الدور الذي قامت به الإسكندرية في الأدب والعلوم خلال حكم البطالمة

لم يكن هَم «بطليموس الأول» قاصرًا على التوفيق بين السكان الجدد من الإغريق الذين وفدوا على مصر بعد فتوح «الإسكندر» وبين السكان الأصليين في مصر من الوجهة الدينية فحسب، بل دلت الوثائق على أنه كان مهتمًّا اهتمامًا بالغًا برفع مستوى الثقافة ونشر العلوم وبخاصة في الإسكندرية عاصمة ملكه الجديد ليدرج بها إلى أرقى مكانة في العالم الهيلانستيكي في عهده والواقع أنه وصل بهذه العاصمة الجديدة التي كانت تضم تحت جوانحها جثمان «الإسكندر الأكبر» إلى منزلة لم تتمتع بها مدينة أخرى في العالم القديم؛ فقد كانت تدعى بحق في خلال القرن الثالث قبل الميلاد عاصمة الأدب في العالم الإغريقي، وفي الحق لم نجد في خلال هذا العصر أي فرع من فروع الشعر باستثناء الكوميديا إلا ضربت فيه الإسكندرية بسهم صائب، وبحلول منتصف القرن الثالث ق.م كان نفوذ الإسكندرية في عالم الشعر قد بلغ شأوًا بعيدًا لدرجة أن شاعرًا عظيمًا مثل «أيوفريون» Euphorion الذي، على ما يظهر، كان قد قضى معظم سِنِي حياته في بلاد الإغريق القديمة و«سوريا»، كان يُعَدُّ مصريًّا كأي شاعر يقطن العاصمة المصرية.

أما في النثر فلم تكن الإسكندرية تتمتع بنفس النفوذ الذي كان لها في الشعر، وقد بقي ميدان الفلسفة المميِّز لأثينا، ومع ذلك فإن بعض الفلاسفة وبخاصة جماعة المتشائمين قد وجدوا سبيلهم إلى مصر واستوطنوها، وقد كان الجو بوجه عام غير ملائم لهذا النوع من النشاط العقلي، ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الصدد أن المحاضرات التي ألقاها الفيلسوف «هيجسياس» رسول التشاؤم قد أُلغيت بمقتضى منشور ملكي بوصفها محاضرات مثبِّطة للأخلاق العامة، هذا ولم يكن للخطابة أو البلاغة أية أهمية تذكر في الإسكندرية، وذلك لأن الأحوال السياسية في البلاد لم يكن فيها ما يدعو إلى الخطابة أو البلاغة، على أن ذلك لم يمنع وجود خطباء وبلغاء في مصر وقتئذ، والواقع أنه كُشف حديثًا عن عدد كبير من الأوراق البردية تحتوي على خطب مدرسية.

ويدل ما لدينا من وثائق على أن العلوم التطبيقية كالجغرافية والرياضة والطبيعة والطب والتاريخ الطبيعي وفقه اللغة كانت هي أنواع المعارف التي شغلت كُتاب النثر في هذه الآونة.

وإذا فحصنا ما وصل إلينا من فروع النثر نجد أن بعضها قد مثل بصورة واضحة أكثر من بعضها الآخر، ففي عصر خلفاء «الإسكندر الأكبر» نجد أن الخطابة كانت منتشرة للحاجة إليها في تلك الفترة المليئة بالأحداث المثيرة للعواطف وبانتهاء تلك الفترة دعت الحاجة إلى تدوين تاريخ تلك الأحداث.

أما الأدب لذاته في تلك الفترة فكان شيئًا لا يُذكر، ومن أجل ذلك كان فضل البطالمة العظيم في أنهم أول ملوك هيلانستيكيين أقاموا أسرة ثابتة الدعائم أساسها العلم والمعرفة وقد ضربوا المثل في إمداد بلادهم بالفنون والعلوم بعزم وثبات، وتدل الأحوال على أن الإغريق لم يكونوا يعرفون فضل الإسكندرية، ولا أدل على ذلك مما اقتبسه لنا «أثناوس» Athenaeus باستحسان، وهو أن الإسكندريين هم الذين علموا كل الإغريق والبرابرة، وذلك عندما كانت الثقافة العامة تنحدر نحو الأُفُول بسبب الاضطرابات المستمرة في عهد خلفاء الإسكندر، حقًّا قد يكون «أثناوس» قد بالغ بعض الشيء فيما ذكره أو من نقَلَ كلامه عنه، ولكن تشجيع البطالمة للأدب والعلم في ذلك الوقت قد يغفر له تجاوزه في إطراء الإسكندرية.

والواقع أن «بطليموس الأول» مؤسس الإسكندرية التي يدين لها العالم بالعلوم والمعارف قد حدثنا في مذكراته التي تركها لنا أنه لم يكن يقصد أن تصبح الإسكندرية مخزن تجارة دوليًّا وحسب، بل كان جُلُّ ما تتوق إليه نفسه أن تصبح مهدًا لحضارة أسرته، بل وأكثر من ذلك أن تعمل على تقدم العقل الإنساني، ولقد رأى «بطليموس» أن بلاد الإغريق قد هدت قواها وبلغت من الكبر عِتِيًّا وأصابها الفقر حتى أصبحت وليس في قدرتها أن تحافظ على شهرتها القديمة، ولما لم يكن في قدرته أن يستولي عليها كما أشرنا إلى ذلك من قبل فإنه أخذ في استعارة كل ما يمكن استعارته منها لينقله إلى الإسكندرية من آراء وكتب وعلماء.

والواقع أن معظم هذا العمل قد قام به ابنه وخلفه «بطليموس الثاني»، غير أنه كان له فضل السبق والمبادرة في وضع الحجر الأساسي للعلوم، ومن ثم سنتحدث عن هذه الأعمال هنا.

(١) تأسيس المكتبة والميوزيون في الإسكندرية

مما يؤسف له جد الأسف أن المصادر القديمة لم تقدم لنا أية معلومات أكيدة عن أي البطليموسيين الأول أو الثاني قد رفع مباني كل من المكتبة و«الميوزيون» في الإسكندرية، غير أن العلاقة الأكيدة التي تربط «ديمتريوس» مواطن «فالرم» بأصل هاتين المؤسستين يقصد به الرأي القائل إن «بطليموس سوتر الأول» هو الذي اتخذ الخطوة الأولى في تأسيسهما حوالي عام ٢٩٠ق.م وبخاصة عندما نعلم أن «بطليموس الثاني» قد غضب على «ديمتريوس» هذا فيما بعد وأقصاه عن بلاطه.

حقًّا نجد أن الملوك الأُوَل الآخرين المعاصرين للبطالمة قد أسسوا لأنفسهم مكتبات، ولكن ذلك كان على غرار مكتبة الإسكندرية ومن ثم نفهم أن البطالمة كانوا هم أسبق الهيلانستيكيين إلى إنشاء المكتبات.١

(٢) المكتبات في أقدم عهود التاريخ

تدل الوثائق التي في متناولنا حتى الآن على أن قدماء المصريين كانوا أول من فكروا في تدوين أفكارهم وآرائهم على الورق ولا غرابة في ذلك؛ فَهُم الذين اخترعوا صناعته ونشروه في العالم، وتُحَدِّثنا النقوش والكتابات التي وصلت إلينا حتى الآن أن المصريين منذ أقدم عهودهم كانت لهم دُور يحفظون فيها كتاباتهم الخاصة بتاريخ بلادهم وعلومهم الدينية والدنيوية ولا أدل على ذلك من قيام مؤسسة «بيت الحياة» (بر-عنخ) الذي كان يُحفظ فيها كل سجلات البلاد التاريخية والفنية والأدبية والدينية، ويُخيَّل إليَّ أن مؤسسة «بيت الحياة» عند قدماء المصريين كانت تقوم بالوظيفة التي تقوم بها كل من المكتبة و«الميوزيون»؛ فقد كان فيها العلماء الباحثون في كل العلوم المصرية كما كان فيها كل المراجع التي يحتاج إليها أولئك العلماء، وقد سمعنا بوجود مؤسسة «بيت الحياة» منذ أوائل الأسرة الرابعة وقد استمرت موجودة تقام بجوار المعابد حتى نهاية العهد الإغريقي الروماني، وسنضع موازنة بين «بيت الحياة» هذا وبين المكتبة و«الميوزيون» فيما بعد في مقال خاص.

أما في بلاد الإغريق فلم تُعرف المكتبة بمعناها العام؛ أي لم توجد مكتبات عمومية في بلاد اليونان حتى العصر الهيلانستيكي، ومن المحتمل أن فكرة المكتبة بمعناها الحقيقي لم تعرف في العالم المتمدين إذا استثنينا «بيت الحياة» إلا في بلاد «آشور» حوالي القرن الثامن ق.م؛ فقد أسس الملك «آشور بنيبال» مكتبته المشهورة التي كانت تحتوي على آلاف المجلدات، وبعد ذلك لم نسمع في بلاد اليونان بمكتبة عامة إلا عندما أنشئت مكتبة الإسكندرية حوالي عام ٢٩٠ق.م، وقد كانت هذه المكتبة موضوع اهتمام كبير منذ زمن تأسيسها وكذلك كانت محط الأنظار في عهد الثقافة الهيلانستيكية القديمة.

وقد اهتم العلماء والباحثون في عهدنا الحاضر بهذا الأمر، والواقع أنه ليس في مقدورنا أن نعرف شيئًا مُحَسًّا عن هذه المكتبة وملحقاتها بما لدينا من المعلومات الضيئلة التي وصلت إلينا عنها وبخاصة عندما نفكر في الشهرة العظيمة التي كانت تتمتع بها في الأزمان القديمة وما وصل إلينا من حقائق ناقصة مبعثرة في أمهات الكتب القديمة من العصر الهيلانستيكي، أقل ما يقال في هذا الصدد إنه ليس في استطاعتنا حتى الآن أن نحدد موضع هذه المكتبة في مدينة الإسكندرية القديمة حتى ولو على وجه التقريب، وذلك لأن المدينة الحديثة أخفت كل المعالم القديمة بمبانيها الحديثة يضاف إلى ذلك أننا لم نعلم شيئًا عن تنظيمها، وقد زاد الأمر تعقيدًا اختفاؤها نهائيًّا، وهذا موضوع حدْس وتخمين سبَحَ فيه خيال الكُتاب الأحداث.

والواقع أنه منذ اختراع الكتابة كانت الكتب موجودة على صور شتى، فكان الأقدمون يسجلون القصص والحوادث بحفرها على الحجر كما فعل قدماء المصريين أو نقْشها على قوالب من الطين — التي كانت تُحرق فتصير مادة صلبة تقاوم الظواهر الطبيعية — كما فعل البابليون والآشوريون منذ القِدَم، وبعد ذلك كُتبت حوادثهم على الورق المجلوب لهم من مصر وعلى الجلد وكذلك على لِحاء الأشجار وأوراقها كما كان يفعل هنود أمريكا، وكذلك دوَّن بعض الأقوام حوادثهم على قطع الخزف وشظايا الأحجار كما فعل المصريون، ويطيب لنا أن نبتدئ هنا قبل مناقشة مكتبة الإسكندرية بعرض بعض معلومات عن مجاميع إضمامات الكتب الإغريقية المبكرة التي سبقت العصر الهيلانستيكي من التي جمعها بعض الأشخاص لاستعمالهم الشخصي، ولا نزاع في أنه من هذه المجاميع جاءت الرغبة في تكوين المكتبات العامةِ الفائدةِ، وهي التي أصبح في الإمكان أن تصير مفيدة بصفة دائمة للمجتمع، ومن ثم تولد الميل لدى أفراد كثيرين من أصحاب الميول العلمية المختلفة للاطِّلاع وجمع الكتب، وبهذه الطريقة أمكن كل فرد أن يجد في هذه المكتبة ما يُشبع رغبته من حيث المعلومات الرياضية والعقلية والأدبية، فربما ركز فرد اهتمامه بالشعر وما كُتب عنه، وآخر في علوم الطبيعة والبحوث التي وُضعت فيها، وثالث يلقي باله بكُتُب التاريخ وما ظهر منها، وهناك طائفة أخرى من المفكرين مثل أولئك الذين كانوا يحيطون «بأرسطوطل» في «ليسيوم» أثينا (ليسيوم Lyceum هو اسم مكان يقع مباشرة في جوار أثينا وقد كان وقفًا على الإله أبولو-ليسيوس Apollo Lycius حيث كان يعلِّم فيه الفيلسوف أرسطوطل تلاميذه) والظاهر أن هذه الطائفة كان أفرادها يهدفون في رغباتهم العقلية إلى كل ما يفيد الإنسان من علم وأدب مما وصل إليه العقل الإنساني في زمانهم، يضاف إلى ذلك أننا نجد في العالم الإغريقي خلال القرن الخامس قبل الميلاد تمثيليات عظماء الأصحاب من كُتاب «روايات المآسي» وكُتاب «الروايات الهزلية»، وهي التي كانت تدوَّن بطبيعة الحال وقتئذ على إضمامات البردي التي كانت تدوَّن عليها السجلات العامة، ولدينا برهان على هذه الحقيقة الأخيرة منقوش على حجر دُوِّن عليه مصروفات خاصة ببناء «الأرخيوم» (مستودع السجلات في أثينا التي ذُكر فيها ثمَن البردية التي دُوِّن عليها حسابات هذا المبنى).
ولدينا موضوع هام يرجع تاريخه إلى عام ٣٩٩ق.م عن معلومات قدمها لنا «أكزنوفون الأثيبي» وذلك أنه عندما قاد عشرة آلاف من جنود الإغريق الذين كانوا قد دُربوا في الأصل لجيش «كورش الأصغر» في جبال «أرمينيا» حتى سواحل البحر الأسود،٢ وقد خرجوا من بين قوم يُدْعَون «التراقيين» وحلت بعض سفن من سفنهم في المياه الضحضاحة عند الشاطئ، وقد أخبر أهالي «بنتوس» في هذه الجهة «أكزنوفون» أنهم وجدوا في السفن المهشمة هناك عددًا كبيرًا من الأرائك والصناديق وكثيرًا من الكتب المدونة وأشياء أخرى كثيرة مثل التي يحملها ربابنة السفن في سفنهم.
وهذا البيان يقدم لنا فكرة عن تجارة إضمامات الكتب التي كانت شائعة في ذلك الوقت وتمتد من الشرق حتى البحار المخيفة الوعرة التي لا سكان فيها وهي التي تدعى «البحر الذي يكرم الأجانب.»٣
هذا ويحدثنا في كتاب «ممورابيليا» (وهي المحادثات الشهيرة لسقراط) نفس «أكزنوفون» تلميذ «سقراط» المخلص عن حديث جرى بين الفيلسوف العظيم وبين ثري أديب من أهل أثينا يُدعَى «إيتيدموس» Euthydemus ونجد في هذا الحديث أنه على الرغم من أن سقراط قد حاول أن يصحح ثقة هذا الثري بنفسه فقد اضطُر للوصول إلى غرضه بامتداح إحدى رغائبه، وذلك أنه قد اتضح لسقراط خلال المحادثة معه أنه قد جمع فعلًا مجموعة كبيرة من أعمال شعراء الإغريق وأساتذة الفلسفة بقدر المستطاع، و«إيتيدموس» هذا قد بذل مجهودًا جبارًا على قدر استطاعته ليجعلها تامة،٤ وتدل شواهد الأحوال من سياق المحادثة على أن نسْخ الكتب كان قد وصل فعلًا إلى درجة كانت رغبة التخصص في الأدب قد وُجدت عند الأفراد حتى أصبحوا يهتمون بجمع مجاميع شخصية كل بمجموعته أي مكتبته الشخصية.
وعلى أية حال فإنه من المستحيل علينا أن نقدر عدد الإضمامات التي جمعها رؤساء «الأكادمي» و«ليسيوم» في أثينا أي أفلاطون وأرسطوطل وخلفاؤهما، هذا وقد وصل إلى الخلف نقلًا عن «ديوجنيز لارتيوس» Diogenes Laertius وصايا المدارس المبكرة،٥ وليس هناك شك عند أي عالم قدير في أن هذه الوصايا أصلية وأنها اقتُبست بأمانة كما وصلت إلينا.٦
وقد ترك «أرسطوطل» في «أثينا» مجموعة إضمامات لخليفته في «ليسيوم» وهو«تيوفراستوس» Theophrastus، وترك الأخير بدوره كل المجموعة لقريبه وتلميذه «نليوس سبسيس» Neleus Scepsis.
ويُلحَظ أن نظام مبنى «ليسيوم» وأراضيه كانت مختلفة تمامًا فنجد في وصية «تيوفراستوس» Theophrastus أنه قد اشترط أن يرث مجموعته كل أصدقائه في المدرسة وقد جاء مع منح ملكية هذه المكتبة مادة تنص على أن مبنى «ليسيوم» والأراضي التابعة لها لا يُفصلان قط الواحدة عن الأخرى، والمراد من تأكيده بذلك هو أنه عند موت «تيوفراستوس» الذي عاش ما بين ٢٨٨–٢٨٥ق.م، هو أن تكون الملكية الحقيقية يمكن وضع اليد عليها قانونًا في حين أن الكتب التي في «ليسيوم» كانت على ما يظهر تعتبر أو تعد متاعًا يُستحسن النزول عنه بمقتضى وصية لتصبح ملكية خاصة. وبعبارة أخرى نجد أنه في حوالي نفس الوقت الذي أُسست فيه مكتبة الإسكندرية لجماعة من العلماء كانت فكرة تملُّك مجموعة كتب خاصة بصفة قانونية قد ظهرت في «أثينا».

