في مصر

غيث الصحراء

ألقيت هذه القصيدة بين يدي صاحب الجلالة الملك «فاروق الأول» في رحلته إلى الصحراء الغربية (١٩٣٨)، وكان صاحب الديوان يمثل دائرة الصحراء بمجلس النواب.

يا حادي البشرى دنا السفر
نادِ القبائل حيثما انتشروا
فاروق في البيداء يصحبها
تيهوا بني البيداء وافتخروا
رفع الخيام على انسحاب فلا
أسسٌ تطاولها ولا جدر

•••

في طالع الأيام مرتقب
ولسابغ الأنعام مدخر
كالغيث لولا سبق أنعمه
والغيث يلحق بعده الثمر
كالنيل لولا أن موسمه
في كل يوم حاضر نضر
صلح الزمان لكم بمقدمه
وازدادت الآصال١ والبكر
فاستبشروا بالخصب أجمعه
لا جدب حيث النيل والمطر

•••

أحببتموه على السماع كما
شاء الولاء، وشاعت السير
وتشوَّف الوادي لرؤيته
وتساءل الركبان، وانتظروا
وتجاوبت فيكم مدائحه
نظمًا رواه البدو والحضر
والعرب أصدق ما سمعت إذا
غنوا على البيداء أو شعروا
فالآن فاكتحِلوا بطلعته
وتيمنوا باليمن وابتدروا
ملك تعالى الله بارئه
سيان فيه السمع والبصر
لم يختلف قول ولا عمل
منه، ولا خُبر ولا خبر

•••

ملك تعالى الله بارئه
بالخير يأمرنا ويأتمر
مستعصم بالله معتزم
مستمسك بالحق مقتدر
سبق الشباب به مراحلنا
وأعانه الإلهام والنظر
وتفيأت بلوائه عُصب
وتألفت بفنائه زُمر
نعم الإمامة للشباب فلا
يأس ولا نكس ولا حذر
جيلٌ لزين الجيل أسلمه
رب الكنانة، فهو منتصر
العزم والشورى إذا اجتمعا
فهما قضاء الله والقدر

•••

يا مؤمنًا بالله مهتديًا
بك مسجد «العوَّام» مشتهر
يا نسج وحدك في مآثره
بيدك زين القطن والوبر
يا جاعل الملح الأجاج روى٢
بيديك طاب الملح والصبر
يا شافي المرضى وكافلهم
عيسى على كفيك مستتر
يا حصن مصر ويا دعامتها
أقوى الدفاع مِراسك العسر
يا شاهد التاريخ في أثر
العين أنت، وما مضى أثر
ما كان منسيًّا فشهرته
بك بعد هذا اليوم تنتشر

•••

إني إلى الصحراء ملتفت
وعلى فم الصحراء منتظر
أصغي فأسمع في جوانبها
هزجًا يشيع بها، وينحصر
آلاء فاروق يرددها
نفر، وينصت حولها نفر
تنمو وتزهر حيث لا شجر
ينمو، وحيث نما بها الشجر
يهفو النزيل لها وينشدها
سارون فوق جمالهم سهروا
قوم سماء الله فوقهم
وملوكهم لسمائهم صور
إن يذكروا بالحمد راعيهم
فهم الرعاة، وهكذا فُطروا
هم في صراحة أرضهم نشأوا
وعلى هدى لألائها ظهروا
بلغاء ما عرفوا السطور على
غير الرمال، وعاش ما سطروا
حرمتهم الأيام فاصطبروا
ومتى أصابوا نعمة شكروا
فاروق قبلتهم إذا رحلوا
وإليه موئلهم إذا حضروا
يا مُلبسًا أجسادهم حُللًا
شرَّفت أنفسهم بما ادثروا

•••

الملك والآفاق والقمر
والبحر والبيداء والذكر
أمدٌ تفوت العينَ غايته
وتموج في أنحائه الفكر
هي رحلة طالت مفاخرها
ويعد في أيامها قصر
لو فُرِّقت في الدهر لاتسعت
لشعابها الأحقاب والعُصُر
في ساحة الفاروق يملأها
ذخر الحياة، ويُحجم الخطر
تنقاد طائرة وسابحة
ويطيب منها الوِرد والصدر٣

تمثال سعد

نظمت تحية لتمثالَي زعيم مصر الكبير سعد زغلول عند رفع الستار عنهما في القاهرة والأسكندرية (٥ أغسطس سنة ١٩٨٣).

