيكونت دي أسمول إلى منزل رولاند، نذهب بالقارئ إلى قصر الكونت إرمان دي كركاز، فنقول: كان هذا الكونت جالسًا في غرفته قبل هذه الحادثة المتقدمة ببضع ساعات، وكان يقرأ في جريدة إسبانية حادثة فرار المركيز دي شمري من سجن قاديس وتشويه وجهه، والقبض عليه على ما مثلته باكارا، وهو لا يفهم شيئًا من هذه الألغاز.

وبينما هو مضطرب في أمره إذ دخل عليه فرناند روشي، فسُرَّ بلقياه سرورًا عظيمًا وبعد أن جلس أمامه أخبره الكونت بخلاصة ما قرأه في الجريدة، وأنه لم يعلم شيئًا من هذه المعميات، فقال له فرناند: إني أتيت الآن من إسبانيا، وسأخبرك بكل شيء.

– قل إذن ماذا حدث؟

– تم كل شيء.

– كيف ذلك؟

– تزوج المركيز بابنة الدوق.

– أي مركيز؟

– المركيز الحقيقي الذي كان في سجن قاديس.

– إذن فما هذه الجريدة، وأي مركيز تعني بتفاصيلها؟

فابتسم فرناند، وقال: ذلك من صنع باكارا، فإنها أخرجت من السجن المركيز الحقيقي، ووضعت بدلًا منه روكامبول باسم ذلك المركيز، بعد أن شوهت وجهه أبشع تشويه؛ كي لا يعرف السجان والمسجونون وجهه.

ثم أخبره بجميع تلك الحيلة بالتفصيل كما قدمناه.

فأُعجِب الكونت إرمان بدهاء باكارا، وقال له: أين هي الآن تلك الكونتس العزيزة؟

– لقد تقدمتني بساعة ولا بد أن تكون الآن في باريس.

وبينما الاثنان يتحدثان بحديثهما إذ دخل خادم يحمل إلى الكونت رسالة منها، فعضها وقرأ فيها ما يأتي:

أيها الكونت العزيز

لقد عهدت إلى فرناند أن يخبرك بكل ما جرى، وأنا أكتب إليك الآن على عجل؛ كي أخبرك أن عدونا العام قد قُصَّ جناحاه، ولم يبقَ علينا غير الاهتمام بتبرئتي من تلك الوصمة الشائنة، التي وصمني بها قبل الانتقام منه؛ ولذلك فإني أنتظر قدومك إليَّ في هذا المساء في منزل المسيو رولاند دي كايلت.

الكونتس أرتوف

أما باكارا فإنها وصلت إلى باريس قبل أن يصل إليها فرناند بساعة، فذهبت توًّا إلى أختها سريز، وسألتها عن زوجها الكونت، فأخبرتها أنه بخير، وأن حالته قد تحسنت تحسنًا عظيمًا، بحيث عاد إليه بعض صوابه وصار يعرف أنه الكونت أرتوف، وليس رولاند دي كايلت كما كان يعتقد في بدء جنونه.

فسُرَّت باكارا سرورًا لا يُوصَف؛ لأنها عدت ذلك خير مقدمة لشفائه، ثم ذهبت بأختها سريز إلى أختها ريبيكا.

فسارت الأخوات الثلاث إلى منزل باكارا، فوجدت فيه رسالة من رولاند، ففضتها بلهف وقرأت فيها ما يأتي:

وصلتني رسالتك من مدريد أول أمس، وأنا في كايلت فامتثلت لأمرك، وأسرعت إلى باريس وها أنا الآن فيها أنتظر أوامرك.

فأخذت باكارا ورقة في الحال وأجابته قائلة: «إني مرسلة إليك أختي ريبيكا، فهي تخبرك بما أريده منك، والآن أسرع إلى الفيكونت دي أسمول، واطلب إليه أن يكون في منزلك في الساعة التاسعة، وسأكون أنا أيضًا فيه في تلك الساعة.»