وهذه الملحوظة تعد لفتة جديدة لتأسيس مكتبة الإسكندرية؛ إذ الواقع أنها تعد أول منظمة موحدة لاستعمال الكتاب وأهل الفكر، وأول خطوة تجاه فكرة مكتبة عامة، وفي تلك الفترة التي أُسست فيها لم تكن قد نظمت بعدُ لتكون مؤسسة عامة للقراء على نطاق واسع، غير أنها بوصفها حركة إيجابية نحو امتداد واسع للعلوم وشحذ الفكرة واليقظة التي غمرت العالم وقتئذ لينهض الإرث الهيلاني القديم، فإن تأسيسها في الإسكندرية وَجَعْلها تابعة «للميوزيون» بكل قيودها تعتبر خطوة إلى الأمام غاية في الأهمية من الناحية الثقافية، ولا نزاع إذن في أن مكتبة الإسكندرية من هذه الوجهة تستحق المكانة الشريفة العالية التي تستحقها حقبة طويلة في المجتمع القديم لتنمية العقل الإنساني؛ فقد كانت النموذج الذي اتخذته مكتبات عالم البحر الأبيض المتوسط مثالًا تحذو حذوه، ومن ثم كانت النواة ونقطة الانطلاق نحو ديمقراطية العلم والتعليم اللذين تميز بهما العالَم الإغريقي الروماني أثناء ازدهار حضارتيهما.

هذا ولا يفوتنا أن نعرف أن جمع الكتب الشخصية من كل نوع قد شجع على أنه هواية عند الأفراد المتعلمين، وذلك تمثلًا بالنهضة التعليمية في الإسكندرية التي كانت مركَّزة في «الميوزيون» ومكتبتها، وقد كانت هذه الهواية أمرًا حقيقيًّا بوجه خاص في مصر في عهد حكم البطالمة بتشجيع الإغريق الذين كانوا يتدفقون على مصر خلال المائة سنة الأولى بعد انضمام رؤساء الكهنة قلبًا وقالبًا إلى «الإسكندر الأكبر» عام ٣٣٢ق.م.

وقد تجلى أمامنا الشغف الذي كان يظهره المستعمرون الإغريق في مصر في جمع الكتب التي من نوع قيم بعد تأسيس مكتبة «الميوزيون» بصورة لم تكن في الحسبان، وذلك أنه قد عُثر على قطعة من بردية محفوظة الآن في مجموعة مكتبة «جامعة كولمبيا» بأمريكا، وهذه القطعة من بردية من سجل «زينون» الذائع الصيت وهو إغريقي من بلدة «كانوس» Caunus من أعمال آسيا الصغرى، وقد وفد على مصر حوالي عام ٢٦٠ق.م، وانخرط في خدمة «أبوللونيوس» وزير مالية «بطليموس الثاني» وفي عام ٢٥٦ق.م أسند إليه القيام بتنمية الأراضي التي حول بركة «قارون»، وقد أدار هذا المشروع الوزير «أبوللونيوس» الذي وكل إليه أمر زرع هذه الأرض وتنمية محصولها، وقد وصلت إلينا قطعة البردي التي أشرنا إليها وتحتوي على أربعة أسطر جاء فيها: كتب أرسلت إلى مجموعة «أفاراموستوس» خاصة بخطب سياسية كتبها «كاليستنيس»، وقد قطعت الورقة لسوء الحظ عند هذه النقطة، و«أفاراموستوس» هذا كان أخًا أصغر «لزينون»، أما «كاليستنيس» فهو ابن أخي «أرسطوطل» ومساعده، وكان قد رافق «الإسكندر الأكبر» في حملته إلى «آسيا»، وخدم الإسكندر حتى عام ٣٢٧ق.م وهو العام الذي فيه قتله «الإسكندر» لقيامه بمؤامرة لاغتياله.

هذا ولما كانت هذه القطعة في حالة تمزُّق سيئة فإنه لم يُحفظ لنا من أسماء الكتب التي أرسلها «زينون» لأخيه الصغير عن طريق النهر إلا العنوان، وها هي ذي ترجمته الحرفية عن الإغريقية: «مجموعة «كاليستنيس» الخاصة بالخطب الدبلوماسية.»

وعلى أية حال فإنه كان في استطاعة المؤرخ «ميشيل أفانوفيتش روستوفتسف» الروسي الأصل أن يفسر على أساس ما جاء في هذه القطعة فكرة كانت لها منذ زمن صورة في ذهنه، وتتلخص في أن المدرسة التي كانت لها أكثر سيطرة وأكثر تمييزًا في الفلسفة اليونانية في العالم الهيلانستيكي في خلال القرن الثالث قبل الميلاد، وهي مدرسة «أرسطوطل» كان تأثيرها أشد تأثيرًا من مدرسة «زينون» القبرصية أي مدرسة «الرواقيين».٧

وعلى أية حال يجب أن نقدر قيمة «ميوزيون» الإسكندرية ومجموعة الكتب الشهيرة الموجودة في مكتبتها على حسب الوضع العلمي الذي تقوم عليه فلسفة «أرسطوطل» وكذلك على القدرة التنظيمية التي كانت من صفات المهاجرين الإغريق إلى الديار المصرية، وذلك لأننا سنرى في هذا الوضع معناها وأهميتها.

وأهم معلومات تعتبر من الدرجة الأولى وصلت إلينا عن المركز الرئيسي الذي كانت تشغله مدينة «الإسكندرية» هو ما رواه لنا الجغرافي «إسترابون»،٨ وذلك لأنه زار المدينة وتفقد أحياءها وساح في وادي النيل في حاشية صديقه الشخصي «أليوس جاليوس» وهو ثالث حاكم لمصر في عهد «أغسطس قيصر» أي في أوائل القرن الأول الميلادي.
وكانت المكتبة جزءًا من بيت «الميوزس» الذي يسمى «الميوزيون»، وكانت الأخيرة بدورها تعتبر جزءًا من ساحة القصر الملكي الكبير الواقع في وسط المدينة، هذا ولا نعرف بالضبط السنة التي أُسست فيها «الميوزيون»، ولكنها في العادة توضع بين حوالي السنين الأخيرة من حكم «بطليموس الأول» والسنين الأولى من عهد «بطليموس الثاني» أي ما بين ٢٩٠ و٢٨٠ق.م، ولم يحدَّد بالضبط حتى الآن موضع القصر الملكي وبالتالي موضع «الميوزيون»، ومن هذه المعلومات الناقصة قد أصبح موضع المكتبة و«الميوزيون» لا يخرج عن حدْس وتخمين في داخل مساحة محدودة، وعلى أية حال فإن العالِم «برشيا» قد حدد موقع «الميوزيون» وملحقاتها، مستعملًا المصور الجغرافي الذي وضعه الأستاذ «بوطي» الإيطالي عن الإسكندرية، ما بين الشوارع الثلاثة الحديثة وهي شارع شريف باشا وشارع سيزوستريس فشارع النبي دنيال،٩ ومعنى ذلك أن المكتبة على حسب رأي «برشيا» تقع على مسافة تتراوح ما بين ربع ونصف ميل من الكُرْنيش الحالي وساحل الميناء الشرقية، وعلى أية حال فإن هذا الرأي مجرد تخمين وحسْب.
وتدل الوثائق التي في متناولنا على أن الرجل الذي انتخبه البطالمة ليكون مستشارهم في تأسيس «الميوزيون» هو القائد السياسي «ديمتريوس» مواطن «فالرم» (أحد أقسام أتيكه) وهو من أتباع «ليسيوم» وتعاليمها، وكان ماهرًا في معرفة نظامها ومقاصدها العلمية، وقد كان حاكم أثينا مدة عشر سنوات (٣٠٧–٢٩٧ق.م) وذلك بوصفه مشرفًا مدنيًّا تحت الحكم المقدوني، وبعد ذلك أصبح لاجئًا؛ إذ ترك مسقط رأسه في عام ٢٩٧، وفي عام ٢٩٤ق.م دعاه «بطليموس الأول» للحضور إلى مصر حيث استقبله باحترام عظيم، ووكل إليه أمر تنظيم «الميوزيون» بوصفها مركزًا للتعليم، وكانت تتألف من مجموعة من العلماء على رأسهم كاهن «الميوزس»، وقد كانت عبادة «الميوزس» منذ زمن بعيد رمزًا للروح العلمية.١٠

هذا ونجد أن أتباع «فيثاغور» كانوا متعودين أن يرفعوا في وسط صوامعهم الفلسفية مائدة قربان «للميوزس»، وكانت مدارسهم تدعى «ميوزس» وكان الفلاسفة أتباع «سقراط» حتى الأقل باطنية من جميعهم وهم «المشاءون» قد بقوا على ولائهم لهذه الديانة ذات الذوق السليم، وهي التي كان في استطاعتها أن ترفع من شأن الناس مع بقائها للمفكرين الأحرار رمزًا شفيفًا، وقد أسهم «ديمتريوس» مواطن «فالرم» نفسه في زمن سلطانه في تنظيم «تيوفراستوس» الذي كان النموذج الذي أُسست عليه «ميوزيون» الإسكندرية.

وكان علماء «الميوزيون» يسكنون ويعملون في هذه المؤسسة على حساب «بطليموس» متحررين من كل هموم الدنيا ومنغصاتها، وقد وصفهم «تيمون» Timon وهو من أصحاب مذهب التشكك بأنهم دجاج مسمَّن في قفص،١١ ويحدثنا «إسترابون» عن «الميزيون» أنها جزء من الحي الملكي كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وتحتوي على ممشًى ومبنًى عظيم يوجد فيه حجرة للطعام مشتركة لعلماء هذه المؤسسة، وكان لها ميزانية مشتركة وكاهن موكل إليه محراب «الميوزس» يُعَيِّنه فيما سبق ملوك البطالمة، والآن يعيِّنه قيصر روما، ومن المحتمل أن هذا الوصف كان ينطبق على هذا المبنى في عهد البطالمة؛ لأن الأوضاع لم تتغير وإن كان الحكام قد تغيروا، وليس من الواضح لنا أي فرع من فروع المعرفة كان يمثله أعضاء هذا المعهد، وقد ذكر لنا «إسترابون» بشيء من الإبهام كلمة علماء، وقد جاء ذكر «الميوزيون» في كتابات اثنين من هؤلاء العلماء وهم «تيمون» مواطن «فيليوس» و«هروداس» وكلاهما عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد أشار أولهما في أبيات لاذعة من شعره إلى «فلاسفة» أي فلاسفة «الميوزيون» إذ يقول:
في أرض مصر المزدحمة
هناك كثيرون يطعمون
وكثير من كتاب التفاهات على البردي
وهم دائمًا في شجار
في خن طبو الميوزس.١٢

ومن المحتمل أن كلمة «فلسفة» السالفة الذكر يمكن أن تعطي معنًى أوسع؛ أي إن المكان قد أُسس فيه كل فروع البحث العلمي، وقد كانت مناقشات «الميوزيون» خاصة بأعضائه فقط، وأقرب مثال في عصرنا لهذا هو مجمع البحوث العلمية (الأكادمي).

ولا نزاع في أنه كان هناك نظم للتعليم تتبع في «ميوزيون» الإسكندرية منذ بداية تأسيسها، وعلى أية حال فإنه يمكن معرفة الشيء القليل عن طبيعتها وامتدادها، ومن الإشارات العابرة القليلة التي وصلت إلينا عنها نفهم أن أساس الجانب التعليمي كان في صورة مناقشات يومية في المسائل العلمية، وهذه كان يُسيِّرها منذ البداية مجموعة من أعضاء «الميوزيون» وقد قُدِّر عددهم في عهد البطالمة المزدهر بحوالي مائة عالم، من المحتمل أنه كانت هناك نخبة من المستمعين وقتئذ، وإن كانت البراهين على حقيقة هذا الأمر تعوزنا، ولا يجدر بنا أن نلتفت إلى السخرية اللاذعة التي كان ينطق بها «تيمون» الأثيني المتشكك، ولا ينبغي اتهامهم اتهامًا شرعيًّا بأن مناقشاتهم لم تكن إلا تظاهرًا بالعلم الذي لا قيمة له، وهذا الرجل هو الذي قرن أعضاء «الميوزيون» بالديوك التي تتشاجر في أقفاصها، وقد كان الإنتاج الدائم «للميوزيون» في علوم الفقه بوجه خاص، في التعليم بوجه عام، ويمكن تقدير ذلك من ملحوظة المؤرخ «أميانوس مارسلينوس» Ammianus Marcellinus فقد أخبرنا في زمنه أي في القرن الرابع بعد الميلاد عن شهرته في أنه درس الطب في الإسكندرية، وكان ذلك أحسن تزكية يمكن أن ينالها طبيب في العهد، فقد قيل إن آخر امرأة من نساء البطالمة وأذكاهن وهي كليوباترا السابعة قد حضرت مجالسهم العلمية باهتمام، وقد كان حضور «مركاس أنطونيوس» زوج «كليوباترا» لمناقشتهم سواء أكان ذلك طوعًا أو كرهًا منه لإرضاء الملكة أو قد يكون ذلك نتيجة لإلحاح منها، هذا وقد يكون من باب الخطأ إذن أن نعد إهداء «كليوباترا» مائة ألف إضمامة كان قد نهبها «مركاس أنطونيوس» من مكتبات مدينة «برجامم» نوعًا من التعبير عن الإخلاص للعلم من ناحيته بل يحتمل أن الهدية كانت مجرد إظهار الولاء والإخلاص لهذه الملكة الساحرة.