الروح في وادي الكنانة حائم
وجلال شخصك في النواظر قائم
ما غاب منك سوى مثال عارض
يمضي، ويخلفه المثال الدائم
ملكُ البلاد المستقل وشعبها
فى محفليك مساهم ومساهم
أملٌ لعمرك لم تطاوله المنى
شرفًا، وحلم ما رآه الحالم
تُزهى به مصر ويزهى الشرق من
كثب، ويعجب من صداه العالم

•••

فاروق مولده ومولد نهضة
تنمي إليك، كلامها متلازم
فإذا أظلك عرشه وجلاله
فالعدل قسمته، ونعم القاسم
شيم من الخطاب جمَّع شملها
العادل الفطن الكريم الحازم
مَن غير فاروق يصوِّر أمةً
أنت الزعيم لها، وأنت الخادم
مَن غير فاروق يبارك نهضة
منه الرجاء لها، ومنه العاصم
مَن غير فاروق يقلد رتبة
والصولجان بكفه والخاتم
مَن غير فاروق يجل رعية
حوليه سابقُ مجدها والقادم
مَن غير فاروق تنص يمينه
علمًا للاستقلال فيه علائم
حياك أو أحيا رجاءك عاهل
عهدُ البلاد به جديد باسم
ملك كما ترجو لمصر مصدِّق
بشراك، مرتسم لما هو راسم
غمر البلاد بحبه وولائه
فولاؤه فرض عليها لازم
ركنان للوطنية المثلى هما
عرشٌ، وشعب حوله يتزاحم
فاهنأ بما بُلِّغت من حبيهما
واغنم ولاءهما فأنت الغانم

•••

تمثالَ سعد فى الجزيرة ساهرًا
هيهات يغفل منك لَحْظٌ صارم
النيل حولك لا يغيب هنيهة
عن ناظريك، وأنت عنه صائم
شأنٌ لربك فى الحياة حكيته
فالظل للغصن الوريف موائم
كم صام سعد عن مناهل حوضه
ويعبُّ مغتصب وينهل غاشم
كم بات يرعاه، وليس بمرتع
من خيره ما يرتعيه الحاكم
كم غاب عنه ولم يغب عن همه
والبحر دون طريقه متلاطم
بك زادت الأهرام ركنًا والتقت
منها على بُعد الزمان دعائم
تلك الصروح على اختلاف بنائها
فى الجيزة الفيحاء هن توائم
نهضت على استقلال مصر دلائلًا
يعيى بنقض بنائهن الهادم
اليوم آن لجانبيْ تاريخها
ألا يظللهما دخيل داهم
فى الضفة الأخرى بقية عسكر
قاومتهم جهد المطيق وقاوموا
مصر تضيق، على اتساع رحابها
بكما فأيكما المقيم القائم؟
لم تستقر على دعامك آخرًا
إلا لأنك بانتصارك جازم
والنصر ردك للعدو مواليًا
لا أنت راغمه ولا هم راغم
سعد على النيل الوفي ومثله
سعد على البحر القوي متاخم
ما أعجب الصِّنوين للفرد الذي
أعيى بصنويْه المدى المتقادم
أمجاورَ الميناء إنك لم تزل
ميناء مصر، والخطوب خضارم
متمكنًا من حيث يقبل قادم
كرمت وفادته، ويمنع فاحم
نعم اختيار الموقفين لحارس
وطنًا يحارب دونه ويسالم