ثم كتبت إلى إرمان دي كركاز الرسالة التي تقدم شرحها، وبعد أن أرسلت ريبيكا إلى رولاند قالت لأختها سريز: هلمي بنا الآن إلى حيث يقيم زوجي، فقد سبقني الطبيب صموئيل إليه؛ ليعلم إذا كانت حالته العقلية تسمح له أن يراني.

٣٢

في الساعة التاسعة من مساء اليوم نفسه جاء الفيكونت فابيان إلى منزل رولاند، حسب الاتفاق فوجد رولاند بانتظاره، وبعد أن احتفل به خير احتفال دار بينهما الحديث الآتي، فقال فابيان: أرأيت كيف أني كنت حريصًا على اللقاء على ما بيننا من النفور؛ وإنما أتيت لأنك طلبت إلي هذا اللقاء باسم عائلتينا؛ ولأرى شؤونك الخطيرة التي دعوتني إليها.

– إني قادم يا سيدي من قرية فرانش كونته، حيث كنت فيها لتسوية إرث عمي.

– لقد عرفت هذا.

وقد كنت أنت أيضًا في تلك الجهة في قصر هوتبا، حين تُوفِّي الدوق دي سالاندريرا فجأة، وكنت أود مقابلتك هناك، فما تيسرت لي المقابلة، والآن فإني ما طلبت إليك هذا اللقاء، إلا لأطلب منك الإيضاح عن الخطة التي نهجتها معي.

– إني كنت صديقك، بل إني كنت أعد نفسي بمثابة أخيك الكبير، فأنظر إليك بعين الإخاء وأقوِّم ما اعوج من مناهجك، وأصلح ما فسد من أمورك بيد الإخلاص إلى أن علمت يومًا …

فقاطعه رولاند وقال: إني أعلم ما تريد أن تقوله لي: فإنك تريد أن تقول: بأني تجاسرت يومًا على إهانة امرأة، ووصمتها بوصمة عار لا تُمحَى فلم تجد بدًّا من احتقاري؛ لأني ما جريت مجرى النبلاء أليس هذا الذي تريد أن تقوله لي يا سيدي؟

فسكت فابيان وكان سكوته أبلغ جواب.

غير أن رولاند لم يحفل بهذا السكوت، ومضى في حديثه فقال: إني لم ألتمس منك يا سيدي هذه المقابلة؛ كي أرجعك عن سابق اعتقادك بي، وأنا أحتمل احتقارك لي؛ لأن مهمة اجتماعي بك غير خاصة بي.

– بمن؟

– بتلك المرأة الطاهرة التي دنست سمعته أي: الكونتس أرتوف.

فابتسم فابيان ابتسامة هزء، وقال له: ألعلك تريد أن ترجع لها شرفها المفقود؟

– ذلك لا ريب فيه.

– أمام من؟

– أمامك قبل كل الناس.

فاستاء فابيان وقال: إنك تعلم بأننا لم يعد بيننا ذلك الوداد القديم، الذي يؤذن لك بممازحتي إلى هذا الحد.

– إني لا أمزح بل أقول الجد.

– أي جد هذا؟! ألعلك نسيت أني رأيتها من ثقب باب غرفتك في تلك الغرفة، وسمعت ما كان يدور بينكما من الحديث؟

– يحق لك يا سيدي أن تقول لي جميع هذا القول، ويسوءني أني لا أستطيع أن أجيبك الآن، ولكني سأبرهن لك بعد بضع دقائق بأصدق البراهين.

فجعل ينظر إليه نظر الفاحص، وهو يحسب أنه فقد صوابه، ثم قال له: أتنتظر قدوم زائر؟

وعند ذلك طرق الباب فتركه رولاند، وذهب ففتح ودخل يصحبه الكونت إرمان دي كركاز.

فزاد عجب فابيان؛ لأنه كان يعلم أن رولاند لا علاقة له مع إرمان، وبعد أن عرَّف رولاند كلًّا من زائريه بالآخر، قال له فابيان: ألعلك كنت تنتظر حضرة الكونت؟

– نعم … ولكني أنتظر شخصًا ثالثًا أيضًا وهو الكونتس أرتوف.

