النظام الاقتصادي في عهد بطليموس الثاني

تحدثنا فيما سبق عن الحكم في عهد بطليموس الثاني من حيث الملكية والجيش والأسطول وأقسام البلاد الجغرافية وما طرأ عليها من تغيير ونظام الحكم في المقاطعات وفي المديريات التي كان يسيطر عليها البطالمة خارج مصر وعلاقته بها وعن الوزير والمهام التي كان يقوم بها، وأخيرًا تحدثنا عن النظم القضائية الإغريقية، والآن يجدر بنا أن نتحدث عن النظام الاقتصادي نفسه الذي كانت تسير عليه البلاد وأساسه تربة مصر التي كانت ملكًا لبطليموس الذي كان في تصرفاته من حيث ملكية الأرض لا يختلف عن تصرفات الفراعنة طوال مدة حكمهم لأرض الكنانة من أول «مينا» مؤسس المملكة المصرية المتحدة حتى نقطانب الثاني آخر من اعتلى عرش الفراعنة، ولما كانت مصر تُعَدُّ دائمًا في الأزمان الغابرة بلدًا زراعيًّا لخصب تربتها فإن جُلَّ هَمِّ بطليموس الثاني الحصول من تربة أرضها على أكبر محصول ممكن، فكان يعطي جزءًا من أراضي مصر لآخرين لزرعه ويقوم هو بزرع جزء كبير لحسابه الخاص، ولا سيما في أرض الدلتا والفيوم التي قام بإصلاح مساحة عظيمة منها بتجفيف جزء كبير من بحيرة قارون وكانت هذه الأراضي في يده فعلًا يقوم بتثميرها له الفلاحون المصريون الذين دُرِّبوا على هذا النوع من العمل منذ أزمان سحيقة، وهذه الأراضي كان يُطلق عليها أراضي الملك كما أن الفلاحين الذين كانوا يقومون بفلاحة الأرض وزرعها يلقبون بالفلاحين الملكيين.

وكانت الأراضي التي يمنحها الملك موزعة على أربع طبقات١ من سكان مصر، فأراضي المعابد كان يتولى الملك زرعها على غرار زرع أرضه هو، على أن يُعطَى المعبد ما يحتاج إليه من محصولها، ثم الأراضي التي كان يمنحها الملك للجنود المرتزقين وقد تحدثنا عنها فيما سبق، أما الطبقة الثالثة من ملاك الأرض فكانت تُمنح لملاك خاصين، وهذا النوع من المُلَّاك قد زاد كثيرًا فيما بعد، وهذه الأرض كان يُقصد بها في العهد الأول من عصر البطالمة في الواقع البيوت والبساتين، والطبقة الرابعة من هؤلاء الملاك كان يقصد بها ملاك الضياع الكبيرة وهي التي كانت تُعطى منحة، وذلك أن بطليموس الثاني كان يمنح بعض كبار الموظفين مساحات عظيمة من الأرض لزراعتها وتنمية مواردها، على أن الملك كان له الحق في أن يستردها عندما يريد، وقد وصلت إلينا معلومات كثيرة عن إحدى هذه الضياع الشاسعة في الفيوم وتبلغ مساحتها حوالي ٥٥٠٠ فدان وتشمل قرية فيلادلفيا وكانت منحة من بطليموس الثاني لوزيره «أبوللونيوس».
ويرجع الفضل في معرفة الشيء الكثير عن هذه الضيعة إلى الكشف عن معظم المراسلات الخاصة بمدير بيت أبوللونيوس هذا المسمى زينون، ويمكن أن نتتبع أحوال هذه الضيعة وريها ومبانيها وزراعتها بصورة دقيقة لحد كبير، وتدل هذه المراسلات على أن «أبوللونيوس» هذا كان مَلِكًا صغيرًا كما أشرنا من قبل، في ضيعته هذه، والواقع أن مثله كان كمثل أمراء الإقطاع في العهد المتوسط الأول من تاريخ مصر القديمة فكان «أبوللونيوس» كأمير الإقطاع يتمتع بكل ما كان يتمتع به الملك ولا ينقصه إلا الاعتراف له بلقب الملك قانونًا؛ فقد كان له بلاطه وجيشه من الموظفين الخاصين به، ولكن الفرق الوحيد هنا بينه وبين الأمير المصري الإقطاعي هو أن بطليموس كان على اتصال تام بمملكة أبوللونيوس الصغيرة، يدل ذلك على أن الملك ذات مرة أمر أبوللونيوس أن يجرب في تربة ضيعته بعض المزروعات، وذلك أن أبوللونيوس كتب لمدير ضيعته «زينون» يخبره أن الملك أمر بأن يزرع زرعة أخرى في ضيعته التي لم تكن تُزرع إلا مرة واحدة، وقد فعل ما أمر به وبعد حصاد الغلة المبكرة كان على «زينون» لأجل أن يحصل على محصول ثانٍ أن يروي الأرض بالشادوف إذا احتاج الأمر إلى ذلك، أمر بألا يغرق الأرض بالماء أكثر من خمسة أيام، وبعد جفاف الأرض كان عليه أن يزرع القمح الذي كان لا بد أن يمكث في الأرض ثلاثة أشهر، وأخيرًا كان عليه أن يخبر «أبوللونيوس» عن الميعاد الذي سيكون فيه قادرًا على جني المحصول، والواقع أنه ليس في الإمكان معرفة ما يقصده الملك بالضبط، اللهم إلا إذا كانت طريقة تثمير الأرض مرتين في السنة قد عُرفت في عهد بطليموس الثاني فتُروى زرعة بالحياض وأخرى بالشادوف وهذا جائز جدًّا.٢

ومما سبق نفهم أن أرض مصر كانت على الأقل نظريًّا ملك بطليموس الثاني كما كانت ملك كل فرعون في العهود القديمة، وكان الفرعون أو بطليموس في كلتا الحالين يمنح آخرين حق القيام بإجراء تجارب معينة فيها، ويمكن القول بصورة عامة إن هذا التصرف كان يتخذ ثلاث طرق رئيسية:

(١) كانت توجد معاملات يقبض بطليموس على زمامها ويدير شئونها هو بنفسه وهذا كان نظام الاحتكار المشهور. (٢) وهناك معاملات أخرى كان له فيها قسط فقط؛ أي إنه كان يأخذ قسطًا من أرباحها ويسمح لأفراد رعيته بأن يأخذوا الباقي من إنتاجها. (٣) وأخيرًا كانت هناك عمليات ليس للملك فيها أي قسط من الربح، ولكن كان له مبلغ معين سواء أكان ذلك جزءًا من المحصول أم دفع مبلغ للترخيص بإجراء أشغال، وهذا يعني أن الملك قد باع لرعاياه حق السماح بالقيام بعمل أو مصلحة.

أما حرية التجارة أو القيام بمزاولة عمل حر فلم يكن على ما يظهر من الأمور المعروفة في مصر البطلمية إلا في ثلاث من المدن الإغريقية وهي «نقراش» و«الإسكندرية»، «بطليمايس»، وهي التي كانت تعتبر مدنًا حرة على غرار المدن الإغريقية إلى حد معين كما شرحنا ذلك من قبل، ومن المحتمل أن تجار التجزئة لم يكونوا إلا عُملاء للحكومة في توزيع السلع وبخاصة في السلع المحتكَرة، هذا وقد كان الفرد يدفع للحكومة ضريبة للحصول على امتياز كسب اللقمة، حقًّا كلنا يدفع ضرائب، ولكن في مصر في عهد البطالمة كان القوم يدفعون ضرائب فادحة تتعدى حدود الضرائب المعقولة، ولم يشذ عن هذا النظام إلا المدن الثلاث السالفة الذكر على ما يُظَنُّ، فقد كانت الأرض التي يستغلونها ملكًا لهم، وكذلك يحتمل أنه كان لهم حق التجارة الحرة بالتجزئة، ومن الجائز أنه كانت في الإسكندرية جمعية تصدير السلع تتمتع ببعض حقوق وحرية خاصة، وذلك لأنه ليس في استطاعة الإنسان أن يفهم كيف كانت الصادرات تسير بغير هذه الطريقة، والواقع أن الحكومة كانت تراقب كل شيء خلافًا لما كانت تتمتع به هذه المدن، وتدل الظواهر على وجود ثلاثة أنظمة كانت تتبعها الحكومة لجمع دخل البلاد؛ وهي، أولًا: مبالغ معينة تدفع للحكومة. وثانيًا: نصيب من أرباح الأفراد يستولي عليه التاج. ثالثًا: دخل ما ينتج من الاحتكار الحكومي لبعض السلع. وكل هذه الأمور كانت تسير جنبًا لجنب فيما يخص ثلاثة أنواع الأغذية الرئيسية وهي القمح والنبيذ والزيت.

ويمكن أن نفحص عن هذه المواد الثلاث لنرى ماذا كان يفعل بطليموس الثاني ومن جاء بعده وسار على منهاجه لجمع المال بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل:

القمح: كانت مصر في كل عهودها القديمة بلادًا زراعية وأهم محاصيلها القمح في كل العصور، وفي عهد البطالمة نجد أن الأراضي كانت تُزرع قمحًا بالأيدي العاملة وكان للملك جزء من محصولها.

ولكن نجد في الأرض التي كان يقوم الملك بزرعها لحسابه تجديدًا مثيرًا في نصيب الملك فقد كانت العادة منذ أقدم العهود الفرعونية والآسيوية أن يستولي الملك على عُشر المحصول، وهذا كان يعني أنه كان شريكًا أمينًا مع فلاحيه؛ فقد كان ما يأخذه من المحصول لا يزيد عن كسر بسيط وهو العُشر، ومن ثم فإنه كان في السنة التي ينقص فيها المحصول بسبب الآفات أو قلة الماء كان يشارك المزارع في النقص الذي كان يلحق بالأرض التي يزرعها، ولكن نجد أن بطليموس الثاني كان في عهده لا يتحمل أية خسارة من ذلك، فقد كان يأخذ من كل فلاح مقدارًا مُعَيَّنًا من القمح سواء كان المحصول حسنًا أم سيئًا، وعلى ذلك كان الفلاح لا يأخذ أي شيء من محصول أرضه إلا بعد أن يوفي بطليموس نصيبه المحدد، فكان على الفلاح أن ينقل نصيب الملك من جرن القرية إلى مخازن بطليموس، وهناك كان يُوزَن ويتسلم به إيصالًا من الموظفين المختصين، ولا نزاع في أن هذا التغير عما كانت عليه الحال في عهد الفراعنة يُعَدُّ خَرْقًا فظيعًا لما تعوده الفلاح وإجحافًا بحقه، وفي الوقت نفسه كان ربحًا عظيمًا للملك، وقد كان القمح يؤخذ من جرن القرية إلى جرن المقاطعة ثم يُشحن في سفن تسير في النيل إلى مخازن الملك في الإسكندرية ليكون جاهزًا للتصدير، وكان بطليموس الثاني أكبر مُصَدِّر للقمح من بين تجار مصر، هذا وقد حفظ لنفسه كذلك الحق في شراء الفائض من الغلال في البلاد بالثمن الذي كان يحدده هو.

وكان بطليموس الثاني يصدر أمرًا سنويًّا بتحديد مساحة الأرض التي تُزرع قمحًا من الإسكندرية، وعندما كانت تصل القائمة بمقدار الأرض التي كانت ستنبت القمح من الإسكندرية إلى عاصمة المقاطعة كان يبتدئ عمال الملك في توزيع كمية البذور التي ستزرعها كل قرية، والظاهر أن هذا الإجراء كان خاصًّا فقط بأراضي التاج أو الأراضي التي كانت تحت إشرافه كأراضي المعابد، أما الأراضي الأخرى مثل أراضي الجنود المرتزقين فكان مُلَّاكها يتصرفون في زرعها حسبما يشاءون، وذلك في عهد بطليموس الثاني.

وكان المواطنون المصريون يزرعون أراضيهم قمحًا في حين أن السكان الإغريق كانوا بوجه عام يزرعون أرضهم كرومًا، وكذلك كان مباحًا للجنود المرتزقين أصحاب الأراضي الصغيرة المساحة أن يزرعوا أرضهم كرومًا إذا رغبوا في ذلك، وكثيرًا ما كانوا يفعلون، وذلك لأن الفائدة من محصول الكروم كانت تبلغ على وجه التقريب خمس مرات قدر فائدة محصول نفس المساحة من الأرض المزروعة قمحًا.٣
هذا وكانت توجد ضريبة قديمة تسمى أبومويرا Apomoira تُقَدَّر بسدس المحصول على الكروم وكانت تُدفَع للمعابد، وقد حول بطليموس الثاني هذه الضريبة لإقامة شعائر دينية لزوجه المؤلَّهة «أرسنوي فيلادلفس»، وقد ظن بعض المؤرخين أن هذه الضريبة كانت تُدفع لبيت مال بطليموس الثاني، وعلى أية حال قد تنفَّس الصُّعَدَاءَ الإغريقُ الذين كانوا يدفعونها لأنه تخلصوا من دفعها لرجال الدين المصريين الذين كانوا على غير دينهم، وسنتحدث عن هذه الضريبة فيما بعد.
والواقع أن زراعة الكروم كانت من أهم المحاصيل المصرية القديمة، وكانت توجد كروم ملكية تعتبر في الأصل ضِياعًا شخصية للملك وأفراد أسرته، وكانت البيوت الملكية محاطة بالكروم،٤ وكان من المعقول أن يكون للفرد الذي يزرع الكروم أو الأشجار المثمرة حق ملكية ثابتة نسبيًّا؛ لأن كل الأراضي كانت تعتبر ملك بطليموس، وذلك لأن أشجار العنب كانت لا تؤتي ثمارها إلا بعد عدة سنوات، هذا فضلًا عن أن الكروم كانت تحتاج إلى التهذيب والري كما كانت تحتاج إلى مهارة كبيرة، ومع ذلك فإن الملك كان يشرف على زراعة الكروم والفاكهة، ومع السماح بإنشاء كروم جديدة كان في استطاعته أن يشرف على تقدم محصولها كما كان في مقدوره أن يمنع ازدياد الأرض المزروعة بالكروم على حساب الأراضي التي كانت تُزرع قمحًا، ومن أجل ذلك كان يُفضِّل الإغريق دون المصريين على زرع الأرض التي أُصْلِحَت حديثًا أو التي لم تكن صالحة لزراعة الحبوب والكروم، وكان من إجراءات التسهيل التي نهجها الملك في هذه السبيل أنه أعفى الأراضي التي كانت تُزرع حديثًا بالكروم والبساتين من الضرائب كما خفَّض الضرائب من السدس إلى العُشر، والواقع أن أهمية الكروم كانت عظيمة في نظر ملوك البطالمة كما كانت عند قدماء المصريين.
وترجع زراعة العنب في مصر إلى أقدم العهود وكذلك استخراج النبيذ منه يرجع إلى عهد الأسرة الأولى،٥ وقد اهتم بطليموس الثاني بزراعة أشجار العنب بوجه خاص في الضياع الواسعة المساحة، ولا أدل على ذلك من أنه يُلحظ في ضيعة «أبوللونيوس» في «فيلادلفيا» من أعمال الفيوم اهتمام عظيم من قِبَل الملك بزراعة الكروم، فنقرأ في سلسلة من الرسائل المستعجلة ما بين عام ٢٥٧ إلى ٢٥٥ق.م أن آلافًا من شجيرات العنب وشجر الزيتون والتين والنخيل والتفاح والكمثرى والجوز والرمان قد نُقلت من ضياع «منف» وحتى من بساتين الملك لتزرع في فيلادلفيا، وهكذا نقرأ في بطاقة من وزير المالية «أبوللونيوس» أنه يعلن أن مدير بيته «زينون» بإرسال عشرة آلاف شجرة عنب وألف وسبعمائة شتلة، وخمسمائة شجرة رمان،٦ في حين نجد شكوى قد وُجهت إلى رئيس الشرطة في «فيلادلفيا» أعلن فيها مقدمها سرقة ٣٠٠٠٠ من قوائم الغاب من كرم مساحته ستون أرورا ملك «زينون» وصديقه «سوسترات»،٧ وهذا يقدم لنا دليلًا على أهمية الكروم في اقتصاد مصر.٨ وقد تحدث «روستو فتزف» عن الاهتمام بزراعة أنواع عنب من أجود الأصناف مجلوبة من بلاد الإغريق واستخراج أنواع جيدة من النبيذ منها.٩ هذا ونجد اهتمامًا بأقلمة أنواع الأشجار الغربية وجعْلها تنمو في مصر، من ذلك أن «زينون» وجَّه لأحد رجال الكروم نصائح منقولة عن بحث في زراعة الكروم،١٠ ونجد في قائمة النباتات التي أمر بزرعها في ضياع «ليزيماكوس» الثري (ويحتمل أن يكون ابن الملك) وهي من أهم الوثائق التاريخية المثيرة، وتحتوي على شتلات تين بري من «كيوس» Chios وتين ليدي حلو وأحمر ورمان ثمرته بدون بذر وشجر مشمش يثمر مرتين وعنب طقوفه قاتمة اللون من «كليكيا» وغير ذلك من أنواع الفاكهة النادرة،١١ وهذا المجهود الذي بُذل لأقلمة أشجار ثمار جديدة في مصر لتدرَّ الأموال الكثيرة لزيادة دخل بطليموس الثاني كان عملًا قام به الإغريق في مصر لصالحهم هم، وقد جُلبت هذه الأشجار من مقدونيا وتراقيا وجزر بحر إيجه، وكانت كلها أنواعًا مثمرة طعمها لذيذ وألوانها مختلفة، ولا نزاع في أن بطليموس قد شجع هذه المشروعات الزراعية، بل ويجوز أنه هو الذي أمر بها، وذلك لأن النبيذ الإغريقي كان مُحببًا بدرجة عظيمة لأهل الإسكندرية، وكان يباع بأثمان أغلى من أثمان النبيذ الوطني الذي كان أقل جودة، وكان الأخير هو المحصول القديم الذي يُستخرج من الكروم التي كانت منذ أقدم العهود ويُزرَع في جهات مختلفة في أنحاء القطر المصري، ونخص بالذكر منها «بوتو» و«بلوز» و«مريوط» والوجه القبلي والوجه البحري عامة، وقد تناولت موضوع النبيذ وأنواعه وألوانه في غير هذا المكان.١٢
وقد كان يسبق جمع الضرائب مراقبة شديدة على عصير العنب، ولا غرابة في ذلك لأن «بطليموس الثاني» كان له ضريبة على محصول الكروم تقدر بنحو ٪ وذلك على قاعدة متوسط ثلاث سنوات، كما كان له عوائد بنفس النسبة على أنوع النبيذ الأجنبي، ولكن مما تجب ملاحظته في هذا الموضوع هنا أن النبيذ بخلاف القمح كانت تؤخذ ضريبته بنسبة معينة من المحصول أي إن الحكومة كانت تشارك أصحاب الكروم وهم إغريق في الخسارة في حين أنها لم تشارك زُرَّاع القمح في خسارتهم؛ إذ كان عليهم أن يدفعوا مقدارًا مُعَيَّنًا من القمح عن كل أرورا من الأرض سواء أكان المحصول جيدًا أم رديئًا، وهذا مثال صارخ في تفضيل الأجانب على المصريين.

