حكومة مصر في عهد الإسكندر

وقبل أن يغادر الإسكندر أرض مصر لشن الغارة على مَلِك الفرس وانتزاع ملكه منه نهائيًّا، منح مصر حكمًا ذاتيًّا ثابت الأركان، فكان يدير حكومة البلاد حاكمان؛ أحدهما مصري الأصل وهو «بتيزي» (عطبة إزيس) والثاني يُدعَى «دولواسبيس» Doloaspis ويقال إنه كان أناضوليًّا أو فارسي المنبت، ولكن يظهر لي أنه كان مصريًّا أيضًا، وقد قسمت إدارة البلاد بينهما، وعلى أية حال فإن هذا الحاكم الأخير قد اعتزل الحكم بعد توليه مباشرة، والواقع أن «بتيزي» لم يكن في يده من السلطان إلا وزارة الداخلية.
هذا وقد عين الإسكندر قوادًا لحامياته المقدونية في الديار المصرية وهم القائد بنتاليون Panataleon من أهالي «بيدنا» Pvdna الذي عُيِّن في «منف» والقائد «بوليمو» Polemo مواطن «بلَّا» pella في مدينة «بلوز» (الفرما) وعُيِّن قائدًا للجنود المرتزقة واسمه لوسيداس الأبنولي Lucidas The Aetolian ونُصِّب إيجنوستوس EugnOstus ابن أكزنوفانتوس Xenophantus سكرتيرًا للجنود المرتزقة، وكان أحد سمار الإسكندر، ثم نُصِّب عليهم مشرفًا Episkopoi أسلكس، وكذلك أفيبوس Ephippus من أهالي «كالسيس» Chalcis ونصب أبوللونيوس Apollonius النقراشي الأصل حاكمًا على بلاد لوبيا المجاورة لمصر، وكانت قد سُلِّمت له دون قيد ولا شرط، ثم ولى كليومنيس Cleomenes على مقاطعة العرب الواقعة حوالي مدينة «هيرونبوليس» Heroonpolis وقد أمره أن يسمح للحكام الوطنيين للمقاطعات بأن يديروا شئون مقاطعاتهم على حسب القواعد القديمة المقررة في البلاد على أن تجمع منهم الضرائب المفروضة عليهم، هذا ونصَّب الإسكندر فضلًا عن ذلك اثنين من أشرف رجال مقدونيا قائدَيْنِ للجيش الذي تركه في مصر؛ وهما «بوسستاس» Peucestas و«بلاكروس» Balacrus كما نصب أميرًا للبحر القائد «ترامنيس» Theramenes.
ويقال إن السبب الذي من أجله وضع الإسكندر حكومة مصر في أيدٍ عدة هو أنه كان مندهشًا من قوة البلاد الحربية (راجع: Arrian III, 5) غير أن النظام الذي ذكرناه هنا لم يدُم طويلًا، والواقع أن النظام الذي وضعه الإسكندر هو ما أملَتْهُ طباعه وهداه إليه تفكيره، ولكن ذلك لم يكن يلائم أفكار «كليومنيس» النقراشي الذي جمع كل السلطة في يده، ومن ثم فإن النظام الذي وضعه الإسكندر لا بد أنْ فَقَدَ فاعليته إن لم يكن قد مُحِيَ، ومما لا ريب فيه على أية حال أنه في عام ٣٢٣ق.م عندما توفي الإسكندر لم تكن مصر إلا مديرية من مديريات الإمبراطورية المقدونية أو بعبارة أخرى شطربية يحكمها «كليومنيس»، وهكذا نجد أن مصر التي كانت تسعى منذ قرون إلى أن تصبح قوة عظيمة على ساحل البحر الأبيض المتوسط قائمة بذاتها قد جعلها الإسكندر تدخل في نظام الممالك التي تتجه نحو بلاد «إيجه» ولا نزاع في أنه منذ عام ٣٣٢ق.م كان مصير مصر مرتبطًا بذلك العالم الجديد الذي خلقه الإسكندر الأكبر، وهو ذلك العالم الذي أخذ يتحول شيئًا فشيئًا نحو الغرب، وقد ظلت الرابطة التي كانت تربط مصر بالغرب لا تنفصم عراها حتى فجر القرون الوسطى عندما أخذ الإسلام بفتوحه يفصل لمدة طويلة بلاد الشرق الواقعة على البحر الأبيض المتوسط عن بلاد الغرب التي كانت غارقة في بحار الجهالة والضلالة.