– أفي عزم الكونتس أن تحضر إلى هنا؟

فلم يجبه رولاند؛ لأنه سمع طرق الباب وخرج ليفتح.

وفي خلال ذلك دار الحديث الآتي بين فابيان وإرمان، فقال له إرمان: أتعرف يا سيدي الفيكونت الكونتس أرتوف حق المعرفة؟

– نعم؛ فإن زوجها كان من أخلص إخواني.

– أتظن أنها مذنبة كما يقولون؟

– وا أسفاه! يا سيدي إني واثق كل الثقة؛ لأن لدي برهانًا لا يُدحَض.

– أما أنا فإني أعتقد أنها بريئة خلافًا لما يعتقده الناس.

فابتسم فابيان ابتسام الحزين، وقال: يظهر يا سيدي الكونت أنك دُعِيتَ إلى هذا المنزل لنفس السبب الذي دُعِيتُ أنا من أجله؟

– ربما كان ذلك كما تقول.

– إن المسيو دي كايلت كان من أصدقائي، ثم قُطِعت بيننا العلائق لسوء سلوكه مع الكونتس، ولكنه أقبل يسألني أن أوافيه اليوم في الساعة التاسعة إلى منزله.

– وأنا وردني كتاب من الكونتس بهذا المعنى.

– ولست أعلم كيف يستطيع رولاند أو الكونتس أن يبرهنا لنا عن خطأ الناس فيما يعتقدون.

– أما أنا فإن ثقتي شديدة.

– إذن فإنك لا تعلم ما أعلمه، فإني كنت ليلة مختبئًا في هذا البيت ورأيتها فيه.

– رأيت من؟

– الكونتس أرتوف، وقد رأيت رولاند على ركبتيها، وسمعت حديث الغرام بينهما.

فقاطعه إرمان وقال: أرأيتها بعينك؟ أأنت واثق مما تقول؟

– وا أسفاه! نعم يا سيدي، وليس لدي بتهتكهما أقل شك.

وقد حاول إرمان أن يجيب، ولكنه لم يجد سبيلًا فإن الباب فُتِح عند ذلك، ودخلت منه امرأة فأزاحت البرقع عن وجهها، وسلمت على إرمان وفابيان فانحنيا أمامها بملء الاحترام فإنها كانت باكارا.

غير أنه في الوقت نفسه فُتِح باب مشرف على القاعة ودخلت منه امرأة، فما أوشكت أن تزيح قناعها حتى تراجع إرمان وفابيان منذعرين؛ ذلك أنهما رأيا أن تلك الداخلة كانت باكارا نفسها، وقد وجدا في تلك القاعة اثنتين لم يعلما أيتهما الكونتس أرتوف من شدة ما كان بينهما من الشبه.

وساد السكوت بين الأشخاص الخمسة، الذين ضمتهم تلك الغرفة، فكان فابيان يقلب طرفه بين تينك الامرأتين، وهو لا يعلم أيتهما الكونتس أرتوف الحقيقية.

أما إرمان دي كركاز، فلم يطل تردده ونظر إلى الاثنتين نظر الفاحص، ثم دنا من باكارا فوضع يده بيدها، وقال: أنت هي الكونتس.

أما فابيان فقد ظهرت بين ثناياه علائم البله، وجعل يقول: لا شك أني حالم.

غير أن إرمان قال له: كلا يا سيدي فإنني قد علمت كل شيء، وأن تلك المرأة التي رأيتها …

وعند ذلك دنت ريبيكا من فابيان، وقالت له: إني أنا تلك المرأة التي رأيتها في هذا المنزل يا رولاند.