(١) موارد الضرائب التي يُشَدِّد عليها الاحتكار

(١-١) احتكار الزيت

من أهم السلع الضرورية للحياة في مصر الزيت بأنواعه، وقد أحدث بطليموس الثاني أعظم تجديد عُرف من الوجهة الاقتصادية في هذه المادة، وذلك بإدخال نظام الاحتكار في الاتجار به، ولا نزاع في أن بلطيموس قد اقتبس فكرة الاحتكار هذه عن نظام الاحتكار الذي كان سائدًا في المعابد المصرية وعند ملوك مصر القديمة، ومن المحتمل أنه قد نقلها عن ممالك أخرى مجاورة له، ولكن الأمر الذي يلفت النظر في نظام الاحتكار الذي اتبعه بطليموس الثاني هو أنه قد بالغ في تنفيذه إلى حد لم يُعرف من قبل.١٣
وقد أصدر «بطليموس الثاني» مجموعة قوانين للدخل في السنة السابعة والعشرين من حكمه أي عام ٢٥٧ق.م، والظاهر أن هذه الوثيقة عبارة عن مجهود لوضع تشريع للقواعد التي تنظِّم أجزاء اقتصاد الدولة ودخلْها الذي كان يجمعه مؤجرو الضرائب، ويُلحظ أن بعض الضرائب التي تناولها القانون الجديد كانت تُجبى قبل صدور هذا التشريع، ويُلحظ كذلك أنه بالنسبة لبعض الضرائب نجد نظام بيع الضرائب قد أُدخل أولًا في القانون الجديد، وقد نشر مخطوط القانون بأمر من بطليموس الثاني وقام بنشره الوزير «أبوللونيوس»، وقد ألفه موظفوه، والملحوظات التي وُجدت في نسخة القانون وهي التي حفظت لنا الأنظمة واللوائح كتبها الرجل الذي أرسل إلى الإسكندرية بنسخ القانون الخاص بموظفي الفيوم، وهو الذي نسخ الصورة التي كانت في مكتب الوزير «أبوللونيوس»،١٤ وكان من أهم المواد التي جاء ذكرها في هذا القانون وصف استيلاء الملك على محصول المواد التي كان يُستخرج منها الزيت، كما كان يسيطر على معامل الزيت وتجارته في داخل البلاد وخارجها، هذا وكانت أنواع الاحتكار الأخرى للسلع والمواد المنوعة تسير على نفس النظام الذي اتبعه في احتكار الزيت وسنتحدث أولًا عن احتكار الزيت؛ لأنه كان يعد مصدر دخل عظيم لبطليموس الثاني، وكان أعظم شيء اهتم به بطليموس الثاني بطبيعة الحال في هذا الصدد هو زراعة النباتات الدهنية التي يُستخرج منها الزيت، فكان أول عمل يقوم به عمال بطليموس هو حصر الأراضي التي خُصِّصت في كل مقاطعة لزراعة السمسم ونبات حَب الملوك (كرتون)، هذا ولم يذكر حصر الأراضي التي كانت تزرع زيتونًا لأنه كان خارجًا عن حدود الاحتكار، وكان يُعرف في مصر القديمة، غير أنه لم يكن يُزرع على نطاق كبير،١٥ وكان من محصول هذه المواد يورَّد على الفور إلى مُحصِّل الاحتكار.
وإليك مثالًا يضع أمامك صورة الزراعة؛ ففي المقاطعة الساوية بما فيها مدينة نقراش المستقلة كانت المساحة التي تزرع سمسمًا تبلغ عشرة آلاف أرارا وزراعة حب الملوك أرورا وكان يزرع لتموين الإسكندرية وحدها حوالي أرورا،١٦ وكان الملتزم بمنتجات هذه المساحات في المقاطعة الساوية لا يُحصِّل أية ضريبة، وخلافًا لذلك كانت تستولي الإسكندرية على ثلاثة آلاف إردب من السمسم لاستهلاكه الخاص، وهاك حالة مقاطعة أخرى لا تنتج من هذه المادة بقدر ما تستهلك، ففي مقاطعة وادي النطرون كانت مساحة الأرض التي تُزرع سمسمًا هي ثلاثمائة أرورا، وعلى ذلك كان يُورَّد إليها من مقاطعات أخرى أربعة آلاف إردب من حب الملوك، وكان يجب معالجتها بمعرفة مؤسسة التأمين.

هذا وكانت الضريبة المفروضة على «حب الملوك» يدفعها العميل الذي كان يؤجر ضرائب مقاطعة وادي النطرون، ومن ثم نرى أن إدارة الوزير كانت تنظم بين المقاطعات التبادل في المواد الأولية فتمد المدن والأقاليم الفقيرة بما تحتاج إليه، وذلك بأن تفرض على المقاطعات الخصبة مقادير معينة من الأراضي الصالحة لزراعة الحبوب، هذا ونجد خلافًا للمقاطعة الساوية أن المقاطعة اللوبية (بروبوزيت المقاطعة الرابعة من مقاطعات الوجه البحري) والمقاطعة السمنودية وإقليم طيبة كلها كانت تُزرع نبات «حب الملوك» لتموين الإسكندرية، وكانت تمون «منف» مقاطعة الفيوم، في حين أن مقاطعة وادي النطرون وكذلك المقاطعات غير الصالحة لإنتاج هذا الصنف كانت تأخذ ما تحتاج إليه من جيرانها الغنية في زراعته، وعلى أية حال فإنه إذا كان هناك نظام يسيطر على توزيع مادة أولية في كل أنحاء البلاد فإنه لم تكن مصر بل كانت المقاطعة هي التي تؤلف الكيان الاقتصادي، وذلك لأنه لم تكن تجمع في كل مصر مخازن موحدة عامة لكل محاصيل البلاد، وذلك لأن الشيء المثالي في هذا الصدد كان على العكس هو أن كل مقاطعة كانت تعمل على أن تكفي نفسها بنفسها في حدود مواردها، وأن تستورد أو تصدر قليلًا بقدر المستطاع، وكانت الضمانات أو الالتزامات لتأجير الضرائب تُباع في كل مقاطعة، ولا نزاع في أنه لم يكن في مصر أصحاب رءوس أموال كبيرة من أولئك الذين كانت عندهم القدرة المالية لشراء إيجار كل الأراضي المصرية الخاصة بالاحتكار لصناعة الزيت، وإذا كان «بطليموس الثاني» قد أدار على الفور زرع أراضي هذا النوع من الاحتكار بدلًا من تأجيرها فإنه بذلك كان في مقدوره أن يكون في مصر وحدة اقتصادية ويحقق نظام المركزية التام، ولكن الاتِّجار من جانب الملك كان يكشف عن قصدين يرمي إليهما؛ أولهما: أنه يؤكد ضمانات للدخل. وثانيهما: ألا يربط نفسه برءوس أموال في استغلال الأرض. وهذا الحذر المزدوج — وقد كان بلا شك أمرًا ضروريًّا — يسيطر كما سنرى على طرق إدارة الجزء الأعظم من الدخل، وسنفسر هنا كيف كان يتفق استقلال المقاطعات مع وجود الحكومة المركزية.

ويتساءل المرء كيف يتسنى للملك أن يأخذ على عاتقه توريد كمية معلومة من المواد الأولية للملتزمين؟ ولا نزاع في أن الملك بأخذه على عاتقه هذه المسئولية كان ينتظر حدوث عجز، ولكن الجهاز الملكي كان كفيلًا في حالة وقوع عجز لسد هذا العجز بواردات تأتي إليه من مقاطعات أخرى، ولأجل أن يكون هذا الجهاز كفيلًا بتوريد الملتزمين محصولًا معينًا، فإنه من الواجب أن يكون لهم بعض الحق لأخذ هذه المحصولات من المزارعين، وهؤلاء فضلًا عن أنهم كانوا يخضعون لمراقبةٍ كان مفروضًا عليهم تأدية ما عليهم من التزامات، ومن الجائز أن هذا الأمر كان سهلًا ميسورًا إذا كانت كل مصر ضيعة الملك وحسب. ولكن الأمر لم يكن على هذا الزعم، وذلك أنه لو كانت الأملاك الملكية بالمعنى الحقيقي ممتدة جدًّا في الفيوم في خلال القرن الثالث ق.م فإنه مع ذلك كانت هناك أراضٍ قد نزل الملك عن حق استغلالها مثل الإقطاعات التي يملكها الجنود المرتزقة والضياع وأراضي المعبد، هذا بالإضافة إلى الأراضي الخاصة، وتدل شواهد الأحوال على أن موظفي الملك كانوا يشرفون على كل هذه الأراضي، ولكن إذا شاهدنا في الضياع كَتَبَة الملك يقومون بمسح الأراضي المزروعة سمسمًا، وكذلك إذا لاحظنا أن أحد الجنود المرتزقة من المستعمرين يشهد على عقد تم إبرامه مع حاكم البلد بأنه بذر إقطاعته التي تبلغ مساحتها ثمانين أرورا وأنه تسلم مقدمًا مبلغًا للصرف منه على زراعة الإقطاعة فإن ذلك لا يدلنا على أن زراعة الحبوب الدهنية أمر مفروض على هذه الأراضي، وأخيرًا نقرأ في إيجارات أراضي الجنود الإقطاعيين مادة نفهم منها أن المؤجر يسمح للمستأجر أن يبذر الأرض بالحب الذي يرغب فيه وأحيانًا يضيف بذر سمسم، وهذا الشرط الخاص بالسمسم يفسَّر بلا شك بأن مقدار الإيجار يجب أن يختلف باختلاف الزراع الذي ينبت في الأرض،١٧ وعلى ذلك لا يمكن أن نؤكد أن المستولين على الأرض التي نزل عنها الملك وهي الضياع والأراضي المقدسة كانوا مرغمين على زرع نباتات دهنية، ولكن هذا كان ضروريًّا، ومن جهة أخرى كانت الأراضي التي في حوزة الملك فعلًا تؤجَّر، ولكن لا نفهم بالضبط كيف كانت تفرض على المؤجرين الالتزام الذي كان ضروريًّا لتحقيق منهاج الإنتاج بصرف النظر عن قبول العقود التي أُبرمت بحرية، وتلافيًا لهذه الصعوبة كان هناك علاج للتغلب عليها وهو مسئولية الموظفين، وذلك أنه كان عليهم فرض قائمة المزروعات على المستأجرين، ولدينا وثائق عدة تُظهر لنا العناية التي كانت تقوم بها الإدارة لتحديد أرض قرية لم تكن قد زرعت ذلك بغرض زراعة أنواع ذُكرت في قائمة المزروعات.

هذا وقد ثبتت مسئولية الموظفين بصورة أوضح في قانون الإيرادات فنجد فيه أن حاكم المقاطعة وحاكم المركز ومعهما وكيل الخراج وسكرتيره والمراقب كانوا يُطلعون النائب على زراعة الأرض المستأجرة فإذا لم يجدوا بعد مساحة الأرض أن عدد الأرورات المحدد لهم يبذر فإنه كان على كل من حاكم المقاطعة وحاكم المركز والمحاسب والمراقب أن يدفع غرامة على غلطته للخزانة الملكية قدرها تالنتان، كما كان عليه أن يدفع لأصحاب الضمان غرامة مشروطة قيمتها، وكذلك كان هؤلاء الموظفون مسئولين عما يجب توريده لمؤجري الإقطاعات التي فيها نقص في التوريد، هذا وكانت البذور المحفوظة في مخازن الدولة تباع لموظف خاص بتوزيع البذور سواء أكان حاكم مقاطعة أم حاكم مركز، وكان يدفع ثمنها من النقود التي دفعها له السكرتير المالي، وكانت توزَّع بعد ذلك على الزُّرَّاع قبل ميعاد الحصاد بستين يومًا، وإذا كان موظف التوزيع لم يقم بواجبه لدرجة أن الزراع لم يبذروا المساحة المحددة على حسب القانون فإنه كان يلزم بأن يدفع للمؤجر الغرامة المقررة، ويكون له الحق في الرجوع على الزراع إذا كانوا قد عصوا أوامره، وعلى هذا الوضع كان ينظم بين الموظف والفلاح اختيار المزروعات، ويرجع الفضل في ذلك إلى نظام الإقراض على البذور التي كانت توزع قروضًا.

وكان الأفراد المُعْفَوْنَ من الضرائب وكذلك ملاك الأراضي والقرى بوصفها ضياعًا، وأولئك الذين كان لهم حق التمتع بالأرض بوصفها هبة كل هؤلاء جميعًا كان لهم الحق في استعمال البذور التي احتفظوا بها عندهم من المحصول السابق.

وعندما يقارب المحصول النضج يعلن الزراع رجال إدارة الملك سواء أكان حاكم المقاطعة أم حاكم المركز أم صرَّاف الخزينة، وهؤلاء كانوا يحضرون إلى الحقول مع مؤجر الأرض (الضامن)، ويأخذون في تقدير المحصول، وكان كل المزارعين وهم مزارعو أرض الملك وغيرهم يُقدِّرون المحصول ويكتبون محضرًا بذلك مع الملتزم ويختمونه، أما عن مزارعي الملك فكانوا يعلنون كتابة بعد حلف اليمين كمية الحبوب من كل نوع بذروه والقيمة التي يساويها، ثم يختمون هذا الإعلان الذي يضع عليه مندوب عن حاكم المقاطعة أو حاكم المركز ختمه، وبعد الانتهاء من ذلك كان يباع المحصول للملتزمين بأسعار على حسب التعريفة الموضوعة لذلك، وكان محرمًا على المزارعين بيع الحبوب الدهنية لأي شخص آخر خلاف الملتزم، وكانوا يدفعون عينًا ضريبة تساوي ربع ثمن البيع، ومما يجدر ذكره أن هذه الضريبة لم تكن تحصَّل على الثمار الدهنية التي كانت تورَّد للمقاطعات التي كان محصولها لا يكفيها.

وكانت الحبوب الموردة يستلمها عمال صراف الخزانة، وكانت تودع في مخازن خاصة، هذا وكان الصراف يراجع الحسابات والسلع، وكل عجز كان يقع على عاتق حاكم المركز والملتزمين.١٨
ومن بين الوثائق التي تثبت هذه التوريدات عدد كثير عليه في أوراق «زينون» أو في ملفات الجنود المرتزقين أصحاب الإقطاعات الصغيرة.١٩ وكانت الميزة الوحيدة التي يتمتع بها مُلَّاك الأرض التي نزل عنها الملك لتثميرها، وكذلك الأفراد المُعْفَون من الضرائب هي أنهم كانوا يحفظون عندهم الحبوب الضرورية للبذر المقبل،٢٠ أما عن دفع الضرائب فإن هؤلاء لم يكونوا يتمتعون بإعفاء حقيقي فيما يخص الضرائب التي كانت تجبى على الحبوب الزيتية، وذلك لأن الملتزم كان يدفع لهم تقريبًا ثلاثة أرباع الثمن الذي يدفعه للمزارعين الآخرين، وهكذا نرى أنه من وقت البذر إلى وقت الحصاد كان محصول الحبوب الزيتية مفروضًا على المزارع ومُراقَبًا، وكان كله يبتلعه رجال الملك الذين كان يشرف عليهم الملتزمون، والواقع أنه لم يكن هناك أي نوع من الأرض ولا أي طائفة من المزارعين تفلت من قبضة الملك، ولم يحذف من قائمة الاحتكارات فيما يخص المواد الدهنية إلا أشجار الزيتون لأنها لم تكن تُزرع كثيرًا في مصر لعدم صلاحية التربة والمناخ.