ولقد كان من الضروري أن نؤكد هنا بشدة أهمية «ميوزيون» مدينة الإسكندرية، وذلك أن «مكتبة الإسكندرية» لم تكن إلا جزءًا منها، وهذا الجزء كان يعد غذاءها، فمن الإضمامات التي في داخلها أتى كل علم الماضي وكانت الدافع الذي دعا إلى متابعة أبحاث أخرى في كل ميدان من ميادين المعرفة.

ويرجع الفضل إلى «بطليموس الثاني» الذي حكم مصر مدة تسع وثلاثين سنة (٢٨٥–٢٤٦ق.م) أنه هو الذي أحضر المجموعة الأصلية من الإضمامات التي زينت مكتبة «الميوزيون»، والمفروض أن هذه قد زِيدَ فيها على يد أمناء المكتبة الذين تولوا أمر تنظيمها على التوالي بوصفهم وُكَلاءَها.

ومما يطيب التنويه عنه هنا ذكر طريقة ممتازة استُعملت للحصول على الكتب التي دُونت بخط غاية في الجمال، وهذه الطريقة كانت متبعة في عهد بطليموس الثالث (٢٤٦–٢٢١ق.م) مما يدل على الأهمية البالغة التي كان يظهرها البطالمة الأُوَل في العناية بالمكتبة، وقد وصلت إلينا هذه الطريقة في مقال وضعه الطبيب «جالن» مواطن «برجامم» الذي بلغ علمه مبلغًا عظيمًا في القرن الثاني بعد الميلاد، فقد أخبرنا أن «بطليموس الثالث» قد استعار من «أثينا» إضمامات البردي التي كانت ملك الحكومة الأثينية، وكانت تحتوي على معظم المتون القيمة لتمثيليات «أسكلس»، و«سوفوكليس» و«إيريبيديس» Euripides لنسخها من أجل مكتبة «الميوزيون» «بالإسكندرية» وقد دفع رهنًا لذلك خمسة عشر تالنتا إلى أن تعاد سالمة لأثينا، وهذا المبلغ يساوي نقدًا ستة آلاف جنيه مصري، غير أن هذه الإضمامات كانت من حيث القوة الشرائية تساوي أضعاف هذا المبلغ، وعندما حان الوقت لإرجاع هذه المتون غرم «بطليموس» الضامن وأرسل نسخًا حسنة الكتابة من هذه المؤلفات عُملت في الإسكندرية.١٣
ولدينا خطاب كتبه «أرستاس» Aristeas،١٤ وهو يهودي مشهور بالدعاية لقومه، إلى أخيه «فيلوكراتيس» Philocrates وهذا الخطاب يعد ثاني مصدر يظهر فيه النطاق الواسع لاهتمام البطالمة الأُول للحصول على الكتب، والغرض الذي يُقصد من هذا الخطاب هو أن كاتبه يهودي معاصر للملك «بطليموس الثاني»، وقد ذكر مؤلفه رغبة «بطليموس الثاني» في ترجمة الأدب الديني اليهودي إلى اللغة اليونانية ليصير في متناول العالم الإغريقي، وكذلك للحصول على نسخ من هذه التراجم لمكتبة الإسكندرية.
ويذهب معظم العلماء المبرزين في التاريخ العبري في العصر اليوناني إلى أن هذه الوثيقة تُنسب إلى عصر بطليموس السابع «فيليموتر» وأخته وزوجه «كليوبترا الثانية» أي إنه دُوِّن حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، على أن مجرد حقيقة ترجمة الكتب الخمسة الأُوَل من كتاب العهد القديم وهي أشعار موسى الخمسة Penteteuch وإتمامها في العهد البطليموسي لا شك فيه، ومن المحتمل أن القول بأن اثنين وسبعين عالمًا أو السبعين كما يسمون عادة كانوا قد أُحضروا من فلسطين للقيام بعمل الترجمة أمر مقبول أيضًا، ولب الحقيقة الذي يمكن أن يُعتمد عليه هو البرهان الذي نشاهده في المدى الواقع بالاهتمام بالأدب الأجنبي الذي أظهره بلاط «بطليموس الثاني»، وكذلك ما بُذل من مجهودات لجعل علوم العالم الأجنبي في متناول العلماء الإغريق في الإسكندرية بلغتهم الإغريقية، وهذه الرغبة التي أظهرها البطالمة هي نوع من الرغبة التي نشاهدها في مصرنا الحالية من الاهتمام بالعلوم الأجنبية وكتاباتها.
ومما لا جدال فيه أنه كانت توجد مجموعتان من لفائف البردي في الإسكندرية يمكن أن يطلق عليها اسم مكتبة، وكانت صغرى هاتين المجموعتين تابعة لمعبد «السرابيوم» في حي «راقودة» حيث نشاهد الآن قائِمَا العمودِ المسمى عمود «بومبي»، والمعلومات التي في متناولنا من الأزمان القديمة عن عدد الإضمامات التي كانت تحتويها كل من هاتين المكتبتين خداعة، ولكِنا نجد أنها معلومات متماسكة فالمؤرخ اليهودي «جوسفس» الذي عاش في القرن الأول من العهد المسيحي يخبرنا أن أول محاولة قام بها «ديمتريوس» الأثيني لجمع كتب الميوزيون أنه أحضر إليها مائتي ألف إضمامة.١٥
وفي القرن الثالث بعد الميلاد كتب «جالينوس» قائلًا: إن البطالمة قد جمعوا سبعمائة ألف مجلد، والمجلد هنا لا بد أن يعني إضمامة، وأقرب تقدير معقول يمكن للعلماء أن يصلوا إليه بالنسبة لحجم مجموعة الإسكندرية يجوز بأن يُقترح فيه النتيجة الآتية: في عهد البطالمة في ختام القرن الثالث قبل الميلاد يجوز أن يبلغ عدد الإضمامات حوالي أربعمائة ألف إضمامة، وفي عهد «يوليوس قيصر» يجوز أن يزداد هذا العدد إلى سبعمائة ألف إضمامة.١٦ يضاف إلى ذلك مائتا ألف إضمامة أُهديت إلى «كليوبترا السابعة» من زوجها «ماركاس أنطونياس» ومن مجموع ذلك نصل إلى أعلى رقم وصل إلينا من الأزمان القديمة وهي تسعمائة ألف إضمامة، وعندما يرغب الإنسان في موازنة هذه الأرقام بما يقابلها من كتب كما نفهم في عهدنا الحاضر لا بد أن نفهم أولًا معنى الكلمة الإغريقية «بيبليا» Biblia وهذه الكلمة التي تستعمل عادة في مصادرنا القديمة تعني فقط إضماماتٍ لا كُتُبًا بالمعنى الذي نفهمه نحن الآن.
والواقع أن أحسن مدخل لعمل حساب تقريبي لعدد الإضمامات التي يجب أن نحصل عليها لتعادل كتابًا في مجلد واحد هو الحصول عليه من البرديات المصرية من جهة، ومن نقش على حجر من جهة أخرى، وذلك أنه في عام ألف وتسعمائة وستة وضع العالِم الذائع الصيت «فلكن» حوالي أربعين قطعة كبيرة وصغيرة سويًّا لإضمامة واحدة، وقد كانت نتيجة لهذا الدرس الدقيق المفهوم،١٧ الذي وضع سويًّا في قصة متصلة هو أن هذه القطع يمكن أن تصل إلى نحو ست أو ثماني صحائف من مجلد بالحجم الكبير من كتبنا الحالية، وهذه القطع جاءت من تاريخ عن حروب «هانيبال» مع «روما» وقد ضاع في الزمن القديم المتأخر وكان مؤلفه «إسبرتيًّا» إغريقيًّا يُدعَى «سوسيلوس» Sosylus وكان عضوًا في هيئة الموظفين من رجال الأدب في جيش «هانيبال»، والورقة التي أتت منها هذه القصة قد أَرَّخ كتابتها «فلكن» بالقرن الأول قبل الميلاد، ومن حسن الحظ أن عنوان الكتاب قد وُجد على ظهر إحدى القطع وهو الكتاب الرابع (أي الإضمامة الرابعة) من كتاب إضمامات «سوسيلوس» عن أعمال «هانيبال»، ونحن نعلم أنه لا يوجد إلا سبعة كتب من هذا المؤلَّف الذي وضعه «سوسيلوس» عن أعمال «هانيبال» أي إنه كله يحتوي على سبع إضمامات.
ولدينا مدخل آخر مضبوط يُعتمد عليه تمامًا في مسألة «ألببليا» بوصفه إضمامة، وذلك في نقش نشره العالم الإيطالي «ماريوسجري»، وهذا النقش وصل إلينا من «رودس» عُرف من أسلوب كتابة النقش، وقد أُرخ بالقرن الثاني قبل الميلاد، ويحتوي قائمة من الإضمامات أهداها المواطنون إلى مكتبة «جمنازيوم» هذه المدينة لا لمكتبة البلدية، وقد أصبح من الواضح من الجزء الذي أمكن حله من النقش أن كل إضمامة كانت في حجم مقالة معتدلة الطول، ولكن ليس في طول كتاب بالمعنى الذي نفهمه عندما نتحدث عن مجلد من الحجم المربع، فمثلًا كانت توجد إضمامات من كتاب للمؤلف «هجسيوس» Hegsius يسمى «عشاق أثينا» وقد خُصصت إضمامة أخرى لحب «أسباسيا» Aspasia وإضمامة أخرى كانت خاصة بحب «السيبيادس»، وكان يوجد أربع إضمامات من كتاب لمؤلف يُدعَى «تيودكتوس» Theodectus من الحرف، هذا بالإضافة إلى خطبة واحدة من «تيوفراستوس» وهي خطبته الألمبية، ومقالة منفردة بنفس العنوان من المدرسة «الأرسطاطولية» في مدح مدينة الإسكندرية.

ويمكن الإنسان أن يستنتج من كل ما سبق كما يقول «فسترمان» أن متوسط ما تحتويه ست إضمامات من الإضمامات القديمة تعادل على وجه التقريب كتابًا من الحجم الكبير الحديث يحتوي على ثلاثمائة صفحة، فإذا لاقت هذه النظرية قبولًا فيكون لدينا قاعدة عامة يمكن أن نقرن بها مجموع محتويات مكتبة الإسكندرية القديمة بالنسبة للمكتبات الحديثة الآن.

وعلى أية حال فإن المكانة الممتازة التي كانت تشغلها مكتبة الإسكندرية منذ ألفي سنة مضت كانت عظيمة إلى حد بعيد، وليس من شك في أن مكتبة الإسكندرية القديمة قد احتلت مكانًا في عالم الثقافة في عصرها يبرر اللقب الذي منحه إياها القانوني الأمريكي «بارسنز» وهو فخر العالم الهيلانستيكي.١٨
هذا ويمكن تقدير المكانة الرفيعة التي وصلت إليها مكتبة «ميوزيون» الإسكندرية في العهد الهيلانستيكي بين المكتبات العدة في الممالك الأخرى المعاصرة لها والتي أخذت نظمها عنها، وذلك بسرد أسماء قائمة العلماء الفطاحل المبرزين الذي نصبوا في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد أمناء فيها، ونعلم الآن من ورقة عُثر عليها في مدينة «البهنسة» الحالية الواقعة على حافة الصحراء الغربية على مسافة ١٢٥ ميلًا جنوبي القاهرة، أسماء هؤلاء العلماء البارزين الذين تولوا رياسة إدارة مكتبة الإسكندرية.١٩
وهؤلاء العلماء هم: (١) «زنودوتوس» Zenodotus من أهالي «أفيسوس» Ephesus وهو يعد أول إغريقي من العصر الهيلانستيكي يضع للعالم متنًا منقحًا لكتابَيْ هومر «الإلياذة» و«الأوديسى». (٢) وخلفه في رياسة المكتبة «أبوللونيوس» الإسكندري، وهو مؤلف الملحمة المسماة الحملة الأرجونيتية Argnautic Expedition ولا تزال تقرأ حتى أيامنا وكانت في عصرها أكثر شهرة عما هي عليه الآن، كما كانت أحسن ملاءمة للذوق القديم أكثر من عهدنا الحاضر، وفي عهد رياسة «أبوللونيوس» لمكتبة الإسكندرية نظم الشاعر الغنائي «كاليماكوس» فهرس مكتبة الإسكندرية المشهور ولم يتولَّ الأخير في يوم من الأيام وظيفة أمين المكتبة، ومن المحتمل أن ذلك كان السبب في أنه كان يقتبس غالبًا بسخرية لاذعة عندما كان يتحدث عن «الحملة الأرجونيتية» أي الملحمة التي وضعها «أبولونيوس» في صورة شعرية مسدسة الفواصل، وقد قال عنها حرفيًّا «كاليماكوس»: «كتاب كبير، ضرر كبير.»
والفهرس الذي وضعه «كاليماكوس» هذا كان قد نظم من حيث الموضوعات في ثمانية أقسام كما يأتي: كتاب الروايات والملاحم والشعر الغنائي، (كل هذه معًا) ثم المؤرخون والشعراء والبلغاء والخطباء والفلاسفة، وأخيرًا كُتاب المنوعات، وهذا ما يقابِل في الواقع على وجه التقريب موضوعات الفهرس في المكتبات الحديثة. (٣) وثالث أمين للمكتبة هو الجغرافي القدير ذائع الصيت «أراتوستينيس» وكان يشغل هذه الوظيفة في السنين العشرة الأخيرة من القرن الثالث قبل الميلاد. (٤) وخَلَفَه في وظيفته هذه «أريستوفانيس» البيزنطي الذي مات في عام ١٨٥ق.م، وكانت له شهرة بين العلماء بوصفه ناشر المتون الممتازة للشعر الكلاسيكي ولكتابات مؤلفين آخرين من الذين سبقوا أفلاطون. (٥) وكان خامس أمناء مكتبة الإسكندرية هو «أبولونيوس» وهو كاتب غير معروف كثيرًا من حيث التصوير الأدبي وكان يُدعى في الإغريقية «كاتب الأسوب». (٦) وآخر عَلَم من بين هؤلاء الأمناء هو«أريستاركوس» Aristarchus مواطن «ساموتراس» وقد قام بنشر كتب للمؤلفين الإغريق المبكرين من أول عهد «هومر» حتى عهد «بندر». (٧) ولدينا أمين آخر لمكتبة الإسكندرية يُدعَى «سيداس» وهو أحد رجال الحرس الملكي،٢٠ والظاهر أن تعيين الأخير أمينًا للمكتبة كان تعيينًا سياسيًّا عمله «بطليموس فيسكون»، ويتضح من الأسماء التي وردت في هذه القائمة أن معظم الذين تولوا وظيفة أمين مكتبة الإسكندرية كانوا مربين لأولاد ملوك البطالمة الذي عينوهم في زمانهم، وعلى ذلك يمكن القول بوجه عام أن الأمين الأول لمكتبة الإسكندرية كان دائمًا مربيًا للأسرة المالكة.