وكانت باكارا تنظر إلى هذا المشهد، وتبتسم ابتسام الحزين، ثم قالت تخاطب إرمان وفابيان: أسألكما العفو يا سيديَّ، فإني ما دعوتكما إلى هذا المنزل إلا لأبرئ نفسي من تلك الوصمة التي وصمني بها رجال المكر والدهاء، فلاقوا جزاء ما كانوا يصنعونه، ولا بد لي أن أبرأ أمامكما؛ كي أبرأ أمام جميع الناس.

فقال فابيان مشيرًا بيده إلى ريبيكا اليهودية، التي كانت مطرقة بنظرها استحياء إلى الأرض: من هي هذه المرأة؟

فأجابته باكارا: إنها أختي من أمي، وقد كانت تكرهني كرهًا شديدًا، فسوَّل لها هذا الكره أن تكون آلة صماء بيد عدو لي هائل.

فأجفل فابيان لذكر العدو، وقد حسب أن باكارا تعني به رولاند، فنظر إليه نظرة احتقار شديد.

غير أن باكارا علمت ما كان يجول بنفسه فقالت له: لقد أخطأت يا سيدي فليس رولاند ذلك العدو، بل إنه نفسه كان آلة صماء.

ثم مدت يدها إلى رولاند، وقالت له: لقد دفعك نزق الشباب إلى فعل ما فعلت، وها أنا صافحة عنك، بل إني سأبرهن للفيكونت أنك أهل لصداقتي.

وعند ذلك قصت باكارا على الحاضرين جميع تلك الحكاية، التي ذكرناها دون أن تذكر اسم روكامبول.

فقال إرمان: عرفت الآن ذلك العدو.

أما فابيان فإنه لم يعلم شيئًا، وقال: من عسى يكون هذا الرجل الجهنمي، الذي يجسر على ارتكاب مثل هذه الذنوب الهائلة؟

فقالت باكارا: عفوك يا سيدي ائذن لي كتمان اسمه، فإن أمره سيبقى مكتومًا إلى الأبد، ولكني لا أكتمك أنه نال فوق ما يستحق.

فقال الفيكونت: ألعله عُوقِب؟

– نعم؛ إنه زُجَّ في السجن وسيموت فيه …

وبعد ذلك بساعتين دخل الفيكونت فابيان ورولاند دي كايلت إلى النادي، الذي أُهِين فيه اسم الكونت أرتوف منذ بضعة أشهر، وبات أعضاؤه واثقين من أن الكونتس كانت تحب رولاند، وقد خانت زوجها من أجل هواه.

وكان جميع الأعضاء مجتمعين في تلك الساعة يتقامرون على طاولة واحدة.

فوقف فابيان بينهم، وقال لهم بصوت جهوري: أسألكم أيها السادة أن تدعوا اللعب هنيهة، فإني محدثكم بشأن خطير.

ولما رأى فابيان أن الأنظار اتجهت إليه قال لهم: إني أدعوكم جميعًا إلى الأوبرا يوم الجمعة القادم.

فقال بعضهم: ألعلهم سيمثلون رواية جديدة؟

– كلا بل إني أدعوكم؛ لتنظروا فيها امرأة لفحتها نار النميمة وهي الكونتس أرتوف، وتروا بجانبها امرأة أخرى تشبهها شبهًا غريبًا، بحيث يستحيل على الناظر إليهما أن يعلم أيتهما الكونتس، وإني أقسم لكم بالشرف المقدس أن صديقي رولاند قد خدعته تلك المرأة التي تشبه الكونتس، وأن الكونتس أرتوف من أطهر النساء.

فذُهِل الجميع لهذا النبأ الخطير، غير أنهم وثقوا كل الثقة من كلام فابيان، وزالت عن باكارا وصمة العار.

٣٣

ولنعد الآن إلى باكارا، فإنها ذهبت مع أختها سريز إلى حيث يقيم زوجها والطبيب صموئيل، فلما وصلت إلى المنزل فتح لها الباب الطبيب نفسه، فنظرت باكارا إليه محدقة تستطلع من هيئته ما تريد معرفته عن صحة زوجها، فأخذ يدها وقال: اطمئني يا سيدتي فإن أمل الشفاء قريب.