ولا نزاع في أن المراقبة الشديدة التي وصفناها فيما سبق لم يكن لها أي غرض إلا المحافظة على الاحتكار المطلق لصناعة الزيت والاتِّجار فيه؛ إذ كان المقصود من كل ذلك العمل على أن تصادَر الحبوب الدهنية التي أُخذت خلسة وألَّا تُستعمل خفية، وللوصول إلى ذلك كان يوضع تصدير الحبوب الدهنية تحت مراقبة يشرف عليها حاكم القرية فكانت الحبوب لا تخرج من القرية بأية كمية كانت من مادة أولية دون أن تكون قد سُلمت له من مكتب الملتزمين وعمال الملك بمستند عن كل ما ورَّده كل مزارع، وفي حالة وقوع جزاء فإن حاكم القرية كان يدفع غرامة قدرها ألف درخمة للخزانة الملكية كما كان عليه أن يدفع للملتزم خمسة أضعاف الخسارة التي تصيبه.

صناعة الزيت

وكانت آلات صنع الزيت مميزة بنقش تُعرف به، والظاهر أن هذا النقش يعد بمثابة تصريح يضعه الصراف وعامل مالية الملك على الآلة يشاركهما في ذلك المراقب، ومن المحتمل أن الملتزم كان يشاركهم في ذلك؛ لأن هؤلاء كما سنرى بعدُ هُمُ الذين كانوا يختمون الآلات التي تصنع الزيت وهذه المصانع كانت تورَّد على حساب الأفراد، غير أنه كان لا بد من طابع الملك عليها، ومن ثم نرى أن مراقبة الملك كانت قد أُدخلت في اقتصاد منظم، فكان الملك له حق ملكية الجهاز الصناعي في مصر دون أن يستولي عليه أو يدفع ثمنه.

هذا وكانت مطاردة المصانع التي تقام خلسة عنيفة شديدة، فكان محرَّمًا على الفرد أن يملك في بيته لأي سبب من الأسباب مهاريس أو أهوان … أو معاصر أو أية آلة تُستعمل لعصر الزيوت، ومن ثم كان يعاقَب صاحبها بدفع غرامة قدرها خمسة تالنتات للخزانة الملكية، كما كان عليه أن يدفع للمؤسسة (الملتزمين) خمسة أضعاف الخسارة التي كانت تتحملها، أما هؤلاء الذين كانوا يملكون آلات عصر زيت قبل صدور القانون فكان عليهم أن يُبَلِّغوا عنها في مدة عشرين يومًا لنائب المؤسسة والسكرتير المالي والمراقب، وعليهم أن يُطْلعوهم على المهاريس والمَعاصر التي في حوزتهم، وكان على الملتزمين ونوابهم والسكرتير المالي والمراقب أن ينقلوها إلى معاصر الزيت الملكية، على أن كل من كان يُضبط فجأة مستعملًا بأية صورة من الصور وهو يعصر السمسم أو حب الملوك (أو بذر الكتان) فإنه يقدَّم لمحاكمة خاصة من قِبَل الملك للملتزمين غرامة قدرها ثلاثة آلاف درخمة، وكذلك كان يصادر الزيت الذي استخرجه والمواد الأولية التي كانت توجد عنده، وكان على السكرتير المالي والمراقب أن يُحصِّلا منه الغرامة، وإذا كان المجرم عاجزًا فإنهما كان يدفعانها … أما الآلات التي كانت لا تُستعمل للعصر سواء أكان بسبب فصل العطلة أم بسبب عدم وجود مادة للعصر فإنها كانت تؤخذ من المعامل الملكية وتُنقَل إلى مستودعات حيث كانت تُحفظ مختومة حتى لا يمكن لأي فرد أن يستعملها خلسة.٢١
وكان رجال الشرطة في أراضي الضياع يقومون بتأدية واجباتهم بإشراف صاحب الضيعة، ومن ثم كانت مراقبة عمال الملك تُنفَّذ فيها بصعوبة، وعلى ذلك لم يكن من المستطاع إقامة معاصر زيت فيها، أما أولئك الذين كانوا يصنعون الزيت في المعابد فكان عليهم أن يعلنوا الملتزم ومندوب السكرتير المالي والمراقب بعدد المعامل التي في المعبد وكذلك بعدد المهارس والمعاصر في كل معمل، كما كان عليهم أن يقدموا معاصرهم للتفتيش عليها وأن يختموا المهارس والمعاصر … وإذا حدث تقصير في تنفيذ ذلك كان على موظفي المعبد أن يدفعوا — كل رئيس على حسب مسئوليته — ثلاثة تالنتات للخزانة الملكية ويدفع للملتزمين خمسة أضعاف الخسارة التي تحملوها، وكان عندما يريد المعبد صناعة زيت سمسم فإن القائمين بذلك كانوا يجتمعون بنائب الملتزم والسكرتير المالي والمراقب المالي وفي حضرتهم يُصنع الزيت، هذا وكان المعبد يصنع ما يحتاج إليه لاستعماله خلال السنة في مدة شهرين، أما ما كان يحتاج إليه المعبد من زيت الخرْوع فكان يورِّده لهم الملتزمون بالسعر المعيَّن الجاري ومن كل ذلك نفهم أنه لم يفلت مصنع واحد من مراقبة عمال الملك، وكان الضرب على أيدي الغاشِّين شديدًا، وذلك لأن الملك كان يقيم نفسه من أجل ذلك قاضيا خارقًا حد المألوف.٢٢
فقد كانت الغرامة هائلة، ولما لم يكن يستطيع دفعها إلا القليل من الناس كان العقاب البدني جزاء كل غاشٍّ لم يدفع الغرامة، والواقع أن مثل هذه القسوة في المعاملات توضح لنا صعوبة احترام الناس قانونًا ما صار بهذه الصورة. والواقع أن الاقتصاد الملكي كان مضِرًّا هنا ضررًا كبيرًا بمصالح عديدة، وقد أوشك أن يجد معارضين له، أما أصحاب الحِرَف الذين كانوا يرغبون في أن يدبروا لأنفسهم مصانع خلسة فلم يكن لدى الملك أي وسيلة لردعهم، أما الكهنة فكانوا يحترمون التقاليد المصرية القديمة، وذلك لأن المعابد كانت تعد مراكز اقتصادية مزهرة، فكانت تُبقي على مَعَاصِرِهم، ولكن صناعاتها كانت مراقَبة رقابة شديدة من قِبَل الملك.٢٣

ومما يلفت النظر أن الملك كان يعامل الإغريق الذين من طبقة رفيعة، وبخاصة الذين يساعدونه في تنفيذ مشروعاته وأصحاب الضياع معاملة أخرى، وذلك أنه كان قد وضع اتفاقًا بينه وبينهم، فإذا كانت مراقبة الملك تقف عند حدود أراضيهم فإنهم مع ذلك كانوا لا يصنعون فيها زيتًا، غير أن هذا الإجراء الأخير قد عُدل بعد زمن قصير جدًّا، ومهما يكن من أمر فإنه حتى لو كان نفس النظام المتَّبع في المعابد قد أصبح يشبه الذي في الضياع من حيث الإعفاء، فإن الملك كان لا يعطي المستفيدين من الإغريق بمقدار ما كان يعطي الكهنة؛ إذ في الواقع كان يهبهم امتيازات ضيئلة لا تؤثر بشيء في مراقبة الملك المطلقة.

ومما لا نزاع فيه أن كل المصانع والآلات التي تصنع الزيت كانت ملك الآلهة في المعابد، وكان استيلاء الملك عليها يعتبر مراقبة، أما المصانع الأخرى فكانت طوال مدة قيامها بصنع الزيت تحت مراقبة السكرتير المالي والمراقب والملتزم وكانت سلطتهم في ذلك تحفظية، والواقع أن هؤلاء العمال لم يكونوا بعيدين عن هذه المصانع، ولم تكن حقوق الملتزم إلا لمدة سنتين، وليس له من الحقوق على المصانع إلا حق الاستعمال، والآن يتساءل المرء هل كان للملك حق الملكية على هذه المعاصر الملكية حيث كانت تنقل الآلات التي كان يملكها الأفراد أو كان يؤجرها منهم فقط كان يؤجرها منهم فقط فيسخرها لنفسه؟ والواقع أنه لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بموازنة ذلك بمصانع النسيج التي ظلت ملك النساجين، غير أن هذه كانت طريقة غير مؤكدة تمامًا، وعلى ذلك يجب علينا منذ الآن أن نرفض فهم أساس قانون للحق الذي كان يستعمله الملك في صناعة الزيت وهو حق المراقبة أو حق الملكية.

وكانت معامل الزيت مُموَّنة بالمادة الأولية بوساطة الجهاز الملكي فكان الصراف يتسلم الحبوب الدهنية التي كان المزارعون مُجبرين على بيعها له فكان يجمعها في مستودعات يقوم هو بحراستها،٢٤ وبعد ذلك كان على كل من السكرتير المالي والمراقب أن يمد كل معمل بالسمسم وحب الملوك وبذر الكتان اللازمة، وإذا حدث أنهما لم ينظما المصانع كما هو المطلوب أو إذا لم يمداها بالمواد الأولية بكمية كافية وبذلك يسببان ضررًا للملتزم فإنه كان عليهما أن يدفعا الخسارة التي تنجم من ذلك، وكان الوزير يحاكم السكرتير المالي الذي ارتكب الخطأ، وهذا الأخير يكون عرضة لدفع غرامة درخمتان وضِعْفا الضرر الذي نجم عن ذلك.
وكان من المهم ألا تعطَّل المَعاصر بسبب عدم وجود مادة أولية لتشغيلها، كما أنه كان من الواجب تجنب تقديم مواد تزيد من قدرة إنتاج المصانع، وذلك لأجل ألا يقع الفائض في أيدي المختلسين كما جاء ذلك في بردية يوصي فيها النص بألا يورَّد للعمال مادة أولية لا يمكن عصرها في المهارس التي توجد في المعامل،٢٥ ولا نزاع في أن ذكْر وجود هذين الإجراءين في قانون الدخل وفي ورقة تبتنيس يظهر لنا مقدار الدقة التي يدار بها الاقتصاد في مصر، وهذا الإجراء المزدوج كان متبعًا في الآلات التي كانت تُستعمل في المعامل، وذلك أن المحصول كان في الواقع متقلبًا كل سنة، فكان لا بد من مهارس كافية للمادة التي كانت تُعصر كل سنة، وقد نصح الوزير السكرتير المالي بما يأتي: «اعمل بطريقة بحيث إنه إذا كان ممكنًا أن تكون كل المعاصر في حركة أو على الأقل أكبر عدد منها، أما العاطلة منها فراقبها تمامًا، وَضَعْ عليها أختامًا، واجمع كل الآلات الزائدة والتي لا تعمل، ويجب أن تكون مختومة ومحفوظة في مستودعات.»

ننتقل الآن إلى نظام العمال؛ كان على السكرتير المالي والمراقب والملتزم ألا يسمحوا للعمال المعينين للعمل في كل مقاطعة بأن ينتقلوا من مقاطعة إلى مقاطعة أخرى، وذلك لمصلحة الملتزم والسكرتير المالي والمراقب، وكان محظورًا على أي فرد أن يجمع عمالًا، وكل شخص يجمع عمالًا عن قصد أو يمتنع عن تسليمهم متحديًا أمرًا صدر بذلك، فإنه كان يدفع غرامة قدرها ثلاثة آلاف درخمة عن كل عامل، كما أنه يصبح عرضة للقبض عليه وسيكون للملتزمين والكاتب الذي ينوب عن السكرتير المالي والمراقب حق التسلط على كل عمال مصانع الزيت في المقاطعة، وكذلك على المصانع نفسها مع كل معداتها ويختمون الآلات في خلال فصل العطلة.

وكانت صناعة الزيت يشرف عليها السكرتير المالي وكان هو ومعه المراقب والملتزم يجبرون العمل على القيام بعملهم اليومي كما كان يساعدهم في عملهم. وهذا الواجب كان محددًا كما كان مرتبهم يحسب بالإردب من القمح، وخلافًا لذلك كان السكرتير المالي أو نائبه يعطي العمال درخمتين وثلاثة أوبولات عن كل متريت سعته اثنا عشر خوس Ghoes منها درخمة وأربعة أوبولات لعُمال مصنع الزيت وكذلك للطحانين، وخمسة أوبولات للملتزمين، وإذا لم ينفذ ذلك فإنه يدفع للخزانة ثلاثة آلاف درخمة وللعمال أجورهم وللمؤسسة ضِعْفَي الخسارة التي نجمت عن ذلك، وكان من المحرم على السكرتير المالي وعلى الملتزم لأي سبب أن يبرما اتفاقًا مع العمال يخص إنتاج الزيت وكان عليهما ألا يتركا في المصانع الآلات التي ليست مختومة أثناء فصل العطلة، وإذا حدث ذلك كان عليهما أن يدفعا غرامة قدرها تالنتا واحد لخزانة الملك، وكذلك غرامة للمؤسسة، وهذه المراقبة الشديدة قد عرفتنا ورقة «تبتنيس» بأنها من الواجبات الجبارة التي يقوم بأعبائها السكرتير المالي، وقد أكد تأثيرها بما جاء من زيادة في دخل الخزانة، أما نظام العمل فيُستنبط من أمرين وهما توريد عمال للملتزمين دون ارتكاب خطأ ومنع عمل الزيت خلسة.

وارتباط العمال بالمقاطعة يجيبنا عن الأمر الأول، فهل في الاستطاعة توحيده بمؤسسة معروفة؟

وقد اتجه التفكير إلى نوع العمال المستديمين؛ أي الذين كانوا مرتبطين بالأرض التي يعملون فيها، ولكن نظام العمال المستديمين نظام متغير وغاية في التعقيد إلى درجة أن مثل هذه المقارنة لا تؤدي إلى أية نتيجة دقيقة، والواقع أننا لا نعلم إذا كانت حالة عامل مصنع الزيت من الحالات الدائمة أو الوراثية، كما لا نعلم إلى أي حد كان الفرد مضطرًّا لمزاولة هذه المهنة، وكذلك لا ينبغي أن نفكر في أنها كانت سخرة، وذلك لأن المهنة كانت تتطلب كفايات خاصة.

والواقع أن نُظُم «قوانين الدخل» التي وضعها «بطليموس الثاني» تحترم الاتفاقات ولكي يبقى في مكانه توجد عقود عدة خاصة بالأعمال الحرة المتفق عليها.٢٦

والواقع أنه كان يوجد في العقد شرط جزائي يُطَبَّق ينص على كل من تخلف عن العمل الذي اتفق على مزاولته.

تجارة الزيت

وبعد الانتهاء من عصر الزيت كان لا بد أن يصرَف، وفي هذا الصدد تقول قوانين الدخل: كان على السكرتير المالي والمراقب أن يقوما بعمل قائمة بأسماء التجار المحليين وتجار التجزئة، وكان الفرد الذي يستمد منه السكرتير المالي والمراقب سلطانه يقوم بعمل قائمة بالتجار المحليين وتجار التجزئة وباتفاق مع وكلاء المؤسسة يعيَّن نوع زيت السمسم والخرْوع الذي يجب تسلمه للبيع اليومي، وفي الإسكندرية كانوا يبرمون اتفاقًا مع كبار التجار، يضاف إلى ذلك أنهم كانوا ينصون في عقد كل اتفاق من هذه الاتفاقات على تجار الأقاليم الذين يتعاملون كل شهر مع تجار الإسكندرية، وكانت الكمية التي تخصَّص لكل فرد تجهَّز قبل تسلمها بعشرة أيام، وكانت النتيجة تُدَوَّن وتُعلن في خلال عشرة الأيام هذه في عاصمة المقاطعة، وكذلك في القرية، كما كانوا يحررونها في عقد.