وتدل الوثائق التي في متناولنا من عهد «بطليموس الثامن» على أنه قد حلت كارثة بكل من «الميوزيون» وبالمكتبة، وذلك أن أهالي الإسكندرية قد أعلنوا صراحة احتقارهم وكرههم لهذا العاهل بوصفه حاكمهم، وقد قابل «بطليموس الثامن» هذا الكره له والاحتقار لشخصه بأن أمر الجنود بقتل سكان الإسكندرية، ولسبب مجهول لنا ركز «بطليموس» هذا غضبه على «الميوزيون» وإدارتها فعين رئيسًا لمكتبة الإسكندرية «سيداس» الذي سبق ذكره في قائمة أمناء المكتبة.

وتفاصيل ما حدث غامضة، غير أنه كان واضحًا أن العلماء الذين كانوا يؤلفون أعضاء جماعة علماء «الميوزيون» قد هربوا من المدينة، فنجد مثلًا أن أبوللودوروس Apollodorus الأثيني الذي ألف كتابًا في التأريخ وآخر عن مشاهدة الطبعيات قد عاد إلى «أثينا»، كما اعتزل «ديونيسوس التراقي» في «رودس»، وكان أول عالم هيلانستيكي وضع أجرومية باللغة الإغريقية، هذا وقد هرب آخرون إلى أماكن أخرى وجدوا فيها مأوى يلجئون إلى حماه،٢١ بقي علينا بعد هذا العرض أن نذكر باختصار ما قاله الأستاذ «فسترمان» عن تخريب مكتبة الإسكندرية المزعوم بالنار في فترة احتلال «يوليوس قيصر» لمصر عام ٤٨ق.م، وعلى أية حال فإن بحث هذه المسافة الخطيرة يتوقف على تقدير المصادر الخاصة بأن «ميوزيون» المكتبة بوصفها مجموعة كبيرة من الإضمامات مميزة خارج المكتبة كانت قد التهمتها النار وقتئذ، وثانيًا يجب على الإنسان أن يتناول التقرير ذا الصبغة الأسطورية الذي وصل إلينا عن هذا الحادث بطريقة منطقية، ويجب على الباحث عند الدخول في هذا الموضوع أن يبتدئ بمعرفة هذه الحقيقة وهي أن كل مجموعات المكتبات العدة المؤلفة من إضمامات البردي التي كان يحق لمدن العالم القديم حتى مدنه الصغيرة أن تفخر بها قد اختفت من عالم الوجود.
والواقع أن المعلومات المباشرة التي يمكن الحصول عليها من عهد هذه الكارثة التي يقال إنها أصابت مكتبة الإسكندرية أو بعبارة أخرى البرهان المعاصر لذلك الحادث قد بني عن الأقوال التي فَاهَ بها «يوليوس قيصر» نفسه، وكذلك من البيان الذي قدمه لنا صديق مناصر ليوليوس قيصر ومتحمس له عن الحرب التي نشبت في الإسكندرية، وهذا الصديق المناصر والمتحمس ليوليوس قيصر هو«أولوس هيرتيوس» Aulus Hirtius وتفسير الحادث أن «يوليوس قيصر» السياسي الماهر قد قلب نفسه إلى جندي ماهر في فنون الحرب الاستراتيجية وقد وقع في حبائل ثورة طاحنة قام بها أهالي الإسكندرية في الحي الذي فيه القصر الملكي، وقد حدثنا بنفسه أنه أمر بحرق كل السفن الراسية على طول حياض الميناء الكبرى على امتداد الكرنيش، وذلك بمثابة إجراء حربي لحماية نفسه من حرب الثوار التي كانت ناشبة أظافرها في شوارع الإسكندرية بعصابات جبارة،٢٢ غير أن «يوليوس قيصر» لم يحدثنا بكلمة واحدة عن حريق على نطاق واسع وذلك على الرغم من أنه كان أجدر شخصية يمكنه أن يعرف شيئًا عن هذا الحريق وما نتج عنه من أضرار، وقد كان من الطبيعي أن يتحدث عن الأضرار التي نجمت عنه، هذا بالإضافة إلى أن «أولوس هيرتيوس» لم يحدثنا بشيء عن تخريب النار للمكتبة أو عن حرق أي إضمامات كتب، وأخيرًا لم يكتب لنا الفيلسوف «شيشرون» أية كلمة في أي خطاب من خطاباته في هذا الوقت، وقد كان «إسترابون» في مصر في عام ٢٥ق.م على اتصال «بميوزيون» الإسكندرية وكان مدققًا في وصفها كما كان ملمًّا بكل الجزئيات التي لا بد منها، ومع ذلك لم يذكر لنا أي تخريب في المدينة بالنار.
وقد وصل إلينا في سني شباب «نيرون» أي في الأربعين وفي السنين الخمسين الأُوَل من القرن الأول المسيحي، من «لوسيوس أنايوس سمنكا» Lucius Annaeussemeneca بيان جاء فيه «إن أربعين ألف كتاب قد أُحرقت في الإسكندرية.» ويستمر قائلًا: إن فردًا آخر يمكن أن يمتدح هذا الأثر الفاخر الدال على الثراء الملكي مثل «تيتوس ليفي» Tituslivy الذي يقول: «أهذا العمل كان عملًا عظيمًا بارزًا يدل على حسن ذوق الملك وعزته.»

ومن الجائز أن «سمنكا» كان يقصد دون شك أربعين ألف إضمامة خارجة عن نطاق مكتبة الإسكندرية، وهذا القول لم يأتِ من «ليفي» وذلك لأن بيانه لم يسجل أي شيء أكثر من مدح مكتبة الإسكندرية بوصفها عملًا عظيمًا أتمه ملوك البطالمة، وإذا سلمنا بأن الأربعين ألف إضمامة التي ذكرها «سمنكا» هي العدد التقريبي الذي أُتلف بالنار وكذلك إذا سلمنا فضلًا عن ذلك أنها كانت جزءًا من مكتبة «الميوزيون»، فإن العدد الذي أُتلف كان لا يزال يؤلف أقل بكثير من عُشر مجموع الإضمامات الكلي، وفي هذه الحالة قد نكون مضطرين إلى القول بأن جزءًا كبيرًا من مبنى «الميوزيون» المقامة على بعد أربعة أميال من حوض الميناء الشرقية على طول الكرنيش قد أحرق، ولكن مما لا شك فيه أنه لم تصل إلينا أية كلمة من هذا العهد يمكن أن تُتخذ حجة على أن مبنى «الميوزيون» قد أُحرق أو أي جزء كبير من المدينة التهمته النار.

ومن الغريب أنه في الجزء الأول من القرن الثاني الميلادي قد زُخرفت قصة حريق مكتبة «الإسكندرية» في خلال إقامة قيصر في الإسكندرية بما كتبه «بلوتارخ» فأصبح حريقًا انتشر من أحواض الميناء وامتد إلى المكتبة العظيمة فأتلفها بعد أن كان على أحواض الميناء فقط.٢٣

وقد تكررت هذه الأسطورة بالرواية حتى ظهرت بمظهر حقيقة تاريخية ومن ثم أخذت مكانتها في كتب التاريخ التي أتت وتناولت الأزمان القديمة واعتُرف بها على أنها حقيقة لا ريب فيها.

ولا نعرف عن أي مصدر نقل «سمنكا» معلوماته عن حرق الأربعين ألف إضمامة وتخريب السفن التي كانت في الميناء، وبهذه المناسبة لا بد أن نذكر أن الإسكندرية في عهد قيصر كانت من أعظم مراكز العالم نشاطًا في تجارة الكتب وإنتاجها في الوقت نفسه، وعلى ذلك فإن المصدر الرئيسي لقصة إحراق مكتبة الإسكندرية لا بد قد أتى عقلًا عن بيان ذكره قيصر نفسه، وأنه هو الذي أمر بإحراق كل السفن.٢٤ التي كانت مربوطة عند أحواض الميناء الكبرى، وعلى ذلك فالأمر الطبيعي هو أنه كانت توجد في ميناء الإسكندرية عشر أو اثنتا عشرة سفينة تجارية محملة ببعض الإضمامات التي كانت مجهزة للتصدير، وكانت هذه السفن مربوطة على طول الأرضية، وقد شبت فيها النار، وهناك اقتراح آخر أدلى به المؤرخ «أدون بيفان» ويمكن الأخذ به، ويتلخص في أن بعض مستودعات البضائع التي كانت تقع على طول الأحواض قد شبت فيها النار وأن هذه الإضمامات كانت مجهزة للتصدير فأخذتها النيران، وعلى أية حال فإن أحد الفرضين فيه الكفاية تمامًا للدلالة على ضياع الأربعين ألف إضمامة من البردي وهي التي ظهرت فيما رواه «سمنكا» عن إحراق كتب في الإسكندرية.

ولا ريب في أن أقوى حجة على عدم إتلاف مكتبة الإسكندرية سواء أكان ذلك عن قصد أم مجرد صدفة هي أن هذا الحادث لم يؤكده لنا أحد قط حتى الآن، وهذا الأمر يرجع مرده على ما يظهر إلى أنه كانت توجد عشرات المكتبات في المدن الكبيرة والصغيرة في الأزمان القديمة ولا نعرف عن مصيرها شيئًا، ومن بين المكتبات التي أنشئت على غرار مكتبة الإسكندرية وبوازع منها مكتبة «برجامم» في «آسيا الصغرى» التي أسسها ملوك «برجامم»، وكان يفضل فيها كتابة كتبها على جلد الغنم (الرَّق) على الكتابة على البردي، وذلك لأن الرَّق أكثر متانة واحتمالًا من البردي، وكذلك يحتمل أن الجلد كان أرخص في آسيا الصغرى عن الورق الذي كانت تصنعه حكومة البطالمة وتحتكر تصديره.

هذا ويقال إن مكتبات «أثينا» العدة كانت تقدم أحسن مجموعات من الكتب الموجودة في العالم في خلال القرن الثاني الميلادي، وكانت توجد مكتبات في «باتراس» Patras في بلاد الإغريق كما كانت توجد مكتبة في «رودس» وأخرى في «القيصرية»، وكانت تستعمل الرق بدلًا من البردي وذلك لسرعة تلف البردي، وفي الغرب كانت أول مكتبة عامة في «روما» غير أنها لم تكن قد أُسست حتى عهد «أغسطس قيصر» هذا وكانت توجد مكتبة في كل مدينة كبيرة في شرقي البحر الأبيض المتوسط الذي سادت فيه اللغة الإغريقية، وهذه المكتبات كانت مرتبطة بمدارس الجمنازيا في كل بلد، وتشبه الجمنازيا على وجه التقريب مدرسة الليسيه للشباب في منطقة عالم البحر الأبيض في زماننا.

وخلاصة القول أَنَّنا إذا أردنا أن نُصِرَّ على إيجاد صورة تفسر لنا كارثة اختفاء مكتبة الإسكندرية فإن المنطق السليم يتطلب منا تفسير كيفية اختفاء المكتبات الأخرى القديمة اختفاء تامًّا، وقد يتساءل المرء ماذا حدث لمكتبات برجام و«روما» و«رودس» و«مرسيليا»؟ ولا نزاع في أن اختفاء هذه المكتبات وغيرها من المكتبات القديمة يرجع إلى سبب بسيط وهو أن الكتب مثلها كمثل الجلباب أو الحذاء فإذا استعملتها بَلِيَت، ومن ثم فإن الكتب التي تبلى ولا يُستبدل بها جديد غيرها ضاعت إلى الأبد، وعلى ذلك فإن فقدان الكتب باستهلاكها دون وضع نسخ جديدة بدلها يستلزم حقًّا أن تتلاشى المكتبة على مر الزمن.

والآن بعد هذا البحث الطويل في «ميوزيون» الإسكندرية ومكتبته وما أفاضتا على العالم من علوم وآداب لا بد أن القارئ قد لحظ أن كل الإنتاج العلمي الذي جاء عن طريق هاتين المؤسستين كان كله إنتاجًا إغريقيًّا، وليس لأبناء مصر الأصليين فيه أي مجهود اللهم إلا كتاب التاريخ الذي وضعه «مانيتون» المصري بالإغريقية للجالية الهيلانية والعلماء الهيلانيين، ومن ثم نفهم أن الهيلانيين الذين احتلوا مصر لم يكن يهمهم من أمرها إلا استغلال ثروتها الطبيعية باستعباد أهلها واستخدام قواهم الجسمية والقضاء على مواهبهم العقلية بجعلها راكدة ما دام ذلك في قدرتهم، وأغرب ما يلفت النظر في أمر علماء «الميوزيون» أنه لم يوجد من بينهم واحد تحدث عن اللغة المصرية أو ترجم شيئًا عنها، فكأن لغة مصر وعلومها الغابرة عندهم لم تكن شيئًا مذكورًا بعد أن كانت في الأزمان التي سبقت العهد الهيلاني مورد علومهم ومعارفهم كما فصلنا القول في ذلك فيما سبق، وعلى أية حال سنرى فيما يلي أن علماء الإغريق كانوا على الرغم منهم متأثرين بحضارة مصر القديمة التي كانت متأصلة في كل فروع علومهم وآدابهم.

(٣) كُتَّاب الأدب الإغريق في الإسكندرية

كان لأدباء الإسكندرية في عهد البطالمة شأن يُذكر في الشعر الغنائي والدراما، وآية ذلك أن القراء في العصر الكلاسيكي كانوا يقنعون بالمتون التي تقع تحت أيديهم لأي مؤلف دون مراعاة إذا كانت هذه المتون صالحة أو غير صالحة للقراءة تمامًا، وقد شعر علماء الأدب الإسكندري أنه من واجبهم عند تناول أي مؤلَّف أن يتثبتوا من متنه، ثم يفسروا ما فيه من ألفاظ لغوية مغلقة ويوضحون موضوعه، ولا أدل على الطريق التي نهجوها في هذا السبيل من طبعات مؤلفات «هومر» التي نشرها «زندوتوس» و«ريانوس» Rhianus و«أرستوفانس» و«أريستاركوس» على التوالي، ويلاحظ في ذلك النقد العلمي المستمر، والواقع أن تعليق «أريستاركوس» على «هومر» كان عظيمًا لأنه كان يتناول المتن سطرًا سطرًا، أم المسائل العويصة التي كانت تعرض لهؤلاء العلماء فكانت تُفحص في مقالات منفردة، وقد طبق «أريستوفانيس» مهارة النقد التي حصل عليها من هذه الدراسات، وكذلك أخلافه على أنواع أخرى من الشعر كما طُبقت على النثر بدرجة أقل، وتدل شواهد الأحوال أن المتون التي تناولها «أريستوفانيس» قد نالت قبولًا حسنًا عامًّا حتى إن العلماء الذين أتوا بعده قد اكتفوا بوجه عام بالشروح، ومما يطيب ذكره في هذا المقام أن ثاني عمل جليل قام به علماء الإسكندرية بعد نقد المتون القديمة وعرضها عرضًا صحيحًا أنهم وضعوا علم قواعد النحو والآجرومية، كما يسمونها، ولم يدفعهم إلى هذا الاختراع المجيد إلا حب العلم لذاته وقد ساعدهم في مجهودهم هذا طائفة العلماء الرواقيين وبخاصة في تدبر أصول اللغة وتطورها، وكانت أول آجرومية وُضعت في اللغة الإغريقية لأحد تلاميذ العالِم «أريستاركوس» المسمى «ديونيسون التراقي».