ثم أخذ بيدها وصعد تتبعه سريز إلى القصر، وأقامها في غرفة خاصة غير أن باكارا فرغ صبرها، وقالت له: إني أريد أن أراه.

– كلا يا سيدتي فلم يحن الوقت بعد، غير أني أعود إلى تطمينك، فإن كل خطر زال عنه.

– إذن فلماذا تمنعني عن رؤياه؟ ألعل يوجد ما يحول دون هذا اللقاء؟

– كلا يا سيدتي، إنما أطلب منك أن تسمحي لي أن أسألك سؤالًا واحدًا؟

– تكلم وأسرع.

– إذا خيروك بين أن تنظري زوجك في الحال، فتؤخري شفاءه وبين أن لا تنظريه إلا بعد بضع ساعات، ويكون شفاؤه قريبًا فأي الأمرين تختارين؟

– أوضح يا سيدي الطبيب ما تقول، فلقد شغلت بالي.

– إذن فأصغي إلي، إن الدواء الذي عالجت به الكونت قد فعل به فعلًا شديدًا، وسار به سيرًا سريعًا إلى الشفاء، وهو لا يزال مجنونًا غير أن شكل جنونه قد تغير، فهو يعرف الآن أنه الكونت أرتوف، ولم يعد ينكر نفسه كما كان يفعل من قبل؛ ولهذا يا سيدتي أخشى إذا أذنت له برؤياك أن ينتكس.

– لماذا؟

– لأنه إذا رآك تعود إليه الذكرى القديمة.

فأطرقت باكارا برأسها، وقالت: اشفه يا سيدي فإني أؤثر شفاءه، ولو قُضِي علي أن لا أراه إلى الأبد.

– كلا يا سيدتي إنك تبالغين في مخاوفك، فإني لا أسألك أن تحتجبي عنه غير بضع ساعات فقط.

وما زال بها حتى اطمأنت لوعوده، فقال لها: عودي الآن إلى المنزل، واجتهدي أن ترسلي إلي الفيكونت فابيان في صباح الغد.

فخرجت باكارا والدموع ملء عينيها، وعادت مع أختها سريز، وهي لا تعلم شيئًا من مقاصد الطبيب، فاجتمعت بالفيكونت فابيان، وأخبرته بما يطلب إليه الطبيب.

وفي اليوم التالي ذهب فابيان إلى القرية التي يقيم فيها الكونت أرتوف، فاستقبله الطبيب صموئيل وخلا به مدة طويلة علمه خلالها ما يجب أن يصنع.

وبعد أن فرغ من حديثه تركه، ودخل إلى غرفة الكونت أرتوف، وكان لا يزال نائمًا فإن الطبيب كان خدره تلك الليلة، وعالجه المعالجة الأخيرة فاستيقظ الكونت، وجعل يدير في الغرفة نظرًا مضطربًا حتى استقر نظره على الطبيب، فقلب طرفه فيه مرارًا، وقال له: من أنت؟

فقال الطبيب: أنا طبيبك يا سيدي.

– وما شأن الطبيب عندي؟ هل أنا مريض؟

– لقد كنت مريضًا يا سيدي الكونت واليوم شُفِيت بإذن الله.

– أطالت مدة مرضي؟

– ثلاثة أشهر.

– ما هذا النبأ الغريب، إني لا أذكر شيئًا من هذا وأين أنا الآن؟

– إنك في منزلك في قرية فونتيناي.

– ألعلك تهزأ بي؛ فإني لا أذكر أن لي قصورًا في هذه القرية؟!

– كلا يا سيدي وسأقدم لك صديقًا إذا نظرته تذكر كل شيء، ثم صفق بيديه ففُتِح الباب ودخل فابيان.