وكانت كمية زيت السمسم وزيت الخروع التي اتُّفِقَ على بيعها للتجار المحليين وتجار التجزئة في كل قرية يوردها لهم السكرتير المالي والمراقب قبل بداية الشهر، وكانوا يقدمون لهم الزيت كل خمسة أيام ويُحَصِّلون الثمن إذا كان ممكنًا في نفس اليوم، وإذا لم يمكن في ظرف خمسة أيام، وكانوا يدفعون هذا الثمن في المصرف الملكي، وكانوا يخصمون مصاريف النقل من حساب المؤسسة Farm وكان حق بيع الزيت يعطى للملتزمين أي أصحاب الضمان، وقد يتفق أحيانًا على أن يكون الشخص الواحد تاجرًا ومستأجرًا للاحتكار.٢٧
ولم يكن الثمن الذي يشتري به تاجر التجزئة الزيت هو الذي يكون موضوع الفصل، بل هذا الثمن كان يقرره الملك، ولدينا متون من عهد «أيرجيتيس» يظهر منها التسعيرة التي عُمل بها في سنة معينة، وهو اثنتان وأربعون درخمة عن كل متريت.٢٨
وتحتوي قوانين الدخل على التعريفة التالية: كان يباع في الدلتا زيت السمسم وزيت الخرْوع بسعر ٤٨ درخمة تُدفع بالعملة النحاسية عن كل متريت مكون من اثني عشر كوسًا Choes٢٩ من زيت الخروع، وكذلك كان يباع زيت الحنظل وزيت الاستصباح (أي زيت الكتان) بسعر ثلاثين درخمة، وكان يباع كل ربع لتر Cotyle بؤبلين، غير أن الأسعار تغيرت فجأة؛ فقد بِيع الزيت الذي من صنف رديء بنفس السعر الذي كان يباع به زيت السمسم وزيت الخروع، وقد اتُّخِذت مثل هذه الإجراءات في تجارة الزيت في الإسكندرية.

هذا وتكشف لنا العوامل التي رفعت سعر الزيوت الرديئة النوع خمسين في المائة على مقدار سيطرة الملك على هذه التجارة؛ فقد كان هو في الواقع المنتج الوحيد والصانع الوحيد والبائع الوحيد لها وكان هو المسيطر على كل العناصر الخاصة بهذه التجارة ما عدَا القوة الشرائية لزبائنه، فقد كانت خارجة عن إرادته وكان الملتزم هو المعرَّض للتأثر بهذا العامل.

والواقع أن ثمن الزيت الذي فُرض بهذه الصورة المرتفعة كان يفوق كثيرًا جدًّا الثمن الذي كان متداولًا في العالم الإغريقي، وتدل وثائق «ديلوس» في العصر الذي نُشرت فيه «قوانين الإيرادات» على أثمان تترواح ما بين ١٧ و٢١ درخمة أتيكي عن كل متريت، ومن ذلك نفهم أن سعر الزيت في مصر كان أعلى بكثير عنه في غيرها، ومن ثم كان لا بد من حماية الأسعار من المنافسة الأجنبية، وكذلك أصدر بطليموس الثاني منشورًا بألا يُسمَح لأي سبب من الأسباب توريد زيت من الإسكندرية إلا إذا كان للمخازن الملكية، وكل من يستورد كمية زيت من الإسكندرية أكثر مما يلزم لاستعمال مدة ثلاثة أيام يُستولَى على بضائعهم ويدفعون فضلًا عن ذلك غرامة قدرها مائة درخمة عن كل متريت، وكذلك كان محرمًا استيراد زيوت لمصر بقصد البيع من الإسكندرية و«بلوز» أو من أي مكان، وكل من فعل ذلك كان يعاقب بغرامات مماثلة، أما الزيت الذي كان للاستعمال الشخصي وهو المجلوب من الإسكندرية إلى مصر فكان لا بد من إعلانه في الإسكندرية، وكان يُدفع عنه ضريبة على حساب اثنتي عشرة درخمة عن كل «متريت»، ولا بد من أخذ إيصال يدل على دفع الضريبة، وكان نفس هذا الإجراء يُتخذ لواردات الزيت التي لم يكن الغرض منها التجارة في «بلوز» وكان العمال يُجْبُون هذه الضريبة في الإسكندرية وفي «بلوز» يدفعونها لحساب المقاطعات التي تورد إليها السلفة، أما أولئك الذين كانوا يستوردون الزيت من الخارج لاستعمالهم الشخصي ولا يدفعون ضرائب فكان يُستولى على زيتهم وتُفرض عليهم غرامة قدرها مائة درخمة عن كل متريت، أما الواردات التي صُرِّح باستصدارها من «بلوز» إلى الإسكندرية من الزيت الأجنبي أو السوري فكان لا يُدفع عليها ضريبة، ولكن كان يتسلم عنها إعلامًا من محصِّل «بلوز» ومن السكرتير المالي كما وضح بالقانون.

والواقع أنه لما كان محرَّمًا تصدير حبوب دهنية إلا إذا كان ذلك بتصريح، فإنه كان كذلك محرمًا تصدير زيت إلا إذا كان معه ورقة تدل على أن صاحب السلعة قد دفع للجابي كل ما عليه من ضرائب، ولسوء الحظ وجدنا متون تسوية واردات الزيت الذي كان يذهب إلى مستودعات الملك قد فُقدت، على أنه يمكن فهم هذه العملية من متنين من المتون التي عُثر عليها في أوراق «زينون»،٣٠ والمتن الأول من هذه المتون مؤرخ (مايو-يونيو عام ٢٥٩ق.م) ونجد فيه تقدير السلع المختلفة الواردة من «سوريا» ومن «بلوز» إلى «أبوللونيوس» فنجد في التعداد العجيب الذي جاء فيه ذكر النبيذ والشهد والسمك المحفوظ واللحوم المحفوظة والجبن والإسفنج، أن الزيت الأبيض قد ذُكر، وكانت الضريبة المفروضة عليه خمسين في المائة من ثمنه، فإذا كانت هذه السلع مصيرها الاستعمال الشخصي للوزير «أبوللونيوس» فإن ضريبة الخمسين في المائة التي فُرضت على الزيت تقابل في الضريبة اثنتي عشرة درخمة عن كل متريت وهي التي نجدها مفروضة في «قوانين الدخل»، ولكن يُحتمل كذلك أن هذا الزيت كان مصيره إلى المخازن الملكية: وهذه هي الحالة التي نجدها مذكورة في البردية رقم ٥٩٠١٥ من أوراق «زينون» ويرجَّح أنها مؤرخة بعام ٢٥٩ أو ٢٥٨ق.م، وهذه الوثيقة تحتوي على شحنة زيت ثمن المتريت فيها قُدِّر باثنتين وخمسين درخمة، وقد وصلت السفينة إلى الإسكندرية غير أنه لم يُذكر من أين أتت، وكتب لنا «زينون» في ملاحظة على هامش البردية قرر فيها قيمة العملية التجارية فقال: «قيمة ما نزل عنه لمستودع الملك بسعر ٤٦ درخمة عن كل متريت هو تسعة تالنتات و٣٦٥١ درخمة وأبول.» ويخصم من هذا المبلغ عوائد جمرك ٥٠٪ وكذلك ضريبة صغيرة مصاريف نقل، ومن ثم نرى أن الملك يشتري بسعر ٤٦ درخمة المتريت الواحد من الزيت ويجبي عليه ضرائب قدرها ٢٨ درخمة ويكسب ست درخمات ببيعه بمبلغ ٥٢ درخمة، وعلى ذلك يكون دخله ٣٤ درخمة عن كل متريت، وكان المستورد يجب أن يشتري الزيت بسعر أقل خمس عشرة أو أربع عشرة درخمة ليكون له مكسب بسيط، هذا وقد رأينا أن ذلك كان ممكنًا، وعلى أية حال فإنه من المحتمل أن الزيت المستورد هنا كان مجلوبًا من إحدى ضياع «أبوللونيوس» في آسيا الصغرى، وبخاصة بتانات Betanat.٣١
والواقع أننا نرى أنه في عام ٢٥٧ق.م كان يستورد الزيت من عنده ويرجو «زينون» في أن يذهب لتسلم الشحنة من الميناء لتخزينها، ومن الممكن أن الاستيراد في هذه الأحوال يكون مربحًا، وعلى ذلك نرى أن عددًا كبيرًا من نواجيد الزيت قد عُدِّد في قائمة بضائع مخزونة في المستودعات التي كان يملكها الوزير التاجر،٣٢ وكان زيت سوريا المستورد للملك يوضع في مخازن مختومة بعناية على يد وكلاء أُرسلوا من قِبَل الملتزمين في «بلوز» وفي «الإسكندرية» وكانوا هم الذين يتولون عملية البيع.

والواقع أن الملك كان يجني أرباحًا طائلة من تجارة الزيت المصنوع في داخل البلاد لبيعه للسكان كما كان يربح كثيرًا من الزيت المستورد من الخارج لبيعه في الإسكندرية للسكان الإغريق، وعلى ذلك نجد أن مصر من حيث تجارة الزيت كانت مفصولة تمامًا عن العالم، وذلك لأن الاحتكار الملكي لهذه السلعة قد أدى إلى اقتصاد مغلق لا يتأثر بتقلبات الأسواق الخارجية.

ولكن في داخل البلاد كانت هذه التجارة محمية من نزول الأسعار بالنسبة للملك، غير أنه من جهة أخرى لا بد له من تفادي صعود الأسعار كذلك؛ لأن ذلك كان فيه خطر تقييد الطلبات، ومن ثم ينقص دخل الملك، وذلك لأن التجار الذي حصلوا على حقوق بيع الزيت بالتجزئة في المدن والقرى كانوا متحررين من كل منافسة بعد أن أعلن أنهم أصحاب الحق في هذه التجارة، وعلى ذلك كان هناك خوف في أن يبيعوا خلسة بأسعار عالية (السوق السوادء) بالتجزئة، وفي هذه الحالة كان الملك يتدخل، ولا أدل على ذلك من توصية عامة أرسلها الوزير للصراف وهي توضح اهتمام الملك وآراءه في هذا الصدد: وهي: «لا تدع السلع تباع بأثمان تفوق الأثمان التي فرضها المنشور.»٣٣

وقد كان من الضروري كذلك ألا يغش التجار الزيت الذي ورد لهم، لأجل أن يحصلوا على ربح أكبر، وهذه العملية كانت تؤدي إلى نقص فيما يبيعه الملك، هذا وكان الملك يراقب شحم الحيوان، فكان على الجزارين أن يبيعوه يوميًّا أمام الملتزم وكان محظورًا عليهم بيع الدهن غير المتبَّل لأي فرد لأي سبب كان، وكذلك كان عليهم ألا يتخذوا مُؤَنًا، وكل فرد يخالف ذلك كان عليه أن يدفع غرامة للملتزم قدرها خمسون درخمة.

هذا وكان للمعابد حق صناعة الزيت الضروري لاستهلاكهم إلا زيت الخرْوع فكان الملك يمدهم به، والمقصود من ذلك هنا هو الابتعاد عن بيع الزيت المصنوع في المعابد بقصد التجارة، ولذلك فإن كل من يتَّجر في زيت صنع في المعبد كان يُستولى على الزيت الذي يباع ويُغرَّم مالكه بمبلغ مائة درخمة عن كل متريت٣٤ هذا وكان الملك يمد المعابد التي يريد محاباتها بزيت الخروع بثمن مخفض.٣٥

الضرائب على الزيت

هذا وكان الملك فضلًا عن الاحتكار المطلق لمادة الزيت يجبي ضرائب على هذه السلعة، وقد ذكرنا من قبل الضرائب التي كانت تحصَّل من المزارعين على المواد الغفل التي يُصنع منها الزيت وعلى الزيوت التي كانت تُستورد، والظاهر أنه كانت توجد ضريبة أخرى لم يُعرف كنهها بعد.

نتائج احتكار الزيت في الاقتصاد البطلمي

الواقع أن الفرق بين نفقات استخراج الزيت وثمن بيعه بالتجزئة كان عظيمًا وقد حددت «قوانين الدخل» السعر الذي يسترده الملك للزيت الذي لم يصرفه الملتزمون، وهذا يدلنا على وجه التقريب على ثمن النفقات، فكانت أثمان البيع المفروضة تفوق أثمان التكاليف بسبعين في المائة في زيت السمسم وثلاثمائة في المائة في زيت الحنظل (المستخرج من لب القرع)، على أن ذلك ليس هو المكسب الصافي الذي يبيع به الملك، وذلك لأن سلسلة من الملتزمين والبائعين للمؤسسة يضيفون مكسبهم في سلسلة عملياتهم التجارية، ذلك إلى أن السلعة كانت خاضعة لعدة ضرائب، والواقع أن دخل الاحتكار كان عظيمًا ومؤكدًا ومنتظمًا؛ لأنه كان مضمونًا بالمستأجرين ومحميًّا من الغش.

ولا نزاع في أن زيت السمسم الذي كان يعادل الزبد والسمن عندنا الآن قد اعتُبر من المحاصيل الغذائية التي لا غنى عنها،٣٦ وفي الحق أفلح البطالمة في المحافظة على ميزتهم التجارية الثمينة؛ إذ نفهم من بردية من القرن الثاني أن ثمن حبوب السمسم كانت تساوي سبعة أضعاف حبوب القمح، هذا مع العلم أن الزيت والقمح كانا يعدان العنصرين الدائمين اللذين وهبتهما الطبيعة أرض مصر،٣٧ أما الزيت الذي كان من نوع رديء فكان يستعمل للاستصباح، ولدينا حساب السجلات التي تركها لنا «زينون» في الفيوم يقدم لنا مقدار ما كان يصرف في البيت الواحد من بيوت «أبوللونيوس»، وكذلك كان يُستعمل في تحضير الأدوية والألوان اللازمة للرسم وفي العطور وفي المواد الصابونية وفي أماكن الرياضة.

ولا نزاع في أن اختيار مادة الزيت للاحتكار في الحضارة المصرية كان من الأعمال التي تدل على مهارة كبيرة جدًّا، وقد كان الملك في الواقع بما يملك من حقول شاسعة وبماله من حق المراقبة على كل أرض مصر يساعده في ذلك رجال إدارة عديدون لديهم إحصاءات هامة وجمهرة من الملتزمين وهم أصحاب رءوس الأموال، يحذقون كل عناصر التجارة على حسب القانون، لا يجد أية مقاومة لهذه التجارة الرابحة إلا المقاومة النفسية، غير أنها كانت عنيفة، وذلك لأنه كان أمامه صعوبة إجبار الفلاحين على زرع المحاصيل التي فرضها هو، يضاف إلى ذلك رغبة العمال في الحصول على حريتهم، وحِيَل المختلسين التي لا يكبح جماحها، وإهمال نواب الملك في أداء أعمالهم وامتيازات المعابد وأصحاب الضياع، كل هذه الأمور النفسية كان لا بد للملك من أن يعالجها، وتلك كانت العقبات التي تقف في سبيل الاحتكار الملكي.

وبعد هذا الاستعراض المطول عن احتكار الزيت يتساءل المرء من أين أتى هذا الاحتكار أهو مصري قديم أم إغريقي أتى به البطالمة من بلادهم أو من جهة أخرى؟ والواقع أن هذا الموضوع قد بحثه «أندريدس» في مقال خاص،٣٨ وقد قال هذا المؤلف: إن هذا الاحتكار قد أُخذ عن قدماء المصريين بداهة، ولما لم يكن في إمكانه إعطاء براهين قاطعة فإنه يميل إلى الظن أنه لأسباب نظرية قد أخذ البطالمة هذا النظام من احتكار الصناعة التي كانت تتمتع بها المعابد المصرية بالنسبة للمصانع، وقد وافقه على هذه الفكرة المؤرخ العظيم فلكن٣٩ الذي اقتبس رأي المؤرخ «روستوفتزو»،٤٠ في موضوع مصانع النسيج في المعابد قبل إقامة المعابد البطلمية، غير أنه حديثًا كتبت الباحثة «كليربريو» مقالا عن أصل الاحتكار في مصر،٤١ فتقول إن البحوث عن أصل الاقتصاد المصري في عهد البطالمة قد كشفت عن مصدر جديد أضاف الكثير، وذلك بما جاء في ورقة «فلبور» وقد عالج هذا الموضوع المؤرخ «هيخلهيم».٤٢

والواقع أنه قد كشف عن أوجه شبه بدهية وعديدة بين الإدارة الرعمسية وإدارة عهد البطالمة خاصة بتثمير الأرض بزرعها قمحًا على حسب تصميم ملكي، ويقول إنه لن يكون جدال في المستقبل عن وجود بعض مبادئ بارزة وتعبيرات بطلمية خاصة بالتصميمات الزراعية أُخذت عن تقليد فرعوني على الرغم من أنها قد تغيرت كثيرًا بالعقلية الإغريقية، وقد تناولتُ هذا الموضوع في كتابي مصر القديمة (الجزء الثامن) وبخاصة الأطيان ونظم زرعها وأنواعها وإيجارها إلخ، غير أن «بريو» تقول إن نظام الاحتكار الذي وضعه بطليموس الثاني على الزيوت في مصر البطلمية كان له نظير في العهد الهيلانستيكي عند السليوكيين في عهد «أنتيجونوس»، ولكنه كان احتكارًا للقمح، وتظن أن بطليموس الثاني قد نقل هذا الاحتكار إلى بلاده، ولكن في الزيت بدلًا من القمح، وذلك لأن القمح المصري في العهد الهيلانستيكي كان يصدَّر إلى بلاد كثيرة في عالم البحر الأبيض، وعلى أية حال لا يمكن الجزم بالرأي القائل إن بطليموس قد قلد «أنتيجونوس» عندما احتكر القمح في بعض أجزاء آسيا الصغرى فأخذ عنه ذلك وطبَّقه على الزيت وبعض موادَّ أخرى.

(١-٢) احتكار ورق البردي

وتدل شواهد الأحوال على أن بطليموس الثاني لم يكتفِ باحتكار الزيوت في مصر بل تعدى ذلك إلى بعض مواد أخرى ولكن بطريقة مخففة، ونخص بالذكر منها الورق.