(٤) المؤلفات النثرية

الواقع أنه لم توجد مادة كبيرة من المؤلفات النثرية في العهد الهيلانستيكي، وقد يرجع السبب في ذلك إلى عدم العناية بالأسلوب، ومن أجل ذلك نجد أن أحد كُتاب النثر في عهد «أغسطس» من الذين قاموا بحملة لإحياء فن النثر «الأتيكي» من جديد حوالي عام مائة قبل الميلاد وقد هاجم كُتاب النثر الذين عاشوا ما بين عام ٣٠٠ و١٠٠ق.م وحط من قدرهم، على أن ذلك لم يمنع المؤلفين، كانوا يجدون فيها مادة واسعة مهما كانت غامضة.

يضاف إلى ذلك أنه لم يكن للملكات الهيلانستيكية التي كانت قائمة وقتئذ مجال لاستعمال الخطابة وذلك لأسباب سياسية، في حين أن الخطابة كانت من مفاخر أثينا الديمقراطية في عهد «ديموستين» (فحْل الخطباء في العالم الإغريقي)، هذا وقد سلَّم النقاد القدامى بأن «ديمتريوس»، مواطن «فالريم» كان آخر خطباء «أتيكا»، غير أن أهم شيء يلفت النظر عن «ديمتريوس» هذا هو تشعب معلوماته، فقد ألف محاورات فلسفية وخطبًا عن موضوعات خيالية، كما وضع كتاب التاريخ عن مدة حكمه لأثينا، هذا وقد فقدت الخطب القضائية سلطانها التي كانت أحرزته مؤقتًا، وكان آخر خطيب من هذا الطراز استحقت كتاباته أن تبقى هو «ليسياس» Lysias.

(٥) التاريخ

لقد كان علماء الإغريق منذ عهد الأسرة السادسة والعشرين المصرية على الأقل يعتقدون أن وادي النيل هو منبع كل حضارات العالم، وأنهم تلاميذ المدنية المصرية ووارثوها كما حدثنا بذلك كل من المؤرخين «هيكاتا الميليتي» و«هردوت»، وقد زار كل منهما مصر وكتب عنها، وقد كان المنتظر بعد ذلك أن نجد وثائق مما تركه الكهنة حفظة العلم عن أسرار مصر وما فيها قبل عصر هذين المؤرخَيْنِ، ولقد بقي العالم في ظلام دامس حتى جاء المؤرخ «مانيتون» في عهد «بطليموس الثاني»، ودوَّن لنا تاريخ مصر نقلًا عن المصادر الهيروغليفية باللغة اليونانية.

ولا نزاع في أن «بطليموس الأول» قد حث الباحثين على درس المدنية المصرية وغيرها من المدنيات المعاصرة وقد كان هو أول من ضرب مثلًا للمؤلفين بوضع كتاب عن عصر «الإسكندر» وحروبه ضمَّنه حياته هو وذلك خدمة لسياسته التي كان يسير على نهجها من خلفه، وقد نقل عنه الكثير المؤرخ «أريان».

والواقع أن المحصول التاريخي في الجيلين اللذين أتيا بعد عهد «الإسكندر» كان عظيمًا، غير أنه مما يؤسف له جد الأسف ضياع مؤلفات المؤرخين الذين كتبوا عن هذا العصر ولم يبقَ لنا من كتاباتهم إلا بعض مقتبسات نقلها عنهم آخرون جاءوا بعدهم، وقد كانت أبرز غلطة ارتكبها مؤرخو هذا العصر هي العمل على جعل كتاباتهم مؤثرة دون مراعاة أي اعتبار آخر، وكان أول من أدخل هذه الفكرة «إسوكراتيس» وتلاميذه ولم تكن وقت عصر البطالمة قد ماتت أو أوشكت على الزوال، وعلى أية حال كان قد نشأ في العالم الحديث وقتئذ شعور بالتعبير عن الحقيقة أوحى به إلى بعض الكُتاب وبخاصة عند أولئك الذين كانوا يعملون في الدوائر الحربية وهم الذين عرفوا الإسكندر وعاشوا معه فأقلعوا عن البلاغة والمبالغة، ومن أجل ذلك نجد أن «بطليموس» عندما كتب تاريخه عن «الإسكندر» بعد عام ٣٠١ق.م من مذكراته الرسمية وغيرها من الوثائق الحكومية، مضافًا إلى ذلك ملاحظاته الشخصية وذكرياته، وبذلك كان يقوم بعمل جديد فقد كان رجل عمل دون ما عرفه وما رآه.

هذا ويطيب لنا أن نذكر هنا كذلك «تيكروس» أحد أصدقاء «الإسكندر» في صباه وقائد أسطوله؛ فقد كتب لنا عن سياحته قبل عام ٣١٢، ويعتبر كتابه أصدق مؤلَّف سُردت فيه الوقائع بأمانة باللغة الإغريقية، ويأتي وسطًا بين هذين المؤلِّفَيْنِ من حيث الدقة «أريستوبولوس كاسندرا» فقد كان يعرف بعض المعلومات عن الإسكندر كما كان جغرافيًّا حسنًا ولكن كلامه عن الحوادث لم يكن يُعتمد عليه دائمًا، وهؤلاء المؤرخون الثلاثة قد مثلهم أمامنا ما كتبه لنا المؤرخ «أريان» وقد كان هناك غير هؤلاء ممن كذبوا حكم «إسترابون» القاسي عندما يقول: إن كل رفاق «الإسكندر الأكبر» كانوا يفضلون القول العجيب على الصدق، ونخص بالذكر من بين هؤلاء «كارس» Chares الميليتي الذي كان يشغل وظيفة تشريفاتي «الإسكندر» و«باتون» Baeton و«ديوجنيتوس» Diognetus كانا يعْملان في مساحة الطرق مع «الإسكندر» هذا وقد كتب لنا على هذا النمط قصة خلفاء «الإسكندر» ومن جاء بعدهم المؤرخ «هيرونيموس» Hieronymus من أهالي «كارديا» Cardea ومن المحتمل أنه يعد أعظم مؤرخ هيلانستيكي عُرف حتى الآن، ولكن مما يؤسف له أن تاريخه قد ضاع غير أن لدينا منه ما يعرفنا شخصيته، والميزة العظيمة التي كان يتمتع بها عند وضع مؤلَّفه هي أنه كان في متناوله السجلات المقدونية، والواقع أنه قد وضع كتابه هذا وهو في شيخوخته في بلاط «أنتيجونوس» ويبتدئ من وفاة الإسكندر حتى عهد «بيروس» Pyrrhus ملك «أفيسوس» وقد لعب هذا المؤرخ نفسه دورًا كبيرًا في السياسة لا يستهان به، والواقع أنه كان أعظم مَن عَارَضَ المدرسة التي كانت تعتمد على البيان في تدوين التاريخ، وذلك لأن غرض هذا المؤلف لم يكن التأثير على القارئ بل الوصول إلى الحقيقة، ومن المحتمل أنه كان أول مؤرخ قد تعقب في حياة «ديمتريوس» تطور الأخلاق، غير أنه لم يكن يملك قوة الأسلوب، ومن أجل ذلك نجد أن كتابه كغيره من الكتب قد قُضِيَ عليه وصار في عالم النسيان، والجزء الذي بقي لنا مما كتبه هذا المؤرخ العظيم يمثل لنا في تاريخ «ديودور» وفي كتاب «أريان» الذي وضعه عن خلفاء «الإسكندر» الذين يطلق عليهم اسم «ديادوكي» Diadochi كما نراه قد استعمله بعض الشيء «بلوتارك» في حياة «إيمنيس» Eumenes وحياة «ديمتريوس»، كما كان له تأثيره المستمر القوي على تقاليد هذا العصر المهمة.
والواقع أنه كلما دُرس هذا العصر أكثر فأكثر ازداد الاعتقاد بأن الخسارة كانت فادحة بفقدانه، وقد اتخذ هذا المؤرخ العظيم خطة مؤرخ «ثيوديز» في تاريخ الحملة بالسنين وكانت الشخصيات التي يمثلها تظهر حية وهذه ظاهرة كانت وقتئذ نادرة، هذا وقد وضح لنا ما أكده المؤرخ «هوليوبوليبيوس» أنه في اليونان كان يمكن لرجال الحرب فقط أن يكتبوا تاريخًا مفيدًا حسنًا،٢٥ حيث يقول: «لم يوجد إغريقي استنبط تطور الأخلاق.» ويعتقد المؤرخ «تارن» أن «أراتوس» قد فعل ذلك أيضًا، وقد كانت أسرة «أنتيجونوس» سعيدة بما قدمه لها من خدمات؛ فقد جعل من الممكن لفترة من الزمن فهم بلاد مقدونيا بعض الشيء، والواقع أنه لا أسرة «السليوكيين» في «آسيا» ولا البطالمة في مصر قد أنجبوا مؤرخًا كفأً مثل «هيرونيموس».
أما الفترة التي تقع ما بين «هيرونيموس» والمؤرخ «بليبيوس» من حيث التأريخ الإغريقي فقد ظهر فيها المؤرخ «فيلاركوس» Phylarchus الذي كتب في «أثينا» واستمر في تأريخ «دوريس» الذي كتب عن تاريخ الفن وكان له أتباع حتى موت «كليومنيس» عام ٢١٩ق.م، وتظهر كتاباته فيما كتبه «بلوتارك» عن «أجيس» Agis و«كليومنيس» كما ظهر تأثيره في غيرهما، ويُنظر إليه بوجه عام كأنه صورة من المؤرخ «دوريس» وذلك لعرضه الشخصيات النسائية بصورة روائية، ولكن على الرغم من أنه كان مقتنعًا بتحيزه «لكليومنيس» فإن الإنسان كلما حلل عصره ازدادت أهميته، وعندما تتضارب آراؤه مع آراء «بوليبيوس» فإن الحق لا يكون دائمًا في جانب «بوليبيوس»،٢٦ ولدينا المؤرخ «أراتوس» من أهالي «سيسيون» Sicyon الذي كتب ترجمة حياته وقد عاش في النصف الأخير من القرن الثالث وكان المصدر الرئيسي الذي أخذ عنه المؤرخ «بوليبيوس» في هذه الفترة.
ويعد «بوليبيوس» مواطن «مجيالوبوليس» (١٩٨–١١٧ق.م) أكبر مؤرخ في القرن الثاني قبل الميلاد، وقد لعب دورًا في سياسة حلف «أرخيان» Archean League وحروبه وقد أُخذ أسيرًا إلى روما بعد موقعة «بيدنا» Pydna ثم عاد إلى بلاد الإغريق في عام ١٤٦ق.م ويقص علينا كِتَاب التاريخ الذي وضعه حوادثَ العالم المعمور من عام ٢٢١ق.م إلى عام ١٤٦ق.م غير أنه لم يبقَ لنا من كتابه إلا خمسة أجزاء، هذا بالإضافة إلى اقتباسات من أجزاء كتبه الأخرى، وقد مثله المؤرخ «ليفي» اليهودي غير أنه أضاف إليه مادة حقيرة سخيفة، على أن ما كتبه «بوليبيوس» ليس بالشيء الممتع في قراءته وذلك لأن أسلوبه كأسلوب عبارات المرسومات الحكومية والرسائل المُمِلَّة للغاية، وعلى أية حال فإنه أكد لنا في كتاباته أن مهمة التاريخ الوحيدة في نظره هي قول الصدق وكتابته، ولذلك فإن المؤرخ الألماني «مومسن» الذائع الصيت ينظر إليه بأنه لا يزال يحتل المكانة الثانية بين مؤرخي الإغريق فيقول: «قرب الذي كان قبله والذي كان بعده بالعصر الذي شتت في شمسه شمس الغيوم.»
وقد استمر في تكملة تاريخ «بوليبيوس» المؤرخ «بوزيدونيوس» Poseidonius وهو من أهالي «أباما» من أعمال سوريا (١٣٥–٥١ق.م)، وقد كان يشغل في «رودس» وظيفة عالية ويعد آخر قوة عقلية أنجبتها المدنية الهيلانستيكية لم تمسَّها روما، فقد كانت معارفه تمتد إلى ميادين عدة، وكان الخطيب شيشرون من تلاميذه، وقد حلَّق بعلمه في سماء النصف الأول من القرن الأول كما حلَّق «إراتوستنيس» في نهاية القرن الثالث في سماء العلوم والمعارف، غير أن التاريخ الذي وضعه كان سطحيًّا.
ولدينا مؤرخ آخر من طينة أحسن وهو«نيكولاوس» الدمشقي Niocolaus فقد كان مؤرخًا وفيلسوفًا في بلاط «هيرود الأول» وكتب تاريخًا عامًّا، والجزء الذي كتبه عن «هيرود» قد بقي لنا في مؤلف «جوزيفس» اليهودي، وذلك هو السبب الذي من أجله عُرف الكثير عنه.

وأخيرًا كتب «ديودور الصقلي» كتابه المعروف بالمكتبة التاريخية حوالي عام ٢٧ق.م وعلى الرغم من أنه لا يعد مؤرخًا بالمعنى الحقيقي فإنه يستحق شكر العالَم الحديث؛ فقد كان في الواقع ناقلًا يضاف إلى ذلك أن ما يجده الإنسان من لذة قراءة كتابه يتوقف على المؤرخ أو المؤلف الذي يلخصه في ذلك الوقت، وعلى أية حال فإنه قد حفظ لنا مادة كثيرة لولاها لفُقدت نهائيًّا وإليه يرجع الفضل في معرفة ما كتبه «هيرونيموس».