فلما رآه الكونت ضرب جبينه بيده، وصاح صيحة يأس وهو يقول: لقد ذكرت كل شيء. ثم تراجع إلى الوراء حتى لصق بالجدار، وهو ينظر إلى فابيان نظرة المنذعر: أأنا في يقظة أم أنا في حلم؟ كلا، بل أنا في يقظة فإني نمت في منزلك ليلة المبارزة … ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟

فدنا منه فابيان، وقال له: إني سأخبرك بكل شيء.

وعند ذلك خرج الطبيب من الغرفة، وبقي الكونت وفابيان منفردين.

٣٤

وأخذ فابيان يد الكونت، وقال له: سكِّن روعك واجلس بجانبي، فسأخبرك بكل شيء كما وعدتك.

– قل فإني مصغٍ إليك.

– إنك كنت مجنونًا أيها الصديق.

– ذلك أكيد كما يظهر لي؛ لأني لا أعلم كيف أتيت إلى هذا المنزل.

– إنك هنا منذ شهر، ولكنك قبل أن تأتي إلى هذه القرية كنت في نيس.

– ما هذه الغرائب التي لم أسمعها، فإني لا أذكر شيئًا منها، وقبل ذلك أين كنت؟

– كنت في منزلك في باريس حيث كانوا يعالجونك فيه.

– ومن أي حين ذهب عقلي؟

– منذ ثلاثة شهور.

فوضع الكونت يده على جبينه كي يتذكر، ثم قال بعد هنيهة: كيف كان جنوني؟ وفي أي حين؟

– في حين كنت عازمًا على مبارزة خصمك رولاند دي كايلت، وقد ذهب صوابك في ساحة المبارزة فجثوت أمام خصمك، ثم اختلط عقلك فحسبت خصمك الكونت أرتوف، وحسبت نفسك رولاند دي كايلت.

– رباه! ماذا أسمع؟! أصحيح ما تقول؟

– أقسم لك بالشرف.

– وبعد ذلك ماذا جرى؟

– ذهب الشهود بك إلى منزلك.

– إلى منزلي أنا في شارع بيبينار؟

– نعم أيها الصديق.

– ولكني أرجو أنها كانت غائبة على الأقل.

وقد أضمر عن زوجته باكارا؛ لأنه لم يجسر على أن يذكر اسمها.

– بل كانت فيه.

– وقد رأتني؟

– نعم، وهي التي كانت تتولى العناية بك، وهي التي ذهبت بك إلى نيس.

– أواه! إنها خيانة لا تُغتفَر، ولا بد لي من الانتقام.

– إني أتيت لأقترح عليك هذا الانتقام؛ إذ يجب قتل رولاند والمرأة التي أحبته، فإنها لم تقف بخيانتها عند حد، وقد اغتنمت فرصة جنونك للتمادي في غيها.

فاصفر وجه الكونت من الغيظ، وقال: إن دور الجنون قد انقضى وقد بدأ دور الانتقام الرهيب، وسيرى الخائنان كيف تكون عواقب الإثم.

فأخذ فابيان رسالة من جيبه وقال له: خذ واقرأ أيها الصديق.

ثم أعطاه رسالة لا توقيع فيها، ولكن خطها يماثل خط باكارا.

وكانت هذه الرسالة إحدى الرسائل التي كانت ترسلها ريبيكا إلى رولاند، فيقلد فيها روكامبول خط باكارا تقليدًا عجيبًا، بحيث لا يشك عارف خطها أنها هي التي كتبته.

فأخذها الكونت أرتوف، وقرأها ولم تكن تتضمن غير هذا السطر وهو:

أنتظرك في الساعة الحادية عشرة في المنزل الصغير.

فلما قرأها الكونت قال له فابيان: أرأيت كيف أنها تنتظره؟

فاضطرب الكونت أرتوف، وقال له: أين هو هذا المنزل؟

– في باسي، وقد استأجرته خاصة لهذا الغرض.

– ومتى يجتمعان؟

– اليوم …

– أتعرف المنزل؟

– نعم …

– إذن هلم بنا فإن صدري يكاد ينفجر.