والورق مادة من اختراع قدماء المصريين، وقد بدأت صناعته في مصر منذ عهد الدولة القديمة، وقد كان ذلك أمرًا طبيعيًّا لأن الكتابة قد اختُرعت أولًا كما هو الرأي السائد في مصر منذ ظهور الملكية المتحدة، والورق مادة مستخرجة من نبات البردي الذي كان ينمو في مصر بدرجة كبيرة، وبخاصة في مستنقعات الدلتا وغيرها من جهات القطر، وقد تحدثنا عن نبات البردي وصناعة الورق منه في الجزء الثاني من هذه الموسوعة.٤٣

وتدل شواهد الأحوال على أن الورق الذي كان يُصنع في عهد البطالمة ويصدَّر للخارج من السلع التي كانت تُجلب إلى مصر من الخارج ما كان ينقصها من نقد أجنبي ومعادن مفيدة وخشب.

وعلى الرغم من الرأي السائد القائل إن بطليموس الثاني كان يحتكر تجارة الورق فإنه ليس لدينا وثيقة واحدة تشير إلى أن الملك كان يسيطر على زراعة نبات السقى (البردي)، بل الظاهر أن زراعته كانت خاضعة للقواعد العامة التي كانت تسير على حسبها الزراعة بعامة، ومن المحتمل أن الملك كان يراقب زراعة البردي من الوجهة المالية كالمراقبة التي كان يفرضها على زراعة الكروم والأشجار.

والظاهر أن صناعة البردي كانت تُحَتِّم أن يكون صنعه بالقرب من الأماكن التي يزرع فيها، وذلك لأن الجزء الذي كان يُصنع ورقًا من البردي هو سيقانه، وكان يجب أن تكون هذه السيقات غضة طرية ليمكن صنعها، ومن أجل ذلك كان لا بد أن تكون مصانعه قريبة جدًّا من مزارع البردي حتى لا يحتاج إلى نقل هذه السيقان إلى أماكن بعيدة فتجف، ومن ثم لا تصبح صالحة لصنع الورق، وعلى ذلك فإن هذا لا يمنع وجود مصانع ملكية كبيرة، وعلى أية حال فإنه وإن لم يكن يوجد احتكار ملكي لبيع الورق فإنه كان هناك مراقبة مالية على صناعته وبخاصة أن مصانعه على ما يظهر كانت متفرقة في أنحاء البلاد.

هذا وليس لدينا وثائق عن سلسلة العمليات الخاصة بالبردي إلا وثيقة واحدة وهي الخاصة ببيعه، وما جاء فيها غامض بعض الشيء، وهذه الوثيقة ليست من عهد بطليموس الثاني، ونفهم من محتوياتها وجود تجارة ملكية في الورق،٤٤ ويُستخلص من مضمون هذه الوثيقة أن الملك كان يحتكر تجارة الورق الملكي، وكان يحدد في الوقت نفسه تجارة أنواع الورق الأخرى ويفرض عليها الضرائب ويراقبها كما كان يفعل في صناعة الكتان والمنسوجات الأخرى، هذا وتدل الوثائق على أن المعابد كانت تصنع ما يلزم لها من الورق في مصانعها الخاصة قبل عهد البطالمة، وإذا كان بطليموس الثاني قد أسس احتكارًا شديدًا بعض الشيء للورق فإنه لا بد كان قد ترك للمعابد بعض الامتياز في صناعة الورق، غير أن هذا الرأي لا يخرج عن أنه مجرد نظرية مقبولة، والواقع أن كل الوثائق التي اعتمد عليها المؤرخون في احتكار الورق في عهد البطالمة مأخوذة من العهد الروماني في مصر، ومن ثم لا يمكن الباحث المدقق أن يعتمد على ذلك بصفة قاطعة.

والآن يتساءل المرء هل يوجد في القرن الثالث توزيع التجارة والعُملاء بين الملك والتجار الأحرار وأن الآخرين كانوا مقيدين ويدفعون ضرائب بصورة ما؟

والواقع أنه كانت توجد في هذا العهد تجارة حرة في الورق، ولا أدل على ذلك من أنه في ضيعة «أبوللونيوس» كان يُستعمل بدرجة عظيمة فنجد في أحد مكاتب مسك الدفاتر التي كانت تصحب الوزير أبوللونيوس في تنقلاته أنه كان يلزمه ما يبلغ ستين إضمامة٤٥ لمدة عشرة أيام، وكانت بعض هذه الإضمامات تبلغ خمسين صفحة وكان متوسط عدد ورقات الإضمامة في العادة عشرين صفحة (ورقة)، هذا وقد حسب عدد الإضمامات في بعض المكاتب الخاصة بالحسابات والسكرتارية التابعة للوزير «أبوللونيوس» في مدة ثلاثة وثلاثين يومًا فبلغ أربعمائة وأربع وثلاثين إضمامة (عام ٢٥٨–٢٥٧ق.م) ونحن نعلم أن الموظفين لم يكونوا يتسلمون الورق اللازم لهم من الملك.٤٦
هذا وقد رجا أحد مراسلي «زينون» عندما كان يجهز نفسه لرحلة أن يأمر له بصرف خمسين إضمامة من البردي تحتوي كل منها على خمسين ورقة ومائة إضمامة من أجود الورق الموجود فعلًا،٤٧ هذا ونعلم أنه عمل صفقة شراء ورق من صانع ورق أو بائع،٤٨ يضاف إلى ذلك أن مصنعًا في «تانيس» ورَّد إلى «أبوللونيوس» دون وسيط صفقة ورق قيمتها أربعمائة درخمة.٤٩ وكذلك كان عمال وزير المالية عندما يسيحون في أنحاء البلاد كانوا يقومون بأنفسهم بمشترياتهم من الورق ويضيفونها على الحساب ضمن المصروفات العادية، ويُلحظ أن ثمن الورق كان متقلبًا، ولكن لما كانت مقاييس الورق ونوع الإضمامات متغيرًا فإن ذلك لا يدل على أن التجارة كانت حرة، ومع ذلك نلحظ أن كل شيء كان يسير طبيعيًّا؛ فإن زينون قد اشترى الورق اللازم له من عند تجار أحرار تمامًا في تجارتهم، ومن ثم لا يمكننا أن نحكم أن بطليموس الثاني كان يسيطر بطريقة ما على تجارة الورق، ولكن تدل الظواهر على أن بطليموس الثاني كان قد اكتفى بالنزول للمصانع التي تصنع الورق عن بعض أنواع من الورق في مقابل دفع أجر لذلك أو ليعطي تصريحًا في مقابل مبلغ من المال على حسب المكسب الذي سيجنيه صاحب العمل، وكان الصانع هو التاجر وهو ملتزم الحكومة على ما يظهر ويراقبه أحد عمال الملك ينتدبه السكرتير المالي.
أما عن نظام تصدير الورق فإنا لا نعلم شيئًا عنه، غير أن المؤرخ جلوتز الذي درس ثمن الورق في «ديلوس»،٥٠ يقول: كان ثمن الورق غاليًا في بلاد الإغريق قبل أن يحتل الإسكندر مصر، ولكن الحرية الاقتصادية التي أقامها هذا الفاتح في بلاد مصر كان من نتائجها نزول ثمن الورق، وقد لوحظ ذلك في بلاد الإغريق حتى عام ٢٩٦ق.م على أقل تقدير، وبعد ذلك نجد ارتفاعًا في ثمن الورق فيما بين عامَيْ ٢٩٦، ٢٧٩ق.م من أوبول واحد إلى درخمة وأربعة وأوبولات وحتى إلى درخمتين عن كل إضمامة، ومن أول عام ٢٧٩ق.م كانت أسعار الورق في اتزان ملحوظ، ويقول المؤرخ «جلوتز» إن هذا الارتفاع في الأثمان هو نتيجة الاحتكار الذي وضعه «بطليموس الثاني» على الورق، وقد يكون ذلك برهانًا على أن نجعل بداية الاقتصاد الذي كان يدير دفته بطليموس الثاني في سياسته عام ٢٨٠ق.م أي قبل عشرين عامًا من صدور قوانين الإيرادات التي سنها لاقتصاد مصر.
وإذا أمكن موازنة أسعار الورق في «ديلوس» بأسعاره في مصر كان في استطاعتنا تقدير أهمية الضرائب التي كانت تفرض على تصدير الورق؛ فقد كانت الأسعار في «ديلوس» تترواح ما بين درخمة وثلاثة أوبولات ودرخمتين وأوبول واحد، أما الأسعار في مصر فكانت تترواح ما بين أربعة أوبولات وردخمة وثلاثة أوبولات، هذا ونجهل بالتأكيد إذا كانت الأثمان التي ذكرناها كانت تُدفع ثمنًا لورق من نوع واحد ومقاييس واحدة، ولكن الظاهر أن الفروق لم تكن كبيرة جدًّا في الأثمان وبخاصة إذا فكرنا في مصاريف النقل. ويتساءل الإنسان لماذا لم تكن هذه المصاريف كبيرة؟ والواقع أن الورق ليس بالسلعة الغالية، وذلك على الرغم من أنه مادة مفيدة فإنه ليس من المنتجات الضرورية مثل القمح الذي لا يمكن الاستغناء عنه، ولا نزاع في أن ما يحدد ضرورة الاحتكار هو قلة الطلب ومنافسة المواد الأخرى التي تستعمل عِوَضًا عن السلعة المعروضة، ومن ثم يمكن أن نتصور أن أحد البطالمة الأُول قد قلل أو حرَّم لمدة من الزمن تصدير الورق ليرفع ثمنه كما اتخذ نفس هذا الإجراء كليومنيس النقراشي في القمح، غير أن اختراع مواد أخرى للكتابة عليها كالكاغد واللوحات والاستراكا والنسيج يدل على وجوب تحديد الحاجة إلى الورق، ومن الجائز أن مثل هذا الإجراء يرجع أصله إلى الأسطورة التي رواها المؤرخ بليني،٥١ نقلًا عن فارون Varron،٥٢ وتُحَدِّثنا الأسطورة أن الملك بطليموس بعد أن حرَّم تصدير الورق بسبب المنافسة بينه وبين الملك إيمنيس في موضوع «المكتبات» اخترع الأخير الكاغد (جلد الغزال) للكتابة عليه بدلًا من الورق في «برجام» وسواء أكانت هذه القصة حقيقية أم لا فإنها قد تترجم عن محاولة مشابهة في النظام الاقتصادي، وتتفق مع اقتصاد الاحتكارات، ومن الجائز أن المادة التي كانت تقدَّم للتصدير كانت تُنتقص على قدر المطلوب منها ولم يكن ذلك على حسب قانون التصدير بل بتحديد زراعة البردي.

ومهما يكن من أمر فإن قبضة الملك بطليموس الثاني على التجارة الخارجية للورق لم تكن بإدارة مباشرة، فقد كان من المحتمل أن بطليموس الثاني كان يريد أن يتجنب الأخطار بنزوله للمصنع عن حق تصدير الورق واكتفى بفرض حقوق مالية على تصديره.

(١-٣) احتكار الثروة المعدنية

تدل البحوث على أن المواد التي كانت تُحتكر في مصر لم تكن قاصرة على الزيت والورق بل امتد هذا الاحتكار إلى منتجات البلاد المعدنية بوجه عام، وقبل أن نتحدث عن تثمير الثروة المعدنية في مصر في العهد البطلمي يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا قد تحدثنا عن أحجار مصر ومعادنها بشيء من التفصيل في بعض أجزاء هذه الموسوعة، وكذلك عن الدور الذي لعبته في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والحربية في تاريخ دولة الفراعنة من أول نشأتها حتى دخول الإسكندر الأكبر، ويكفي أن نشير هنا إلى بعض أحجار مصر ومعادنها، والواقع أن الطبيعة حبت أرض مصر أنواعًا عدة من الأحجار الصلبة واللينة الجميلة مما جعل مصر مهد صناعة الأحجار واستعمالها منذ عصر ما قبل الأسرات،٥٣ وهناك أحجار أخرى استعملها المصري في غير البناء مثل حجر الظران والبرشيا وغيرهما،٥٤ هذا وتحتوي أرض مصر على أحجار كريمة وشبه كريمة استعملوها للزينة.٥٥
هذا وتدل الآثار المكشوفة في مصر على أن سكان وادي النيل كانوا يستعملون معادن مختلفة الأنواع وُجد معظمها في تربة مصر، وكان الملك هو المسيطر على استخراجها وصناعتها وأهمها الذهب والحديد والقصدير والفضة والرصاص والسام والنحاس والشب والنطرون، قد تحدثنا عنها ببعض التفصيل في الجزء الثاني من مصر القديمة،٥٦ وقد كانت كل هذه الأحجار والمعادن تُستعمل في مصر بدرجة كبيرة ويسيطر على استخراجها فراعنة مصر إلى حد بعيد في العهود الأولى من تاريخ البلاد عندما كانت كل السلطة تتجمع في يد الفرعون وقد بقيت على أية حال ملك الفراعنة بدرجة عظيمة حتى نهاية حكمهم.
وتدل كل الظواهر على أن البطالمة قد استغلوا هذه المحاجر والمناجم وإن كان المصريون القدامى لم يتركوا لهم شيئًا كثيرًا في مناجم المعادن وبخاصة الذهب والنحاس، وعلى أية حال استولى البطالمة على كل المحاجر والمناجم حتى أصبحت شبه احتكار لهم، كما كانت الحال في مصر القديمة، وكذلك لم يستعمل البطالمة الأحجار الصلبة في مبانيهم الدنيوية بل كانوا يقيمونها على غرار بيوت قدماء المصريين من اللَّبِن، وقد لوحظ ذلك في مباني المستعمرين من الإغريق في قرية فيلادلفيا من أعمال الفيوم،٥٧ هذا وكان الأهالي يضعون على المباني المصنوعة من اللبنات طبقة مِلاط بلون المرمر، كما كان يفعل المصريون من قبلهم، وقد شوهد ذلك في مباني مدينة تل العمارنة «أختاتون»، ولم تُستعمل الأحجار في المباني الدنيوية إلا في الإسكندرية التي كانت مقر البطالمة، أما معظم استعمال الأحجار الصلبة فكان في إقامة المعابد وصنع التماثيل.

والظاهر أن البطالمة كانوا يطرحون قطع الأحجار في مزاد، وكان المقاول يتسلم أجره من بطليموس نقدًا أو عينًا كالقمح والزيت، وكانت المستودعات الملكية هي التي تمد العمال بالآلات اللازمة لقطع الأحجار وتهذيبها، وكان الملك هو الذي يقوم بنقل الأحجار.

والظاهر أن أعمال السُّخرة واستعمال الأسرى والمجرمين في المحاجر لم يكن شائعًا، وذلك لأن المحاجر دائمًا كانت قريبة من الأراضي الزراعية، وكان الملك يفضل بقاء الفلاحين في زراعة الأرض لأن المحاصيل الزراعية كانت مفضلة على قطع الأحجار لحاجة البلاد إلى قوتهم، يضاف إلى ذلك أن قطع الأحجار وتهذيبها كان يحتاج إلى عمال مهرة، وفي كثير من الأحيان كان الملك يستعمل الجنود في غير أوقات الحرب في قطع الأحجار منذ أقدم العهود.٥٨
هذا وكان العمال الأحرار الذين يعملون في المحاجر يتقاضون أحيانًا أجرًا محترمًا نسبيًّا، فكان مرتب الفرد في الشهر يبلغ أحيانًا اثنتي عشرة درخمة، هذا بالإضافة إلى إردب من القمح ومقدار من الزيت شهريًّا أيضًا، أما الأسرى فكان على كل واحد منهم أن يقطع أكثر من متر مكعب يوميًّا،٥٩ وذلك على حسب ما جاء في إحدى برديات «زينون» الذي عاش في عهد بطليموس الثاني، وإذا قرنَّا ما كان يأخذه العامل الماهر من أجر بما كان يتقاضاه العامل في عهد الفراعنة وجدنا أن الأخير كان أحسن حالًا بدرجة عظيمة، فقد ذكر لنا «رعمسيس الثاني» في إحدى لوحاته التي يتحدث فيها عن قطع تمثال ضخم له بما لم نسمع به حتى في أيامنا هذه من حسن معاملة العمال والعناية بأمرهم.٦٠

فاستمع إليه وهو يخاطب عماله: «كل واحد منكم عليه عمل شهر ولقد ملأت لكم المخازن من كل شيء من خبز ولحم وفطائر ونعال وملابس وعطور لتعطير رؤسكم كل أسبوع ولأجل كسائكم كل سنة ولأجل أن تكون أخمص أقدامكم صلبة دائمًا، وليس من بينكم من يمضي الليل يئن من الفقر، ولقد عينت خلقًا كثيرًا ليمونوكم من الجوع وكذلك سمَّاكين ليحضروا لكم سمكًا وآخرين بستانيين لينبتوا لكم الكروم، وصُنعت أوانٍ واسعة على عجلة صانع الفخار لتبريد الماء لكم في فصل الصيف، وفي الوجه القبلي يحمل لكم حب للوجه البحري، والوجه البحري يحمل للوجه القبلي قمحًا وملحًا وفولًا بكميات وفيرة، ولقد قمت بعمل كل هذا لأجل أن تسعدوا وأنتم تعملون بقلب واحد.» ولسنا في حاجة إلى التعليق على ما جاء في خطاب «رعمسيس الثاني» هذا؛ فهو حلم العامل الحديث ولا أظن بعد هذا يمكن أن يصدق ما جاء في الأساطير عن ظلم الفراعنة وجبروتهم.