هذا ولدينا نوع آخر من كتابة التاريخ غير كتب التاريخ الرسمية، ففي باكورة القرن الثالث حاول كاهنان أحدهما بابلي والآخر مصري وهما «بروسوس»٢٧ و«مانيتون» المصري الذي أشرنا إليه فيما سبق في أن يجعلا التاريخ لديهما في متناول الهيلانستيكين، ولم يكن إلا القليل في هذا العهد من الإغريق ممن يهتمون بتاريخ الأجانب بصورة جدِّية، وإن كان المؤرخ «تيوبومبوس» قد عرف كتابات «أفستا» الهندية.٢٨
وقد رحب اليونان بما كتبه «بروسوس» عن علم التنجيم، هذا وكان تقويم «سابس» هو تقويم السنة المصرية والأعياد قد كتبت بالإغريقية حوالي وفي عهد «بطليموس الأول» كتب «هبكاته الأبدري» عن مصر ووصفها كما يراها إغريقي وقد أثرت كتاباته على بعض الكتاب الإغريق، فمثلًا نجد الكاتب عام ٣٠٠ق.م فتداولها الإغريق.٢٩
«إيهميروس» Euhemerus من أهالي «ميسينا» كان قد استخدمه «كاسندر» في بعوث في الجنوب والشرق وقد أخبرنا في كتابه «القائمة المقدسة» The Sacred List أنه لا يعتبر كل الآلهة من أصل بشري بل كان يعتقد أن بعضهم مثل الشمس والقمر والنجوم والرياح موحدون بقوى الطبيعة، والظاهر أنه قد أخذ هذه الآراء عن مؤرخ من مصر عاش قبله بقليل وهو «هيكاته الأبدري»،٣٠ وذلك أن الأخير في كتابه الخاص عن مصر قد وصف المصريين بأنهم الواضعون للمدنية وامتدح أنظمتهم السياسية ومعتقداتهم الدينية، وكان دستوره المثالي هو حكومة ملكية أبوية،٣١ ومن المدهش أن كتَّاب التراجم الذين كتبوا عن حياتهم في هذا العصر كانوا نادرين لدرجة مدهشة ولكن من جهة أخرى نجد الذين كتبوا عن غيرهم كانوا كثيرين، غير أنهم كانوا يحشُون كتاباتهم بعناصر لا قيمة لها، ومن حسن الحظ نجد أن واحدًا من هؤلاء رأى أن ما يستحق الاهتمام في نظره أن يدوِّن لنا ذكريات عظماء الرجال الذين عرفهم، وهذا المؤلف هو«أنتيجونوس كارستوس» Antigonus Carystus وكتابه عن حياة الفلاسفة الذي اقتبس منه المؤلفون فيما بعد يُعد أثمن مصدر لنا عن الحياة الخاصة في القرن الثالث قبل الميلاد.
ومما يجب الإشارة إليه هنا أنه قد ظهرت بجانب كتب التاريخ قصص أسطورية وخيالية بصورة بارزة، وأهم قصة من هذا النوع هي أسطورة «الإسكندر» وهي عبارة عن خليط من الآراء جُمعت من مصرَ وبابلَ، وآخر صورة مشوهة لهذه القصة هي التي رواها «كليتوكوس» وقد نبعت من مصر ثم نُسبت إلى كاليستنيس، وعلى الرغم من أن المتن الإغريقي الذي أُخذ عن «كاليستنيس» لم يأخذ شكله النهائي حتى القرن الثالث بعد الميلاد، فإن أصوله يمكن أن ترجع للقرن الثاني قبل الميلاد.٣٢

(٦) الجغرافيا

يدل ما لدينا من مصادر على أن علماء الجغرافيا قد ساروا شوطًا بعيدًا في ميدان الجغرافيا الوصفية والإنسانية، ويمكن الإنسان أن يمس ذلك من المقتطفات القليلة التي بقيت لنا من مؤلفاتهم الهامة، ولا أدل على ذلك من الكتاب الذي وضعه الجغرافي الذائع الصيت والكتابات الجغرافية التي تركها لنا «بوليبيوس» والمقالات الجغرافية الكبيرة التي وضعها «أجاتاركيدس» مُواطن «كنيدوس» Agatharchides Of Cindus وفي عهد «بطليموس فيلوموتر» و«أريجيتس الثاني» عاش الجغرافي «أرتميدورس» Artemidorus من أهالي «أفيسوس» وقد كتب في نهاية القرن الثاني ق.م هذا بالإضافة إلى ما كتبه «بوزيدونوس» Posidonus في الجغرافيا الوصفية، ومن سوء الحظ أن هذه المؤلفات قد ضاعت ولم يبقَ لنا منها إلا نُبَذ، غير أن ما جمعه «إسترابون» من معلومات جغرافية قد عوض علينا ما ضاع بعض الشيء، حقًّا إن إسترابون لم يكن من جغرافيِّي هذا العصر؛ إذ قد عاش في مصر الإمبراطورية الرومانية الجديد، ولكنه أفاد كثيرًا بما نقله لنا عن أسلافه.
والواقع أن فتوح «الإسكندر» والصلات التي كانت قائمة في عهد خلفائه والممالك التي كانت خارج حدودهم قد أدت إلى ازدياد عظيم في ميدان المعلومات الجغرافية عند الإغريق، فقد رأينا أن المملكة «السليوكية» تتصل بالهند في حين أن البطالمة كانوا بطبيعة الحال مهتمين في بلادهم الصغيرة المعروفة الواقعة جنوبي مصر، فقد كان «بطليموس الثاني» أول من مد فتوحه نحو بلاد «أثيوبيا» (كوش) وذلك ليسهل عليه الحصول على الفِيَلة التي كانت تُستعمل في الحروب من جهة، وليجلب أعشابًا طبية من جهة أخرى، وقد أرسل عماله تقارير عن ذلك، والوصف الذي وضعه قائده البحري المسمى «تيموستنيس» Timosthenes عن مواني البحر الأحمر والأبيض المتوسط بقي مدة يعد نموذجًا لمعرفة هذه الجهات، ولم تكن عمليات الكشف احتكارًا للحكومات الملكية بل كانت هناك جماعات من البحارة تبحث عن جهات جديدة للتجارة، وقد نتج عن هذه المعلومات التي وصل إليها الباحثون في زمنه نظامهم العظيم عن الجغرافيا العلمية، ونذكر ثلاثة من بين الرواد الأصليين في تلك الفترة قد برز اسمهم بصورة واضحة؛ أولهم «نيركوس» Nearchus قائد أسطول الإسكندر في سياحته في نهر السند وفي عبر المحيط الهندي إلى نهر الفرات، وقد وضع مؤلَّفًا عن تجاربه ويمتاز بدقة الملاحظة وصواب الحكم، ويمكن أن يرى من قصته التي حُفظت لنا في تاريخ «أريان» ما حدثنا به عن جماعات الحيتان التي قابلها في خلال رحلته.٣٣
أما الرائد الثاني فهو«باتروكليس» Patrocles الذي اخترق مجاهل «بحر قزوين» بأمر من الملك «سيلوكيس الأول» وقد أخطأ في فكرته أن هذا البحر هو عبارة عن خليج للمحيط الذي يلف حول العالم.
وأهم هؤلاء الرواد هوبيتياس Pytheas وقد عاش في أواخر القرن الرابع وساح من «مرسيليا» مخترقًا «جبال طارق» حتى وصل إلى ساحل «أسبانيا» و«فرنسا» وأخيرًا حدود «بريطانيا»، وكان أول إغريقي دوَّن تأثير القمر على مد البحر وجَزْره، كما كان أول فرد قدم لنا تقريرًا دقيقًا عن بريطانيا وسكانها، وقد دُونت سياحته في كتاب سمي «عن المحيط»، وكان «أراتوستينيس» مدينًا له حقًّا بكثير من المعلومات الثمينة.

إراتوستنيس

يعد «إراتوستنيس» أغرب شخصية في كتابة النثر الإسكندري، وُلد هذا العالم في «سيريني» حوالي عام ٢٧٦-٢٧٥ق.م وكان أول تلميذ تخرَّج على «كليماكوس» في «الإسكندرية» ثم درس في «أثينا» مهد العلوم إلى أن استُدعي ثانية حوالي عام ٢٤٦ق.م ليعيَّن أمينًا أولًا لمكتبة الإسكندرية خلفًا «لأبولونيوس روديوس» Apollonius Rhodius في عهد «بطليموس إيريجيتيس»، وقد كان تبحره في شتى العلوم مضرب الأمثال، والواقع أنه نشر كتبًا في الشعر والفلسفة والآجرومية والهندسة وفقه اللغة والتاريخ والجغرافيا، وقد كانت مؤلفاته في التاريخ والجغرافيا غاية في الأهمية، ويرجع الفضل في شهرة «إراتوستنيس» الجغرافية إلى أنه كان رياضيًّا في الوقت نفسه، ومن أجل ذلك كان على اتصال مع «أرشيميدس» أما أهم مؤلفاته في الجغرافيا فتنحصر في كتابين الأول بحْث أطلق عليه «عن مقاييس الأرض» ثم «جغرافيا» في ثلاثة مجلدات، ففي الكتاب الأول حسب محيط الأرض بأنه يبلغ حوالي ٢٨ ألف ميل، وقد وصل إلى هذه النتيجة بوساطة ملاحظات موقع الشمس عند الظهيرة في «الإسكندرية» وفي «أسوان» في الوقت نفسه، وذلك في زمن الانقلاب الصيفي، وهذا التقدير القريب إلى العدد الصحيح وهو أربع وعشرون ألف وثمانمائة وستون قد أُعجب به العلماء كثيرًا بالنسبة لزمنه.
وفي كتابه المسمى «جغرافيا» تتبع تاريخ جغرافية بلاد اليونان من أول عهد «هومر» حتى عهد المؤرخين الإسكندريين، وفي الكتاب الثاني بيَّن لنا آراءه عن شكل الأرض وحجمها وكذلك طبيعة المحيط وامتداده، وفي الكتاب الثالث وضع جغرافيا وصفية للعالم على حسب مصوره الجغرافي الذي كان العالَم المعمور قد قُسم فيه بخط يمتد من «جادس» حتى أواسط «آسيا»، وإلى نصف شمالي وآخر جنوبي، وكان كل واحد منهما قد جُزِّئَ إلى قطع من دائرة، بهذا التقسيم أعاد «إراتوستنيس» التصميم القديم الذي يشمل على قارتين مما جعله يتمشى مع عصره، والواقع أنه على الرغم من انتقاد «إراتوستنيس» للجغرافيين الذين سبقوه فإنه لا يعد مجددًا أصليًّا، وعلى أية حال لا نعلم على وجه التأكيد لأي حد كانت نظرياته قد تنبأ بها وبخاصة فيما يتعلق ﺑ «ديكاركوس» Dicaearchus غير أن بعض استنباطاته في الواقع تمثل توافقًا في الرأي، وقد كان هذا الضعف هو الذي جلب عليه نقد العالِم «هيباركوس نيكيا» Hipparchus Of Nicaea اللاذع الذي جاء بعده.

(٧) الشعر في الإسكندرية

يُلحَظ مما ذكرناه عن النثر في العهد الهيلانستيكي أنه كان نموًّا طبعيًّا لنثر القرن الرابع عشر ولكن الشعر في هذا العصر إذا استثنينا التمثيليات الهزلية والمقطوعات الشعرية الحاذقة كان لا يدل على اتصال مستمر بالتقاليد، وسبب ذلك أن الأثينيين قد رفعوا شأن الدراما على حساب النواحي الأخرى من الشعر، وقد ظهر انتعاش الشعر الخارج عن نطاق الدراما أولًا حوالي ٣٠٠ق.م وقد كان أول الشعراء الذين برزوا في هذا المضمار في المدن التي تقع على الساحل الجنوبي الغربي لساحل «آسيا الصغرى» والجزر المجاورة لها هم: «فيلتاس» Philetas مواطن جزيرة «كوس» و«أسكليبيادس» مواطن «ساموس» Ascdepiades Of Samos و«سيمياس الروديسي» Simias، وقد جمع الأول والثاني حولهما تلاميذ ورفاقًا ساروا على مذهبهما، وفي هذه الأيام كانت المسافة من جزيرة «كوس» أو «ساموس» حتى «الإسكندرية» مهد الحضارة والعلوم سهلة ميسورة، وفي حين نقرأ أن الشعراء القدامى كانوا يَثْوُون في عقر دارهم، نجد الجيل الجديد يولي وجوههم شطر مصر، وقد أغْرَتْ هذه الروح الجماعة التي نشئوا فيها جو «الميوزيون»، يضاف إلى ذلك أنه قد نشأت سهولة عظيمة في المواصلات بين رجال الأدب وقتئذ فنُشرت هذه التقاليد حتى امتدت إلى كل أرجاء العالم الإغريقي.
وكانت أحب صور الشعر عند الإسكندريين الملاحم والمراثي والشعر الغنائي والرَّجَز Iambus والمقطوعات الصغيرة Epigrams، ومما يطيب ذكره هنا أن الشعر الديني لم يكن له مكانة تلفت النظر في الشعر الإسكندري، وذلك لأن الشعر عند الإسكندريين كان معناه علم الأساطير، وكان الأولمبيون يشاطرونهم على السواء في ذلك، وسبب ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الأبطال والبطلات في القصة الإغريقية بأنهم شخصيات هامة تقدم تراجمهم الفنية بالتفاصيل المنوعة للشاعر بعرض ممتاز، وذلك لإظهار تعمقه في المعرفة وحسب.

ومن جهة أخرى لم يكن من المنتظر أن نجد شعرًا وطنيًّا حماسيًّا كما كانت الحال في العهد الإغريقي المبكر، غير أن المدن والأقوام كانوا مهتمين بماضيهم.

هذا ونجد أن بُعد القوم عن الدين والوطنية وعدم ذكرهما في أشعارهم قد سهل عليهم اتخاذ العلوم الطبيعية موضوعات لشعرهم، ولا أدل على ذلك من أن الإسكندريين قد احتفلوا بالأعمال العظيمة التي قام بها زملاؤهم في «الميوزيون»، يضاف إلى ذلك أن «إراتوستنيس» نفسه وهو جغرافي مبرز كما ذكرنا قد كتب قصيدة في النجوم، ولكن كان هناك ميدان معلومات آخر اهتم به الإسكندريون اهتمامًا بالغًا، وذلك هو سجل عهد طفولة الدولة الإغريقية، وكان القوم قد ورثوه منذ أقدم العهود، وقد جُمع الآن في أمهات المكتبات فكان في متناول العلماء المثقفين، وقد اتخذ شعراء الإسكندرية من هذه الموضوعات منبعًا فياضًا ينهلون منه في صياغة شعرهم وبخاصة الأساطير المحلية التي أنشأها خيال الشعب في العهد الإغريقي المبكر، وذلك في حين أن أدب العصر الكلاسيكي لم يكد يَلحظ ذلك، وقد كان الغرض من نسْخ هذه القصص في صور شعرية هو تفسير بعض عادات قومية أو شعرية دينية أو صورة من صور الحياة الريفية، وقد كان هذا العنصر البعيد هو الذي حببها للإسكندريين الذين كانوا غالبًا ما يجعلون هذه القصص ترجع إلى قصة غرام بين إنسانين أو بين إنسان وإله، وكان «كاليماكوس» يعد أعظم شاعر في العصر الذهبي الإسكندري؛ فقد كان يقول متمدحًا بشعره:

دع آخر ينهق على طريقة ذي الأذنين الطويلتين، ولكن دعني أكن الرشيق المجنح.
وُلد «كاليماكوس» حوالي عام ٣١٠ق.م ثم هاجر من «سيريني» إلى «الإسكندرية» وكشف عن مواهبه عندما كان يعمل مدرسًا في مدرسة ضاحية «إليوزيس» Eleusis، ومن المحتمل أن مقطوعاته الشعرية القصيرة التي كانت تنطوي على نكات، وكانت السائدة في هذا العصر، قد لفتت نظر بلاط «بطليموس» إليه، وقد منحه الأخير وظيفة أمين مكتبة الإسكندرية، وكان في صباغ مشغولًا بتحضير فهرس المكتبة، ولم ينقطع عن قول الشعر حتى آخر أيام حياته في عهد بطليموس الثالث «أيرجيتيس»، ومن سوء الحظ لم يبقَ من الكتب الثمانية التي وضعها على حسب قول «سويداس» إلا القليل جدًّا، ويُلحظ في بعض شعره أنه كان ينهج نهج «هومر»، غير أننا نجد في قصيدتين على الأقل أنه أقحم فيها السياسة؛ فقد وصف أنشودة له وضعها عن الإله «زيوس» بأنها مقال عن الحقوق الإلهية للملك، ومن ثم نفهم أن «كاليماكوس» كان قد درس نظام الحكم المصري القديم، وأراد أن يرضي «بطليموس» بوضعه في مصافِّ ملوك مصر الذين كانوا يعدون أولاد «رع» وأنهم آلهة، أما قصيدته للإله «أبولو» فالظاهر أن الغرض منها كان عودة السلام مع «سيريني» وجعْلها تحت سيادة «أيرجيتيس» على أن أهم شعر صاغه «كاليماكوس» هي قصيدة «الأسباب» وهي عبارة عن خليط من المعلومات في التاريخ والجغرافيا والأساطير أملاها خيال الشاعر بوساطة إلهات الشعر والموسيقَا والفنون الأخرى الحرة (أولاد الإله «زيوس» و«منوزين») وأسماء «الميوزيس» هي: (١) كاليوب Calliope وهي خاصة بشعر الملاحم. (٢) و«كليو» Klio التاريخ. (٣) الغزَل. (٤) إيترب Euterpe = الشعر الغنائي. (٥) ميلبومين Melpomene = المأساة. (٦) بوليهمنيا Polyhymnia = الشعر الغنائي والبلاغة. (٧) «تربسيكوري» Terpsichore = الرقص. (٨) تاليا Thlia = التمثيل الهزلي. (٩) أورانيا Urania الفَلَك.