ونفهم بقدر ما يسمح به الوصف الذي تركه لنا المؤرخ «أريان» أن مبدأ نظام الحكم في مصر كان ينطوي على شل يد الحكام فيها بفعل بعضهم البعض بطريقة تنطوي على الحزم والحكمة، فنجد مثلًا أن القيادة الحربية العليا كانت مقسمة بين قائدين كما ذكرنا آنفًا، وكان «كليومنيس» موكلًا بتسلم الضرائب غير أن جمعها كان في أيدي حكام الإقطاع المصريين، والواقع أن سياسة «الإسكندر» كانت على جانب عظيم من الفطنة وحسن السياسة في تنظيم إدارة البلاد، فقد نصب وطنيين لحكم سطرى القطر أحدهما للوجه البحري، وهذه السياسة التي أرضت أبناء الشعب المصريين لم يتبعها ملوك البطالمة الأُوَل، غير أنهم في نهاية حكمهم اضطروا إلى الرجوع إليها عندما أخذ أهل البلاد الأصليين يثورون عليهم مطالبين بحقوقهم التي اغتصبها الإغريق الأجانب الذين كان يحابيهم الملك، ومع ذلك فإن السلطة التي كانت في أيديهما لم تكن إلا سلطة اسمية، وذلك لأن «كليومنيس» رئيس المالية المصرية كان على جانب عظيم من المهارة في الإفادة من سلطته لدرجة أنه جمع كل السلطة الحقيقية في يده، وقد كان صاحب سمعة سيئة في العالم الإغريقي لما اتُّصِف به من ابتزاز الأموال من الأهلين، هذا فضلًا عن أنه كان مكروهًا في «أثينا» لما قام به من تصرفات في مصر أدت إلى رفع أثمان الغلال في «أثينا» التي كانت تعتمد على مصر في تصدير القمح لها، وقد ورد عنه بعض وقائع إن صحت فإنها تدل على أنه كان رجلًا عاتيًا جبارًا، فاستمِعْ لما قيل عنه من تصرفات تدل على منتهى الخبث والظلم: لقد منع «كليومنيس» المواطن الإسكندري وشطربة مصر عندما حدث قحط شديد في الممالك المجاورة — وكان خفيف الوطأة في مصر — تصدير القمح، ولكن عندما شكا إليه حكام المقاطعات أنهم غير قادرين على دفع جزيتهم بسبب القانون الذي سنَّه سمح لهم بتصدير الغلال، غير أنه وضع ضريبة عالية على التصدير لدرجة أنه كان يُدفع في مقابل تصدير كمية صغيرة مبلغ عظيم من المال، هذا فضلًا عن أنه تخلص من العذر الذي قدمه حكام المقاطعات، يضاف إلى ذلك أنه عندما كان يسير في النيل في المقاطعة التي كان يؤلَّه فيها التمساح الْتَهَمَ تمساح أحد عبيده، وكان من جراء ذلك أنه جمع الكهنة وأخبرهم أنه لا بد أن ينتقم من هذا الهجوم الغاشم الذي أتاه التمساح وأمر بأن يُصطاد تمساح في الحال، وعندئذ لم يرَ الكهنة تفاديًا من أن يصير إلههم موضع سخرية واحتقار إلا أن يجمعوا كل ما أمكنهم من ذهب وقدموه له وبذلك هدأ ثائره، ومما يذكر عنه كذلك أن الإسكندر عندما وجهه لتأسيس مدينة «فارس» (أي مدينة الإسكندرية) ويُحَوِّل سوق كانوب إلى هناك فإنه ذهب إلى «كانوب» أولًا وأخبر كل الكهنة الأغنياء أنه قد أتى ليطردهم من هذا المكان، وعلى ذلك جمعوا له مبلغًا عظيمًا من المال وسلموه له لأجل أن يُبقي على سوقهم، ثم غادرهم ولكن بعد فترة قصيرة عندما كان كل شيء قد أُعِدَّ لبداية بناء المدينة الجديدة جاء ثانية وطلب إليهم مبلغًا أكبر من السابق معلنًا بأنه قدَّر فرق إقامة السوق هناك أو في الإسكندرية بهذا المبلغ، وعندما أظهروا عدم قدرتهم على دفع المبلغ نقلهم إلى الإسكندرية، ومما يحكى أنه في فرصة كان يباع فيها القمح بسعر عشر درخمات Medimnus جمع الفلاحين وأخبرهم بالشروط التي يقبلون بها معاملته، فأجابوه أنهم سيبيعون له بنفس السعر كل ما تبقى عندهم، ولكنه حدد ثمن القمح بواقع اثنتين وثلاثين دراخمة وباع بهذا السعر (وهذا يعني أنه على ما يظهر تخلص من الرجل المتوسط وجمع كل الفائدة للتاج).