وإذا قرنَّا ما جاء في خطاب رعمسيس الثاني هذا بالمعاملة التي كان يعامل بها البطالمة المصريين وجدنا أنه كان هناك فرق شاسع وعسف وظلم لا يتصوره العقل، فقد حدثتنا بردية من هذا العصر أنه في الأقاليم الصحراوية التي كانت مهددة بالقحط والبرد إذا تأخرت عن العمال البعير أو السفن لتسليم الأحجار التي تم قطعها فإن ذلك كان خطرًا على العمال الذين كانوا كثيرًا ما يكون قد أعياهم العمل، هذا فضلًا عن عدم تسلم أجورهم بانتظام فيشيع بينهم الجوع،٦١ وسواء أكان هؤلاء العمال من الذين يعملون بأجر أم من الجنود أم من الأسرى فإنهم كانوا يشكون في مثل هذه الأحوال مُرَّ الشكوى بل كانوا أحيانًا يهددون بالعودة إلى بلادهم العامرة، وإذا لم تُجَبْ طلباتهم فإنهم كانوا يهددون بالإضراب عن العمل خوفًا من أن يُتْركوا في مجاهل الصحراء في بؤس وضنك قاتلَيْنِ.٦٢

هذا وكان العمل في مناجم المعادن وبخاصة مناجم الذهب قاسيًا؛ فقد صُور لنا بأبشع وأفظع صورة كما سنرى بعد.

والآن نتحدث عن بعض هذه المنتجات الطبيعية التي كانت تُستخرج من مصر:
  • الملح: الواقع أن الملح قد لعب دورًا هامًّا في تاريخ الضرائب في معظم ممالك العالم في الأزمان الحديثة، ولا غرابة إذن أن نجد احتكار الملح في مصر كان شديدًا وعليه مراقبة تامة، غير أننا لا نعلم بكل أسف النظم التي كانت تستعملها البطالمة للحصول على الملح، ولا شك في أنه كان يُحصل عليه من مناجم الملح ومن بحيرات ملحة ومن ماء البحر، ولا نزاع في أن أواني الملح كانت ملك الحكومة، وعلى أية حال لم تكن تجارة الملح حرة فقد كان حق بيعه بالتجزئة يُعلَن في مزاد علني، والوثيقة التي تُحدثنا عن ذلك يرجع عهدها إلى حوالي عام ١٤٢ق.م ولكن تدل شواهد الأحوال على أن هذه العملية كانت ترجع إلى القرن الثالث،٦٣ هذا وكان مثل الملح كمثل السلع الأخرى كالزيت والشعير والنطرون يسلم للتجار بوساطة عمال الملك، هذا ونجد في الوثائق الإغريقية التي عُثر عليها في «الفيوم» وترجع إلى القرن الثالث ضريبة كانت تُضرب على الملح٦٤ تتسلمها الحكومة.
  • الشب: ومن المواد التي كانت تجبى عليها ضرائب يفرضها الملك مادة الشب وكان مثلها كمثل المعادن الأخرى التي تُستخرج من أرض مصر، وكانت ملكًا لملكها، وهذه المادة تُستعمل في تثبيت ألوان النسيج، ومما يؤسف له أنه ليس في متناولنا وثائق من العهد الهيلانستيكي تؤكد فرض ضريبة على الشعب، والوثيقة الوحيدة التي لدينا تؤكد دفع ضرائب على الشعب ترجع إلى نهاية النصف الأول من القرن الثاني بعد الميلاد،٦٥ وهذه المادة كانت تستخرج من الواحتين الداخلة والخارجة، هذا وكانت أول إشارة لوجود الشب في مصر قد جاءت على لسان «هردوت» وذلك عندما قال: إن الملك أمسيس الثاني (٥٦٩–٥٢٦ق.م) قد أرسل كمية من الشب لبلاد اليونان، وذلك عند إعادة بناء معبد «دلفي» وقد سُمِّي مادة قابضة.٦٦
نتحدث بعد ذلك عن المعادن الشهيرة التي كانت موجودة في مصر منذ القِدَم واستغل مناجمها البطالمة:
  • المعادن: ولا نزاع في أن شهرة مصر من حيث المعادن الثمينة كانت تنحصر في كمية الذهب التي كانت تُستخرج من مناجمها التي كانت عالمية ويُضرب بها الأمثال، والواقع أن قدماء المصريين قد استغلوا المناجم الشاسعة الواقعة بين وادي النيل والبحر الأحمر وبخاصة الصحراء الشرقية جنوبًا من طريق قنا والقصير إلى حدود السودان، والوديان التي وُجد فيها الذهب كانت مجهزة بطرقٍ مُعَبَّدةٍ ومَحَاطَّ قديمةٍ حُفرت فيها آبار ماء.٦٧
    هذا ولا تزال آثار عمليات استخراج الذهب في العهد الفرعوني باقية في أماكن عدة ببلاد النوبة، ونجد كذلك في وادي فواخير بالقرب من مناجم وادي حمامات على الطريق الذي يربط فقط بميناء «لوكوس ليمن» Leuko Limen معبدًا أقامه بطليموس «أيرجيتيس» للإله «مين» وهناك نقوش تدل على أن الإغريق قد جاءوا إلى هذا المكان للبحث عن الذهب،٦٨ وكذلك وُجدت في نقط كثيرة في الصحراء شرقي «إدفو» وفي وادي علاقى ببلاد النوبة آثار لاستغلال البطالمة لمناجم الذهب.٦٩
    ومن أهم المعادن التي كانت تحتاج إليها مصر الفضة، غير أنها لا توجد في التربة المصرية كثيرًا،٧٠ وقد كُشف أن الذهب يحتوي أحيانًا على جزء من الفضة أما الحديد الذي يُستخرج الآن من الصحراء الغربية فلم يكن معروفًا عند قدماء المصريين، هذا ولا نجد أثرًا للحديد إلا في منجم واحد يرجع إلى عهد قدماء المصريين.٧١
    أما النحاس الذي كان يوجد في مصر بكثرة في العهد القديم وبخاصة في شبه جزيرة «سيناء» فلم يهتم بالبحث عنه البطالمة لأنه كان يوجد بكثرة في جزيرة قبرص التي كانوا يسيطرون عليها.٧٢
    وأخيرًا نجد في الصحراء الشرقية بالقرب من برنيكي فلزات زمرد في «سكت» حيث يوجد معبد منحوت في الصخر عليه نقوش إغريقية تشهد بنشاط البطالمة في هذه الجهة.٧٣

    وكل هذه الفلزات المعدنية والحجرية تقع في الأقاليم الصحراوية أو في مواقع جبلية وعرة، غير أن المعضلة كانت في كيفية استخراج هذه المواد سواء أكانت مناجم نحاس أم فلزات كوارتز تحتوي على ذهب أم استخراج قطع الزمرد والزبرجد والكورنالين والأمتست والأحجار نصف الكريمة. والواقع أن استخراج هذه المواد من الصحاري والجبال كان يحتاج إلى عمل شاق مُضْنٍ.

  • تنظيم العمل: كان لا بد من جمع العمال المهرة المختصين في استخراج هذه المعادن وإمدادهم بكل ما يلزم في مكان العمل نفسه، كما كان يحتاج إلى عمال آخرين لنقل هذه الكنوز بعد استخراجها، وهذا كان من أصعب الأمور، يضاف إلى ذلك أن الأمر كان يحتاج إلى معالجة هذه المعادن في المكان الذي عثر فيه عليها إلى درجة يمكن بعدها أن يصبح الشيء الذي سيُنقل أقل ما يمكن من حيث الوزن.

    هذا وكان لا بد من تنظيم جماعة من رجال المناجم على أن يكون معسكرهم محروسًا بشرطة خاصين بهم، ويكون لهم رؤساء وآلهة يتعبدون لهم، وأخيرًا كان لا بد من المحافظة على المناجم والطرق المؤدية لها، ومما سبق نفهم ضمنًا أن الملك وحده هو الذي كان في استطاعته القيام بكل ذلك كما كانت الحال في عهد الفراعنة، أما من الناحية المالية فكان الملك يمكنه أن يعطي المشروع لملتزمين من أصحاب المؤسسات المالية الذين كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال، ولا نعلم إذا كان البطالمة قد مارسوا مثل هذه العمليات المالية الخاصة باستغلال المناجم أو أنهم لم يمارسوها.

  • اليد العاملة: ومما سبق لا يمكننا أن نصف سير العمل في مثل هذه المناجم إلا التي كانت تحت السلطة الملكية مباشرة، ولحسن الحظ لدينا سلسلة قصص مما تركها لنا «ديودور» الذي عاش في عهد قيصر وأوغسطس،٧٤ أي إنه كان قريبًا من عهد البطالمة وسأنقل هنا الصورة التي وضعها «ديودور»، للعمل في مناجم الذهب والمعاملة التي كان يعامَل بها العمال المصريون في عهد البطالمة، وعلى القارئ أن يحكم بعدها على هؤلاء البطالمة بعد قرنها بالصورة التي نقلناها عن رعمسيس الثاني ومعاملته للعمال في مناجم قطع الأحجار، وهاك ما ذكره ديودور حرفيًّا:

    عند نهاية حدود مصر وفي الإقليم المتاخم لكل من بلاد العرب وأثيوبيا يوجد إقليم يحتوي مناجم ذهب كبيرة عدة حيث كان يمكن الحصول على الذهب بكميات عظيمة بعد متاعب كثيرة ومصاريف كبيرة، وذلك لأن الأرض هناك سوادء بطبيعة الحال وتحتوي على طبقات وعروق من حجر الكوارتز، وهي على غير العادة بيضاء وتفوق في نصوع بياضها أي شيء آخر يلمع بإشراق بطبعه، وهنا يحصل المشرف على العمل في المناجم على الذهب بوساطة جَمٍّ غفير من الكادحين، وذلك أن ملك مصر كان يجمع سويًّا لاستخراج الذهب أولئك المدنيين الذين أدينوا بجريمة، هذا بالإضافة إلى أسرى الحرب وأولئك الذين اتُّهموا ظلمًا وألقي بهم في السجن بسبب غضبهم، على أن ذلك لم يقتصر على مثل هؤلاء الأشخاص بل أحيانًا كان يؤخذ معهم كل أقربائهم أيضًا، وبهذه الكيفية لم يكن العقاب يوقَّع على أولئك الذين وُجدوا مجرمين بل كان في الوقت نفسه يجني الملك دخلًا عظيمًا من كدحهم، وهؤلاء المحكوم عليهم بهذه الطريقة — وكانوا جمهرة عظيمة كُبِّلوا كلهم في الأغلال — يكدحون في عملهم دون انقطاعٍ ليلَ نهارَ لا يتمتعون براحة كما أن سبل الهرب قد انقطعت عنهم، وذلك لأنه كان يراقبهم حراس من الجنود الأجانب يتكلمون لغة مختلفة عن لغتهم لدرجة أن الفرد منهم لم يكن في استطاعته بالمحادثة أو التَّحابِّ أن يغوي واحدًا من حراسه، وكانت الأرض التي تحتوي على ذهب وهي أصلب ما يكون تُحرق أولًا بنار حامية وبعد أن يُفتِّتوها بهذه الكيفية يستمرون في العمل فيها باليد، وكان الصخر اللين الذي يمكن التغلب عليه بقوة معتدلة يهشم بمطارق من الحديد يستعملها عشرات الآلاف من أولئك الأشقياء الذي أخطأهم الحظ، وكانت إدارة كل العملية في يد عامل ماهر يعرف كيف يميز الحجر ويريه للعمال، وكان أقوى هؤلاء الذين خُصصوا لهذا العمل المضني هو الذي يوكل إليه كسر صخر الكوارتز بمطارق من حديد، وكان لا يقوم بأي عمل يحتاج إلى مهارة غير مجرد القوة، وكانوا يقطعون النفق في الحجر لا في خط مستقيم بل على حسب ما يقودهم إليه الصخر البرَّاق، وهؤلاء الكادحون الذين كانوا يعملون في الظلام كانوا يحملون مصابيح معقودة على جباههم بسبب الانحناءات والالتفاتات التي في الممرات، ولما كانوا في معظم الوقت يغيرون أوضاع أجسامهم ليتتبعوا طبيعة الحجر فإنهم كانوا يلقون قطع الحجر كلما قطعوها على الأرض، وكانوا يكدحون في هذا العمل دون هوادة خوفًا من صرامة سوط المشرف وضرباته القاسية.

    أما الأولاد هناك الذين لم يكونوا قد بلغوا الحُلُم فكانوا يدخلون النفق في الممرات التي نتجت من إزالة الأحجار ويجمعون بمشقة قطع الصخر الملقاة قطعة قطعة ويحملونها إلى الخارج في خارج المدخل، وأما أولئك الذين جاوزوا الثلاثين من عمرهم فكانوا يأخذون هذه الأحجار التي قُطعت ويطحنون مقدارًا مميزًا منها في هاونات من الحجر إلى أن تصبح كل قطعة من حجم حبة الجلبان (مثل الفول) وبعد ذلك كان على النساء والرجال الأكبر سنًّا أن يأخذوا منهم الأحجار التي بهذا الحجم ويلقونها في المطاحن المنصوبة صفًّا هناك ويأخذون أماكنهم في جماعات مؤلفة كل واحدة من شخصين أو ثلاثة عند مقبض كل طاحون ويطحنون هذه الأحجار الصغيرة إلى أن تصبح كالدقيق الناعم جدًّا، ولما لم تكن لدى أي واحد منهم فرصة للعناية بجسمه ولم يكن لديهم كذلك من الملابس ما يستر عورتهم فإنه لم يكن في استطاعة أي فرد أن ينظر إلى هؤلاء النساء دون أن تأخذه الشفقة بسبب الآلام البالغة التي يقاسونها، وذلك أنه لم يكن يمنح أي تساهل أو هدنة من أي نوع لأي فرد أصابه المرض أو بُتِرَ عضو من أعضائه، أو أقعدته الشيخوخة، أما النساء فلم يكن يشفع لهن ضعفهن أو مرضهن بل كان الكل سواء دون استثناء مضطرين تحت تهديد السياط إلى الاستمرار في كدحهم إلى درجة أنهم كانوا يموتون غارقين في آلامهم وعذابهم، ومن ثم فإن هؤلاء الفقراء البائسين كانوا يعتقدون بسبب ما كانوا يلاقون من عقاب صام أن المستقبل سيكون أعظم فظاعة أكثر مما هم فيه الآن، ومن أجل ذلك كانوا يتطلعون إلى الموت على أنه أحب إليهم من الحياة.

    وفي آخر خطوة من البحث عن الذهب كان مهرة العمال يتسلمون الحجر الذي طُحن حتى أصبح كالدقيق لآخر مرحلة من معالجته، وذلك أنهم كانوا ينظفون بالفرك قطع الكورتز التي كانت قد وُضعت على لوح عريض مائل بعض الشيء وصب عليه الماء كل الوقت، وعلى ذلك كانت المادة الطينية التي فيه تذوب بفعل الماء وتجري إلى أسفل اللوح المائل في حين أن المادة التي تحتوي على الذهب تبقى على الخشب بسبب ثقلها، وكانت هذه العملية تكرَّر عدة مرات، فكانوا أولًا يفركون المادة برفق بأيديهم ثم يضغطون عليها بإسفنج ذي مسامَّ مفتوحةٍ، وبذلك كانوا يزيلون الأجسام الغريبة ولا يبقى إلا التبر فقط، وبعد ذلك يأخذ عمال آخرون مهرة ما بقي ويضعونه بمكيال ووزن محدودين في أوانٍ من الطين ويخلطونه بكتلة من القصدير مناسبة للمادة وكذلك بقطع من الملح وبعض الصفيح ثم يضاف إلى ذلك نخالة شعير، وبعد ذلك يُسَدُّ الإناء بسدادة محكمة ويوضع عليه ملاط من الطين، ثم يؤخذ إلى الفرن لمدة خمسة أيام متتالية بلياليها، وفي نهاية هذه المدة تبرد الأواني، وبعد فتحها لا يوجد فيها إلا الذهب الخالص، وليس هناك من المواد الغريبة إلا الشيء القليل.