ومن أهم ما أنشأه لنا «كاليماكوس» مرثيته التي أنشأها في موت «أرسنوي» زوج «بطليموس» الثاني وقد خالف فيها هذا الشاعر نغمته المعتادة؛ إذ وضعها في نغمة عاطفية مؤثرة، فنجد في البداية القصيرة التي يصف فيها صعود روح «أرسنوي» إلى النجوم، وكذلك المشهد الذي يأتي بعد ذلك نشاهد «كاريس» بعد سهرها على جبل «أثوس» تخبر «فيلوتيرا» الحزينة وهي أخت «أرسنوي» المؤلهة أن السحب العابسة التي تغطي السماء تأتي من جنازة الملكة في مصر حيث تنعي الأمة قاطبة فقيدتها، وقد عبر الشاعر عن ذلك على الرغم من تمزيق المتن بكلمات مؤثرة في النفس.

ومما تجدر ملاحظته هنا أن صعود روح الملكة إلى السماء لتتحد بالنجوم وتصبح واحدة منها فكرة مصرية ترجع إلى متون الأهرام ولم تظهر عند ملوك البطالمة إلا بعد أن أصبح الملك «بطليموس الثاني» وزوجه مؤلَّهين وذلك باعتناقهما المذهب الإلهي المصري وهو أن الملك هو ابن الإله «رع» أو «آمون رع» وأظن أن في ذلك برهانًا قاطعًا يدحض الفكرة القائلة إن موضوع التأليه إغريقي في أصله.

وأخيرًا نذكر من شعراء «الإسكندرية» النابهين في هذا العصر «أبوللونيوس» الذي يطلق عليه لقب الروديسي، ولكنه كان في الأصل من «نقراش» أو من «الإسكندرية»، وهو يعتبر الشاعر الهيلانستيكي الوحيد من بين شعراء الطبقة الأولى الذين وُلدوا في مصر، وقد أطلق عليه «كاليماكوس» اسم الطائر «أيبس» وهو طائر له طبائع قذرة. وقد وُلد في النصف الأول من حكم بطليموس أيرجيتيس حوالي عام ٢٣٥.

(٨) الطب في الإسكندرية

جرت العادة عند علماء الطب الأحداث إذا تحدثوا عن الطب ابتدءوا كلامهم بالحديث عن العهد الإغريقي وبخاصة عهد «هبوقراط» (أبقراط) وكأن كل ما قبل ذلك صحيفة بيضاء لم يخُطَّ الزمن فيها سطرًا واحدًا في الطب وانتشاره. وقد يكون لهم بعض العذر في أن تقف معلوماتهم عند هذه الفترة من الزمن، والواقع أن علم الطب الأول نبع في وادي النيل منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد سار في هذا العلم المصريون شوطًا بعيدًا وضربوا فيه بسهم صائب فتدرجوا في إقامة أصوله على حسب تدرج المدنية إلى أن وصلوا به إلى مدى بعيد لم يكن في الحسبان، وقد أظهرت الكشوف الحديثة في وادي النيل وجود علاج طبي يقوم به مختصون تعلموه في مدارس خاصة بذلك، كل في فرعه، فكان هناك طبيب الأمراض الباطنة وطبيب المجاري البولية وطبيب الأسنان كما كان هناك الجراحون وأطباء العيون وغيرهم، وقد كان يوجد جنبًا لجنب مع العلاج بالعقاقير العلاج النفسي الذي أُطلق عليه في أيامنا هذه العلاج بالسحر، وقد وضع قدماء المصريين كتبًا عدة في الطب يرجع بعضها إلى الدولة القديمة أي حوالي عام ٢٨٠٠ق.م وقد تناولها العلماء بالبحث والتحليل، ومع ذلك لا يزال بعض فصولها غامضًا حتى يومنا هذا، والآن يتساءل الإنسان هل كان اليونان القريبون من الديار المصرية على ما بينهم وبين مصر من علاقات ترجع إلى أزمان سحيقة في القِدَم على غير صلة بالمصريين من حيث الطب وعلومه؟ وذلك على الرغم من أنهم أخذوا الكثير عنهم في ميادين أخرى من ميادين العلم والثقافة، وعلى الرغم من أنهم أنفسَهم وعلماءهم قد اعترفوا أن مصر كانت المنبع الفياض الذي نهلوا منه كثيرًا من معارفهم، والواقع أن الإغريق لا بد قد أخذوا الكثير من علم الطب عن المصريين وإن لم يذكروا ذلك صراحة،٣٤ ومما لا ريب فيه أن علم الطب كان قد بلغ في خلال القرن الخامس قبل الميلاد أعلى مستوى له، في الوقت الذي كان الإغريق يفدون ويروحون على مصر للتعليم فيها، وقد تمثل ذلك فيما كتبه «أبقراط» ومدرسته،٣٥ وكان أعظم عمل قاموا به هو أنهم رأَوا في المرض ضررًا طبيعيًّا لا بد من محاربته بطريقة طبيعية أيضًا، غير أن المصريين قد سبقوهم إلى ذلك منذ الدولة القديمة كما ذكرنا آنفًا، هذا إذا صدقنا أن ورقة «أدون سميث» يرجع عهدها إلى هذه الفترة من تاريخ مصر، وهو المرجَّح لأسباب مقنعة، ولا شك في أن أتباع «أبقراط» كانوا متأثرين بفلاسفة زمنهم وبخاصة طائفة الفلاسفة المشائين، وإن كانوا أحيانًا يعارضونهم بعض الشيء، ولكن علم الطب قد بدأ يأخذ صبغة أخرى في العهد الهيلانستيكي، ويرجع الفضل في ذلك إلى «بطليموس الأول» وما قام به من تشجيع الأطباء وتسهيل سبل البحث لهم.

ولا ريب في أن علوم القرن الثالث قبل الميلاد قد تطورت بتأثيرين عظيمين وهما عبقرية «أرسطوطل»، وتشجيع البحث العلمي على يد «البطالمة»، والواقع أن «أرسطوطل» قد عمل كثيرًا على الفصل بين العلم والفلسفة وذلك بفصله بين فروع المعارف المختلفة، وبتحديد التحليلات لتلك الموضوعات التي كانت موضع تخمين وتصور، ولقد كان مجال البحث العلمي على حسب الخطط التي رسمها «أرسطوطل» ميسورًا في الإسكندرية؛ ففي حين نجد علماء الرياضة والفلك يقومون بفتوح باهرة في ميادين العلم والتصور، كان علماء الطب المُجِدُّون قد أتيحت لهم الفرصة للقيام بأعمالهم العلمية بمساعدة البطالمة وغيرهم من محبي العلوم، والواقع أنهم لم يقوموا بكشوف مدهشة ولا ببحوث تدل على عبقرية، ولكن من جهة أخرى نجد تقدمًا مُحَسًّا في العلم من حيث التفاصيل، وقد وصلوا إليها بالملاحظة الدقيقة والصبر، فنجد بخاصة أن علم التشريح قد دُرس بنجاح، والمجهود الذي عُمل في «الإسكندرية» يمكن معرفة قيمته العظيمة عندما يُقرن بالمعلومات الساذجة والتخمينات التي تشوَّه كثيرًا من المقالات التي نجدها في مجموعة الكتابات التي تركها «أبقراط»، وهي التي تحتوي على أعمال من القرن الخامس والقرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، هذا بالإضافة إلى كتابات عن الطب جاءت في عهد متأخر عن ذلك.

والرجلان العظيمان في المحيط الطبي في باكورة القرن الثالث هما «هيروفيلوس» Herophilus مواطن «كالسيدون» و«إراسيستراتوس» مواطن «أيليس» Erasistratus Of Julis في «سيوس» Cios قد أسسا مدرستين متنافستين، وكان «هيروفيلوس» يزاول مهنة الطب في الإسكندرية وأصبحت مدرسته تسمى بها، وذلك على الرغم من أنها امتدت إلى «آسيا» وكان اختصاص هذا الطبيب في التشريح، أما «إراسيستراتوس» فكان اختصاصه علم وظائف الأعضاء، والواقع أننا لا نعلم شيئًا محددًا عن حياتهما، كما أن أعمالهما الطبية قد فُقدت تمامًا، غير أنه مع ذلك في استطاعتنا أن نجمع مقدارًا عظيمًا من المعلومات عنهما مما جاء في كتابات «جالين» و«سورانوس» Soranus و«سيلسوس» Selsus وقد أمكن العلماء الأحداث أن يضعوا بيانًا عن بحوث «هيروفيلوس».

ويوحي مجيء هذين الطبيبين من «آسيا» الصغرى بأن الطب الإسكندري يمكن أن يكون قد تأثر بمؤثرات شرقية، وقد دلت البحوث على أن علم الطب المصري كان له أثر في ذلك كما سنبين فيما بعد.

وتدل شواهد الأحوال على أن هذين الطبيبين قد خَطَوَا إلى الأمام بعِلْمَيِ التشريح ووظائف الأعضاء خُطًا واسعةً، وكان «هيروفيلاس» من تلاميذ «أبقراط» المدققين، وقد كتب شروحًا على مقالتين من مقالات أساتذة «مثيتا» عن نشأة الأمراض نتيجة اضطرابات تصيب عناصر الجسم السائلة Humoral Pathology معارضًا في ذلك معاصره «إراسيستراتوس» وقد وجه عناية كبيرة إلى موضوع النبض مقتفيًا في ذلك خطوات أستاذه «براكزاجوراس» Praxagoras الذي يعد أول طبيب عند اليونان أكد أهمية النبض، وكان النبض معروفًا منذ عهد قدماء المصريين قبل ذلك بما يقرب من ألفي سنة كما تُحدثنا بذلك ورقة «أدون سمث»، وقد استعمل هذا الطبيب العقاقير أكثر مما استعملها تلاميذ «أبقراط» لعلمه أنها تساعد مساعدة لا تُقدَّر في شفاء الأمراض، وقد تركزت بحوثه في فحص المخ والأعصاب والطحال والرئتين وأعضاء التناسل، واعتبر أن المخ مركز العقل وأنه يربطه بالجهاز العصبي، يضاف إلى ذلك أن هذا الطبيب كان أول من كوَّن عنه رأيًا واضحًا، ومما تجدر ملاحظته هنا أن «هيروفيلاس» هذا لا بد قد شرَّح حيوانات لأنه وصف شبكة الأوعية الدموية Rate Mirabile التي توجد عند قاعدة مخ الحيوان ولا توجد عند الإنسان، هذا وقد ميز بين المخ Cerebrum والمخيخ Cerebellum، كما كشف أن العروق الضوارب أو بعبارة أخرى الشرايين تحمل دمًا (لا هواء كما كان الاعتقاد من قبل)، ولا تنبض من نفسها بل بواسطة القلب، وبذلك نفهم أنه عرف الدورة الدموية التي فُقدت ثانية حتى أحياها من جديد الطبيب «هرفي» Harvey هذا ولا تزال بعض مسميات أجزاء الجسم باقية كما سماها مستعملة حتى الآن مثل الأمعاء الاثني عشرة Duodenum = الجزء الأول من الأمعاء الدِّقَاق، (ويسمى بذلك الاسم لأنه يبلغ ١٢ أصبعًا في الطول) وكذلك Torculer Herophile أي ضغط الشريان الرئيسي للفخذ بالذراع لمنع كثرة النزيف، وقد وصف الرحم بالتطويل وجاء عنه أنه فحص أجسام بعض الموتى، وعلى ذلك فإنه لا بد قد شرَّحها، وتقول البحوث الحديثة إنه اخترع آلة عبقرية لقياس النبض، ولا نزاع في أن هذا الكشف يعد أول محاولة — إن تكن فعلًا الأولى — في تطبيق دراسة الآلة لجسم الإنسان أما «إراسيستراتوس» فقد زاد في معلومات زمنه عن علم تشريح القلب وقد كان أعظم كشف وصل إليه هو التمييز بين الأعصاب المُحركة والأعصاب التي تؤثر على الجهاز العصبي.
ومما يؤسف له أنه قد عاد إلى الاعتقاد بأن الشرايين تحمل هواءً، وقد عد ذلك عاملًا حيويًّا في العمليات الفيزيولوجية، ومع ذلك فإنه قد قيل إن هذه العناية بالهواء ترجع على الأقل إلى عهد «الكماون» Alcmaeon٣٦ وقد أنتجت في نهاية الأمر كشف الأكسجين والدور الذي يلعبه في حفظ الحياة، وقد أضاف هذا الطبيب تحسينات على أعمال «هيروفيلوس» عن القلب والمخ كما أضاف تفسيرات أكثر وضوحًا عن الأعصاب المحركة والأعصاب الخاصة بالحس، والمتفق عليه أن هذا الكشف هو من ابتكاره لا من عمل معاصريه، وقد رفض «إراسيستراتوس» في مداواته للمرضى عملية الفصد وأحل محلها غذاءً خفيفًا، هذا وقد استعمل الأدوية في أبسط أنواعها، وبذلك عاد في تطبيبه إلى تقاليد أستاذ «أبقراط»، وإلى هذا الطبيب يُنسب كذلك اختراع القثاطير، ولكنه من المحتمل أنه لم يكن أول من وصل إلى الكشف عن ذلك.
ويقال إن هذا الطبيب كسب شهرة ومالًا وفيرًا من مزاولة مهنته؛ فقد قيل إنه ربح مائة تالنتا مكافأة على شفاء «أنتيجونوس» الصغير ابن «سيلوكوس نيكاتور» وذلك دون أن يعمل له أي شيء سوى أن فحصه نفسيًّا وتنبأ بحب الأمير الشاب من زوج والده المسماة «ستراتونيس»، على أن الصعوبة في حل هذا الموضوع كانت أن يقبل «سيلوكوس» إرضاء شهوة ابنه.٣٧
وقد كان من جرَّاء تحسين علم التشريح والنهوض به أن حدث بطبيعة الحال تحسين في علم الجراحة، وقد كان موضع فخر مدرسة الإسكندرية العظيم اختراع آلات جراحة مع المهارة المتزايدة في استعمالها، وقد اتُّهم كل من «هيروفيلاس» و«إراسيستراتوس» بأنهما شرَّحا أجسامًا بشرية وقد استنبط ذلك من فقرة مما كتبه كل من «سيلسوس» Celsus و«ترتوليان» Tertullian، على أن ذلك لم يكن بأية حال من الأحوال أمرًا مكروهًا، والواقع أنه قيل عن عهد البطالمة أنهم أجازوا تشريح أجسام المجرمين الذين حُكم عليهم بالإعدام، ولم يشكَّ أحد من ثقاة الأقدمين في صحة هذا القول، وقد شعر «سيلسوس» أن هناك مناقشات خُلُقية من جهة هذه المسألة، وكان هو نفسه يشعر أن هذه العملية في نظره تعد عملًا وحشيًّا، ومن الغريب أن المحدثين من مؤلفي تاريخ الجراحة القديمة لم يصدقوا أن أطباء الإسكندرية قد أجروا عمليات جراحية في جسم الإنسان، ويعدون هذا الأمر أكذوبة اخترعها أولئك الذين كانوا معارضين لإجراء أية عملية تشريح مهما كان نوعها.
هذا ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن تاريخ الطب وبخاصة درس كتابات «أبقراط» بعمق مع النقد والتحليل قد استمر ينمو وينتشر في خلال القرن الثالث ق.م، وعلى أية حال لا ينبغي لنا أن نبالغ في العلوم الهيلانستيكية؛ فعلى الرغم من أنها تثير النفس فإن العِلْمين اللذين لهما شأن عظيم في العالم في عصرنا وهما الطبيعة والكيمياء لم يبدأ البحث فيهما في العصر الهيلانستيكي.٣٨