فوافقه فابيان ونادى الكونت خادم غرفته، فألبسه ملابسه بسرعة عظيمة، وخرج الاثنان من القاعة ومرا بالحديقة، فجعل الكونت ينظر إلى ما يحيط به نظرة المنذهل، ثم قال لفابيان: تقول أني هنا منذ شهر؟!

– نعم أيها الصديق.

– أكنت أتنزه تحت هذه الأشجار؟

– كل يوم.

– إني لا أذكر شيئًا من هذا، ولا بد أن تكون رؤياك التي شفتني من جنوني.

– كلا، بل إن الذي شفاك دواء هندي عالجك به الطبيب صموئيل، الذي رأيته في منزلك الآن.

– كل ما سمعته غريب.

– إنك سترى أغرب من جميع هذا عند رجوعك من باسي.

– لماذا لا تقول لي الآن عن هذه الغرائب القادمة؟

– كلا، لا أقول شيئًا إلا بعد أن تشفي غليلك من الانتقام.

ثم أخرج من جيبه الداخلي خنجرًا، فأعطاه للكونت، وقال له: انتقم بهذا الخنجر فهو أسرع في قضاء الحاجات.

فأخذه الكونت، وقال له: كن واثقًا؛ فإن يدي لا تضطرب.

وبلغ الاثنان وهما يتحادثان إلى باب الحديقة، وكانت مركبة فابيان تنتظر فركباها، وأمر فابيان السائق أن يسير إلى شارع باسي، وعين له نمرة المنزل، فسارت المركبة سيرًا حثيثًا حتى بلغت إلى المنزل المعين، فوقفت ونزل منها الاثنان، فقال الكونت أرتوف: انظر إلي، ألا ترى وجهي مصفرًّا؟

– نعم!

– إن هذا الاصفرار دليل الغضب عندنا نحن الروسيين أهل الشمال، فإن كل روسي إذا أُهِين تذهب منه عواطف الإشفاق، ويذكر أنه تتري من أصل جنكيز خان.

فلم يجبه فابيان ودنا من باب ذلك المنزل الذي كانت ريبيكا تستقبل فيه رولاند، وطرقه ففتحت له خادمة، ولما رأت هذين الرجلين تظاهرت بالاضطراب، وقالت لهما: إن سيدتي ليست بالمنزل.

فقال فابيان: كلا بل إنها في منزلها ولا تجزعي منا فنحن أصدقاء رولاند.

ثم دخل وتبعه الكونت قبل أن يدع لها وقتًا للاعتراض، فمشى أمام رفيقه حتى اجتاز الدور الأول، فنظر إلى الكونت فرآه يمشي بأقدام ثابتة، غير أن اصفرار وجهه كان يشبه اصفرار الأموات، وكانت عيناه تتقدان ويتطاير منهما اللهب.

فوضع فابيان أذنه على أحد الأبواب، وقال للكونت: تعالَ واسمع فإني أسمع صوتيهما، فأتى الكونت ووقف يصغي إلى تلك الأصوات فاضطرب وهاج هياجًا شديدًا؛ لأنه سمع صوتًا يعرف صاحبه.

ثم نظر من ثقب قفل ذلك الباب، فرأى الكونتس أرتوف جالسة على مقعد، وبجانبها رولاند ماسكًا يديها، وهي تنظر إليه نظرات العشاق، وتقول له بغنج ودلال: إذن فإنك لا تزال تهواني.

فقال لها رولاند: أحبك حبًّا لا يفنى و…

ولكن الكونت لم يدعه يتم حديثه، فإنه دفع الباب برجله فانكسر، ودخل وهو يزأر زئير الأسود والخنجر مشهر بيده.

وفي الوقت نفسه وبسرعة البرق فُتِح باب آخر مقابل للباب الذي كسره، ودخلت امرأة فحالت بين الكونت وبين العاشقين، فما أوشك الكونت أن ينظر إليها حتى وقف وقفة الأبله، وسقط الخنجر من يده، فإن تلك المرأة التي دخلت كانت الكونتس أرتوف أيضًا، ولكنها كانت أكثر جمالًا وأنضر شبابًا من الكونتس أرتوف الأخرى.