    هذا وكان الإشراف على مثل هذه المناجم مُوكَلًا إلى ضباط عظام كان عليهم أن يؤمِّنوا السلع التي كانت تأتي من الشرق كما كان عليهم أن يؤمنوا الطرق المؤدية إلى قطع الأحجار والبحث عن المعادن، وأكبر دليل لدينا على ذلك نقش عُثر عليه للإله «مين» رب «قفط» الذي يحفظ الطريق ويؤمنها للباحثين عن المعادن والأحجار الصلبة.٧٥
    ومما يؤسف له أن الأوراق البردية لم تكشف لنا عن شيء عن الأعمال الثانوية الخاصة بالقرى التي كان يعيش فيها عمال المناجم من حيث نقلهم وتجهيزهم ونظامهم المدني، ومن المتوقع أن يكون لهم في هذه القرى على الأقل قضاتهم وشرطتهم، والآن يتساءل المرء هل يمكن أن نقرن ذلك بما كان عند قدماء المصريين في مثل هذه الأحوال وأن نفرض أن الأحوال لم تتغير منذ عهد الفراعنة؟ إذا كان ذلك صحيحًا فإن النص الذي تركه لنا رعمسيس الرابع في نقش شهير نعرف منه أنه أرسل بعثتين إلى محاجر «وادي حمامات» الأولى كشفية، والثانية عملية، وتعد أكبر بعثة معروفة لدينا حتى الآن؛ فقد كانت تحتوي على كل ما يلزم على غرار الحملات الحديثة الآن فلم يكن ينقص رجالها شيء قط، وقد تحدثنا عنها بإسهاب في الجزء الثامن من مصر القديمة، ولم تكن هذه هي الحملة الأولى المنظمة التي أُرسلت لقطع الأحجار بل سبقتها حملات.٧٦
  • قيمة المناجم: ليس لدينا نقوش تمكننا من تقدير محصول المناجم في عهد البطالمة كالتي وُجدت في عهد الفراعنة، وإن كانت الأخيرة غير شاملة كما جاء في حملات تحتمس الثالث من ذكر محصول مناجم بلاد النوبة من الذهب، غير أن الذهب لم يكن المادة الهامة التي يحتاج إليها ملوك البطالمة كما كانت الحال في عهد الفراعنة، بل إن مقتضيات الأحوال كانت تحتم الحصول على الحديد حتى تقوم بدورها في العالم الهيلانستيكي، وذلك لأن الحديد كان ضروريًّا لصناعة آلات الحرب والزراعة وكان لا بد لهم من الفضة كذلك لأنها كانت تعد المعيار النقدي الإغريقي السائد في تلك الفترة من تاريخ العالم.٧٧
والآن يتساءل الإنسان هل كان في مقدور مصر أن تدفع بما لديها أو بما تستخرجه من مناجمها ثمن البضائع التي تشتريها من الخارجظ ويجيب على ذلك «ديودور» بقوله: إن مناجم الذهب كانت تدر على الملوك دخلًا عظيمًا.٧٨ غير أن هذا لا يخرج عن كونه تعبيرًا نسبيًّا، وذلك لأن مناجم الذهب في مصر كان استغلالها صعبًا ومحصولها قليلا لا يكفي ثمنًا لتبادل السلع.
وهذا هو السبب الذي يفسر لنا الجهود التي كان يبذلها البطالمة في التشديد على زيادة المحصول، ومراقبة الاحتكار للبضائع التي كانت تصدَّر للخارج مقابل نقد، وهذا يكشف لنا الغطاء عن الربح المفرط الذي نلحظه في الاقتصاد البطلمي.٧٩

وسنرى بعدُ في السياسة النقدية التي سار على نهجها البطالمة أن مصر استعانت بالذهب الأجنبي وفق سياسة بطليموس الثاني إلى أن زيفت قطع النقود في البلاد، كما نشاهد ذلك في نهاية القرن الثالث مما أفقر البلاد في المعادن الثمينة.

والواقع أن ثمن تكاليف الذهب الذي كان يُستخرج من تربة مصر كان أغلى من الذهب الذي يدخل البلاد بوصفه ثمن بضائع مصدَّرة؛ فقد دل الفحص على أن ثمن تكاليف الدرخمة الواحدة من الذهب المستخرج من أرض مصر لا يساوي أكثر من الذي يبذله الإنسان من تكاليف من مقدار القمح المباع في الخارج في مقابل درخمة من الذهب، وعلى أية حال يظهر أن المصريين القدامى كانوا قد استنفدوا كل مناجم الذهب، فلما جاء البطالمة لم يجدوا فيها ما يساوي النفقات التي تُصرف عليها كما هي الحال في أيامنا.

ولم تقتصر مصادر مصر المعدنية على وادي النيل في عهد البطالمة، وذلك لأنه عندما مد البطالمة سلطانهم في عهد بطليموس الأول ومن بعده ابنه بطليموس الثاني على أقاليم، كانت فيها النقود وفيرة، هذا بالإضافة إلى أن الخراج الذي يُجبى من هذه الأقاليم والأسلاب التي يُستولى عليها بالفتح كان كل ذلك يؤلف دخلًا من المعادن الثمينة عظيمًا لا يكلف مصر شيئًا، يضاف إلى ذلك مقدار ما كانت تجلبه تجارة مصر من ذهب إلى خزانة البلاد، ويقول إسترابون إن الإسكندرية في زمنه كانت تصدِّر أكثر مما تستورد، غير أننا لا نعلم إذا كانت قيمة البضائع المصدرة أقل من المستوردة أم لا، وعلى أية حال فإن الأحوال كانت قد تغيرت في مدة ثلاثة القرون التي حكمها البطالمة حتى العهد الذي كتب فيه «إسترابون»، وأخيرًا يجب علينا كذلك بهذه المناسبة أن نفرق من الوجهة الاقتصادية بين مصر وبين ملك مصر، والواقع أن ريف مصر وقراه في مقدوره أن يعيش باقتصاد مغلق (مكتفٍ ذاتيًّا) في حين أن ملك مصر كان مرتبطًا بالمعاملات الخارجية، ولذلك فإن سكان مصر الأصليين كان لهم تاريخهم وحياتهم التي ورثوها منذ أقدم العهود وظلوا محافظين عليها حتى نهاية العهد الروماني.

وبجانب المصادر الخارجية التي لها علاقة بثروة البلاد المعدنية لا بد أن نشير هنا إلى كنوز المعابد المصرية، فهذه كانت تكدَّس في خزائن الكهنة منذ قرون طويلة، وكانت تعتبر دليلًا على جمود اقتصادي، ومع ذلك نجد على نقود عهد البطالمة خاتم الآلهة كما نجد أن تماثيل العبادة كانت مصنوعة من الذهب ومرصَّعة بالأحجار الكريمة، وكذلك نلحظ أن الأثاث المقدس كان كله مشغولًا بالفضة هذا إلى القرابين التي كان يقدمها الأتقياء للمعابد، وهذه الكنوز هي التي كانت تبهر الغزاة الأجانب من آشوريين وفرس، هذا ولا بد أن نفهم أن ثروة البلاد كانت أحيانًا في يد الملك وأحيانًا في يد المعابد عن طريق القربان والمصادرات، وهنا كذلك نجد دورة في نقل المتاع لم يكن للقرى فيها نصيب.

وسواء أكانت المعادن تأتي عن طريق المناجم أم عن طريق الخراج من البلاد الأجنبية أم كانت تمثل أثمان البضائع المصرية المصدرة إلى الخارج فإنه كان لا يدخل البلاد المصرية إلا القليل من المعادن التي لم تكن معروفة للإدارة الملكية، غير أننا نجهل إذا كان هناك احتكار مطلق لتجارة المعادن الثمينة وبخاصة الطرق التي كان يمكن أن تدخل بوساطتها هذه المعادن في الاقتصاد المصري ولم يكن للملك حق في السيطرة عليها بطرق قانونية مختلفة.

وهاك الأوجه الرئيسية لبيان المصروفات والواردات من الذهب أو المعادن الثمينة كان على الملك أن يدفع مرتبات موظفيه وجيشه والأشغال العامة وشئون العبادة ومصاريف السياسة الأجنبية، غير أنه يجب علينا ألا ننسى أن جزءًا كبيرًا من مرتبات رجال الحكومة كان يُدفع عينًا وذلك إما قمحًا أو مقابل إيجار أرض.

وكان الملك يشتري من الفلاحين منتجات متنوعة كالقمح والنسيج والحبوب الدهنية، ولكن النقود التي كان يدفعها تعود إليه ثانية من وجوه عدة، وذلك أن المنتجين الذين تسلموا هذه النقود كانوا يشترون بها عن طريق الملتزمين منتجات مصنوعة مثل الجعة والزيت، وكانوا يدفعون له فضلًا عن ذلك بعض ضرائب، وفوق كل ذلك كان الملك يشتري منتجات أخرى ويبيعها في الخارج إما بنفسه أو بأشخاص اشتروا حقوق بيعها، ومن جهة أخرى كانت مصر تشتري بضائع من الخارج لا تنتجها مصر، ويقول «إسترابون» إن البضائع التي كانت تصدَّر من الإسكندرية أكثر من التي ترد إليها بدرجة ملحوظة، ولكن لا يغيب عن الذهن أنه على الرغم من أن كثيرًا من البضائع المصدرة كانت قد أتت من الخارج من الجنوب والشرق، فإن الإسكندرية لم تكن ميناء التوريد للشرق بل كانت السلع السورية تأتي عن طريق «بلوز»، وكانت «رودس» على ما يظهر في خلال القرن الثالث مستودع تجارة الشرق.

ومن بين «الدخوليات» التي كانت ترد إلى مصر دون مقابل جزية البلاد البطلمية في البحار النائية في خلال القرن الثالث، وأخيرًا كان الملك مضطرًّا أن يقدم للمعابد هدايا نقدية أو أشياء ثمينة، وكانت هذه عبارة عن حماية إجبارية.

ويبقى بعد ذلك كمية قليلة نسبيًّا تورد للصناعة، والآن يتساءل المرء هل الملك هو صاحب الحق الوحيد في أن يبيع ما يحتاجه الصُّيَّاغ وصناع الجواهر الذين كان عددهم كبيرًا في الإسكندرية وفي المدن الكبيرة من الذهب والفضة والأحجار شبه الكريمة والنحاس والصفيح لصانعي البرونز؟

والواقع أنه ليس لدينا معلومات عن نظام صناعة المعادن الثمينة، وأقل ما يقال في هذا الصدد إن تجارة الذهب والفضة التي لم تصنع نقودًا كان يفرض عليها دفع مبلغ من المال بمثابة ترخيص أو ضريبة، وذلك لأننا وجدنا في قرية مقاطعة «البهنسة» في خلال القرن الثالث أو القرن الثاني ملتزمين ينزلون لفرد آخر عن حقوق جمع دخل على الذهب.٨٠
هذا ولدينا قائمة ضرائب جُمعت من قرى عدة بالفيوم جاء فيها ما يثبت وجود ضريبة على صناعة الصياغة التي كانت على ما يظهر تباع لملتزمين في كل قرية لجمع الضرائب عليها.٨١
وليس لدينا شك في أن صناعة المعادن وبخاصة إنتاج الألواح من الذهب والفضة والبرونز كانت منتشرة في مصر القديمة، كما أنه ليس لدينا أي ريب في أن مصر الهيلانستيكية قد ورثت هذه التقاليد القديمة الفاخرة، ولدينا براهين كثيرة على ذلك نشاهدها في الكنوز العدة من ألواح الذهب والفضة وأواني العبادة والمجوهرات التي عُثر عليها في باكورة القرن الثالث ق.م في مصر، وسنذكر هنا بعض الأمثلة، وأغنى الكنوز التي عُثر عليها من هذا القبيل كنز «طوخ القرموص»٨٢ ويحتوي على نقود من عهد بطليموس الأول والسنين الأولى من عهد بطليموس الثاني، وقد كُشف عام ١٩٠٥ ميلادية، وهذه القرية تقع في شمال الدلتا، وتحتوى على مجموعة مؤلفة من لوحة من الذهب والفضة ومقدسات شعيرية ومجوهرات مصنوعة محليًّا طرازها إغريقي ومصري وإغريقي فارسي، ويشبه هذا الكنز، ولكنه أقدم منه بقليل، الآثار التي عُثر عليها في منديس.٨٣

ويأتي بعد كنز «طوخ القرموص» بمدة قصيرة الكنز الذي عُثر عليه في «ميت رهينة» ويحتوي على قوالب من الجبس مصنوعة من أوانٍ من المعدن وأشياء أخرى من المعدن، ومعظم هذه الأشياء ترجع إلى القرن الثالث ق.م، ولا نزاع في أن هذه القوالب كانت لمصنع مملوء بالمعادن في «منف»، هذا ولا يغيب عن الذهن أنه توجد قوالب ونماذج كثيرة مصنوعة من الجبس والطين والحجر لأشياء مختلفة من المعدن عُثِر عليها في مصر، والعدد الأكبر من هذه القوالب التي يرجع إلى العهد الهيلانستيكي وُجد في مصانع «منف»، والكشوف العديدة التي عُثِر عليها في «منف» تشهد بأهمية هذه المدينة بوصفها مركزًا لصناعات الأدوات المعدنية.

الحديد

وأخيرًا نجد أن البطالمة قد أدخلوا صناعة الحديد في مصر، وتعد من أعظم الأعمال التي تمت على أيديهم، وقد تحدثنا عن الحديد في عهد الفراعنة ورأينا أن استعماله كان محدودًا،٨٤ والواقع أن الحديد لم يدخل في مصر إلا منذ الدولة الحديثة، والآن يتساءل الإنسان هل احتكر البطالمة تجارة الحديد في مصر؟ وهل سيطروا على مراقبة تجارة استيراده من الغرب وبخاصة من إيطاليا؟ وقد شرح لنا الإجابة على هذا السؤال المؤرخ «رستوفتزوف» فقد عزاها لأسباب اقتصادية ترجع إلى مهارة بطليموس الثاني في الاقتصاد، وفي خلال الحرب التأديبية التي وقعت بين «روما» و«قرطاجنة» عرف كيف يظهر ميوله إلى «روما» التي كانت قابضة على مواد الحديد كما أظهر عطفه على قرطاجنة التي كانت مشهورة بمواردها من القصدير، وذلك دون أن يُغضب واحدة منهما.٨٥
وعلى أية حال يظهر أنه حتى في مصر لم يكن استعمال الحديد سائدًا بالدرجة المطلوبة في خلال القرن الثالث ق.م على الأقل؛ إذ نجد أن الفلاحين كانوا لا يملكون آلات من الحديد؛ إذ في ضيعة «أبوللونيوس» نجد أن المناكيش والمسامير والمحاور والأذرعة (للمقاس) والخردوات والسلاسل وسنارة الصيد، كل هذه الأشياء كانت توزن بعناية قبل أن تُعطَى الصناع لاستعمالها، هذا وقد وُجدت قائمة من هذه الأشياء المصنوعة من الحديد مدونة على إحدى أوراق «زينون»،٨٦ هذا ولدينا دفتر تسجيل من السنة التاسعة والثلاثين من عهد بطليموس الثاني يحتوي مناكيش وزعتها الإدارة على موظفين وأصحاب كروم يظهر أنها كانت كرومًا ملكية.
وفي خلال القرن الثالث كذلك كان نقل الحديد إما محرَّمًا أو مراقَبًا كما يشهد بذلك موظف كبير، وذلك أن قاربًا من التي كان يملكها هذا العظيم قد جرده مراقبو الملك من آلات السياحة التي لا غنى عنها.٨٧

ولا بد أن نبحث عن أسباب هذا الاحتكار المشدد، فالواقع أن بطليموس لم يكن يريد من وراء ذلك أن يجني كسبًا بل كان يريد الاقتصاد في هذه المادة إلى وقت الحاجة وبخاصة في الاستعمال الحربي، ولا سيما أن الحديد لم يكن بعدُ مادة غزيرة في مصر في تلك الفترة من تاريخها، وعلى أية حال فإن الحديد لم يكثر وجوده في مصر إلا تدريجًا عن طريق الاستيراد، هذا فضلًا عن أنه لم يبحث عنه بطرق علمية.

وعلى أية حال نجد أن الحديد المستورد كان مستعملًا بدرجة عظيمة في فيلادلفيا، ويُحتمل أن السبب في ذلك لأنها كانت قرية نموذجية أُريدَ استعمالُ كل الآلات الحديثة في تنمية ثرواتها.٨٨

(١-٤) احتكار النقد والمصارف في عهد البطالمة الأول

تحدثنا فيما سبق عن المواد والأشياء التي كان يحتكرها بطليموس الثاني وتكلمنا عن احتكار الزيت والبردي ثم الثروة المعدنية وسنتحدث الآن عن احتكار النقود والمصارف في العهد البطلمي، ولكن قبل أن نتحدث عن المصارف والدور الذي لعبته في تاريخ الاقتصاد البطلمي يجدر بنا أن نتحدث عن النقود وتاريخ استعمالها في مصر منذ أقدم عهودها إلى أن أصبحت مادة تُودَع في المصارف التي يراقبها الملك ويحتكر استعمالها، والواقع أننا لم نسمع بوجود مصرف أهلي في العهد البطلمي الأول، ولا غرابة في ذلك فإن البطالمة كانوا هم القابضين على زمام كل ثروة البلاد تقريبًا، ومن ثم كان على الملك أن يختار العيار الذي تُضرب على حسبه النقود، وكان هو الذي يحدد احتكار العملة وإنقاص وزنها وهبوط سعرها كما يشاء.