•••

يا سعد هلَّا من لسانك قولة
يروى بها هذا الزحام الهائم؟
يمناك تومئ بالكلام فأين من
إيمائها الصوت القوي الناغم؟
عجبي لشيء فيه منك ملامح
أن ليس يُسمع منه قول حاسمُ!
عجبي لشيء فيه منك ملامح
أن ليس يخفق فيه قلب عالم!
أخذ الحديد الصلب منه عزيمة
والصخر بأسًا يتقيه الصادم
وتشابهت ثَمَّ الأسارير التي
قد شابهتك بمثلهن ضياغم
وتحجبت تلك الأفانين التي
ضاق الصَّنَاع بها وعيَّ الراسم
إن لم تصورها اليدان فربما
خفيت فصورها الضمير الراقم
إن لا تحدثنا فكل محدِّث
من فيض روحك ناثر أو ناظم
أو لا يكن لفظ فدون الوحي من
معناك كل اللافظين أعاجم
الناس حولك سامع أو ذاكر
ما كنت توشك أن تقول وفاهم
قف فوق منبرك الجديد فلم يزل
لك منبر عالي الذرى وقوائم
يصغي إليه العابرون فيقتدي
داعٍ إلى الحسنى ويخجل آثم
هذا المثال الحي إما حامد
للعاملين غدًا وإما لائم
هذا المثال الحي إما شاحذ
منا عزائمنا، وإما راحم
هذا المثال مؤيد من ثابروا
مزرٍ بمن قصروا الخطى وتناوموا
خصم لكل مخالف آراءه
وفعاله، وهو القوي الخاصم
جدد لهاتيك الرءوس حياتها،
بعض الرءوس وإن حيينَ جماجم
ما كان تمثالًا يماط ستاره
بل منسكًا للحج فيه محارم
بل تلك جامعة يؤم دروسها
متعلم سنن الحياة وعالم
تلك الرياح مجاذبات غطائه
رسل من العرش العلي حوائم٤
فاروق أو مُزجي الرياح كلاهما
للغيب، من خلف الحجاب، تراجم
والغيب يلهمه المليك إذا اتقى
ويفض من فحواه ما هو كاتم

•••

يا أسبق الأعلام ربك سابق
في حيثما استبقت بمصر عظائم
ما قام للفلاح قبل مثاله
علم، ولا دعيت إليه معالم
صعدوا على أكتافه وتسنموا
أوج المنابر وهو جاثٍ جاثم
فاليوم يبتدئ الزمان بخلقه
حتى كأنك أنت فيهم آدم
شرقًا، أبا الفلاح ما استفتحت من
همم، وما استتلى بعزمك عازم
لك لا تزال ولن تزال رسالة
ما للعظائم إن بدأن خواتم

ثناء على ماهر

ثناء الكرام على ماهر٥
ثناءٌ على الرجل القادر
على رجل زاهد في الثنا
ء إلا من الأثر العاطر
على من يسير بأعماله
فيقبل في جحفل زاخر
ومَنْ كُلُّ أيامه صالحا
ت لحفل بتكريمه عامر
فلا حيرة فيه للمختفي
ولا حيرة فيه للشاعر
تجيء مدائحه الصادقا
ت عفو البديهة والخاطر
فسيان إحصاء أعماله
ونظم المقرظ والشاكر

•••

بياناته مثل أرقامه
حقائق للحاسب الحاصر
وآراؤه في ثنايا غد
كرؤية عينيه للحاضر
وباطنه في مواعيده
كصفحة عنوانه الظاهر
له شدة الحق في بأسه
تمازجها رقة الساخر
وإنصافه مأمن للعِدى
وإخلاصه عصمة الناصر
وإقدامه في قضاء الفرو
ض إقدام مستبسل صابر
إذا ما اطمأن إلى واجب
فليس بوانٍ ولا قاصر

•••

أولي الأمر طوبى لكم يومكم
وطوبى لكم ذكرة الذاكر
فسيروا بأوطانكم وانهجوا
بها نهج مبتكر باكر
وهاتوا مدى جهدكم تبلغوا
مدى الحمد من وطن قادر
لكم من بنيه ومن عرشه
معاونة العارف العاذر