فلما رأت ما كان من سقوط الخنجر من يد الكونت وانذهاله دنت منه بمظاهر الكبرياء، ووضعت يدها على كتفه، وقالت: أية هاتين المرأتين الكونتس أرتوف أيها الزوج العزيز؟

فصاح الكونت صيحة فرح، وقد عرف كل شيء، ثم جثا أمام باكارا يلتمس منها العفو فلم يستطع أن يقول كلمة وسقط مغميًّا عليه.

وعند ذلك دخل الطبيب وقال لباكارا: اطمئني يا سيدتي؛ فإن هذه الحادثة الأخيرة أنقذته.

وفي المساء كان الكونت أرتوف لا يزال منحط القوى إثر إغمائه، وكان جالسًا على كرسي كبير في منزل باسي، وأمامه باكارا والطبيب صموئيل ورولاند دي كايلت الذي صافحه الكونت مصافحة الإخوان، فزال ما بينهما من الأحقاد؛ لأنه أخبره بجميع ما حدث له من مكايد روكامبول، وبعد حين انصرف الجميع ولم يبقَ أمامه غير باكارا، فطوقت عنقه بذراعها وجعلت تعانقه ودموع الفرح تنهل من عينيها، وهي تقول: لقد زال الآن كل خطر، فإن أندريا هوى إلى ظلمات الأبد وروكامبول زُجَّ في أعماق السجون، فلأنس شقائي بقربك؛ إذ ليس ما يمنعني الآن أن أعيش لك وبك.

ودارت قبلات الحنو بين الزوجين، فلم يقطعها غير كلمة «أحبك».

أما روكامبول فإنه بقي في سجن إسبانيا نحو عام، ثم أُرسِل إلى سجن طولون في فرنسا.

وقد اتفق أنه بعد خمسة أعوام مرت بهذه الحوادث كان الفيكونت فابيان وامرأته بلانش في طولون، فخطر لهما أن يزورا سجنها الرهيب، وفيما هما يطوفان فيه ومعهما رئيس ذاك السجن؛ إذ رأيا أحد أولئك المجرمين المنكودين ممددًا على الأرض، كأنما التعب أضنى جسمه فلم يستطع حراكًا، فلما رأى هذا المجرم الرئيس هم أن يقف كي يحييه، ولكنه ما لبث أن وقف حتى سقط لضعفه وأن أنين المتألم.

فأشفقت عليه بلانش، وقالت للرئيس: ما شأن هذا المسكين؟

– إنه مركيز يا سيدتي وقد صُدِعت رجله في هذا الصباح، وسيُنقَل إلى المستشفى في المساء.

فعجبت بلانش لكلامه، وقالت: كيف يكون مركيزًا ويكون في السجن؟

– إنه مركيز وغاية ما أعلمه من أمره أنه حاول الفرار منذ خمسة أعوام، فشوه وجهه كي لا يعرفه من يطارده، ولكنه قُبِض عليه ورُدَّ إلى مكانه في السجن.

وعند ذلك صرخ هذا المركيز متألمًا، فدنت منه بلانش وزوجها وهي راثية لحاله، فلما رآهما روكامبول صاح صيحة منكرة، فحسبت بلانش أنه يصيح من الألم، فتوجعت لمصابه وأخذت من جيبها عدة فرنكات، فأعطته إياها وقالت له: استعن بهذه الفرنكات على حالك ولا تقنط من رحمة الله.

ثم احتجبت عنه مع زوجها دون أن تعرفه لتشوه وجهه، غير أن روكامبول عرفها وتمثلت له باريس وزخارفها، وسابق أيامه فيها فأنَّ ذاك الأنين، ثم سقطت دمعتان على خديه وقال: كل ما لقيته من العذاب لم يكن شيئًا مذكورًا، والآن قد بدأ العذاب الصحيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