(٩) علم الطبيعة والكيمياء

وقد مات علم الطبيعة مع العالِم «ستراتو» Strato الذي أفاد فائدة محدودة من نظرية ذَرة «ديموكراتيس» الذي تلقى علومه كما أسلفنا في مصر على يد الكهنة المصريين والعلماء في أنحاء أرض الكنانة، والواقع أن علم الكيمياء كان في نظر الإغريق مجموعة أسرار تجارية أكثر منها مجموعة معارف ولم تكن تعتبر في نظرهم علمًا ولكن سرًّا،٣٩ ولا يفوتنا أن الكيمياء علم نبع في مصر وانتشر بعد ذلك في العالم كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

(١٠) الفَلَك

تدل المصادر التي في متناولنا على أن علم الفلك في الإسكندرية قد أخذ مكانته في عهد «بطليموس الأول» ولدينا عالمان قد بحثا هذا الموضوع، غير أنه مما يؤسَف له جِدَّ الأسف أنه لم يبقَ لنا من أعمالهما إلا اسماهما وهما «أرستيلوس» Aristyllos و«تيموكاريس» Timochares، غير أننا نعلم أشياء مع ذلك عن مشاهداتهما لمواقع النجوم والكواكب، فقد نقل لنا عنهما الفلكي «هيباركس» الذي يدين لهما بمعرفة اعتدال الفصول، وتقع مدة حياة «تيموكاريس» ما بين عام ٢٩٣، ٢٣٠ق.م وعلى ذلك فإنه لا بد قد بدأ نشاطه العلمي في عهد «بطليموس الأول»، ومن المحتمل كذلك أن «كونون» Conon مواطن «ساموس» الذي لُقب باسم «كوبر نيكوس» القديم في أيامنا وقد كان معروفًا بالرياضي تفاديًا من الخلط بيه اسمه وبين كثيرين غيره مما سُمُّوا باسمه، وقد كان تلميذ «ستراتو» ورَصَد الاعتدال الصيفي عام ٢٨١-٢٨٠ق.م ودوَّن ذلك لنا بطليموس الجغرافي، وكتابه عن أحجام ومسافات الشمس والقمر معروف قبل اختراع ساعة «أرشيميدس» الرملية، وبذلك نفهم أنه قد عاش حوالي ٣١٠ إلى ٢٣٠ق.م ولسنا في حاجة إلى أن الإغريق قد أخذوا علم الفلك عن مصر وآشور فإليهما يرجع الفضل في نشأة هذا العلم وقد تحدثنا عن ذلك (راجع مصر القديمة الجزء الثاني).

(١١) الرياضيات

كانت الرياضيات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعلم الفلك ولذلك نجد أن أولئك العلماء الذين اشتغلوا بالفلك كانوا مشتغلين بالرياضيات، ومن المحتمل أن ما وصل إليه العلم في خلال القرن الثالث قبل الميلاد في ميدان الرياضيات كان في الواقع أكثر بكثير عن أي علم آخر، ولا بد من أن الهندسة كانت أساس كل شيء في هذا الصدد.٤٠
وفي هذا العصر كان نابغة علم الهندسة هو «إقليدس» المشهور الذي لا تزال تُدرس كتبه حتى الآن وقد عاش حوالي عام ٣٠٠ق.م، وكان رجلًا حكيمًا مثله كمثل «أفلاطون» و«أرشيميدس» وكان يحب العلم للعلم، وقد أخبر ذات مرة «بطليموس الأول» على ما يقال أنه لا توجد سبيل ملكية لعلم الهندسة، والواقع أن كتابه كان الكتاب المعتمد للتدريس في بلاد الإغريق في العهد الهيلانستيكي، ثم عند الرومان والعرب والقرون الوسطى والأزمان الحديثة حتى الجيل الحاضر، وقد تناول «إراتوستنيس» الرياضيات بالبحث فضلًا عن العلوم الأخرى التي تناولها، وقد أهداه «أرشيميدس» كتابه المسمى «عن الطريق» أي طريق البحث، وعندما طلبت إليه الآلهة شرطًا عن إيقاف الطاعون في «ديلوس» كان الجواب أن تُضاعَف مائدة قربان هناك كانت على هيئة مكعب،٤١ و«أرتوستنيس» هو الذي كشف كيفية مضاعفة المكعب.٤٢

ولا نزاع في أن الإغريق قد أخذوا علومهم الرياضية عن المصريين كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

(١٢) الفن

لقد كان «بطليموس الأول» يعمل جاهدًا في جعل الإسكندرية مهبط كل المعارف والفنون وأجمل مدينة في العالم غير أنه كان دائمًا يُفضل ما هو مفيد نافع؛ فقد كان يفضل علماء العمارة والهندسة «المُفْتَنِّين» الذين كان عملهم محصورًا في إنتاج عدد صغير من التحف الدقيقة، ومع ذلك فقد حُكي عنه أنه قدَّم مبلغ ٦٠ تالنتا للمصور «نيسياس» Nicias ثمنًا لصورة «نيكيا» Nika آلهة النصر وأن المثَّال لم يقبل بيعها بهذا الثمن، وقد أمر بعمل هذه الصورة لنفسه في بدلة صيد بثمن أقل، رسمها له المفتنُّ «أنتفليس» Antiphiles وذلك لأنه كان مصري المنبت، ولأنه كان من رجال بلاط مقدونيا عاش في عهد كل من «فليب» و«الإسكندر الأكبر» وكان منافسًا للرسام «أبل» Apelle وكان أنتفيليس هذا ماهرًا في رسم الصورة الهزلية.٤٣

أما الفن الشعبي في هذه الفترة فلم نجد له ما يماثله من الوجهة المصرية إلا ما نراه في مقابر عامة الشعب من صور دينية متوارثة، وعلى أية حال يظهر أنه كانت توجد في الإسكندرية مدرسة للفن، والظاهر أنها كانت قبل كل شيء مركز تجميع للأشياء الفنية، وهنا نجد أقدم إنتاج للرخام الأتيكي على يد المفتنين من الإغريق سواء أكان ذلك في «أثينا» أم في «الإسكندرية» على الأغلب، ونجد في عهد مبكر أن النحاتين المحليين في مصر قد أوجدوا طرازهم الإغريقي الخاص وورَّدوا للإغريق القاطنين في «الإسكندرية» وكذلك الذين في القرى ما يحتاجون إليه منه.

وقد تفوقت مدرسة الحفْر في الإسكندرية بوجه خاص في صناعة نحت الصور ونجد في تلك الأثناء كذلك أن المفتنِّين الوطنيين كانوا مستمرين في الإنتاج لمعابدهم ومحاربهم ومقابرهم على الطريقة المصرية القديمة وقد ظهر في حالات قليلة اختلاط الطرازين معًا.٤٤
ولكن الأعمال الفنية التي وُجدت في مصر حتى الآن تعتبر بوجه خاص من الدرجة الثانية،٤٥ واللوحات الجنازية المنسوبة إلى الإسكندرية أقل إتقانًا من ذلك اللهم إلا في مدة الجيل الذي غادر فيه المُفتنُّون الأثينيون بلدة أثينا بسبب خطر «ديمتريوس» مواطن «فالرم» فقد هاجروا إلى «الإسكندرية» واستوطنوها وهناك قاموا بعمل قطع فنية من طراز إغريقي خالص.
وفي مصر نشأت عادة عمل شعر التماثيل من الجبس وقد بقي تأثير المفتن «براكسيتليس» Praxiteles عظيمًا من هذه الناحية ولم يكن ذلك في الإسكندرية فحسب، غير أنه عند صناعة التماثيل بولغ في نعومة بشرة الجلد.
وصورة أفروديتي السيرينية الجميلة الطراز تقدم لنا أحيانًا مجرد عمل فني لا قيمة له، والواقع أن قوة الإسكندرية من الوجهة الفنية كانت في صنع القطع الفنية الدقيقة الصغيرة، ومن الجائز أنها هي التي اخترعت «الفسيفساء» و«الكاميو» وهو نقش الأحجار الكريمة أو الشبه كريمة نقشًا بارزًا، ومن المدهش حقًّا أنه على الرغم من أن المثالية في الفن الإسكندري لم يكن لها نصيب فإن المدينة كانت تحتوي على تمثال الإله «سيرابيس» الذي ينطق عن مثالية في الفن غاية في القوة والجمال،٤٦ ومن الممكن حقًّا أنه كان من عمل «بارياكسيس» Paryaxis تلميذ «سكوباس» Scopas وقد صُنع في أيام «بطليموس الأول» ولُوِّن باللون الأزرق ورُصِّعت العينان بجوهرتين لتلمعا في أنحاء المعبد المظلم من كَوَّتِهِ المُزَيَّنة والمُنارة بصورة فخمة، وقد وُصف وجه التمثال بأنه لطيف عليه جلال ورهبة كما كان ينبغي أن يكون عليه إله عالم الآخرة، وكان يرتدي على رأسه مكيال قمح رمزًا لمصر؛ لأنها مخزن الغلال العظيم، أما الفن المصري في المعابد المصرية فله شأن آخر سنتحدث عنه في فصل خاص.
١  راجع: Dziatz Bibliotheca in p. w; Beloch IV, 1, 425.
٢  راجع مصر القديمة الجزء ١٢.
٣  راجع: Xenophon. Anbasia, VII, 5, 14.
٤  راجع: Xenophon, Memorabila IV, 28.
٥  راجع: Diogenes Laertius in book V. The will of Aristotle.
٦  راجع: Lvo Bruns, Die Testamente der Griechishen Philosophen. Savigny Stiftung Romanisch Abteilung I, 1888. pp. 1–52.
٧  راجع: Rostovtzeff. Social & Economic History, vol. III, P. 1650. Note 35; Westermann Clinton. Keyes, Herbert Liebesny Columbia Papyri, vol. IV.
٨  راجع: Strabo. XVII, 1. 8–16.
٩  راجع: Evariste Breccia, Alexandrea ad Aegyptum.
١٠  راجع: Histoire Des Lagides Bouché-Leclercq, Tom I, p. 128, note 3.
١١  راجع: Athené 122 D.
١٢  راجع: Ap. Athen. 1, 22 D, Trans. Sandys.
١٣  راجع: Galen XVI p. 603.
١٤  أرستاس أو أرستاوس Aristeas or Aristaeus ضابط عظيم قبرصي الأصل في بلاط بطليموس الثاني، وكان مشهورًا بمواهبه الحربية، ولما كان بطليموس مغرمًا ليضيف إلى مجموعة مكتبة الإسكندرية نسخة من كتاب القوانين اليهودية أي التوراة، أرسل أرستاس و«أندراس» قائد حرسه إلى أورشليم لهذا الغرض. وقد حملا على ما يقال معهما هدايا إلى المعبد وحصلا من الكاهن الأكبر وقتئذ على نسخة أصلية من التوراة كما حصلا على سبعين عالم من شيوخ أورشليم عشرة من كل قبيلة لترجمة التوراة إلى اللغة الإغريقية، وقد قوبلوا في الإسكندرية على زعم اليهود بالتَّرْحَاب وترجموا التوراة في مدة اثنين وسبعين يومًا، وهذه القصة قد ضمَّنها أرستاس خطابه، ومن المحتمل أنها محض اختلاق من خيال يهود الإسكندرية وُضعت في العهد المسيحي … إلخ، راجع: Dictionary of Greek & Roman Biographies and Mythology. vol. I, p. 293.
١٥  راجع: Josephus Antiquities XII, 21.
١٦  راجع: Johannes, Tztzes A. D. 1110–1180.
١٧  راجع: Riluch Wilcken, Hermes XII (1906). 103 ff.
١٨  راجع: Edward, A. Parsins, The Alexandrian Library-Glory of the Ancient World, London, Cleaver-Hume Press, 1952.
١٩  راجع: Gronfell, Berrard. P. and A. S. Hunt. Oxyhynchus Papyri, X, No. 12 […] col. II, Oxford Press.
٢٠  راجع: Beloch, Griech Gesch. IV, 2, pp. 592 SQQ.
٢١  راجع: Athenaeus Delpnosophists, IV, 184 C.
٢٢  راجع: Julius Caisar. The Civil Wars, III, 111.
٢٣  راجع: Plutarch, Caesar XLIX.
٢٤  راجع: Caesar Civil War III, 111.
٢٥  راجع: Wilamowitz, Hell. Dicht, 1, 75.
٢٦  راجع: C. A. H. VII, p. 76.
٢٧  راجع: P. Schnabel Berossos und die Babylonisch-Hellenistisch Litaratur 1923.
٢٨  راجع: Fr. 11 Inf Jacoby’s Fragmente der Greichischen Historiker.
٢٩  راجع: P. Hebeh, I, 27.
٣٠  مؤرخ عاصر الإسكندر الأكبر وبطليموس الأول وكتب عن تاريخ مصر في تلك الفترة.
٣١  راجع: C. A. H. VII, p. 265.
٣٢  راجع: A. Ausfeld, der Greich. Alexander, Roman (1907), W. Kroll, Kallisthenes, Pt. 2 in p. w.
٣٣  راجع: C. A. H. VI, p. 416.
٣٤  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
٣٥  راجع: C. A. H. Vol. V. P. 380 FF.
٣٦  راجع: C. A. H. IV. P. 548.
٣٧  راجع: B. C. I. P. 132.
٣٨  راجع: Wellman Bolosin P. W.; Diels. Ant. Technick Ch. VI.
٣٩  راجع: D. A. W. Thompson in the Legacy of Greece. P. 142.
٤٠  راجع: Heath, P. 348.
٤١  راجع: J. L. Heiber Mathematics and Physical Science in Classical Antiquity; Tarn Hellenistic Civilisation, P. 256.
٤٢  راجع: Knaeck Eratosthenes in P. W. 362.
٤٣  راجع: Plen. XXXV, §. 140.
٤٤  راجع: Noshy, The Arts of Ptolemaic, Egypt. 1937. PP. 83 ff; F. Poulsen, Gab es […] eine Alexanderinische Kunst? In From the collections of the Nycarlsberg Glyptothek. II (1938); G. Kleines, Bull. Soc: Arch. Alex. XXXII, (N. S. 10. 1) 1938, P. P. 41 ff. (Grave Sculpture); and Adriani Ibid. P. P. 76 ff. (portraits); Social and Economic History of the Hellenistic World by M. Rostovtzeff, vol. I, P. 380.
٤٥  راجع: J. E. A. XI, P. 179.
٤٦  راجع: Witz, Sarapis in Rocher, Amelung, Rev. Arch. II 177; Lippold, Festschrift Paul Arndt, 1925, P. […] 5.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