عيد الجهاد

حُيِّيتَ يا عيد الجهاد
حُيِّيتَ يا يوم المعاد
يا يوم مصر وما لها
من ناصرين، ولا عتاد
عزلاء إلا من سلا
حَيْها: الرجاء والاتحاد
بهما تصد الظافريـ
ـن ولا تُصد ولا تصاد
وتقود أشتات الصعا
ب ولا يلين لها قياد
وتعاند الأسد الهصو
ر ولا يطاق له عناد
تلقاه يوم تزلزلت
من بأسه السبع الشداد
والأرض بين يديه طيْـ
ـيِعة الْأَعِنَّةِ والوِهاد

•••

حُيِّيتَ يا يوم الجها
د ولا سؤال بم الجهاد؟
كلا، ولا من قائل:
أين الجحافل والجياد؟
جمعت بلادٌ أمرها
وكفى بما جمعت بلاد
وأراد سعدٌ فانبرى
وطن يحقق ما أراد
ما السيف في اليد غالبًا
إلا إذا غلب الفؤاد

•••

حُيِّيتَ يا يوم الجهاد
يوم الجهود والاجتهاد
يوم الكرامة والجلا
د بل، السلامة والسداد
كم عاقل في الاقتحا
م وجاهل في الارتداد
ومحصِّل فيما أضا
ع، مُضيع فيما استفاد

•••

وطني سلمت من الغوا
ة ولا سلمت من الرشاد
ما في الجهاد غواية
إن الغواية في الرقاد
وطني خذلت الخادعيـ
ـن ولا خذلت ذوي اعتقاد
ما في الصعاب خديعة
إن الخديعة في المهاد
وطني تبينت المصا
رح والمداجي في الوداد
ما في اللهيب خبيئة
إن الخبيئة في الرماد
وطني فررت من الهوا
ن ولا فررت من الجلاد
ما كل خطب يُتقى
أو كل أمن يستزاد
وطني، وما وطني عليَّ
بهين بين البلاد
يا ليته مما يهو
ن فأستريح «على الحياد»!

•••

حاشا لمصر ولي وللـ
ـسادات فيها والسواد
إني نذرت لها دمي
ومُنى يضن بها الجواد
وشرعت في ميدانها
قلمي وإن نفد المداد
وعلمت أن لها غدًا
يرجى، وأمس يستعاد

•••

شبان مصر تزودوا
لغد، وبعد غد، بزاد
أنتم حماة عرينها
ولكم معاقلها تشاد
إن ذاد غيركم العدا
فردًا فلا كان الذياد
أو سدتم في أمة
ذلت ففرحتها حداد
من ذا يسود وحوله
وطن على ضيم يساد
لا يخجلن غد إذا
ما حل من عيد الجهاد

إلى مهرجان السودان

يا جيرة المورد في الوادي
كونوا هناكم مورد الصادي
صادٍ إلى الماء وصادٍ إلى
علم لمن يطلبه هاد
هاد كما قد أفرت شمسكم
بساطع في الجو وقَّاد
لولا معاذيري لحياكم
مني مطيفٌ رائح غاد
فإن أكن أوفدت شعري لكم
فذاك عندي خير إيفاد
إلى اللقاء المرتجى في غد
تحيتي للحفل والنادي٦

هوامش

(١) جمع أصيل وهو قبيل وقت الغروب.
(٢) الروى هو الماء الغزير المروي، ومن المنشآت التي افتتحها صاحب الجلالة في مرسى مطروح منشأة تصفي ماء البحر من الملح فيصلح للشرب، والبيت يشير إلى هذه المنشأة كما تشير الأبيات الأخرى إلى المعاقل والمساجد، ومعامل النسيج التي افتتحها جلالته في هذه الرحلة والآثار التي زارها.
(٣) بعض هذه الرحلة تم بالطيارة، وبعضها بالسكة الحديد والباخرة.
(٤) قبل رفع الستار بأيام جذبته الريح فانكشف فتفاءل بذلك الذين أشفقوا من تأخير الاحتفال برفع الستار.
(٥) من قصيدة في تكريم الدكتور أحمد ماهر باشا (يوليو ١٩٣٩).
(٦) هذه الأبيات هي تحية صاحب الديوان إلى مهرجان الأدب الذي يقيمه أدباء السودان مرة في كل عام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