وكذلك حكِيَ عنه أنه جمع الكهنة وأخبرهم أن مصاريف الشئون الدينية في البلاد باهظة وأنه لا بد من إلغاء عدد خاص من المعابد والكهنة، وعلى إثر ذلك قدم له الكهنة أموالًا من ممتلكاتهم الخاصة ومن مالية المعبد أيضًا، وذلك عندما ظنوا أنه كان في طريقه فعلًا إلى انتقاص أملاكهم والاستغناء عن بعضهم، وقد كان كل منهم يحرص على معبده وكذلك على وظيفته الكهانية، وهذا التصرف من جانب «كليومنيس» يدل دلالة واضحة على أنه كان عليمًا بخبايا الكهنة وأسرارهم، وما كان لديهم من مال وفير، وهذه حقيقة لا ريب فيها؛ فقد كانت طائفة الكهنة في مصر في كل عصور التاريخ أغنى فئة في الشعب غير أن هذا الإجراء من جهة أخرى يدل على تدهور نفوذ هذه الطائفة في البلاد بدرجة مُحَسَّة كما يدل في الوقت نفسه على أن نفوذ الحكام الإغريق أخذ يظهر بدرجة عظيمة في البلاد لا لبس فيها ولا إبهام؛ فقد رأينا من الأمثلة التي اقتبسناها عن سوء معاملة «كليومنيس» أن سوء معاملته لم تقف عند عامة الشعب بل تعدت ذلك إلى رجال الدين والآلهة المصريين، فقد هدد الكهنة بالعزل، والمعابد بانتقاص عددها مما لم يجرؤ على مثله فرعون من الفراعنة السابقين على وجه التقريب.

وعلى أية حال فإنا لسنا في حِلٍّ للحكم على ما ذكره «كليومنيس» من أعمال وبخاصة أن المصادر التي في متناولنا عنه مشكوك في صحتها (راجع: Bevan Hist. P. 17).

مغادرة الإسكندر مصر إلى ميدان القتال

بعد أن وضع الإسكندر أسس الحكم في مصر زحف بجيوشه إلى آسيا للقضاء على المُلك العظيم في عام ٣٣١ق.م ومنذ هذا العام أخذت فتوحه تثرى فاستولى على إمبراطورية الفرس وبلاد الهند وقد ظل النصر حليفه إلى أن حضره الموت وهو أخضر العود عام ٣٣٢ق.م ولم يكن قد تجاوز أكثر من اثنين وثلاثين عاما وثمانية أشهر، وكانت مدة حكمه اثنتي عشرة سنة وثمانية أشهر (راجع تفاصيل مرضه وموته في Arrian VII, 25, 26, Plutarch. Alex).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