النقود في مصر القديمة

تحدثنا عن النقود في العهد الفرعوني في الجزء الثاني من مصر القديمة، وقد برهنَّا في هذا الباب بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا على أن مصر كان لها نقد وإن لم يكن مسكوكًا، تتعامل به منذ الأسرة الرابعة وهو «الشعت» وقد استمرت البلاد تستعمله مع بعض تغيير في الاسم حتى نهاية العهد الفرعوني؛ إذ قد استعملت «الدبن» و«الكدت» طوال الدولة الحديثة حتى نهاية الأسرة الثلاثين، وحتى في عهد البطالمة استمر السكان المصريون يستعملونه أول ظهور النقد المسكوك في مصر القديمة.٨٩
دلت المعلومات التي وصلت إلينا حتى الآن على أن النقود المسكوكة بمعناها ومنظرها الحقيقيينِ لم تظهر في دائرة البحر الأبيض المتوسط حتى عهد الأسرة السادسة والعشرين المصرية، ولم تظهر هذه النقود في مصر وقتئذ لأن اقتصاد مصر لم يكن في حاجة إلى وجود نقد، وعلى أية حال لم يُعثر على أي نقد بمعناه المتعارف بيننا في مصر في تلك الفترة.٩٠
هذا وتوجد لدينا الآن بعض البراهين الدالة على وجود نقد فرعوني خاص ضُرب في مصر في عهد الأسرتين التاسعة والعشرين والثلاثين.٩١

والدوافع الأولى التي اقتضت ضرب عملة نقدية في مصر كانت في الواقع مفقودة؛ فقد كان انعدام المشاريع الحرة ووحدة البناء الاقتصادي والقوى المنتجة بالإضافة إلى انعزال سكان مصر عن باقي العالم نسبيًّا واحتكار الفراعنة للتجارة وعيشة ملايين الفلاحين الذين يتألف منهم السواد الأعظم من سكان مصر على هامش الاقتصاد، كل هذه الأمور مجتمعة كانت عوامل لا توحي بضرب نقود بل كانت تكتفي البلاد بالمبادلة، ولكن عند قيام الأسرة السادسة والعشرين ونهوضها بالبلاد دفعة واحدة كان قد تغير كثير من هذه العوامل؛ إذ قد تطورت الحياة الاقتصادية في الوجه القبلي بسبب الفتح الفارسي، وأهم من ذلك التأثيرات التي أحدثها التجار الإغريق الذين كان قد شجعهم ملوك الأسرة السادسة والعشرين على التعامل مع مصر بدرجة مُحَسَّة مما زاد في المعاملات التجارية بين البلدين، غير أنه كان لا بد من وجود دافع أقوى للإسراع إلى ضرب نقود، وقد خُلق هذا الدافع عندما وَجَدَت مصر نفسها في حاجة إلى استخدام جيش قائم من الجنود المرتزقين فقد كان الملك «أوكوريس» ثاني أحد ملوك الأسرة التاسعة والعشرين هو الذي ألف شبه فرقة ثابتة من الجنود المرتزقة من الإغريق في مصر، وذلك عندما أجبر قوة بلاد الفرس الحربية على التحول عن بلاده بالثورة التي هبت في قبرص على يد ملكها «أفاجوراس» وظلت أمدًا طويلًا كما شرحنا ذلك في غير هذا المكان، غير أنه مع ذلك لم يهمل المحافظة على وجود جيش من الجنود المصريين في نفس الوقت، هذا وقد حافظ أخلاف «أوكوريس» في عهد الأسرتين التاسعة والعشرين والثلاثين على هذا الجيش الإغريقي أكثر من خمس وأربعين سنة، وكان من جراء ذلك أنه صد غزو الفرس عن البلاد خلال السنين الأولى من عهد كل من نقطانب الأول ونقطانب الثاني.

والمهم في بحثنا هنا أن نشير إلى أن هؤلاء الأجناد المرتزقين من الإغريق لم يَطِبْ لهم تسلُّم أجورهم عينًا أي بمحاصيل البلاد الطبيعية بل حتموا أن يتقاضوا مرتباتهم نقدًا، ومن ثم كان لزامًاعلى ملك مصر الدفع بالعملة النقدية ذهبًا أو فضة، وقد حُلَّت المعضلة منذ بدايتها بمهارة، وذلك أن «أوكوريس» بعد توليه عرش البلاد بأربعة أعوام عقد محالفة مع «أثينا» فَحْواها انخراط الإغريق في صفوف جيشه، وقد كان ضمن التزامات «أثينا» أن تمد مصر بعملة من نقودها المعترف بها لتُستعمل في مصر لدفع أجور الجنود المرتزقين، وقد وُجد عدد من هذه النقود المضروبة في مصر.٩٢ ولكن هذه النقود لم تكن توجد قط خارج «أثينا»، وكانت الفضة التي استُعملت في النقود التي قدمها «أوكوريس» وأخلافه من بعده قد حُفظت من حيث نقائها على حسب معيار النقود التي كانت تُضرب في «أثينا»، فقد حافظت على وزن العيار المتفق عليه، وقد كانت هذه النقود الأثينية التي ضُربت للفرعون على غرار التي كانت تُضرب في «أثينا» من حيث النقاء والوزن والشكل.
هذا ويجدر بنا أن نبين عند هذه النقطة أنه قد عُملت محاولات للتمييز بين قطع العملة الأثينية التي تساوي قيمتها أربع درخمات وهي التي ضُربت لحساب ملك مصر وبين القطعة العادية التي تساوي أربع درخمات التي ضُربت لأثينا، وذلك بوساطة رسم مميز بين النقدين، ويمكن تمييز أي من هذه النقود التي عُثِر عليها في مصر وضُربت فيها إذا أمكن توحيد الطابع الذي على وجه النقد أو ظهره بطابع نقد كان قد وُجد في مصر أيضًا، وعلى أية حال فإن هذا التمييز على الرغم من إمكان قبوله إلا أنه يحيطه الشك فيما يخص نقود عُثِر عليها في كنوز يُظَنُّ أنها وُجدت في صناديق حربية أو في كنوز تحتوي على نقد واحد أو أكثر مرتبط بالطابع الخاص الذي ذُكر آنفًا، ففي كنز تل المسخوطة،٩٣ الذي يحتوي على عدة قطع من التي قيمتها ثلاث درخمات من الطراز الذي نبحثه يمكن أن يحتوي على نقود ضُربت في مصر (راجع اللوحة رقم ٩).
على أن ضرب النقود باسم مصري لم يظهر إلا في عهد الأسرة الثلاثين عندما استقر الحكم في البلاد، وقد ظهرت أربعة أنواع من هذه النقود كما يُشاهَد ذلك في اللوحة رقم ٩ (٢، ۳، ٤، ٥).

فالعملة رقم ٢ يمكن أن تكون قد ضُربت في مصر في عهد «نقطانب الأول» والعملتان رقم ٣ و٤ يمكن أن تكونا قد ضُربتا في عهد الملك «تيوس»، في حين أن العملة رقم ٥ يظهر أنها ضُربت في عهد «نقطانب الثاني»، على أن الآراء قد اختلفت في ذلك.

أما العملة الصغيرة التي ضُربت للملك «نقطانب الأول» فيظهر أنها أول عملة يمكن نسبتها للعهد الفرعوني من حيث الأسلوب والطراز، والواقع أن صورة الآلهة «أثينا» الخشنة الصنع التي ظهرت على وجه العملة كان لا يمكن أن تظهر إلا في نقود ضُربت بعد بداية القرن الرابع ق.م بقليل، أما طراز صورة ظهر هذا النقد فهو تنويع لبومتين تمثلان الآلهة «أثينا». أما النقد المصري الصريح فهو الذي أُدخلت في سكِّه علامتان هيروغليفيتان (نفر، نب) على ظهر النقد، وقد ظهرت علامة «نفر» بين بومتين متقابلتين في حين أن علامة «نب» قد ظهرت في الجزء الأسفل، والمعنى الذي تحمله هذه العلامات الهيروغليفية يمكن ترجمته ببعض التصرف هكذا: الكل «فضة» خالصة أو «صالح لكل الأغراض.»

وهذا النقد السالف الذكر كان قد عُرض في المتحف البريطاني، ثم سُحب من هناك، وعلى أية حال لا يمكن تحديد مكانه بين النقود بدقة، أما العملتان رقم ٣، ٤ اللتان في اللوحة ٨ وهما من الذهب الخالص فيحملان بعض اسم «تاخوس» بالحروف الإغريقية على ظهر العملة، هذا ويُلحظ أن طراز طابع الوجه والظهر قد عُمل على حسب المتَّبع في النقد الأثيني وهو يحتوي على رأس «أثينا» وبومة واقفة، أما قطعة الفضة رقم ٣ فليس من المؤكد نسبتها على وجه التأكيد إلى عهد الملك «تيوس»، وقد طُبع على الوجه صورة ابن آوى (أنوبيس) ويقول «جنكنز» إنَّ ظَهْرَ هذه العملة يحتوي فضلًا عن صورة البومة طغراء ملك مصري غامض، وقد ظهر من تكبير صورة هذه العملة وجود الإشارة الهيروغليفية = ماعت = الصدق، وهي تعني أن قيمة هذه العملة ونوعها قد تُؤُكِّدَ من صحتهما؛ أي لا غش فيها ولا خسران في وزنها، وهناك تفسير آخر لهذه العملة وهو نسبتها إلى الملك «تيوس» على الرغم من أنه قد مات.
هذا ولدينا في هذه المجموعة عملة أخرى يمكن نسبتها إلى الملك «تيوس»، بشيء كبير من التأكيد، وهذه العملة تشبه القطعة التي قيمتها أربع درخمات (انظر اللوحة رقم ٩) ونُقش عليها حروف إغريقية، وعلى ظهر هذه العملة من الجهة اليمنى حل محل الحروف الإغريقية نقش ديموطيقي يُقرأ هكذا = تيوس فرعون. ومن ثم يمكن أن نذهب إلى أن «تيوس» الذي ذُكر هنا هو والد «نقطانب الأول» أو أمير البحر المصري للأسطول الفارسي في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، والمرجَّح أنه الفرعون الذي حكم في عهد الأسرة الثلاثين، هذا ومن بين النقود التي تساوي أربع درخمات والتي وصلت إلى مصر نجد فيها خلافًا من حيث الأسلوب والنوع، وعلى ذلك قد يكون من الغريب إذا لم يكن بعضها يحتوي على صور تدل على قِدَم أصلها.
بعد ذلك نعود إلى النقود المصوَّرة في اللوحة ونفحص النقد الذي يحمل رقم ٥ وهو الذي يشار إليه بعيار «نفر-نب»، والظاهر أن هذه القطعة قد ضُرب منها عدد كبير؛ إذ عُثر منها على ٢٤ قطعة حتى الآن على وجه التقريب، وقد طُبع على وجهها ثلاثة طوابع مختلفة، وعلى ظهرها على أقل تقدير طبعتان، وقد نُسِبت إلى عهد البطالمة الأول منذ عدة سنين، ولكن «جاستون مسبرو» أثبت على أية حال بعد فحص دقيق أنها أقدم من ذلك، وترجع للعهد الفرعوني، وقد وافقه معظم العلماء على رأيه هذا، ومن المحتمل جدًّا أن هذا التقدير يرجع إلى عصر الملك نقطانب الثاني.٩٤

هذا وقد طُبع على ظهر هذا النقد حصان في منتهى الروعة والجمال الفني وهو يثب إلى الأمام بروح عالية، ويطيب لنا أن نذكر هنا أن النقد المصري الذي كان قد ضُرب في بادئ الأمر ليكون حلًّا لدفع أجور الجنود المرتزقة يعتبر نقدًا ذا صبغة أجنبية تمامًا ثم أخذ يتطور شيئًا فشيئًا ليصبح مصري الصبغة في عهد الأسرة الثلاثين إلى أن صار في نهاية الأمر متطوِّرًا إلى عملة ذهبية تعد من القطع الفنية العظيمة القيمة، وهذا التطور الذي جاء شيئًا فشيئًا يظهر أنه كان قد جاء طبقًا لضرورة محلية؛ إذ الظاهر أنه كان يعد شيئًا إضافيًّا لاستمرار ضرب نقود أثينية الطراز وهي التي كان يُحتاج إليها بمثابة قاعدة لدفع أجور الجنود الإغريق المرتزقين.

والواقع أن النقد الذي يحمل اسم «نفر-نب» قد يكون له علاقة بالجيش، وذلك على غرار «الذبابة الذهبية» التي كانت تُمنح نيشانًا للشجاعة عند المصريين؛ فقد وُجدت مرسومة بفَخَار وإعجاب في كثير من القبور المصرية في عهد الدولة الحديثة ولكنها قد أصبحت في العهد المتأخر مهملة، وكانت الحاجة الآن تدعو إلى منح مكافآت من الذهب في صورة أكثر فائدة وأكبر قيمة للجنود المرتزقة، كما كانت أحسن قبولًا عند الشجعان من أبناء الوطن، ومن الجائز إذن أن العملة «نفر-نب» قد استُعملت لهذا الغرض وبخاصة عندما نعلم أن صورة الجواد المتوثب المرسوم على ظهر هذا النقد كان علامة على الشجاعة والإقدام في كثير من ثقافات البحر الأبيض المتوسط في هذا العصر.

وبالإضافة إلى قطع النقد الفضية الصغيرة التي وُصفت سابقًا قد نُشِر غيرها في مطبوعات منوعة، وتدل الظواهر على أنه ضُربت في عهد الأسرة الثلاثين، فقد شرح جنكنز Jenkins في مقاله السابق الذكر قطعة تشبه في حجمها وصناعتها القطعة التي نُقش عليها «أنوبيس-ماعت» وهي التي تحمل رقم ٣ في اللوحة ٨، وطبع على وجه هذه القطعة رأس الآلهة «أثينا» في حين أنه رُسم على ظهرها بومة، غير أنه رُئِيَ على الظهر كلمة «واح» ومعها حروف إغريقية، وهذه القطعة محفوظة الآن بالمتحف البريطاني، ويميل الإنسان إلى نسبتها إلى السنين الأخيرة من عهد نقطانب الأول لا بعد ذلك؛ لأنها لا تزال تحتفظ كثيرًا بالصبغة الأثينية وتُترجَم كلمة «واح» بمعنى «مستمر» أو باقي أو الكثرة أو الوفرة.
وقد يدهش الإنسان عند استعراض ما نُسب إلى عهد الملك «تيوس» من نشاط نقدي، ولكن لا يلبث أن تزول هذه الدهشة عندما يعلم ما كانت عليه نفسية هذا الفرعون وما له من سمعة تاريخية مجيدة؛ فقد كان ملكًا طموحًا ثائرًا يطمع في أن يعيد إلى مصر ما كانت عليه من مجد غابر في عهد أسلافه وبخاصة تحتمس الثالث، ومن ثم أخذ في إعداد حملة جبارة لاسترجاع إمبراطورية مصر في آسيا، ومن أجل ذلك فإنه جمع كل ما يمكن جمعه من ذهب وفضة من بلاده بالإضافة إلى الضرائب الفادحة التي ضربها على التجارة، وما استولى عليه من كنوز المعابد التي كانت مكتظة بكل غالٍ وثمين، ومن كل ذلك أمكنه جمع مقادير هائلة من المعادن النفيسة ليدفع معظمها أجورًا لآلاف الجنود المرتزقة من الإغريق، ومن ثم نجد أن هذا الفرعون قد جمع مادة هائلة لضرب النقود التي سُكَّت على عَجَل، ولكن كان من جراء تعسفه في جمع المال أن قامت ثورة داخلية كان من نتائجها أن عرقلت في الحال حمْلته ثم أدت إلى خلعه عن عرشه، على أن أنانية هذا الرجل لم يكن في الإمكان إقناعها بسكِّ نقود دون أن يكون عليها اسمه بل كان لا بد أن يحمل بعضها اسمه بالإغريقية لتوطيد جنوده المرتزقين، وبالديموطيقية لفائدة رعايا المصريين، والخلاصة أنه يمكن أن نضع تاريخًا لاستعمال العملة المسكوكة في مصر الفرعونية كالآتي:
  • من ٣٩٢–٣٨٠ق.م: كان الملك «أوكوريس» يناهض بلاد الفرس، وقد عقد محالفات مع أثينا وقبرص واستخدم في جيشه فِرَقًا إغريقية بقيادة قواد إغريق، وقد ضرب من أجل ذلك نقودًا من طراز أثيني لدفع أجور الجند الإغريق.
  • وفي ٣٧٨–٣٦١ ق: هزم نقطانب الأول نفريتيس الثاني، وبذلك وضع أساس الأسرة الثلاثين وكان للجنود المرتزقين الذين جهزهم «أوكوريس» اليد العليا في حماية البلاد المصرية من هجوم الشطربة «فارناناسوس» واستمر استعمال قطع النقد المضروبة على النمط الإغريقي، وفي العهد الذي تلا ذلك — وكان عهد سلام ورخاء — استمر ضرب بعض نقود إضافية من العملة الفضية الصغيرة عليها صور إغريقية، غير أنها كانت تحتوي على صور هيروغليفية، وبذلك كانت تؤلف أول نقد مصري حقيقي.
  • ٣٦١–٣٥٩ق.م: وفي تلك الفترة كان الملك «تيوس» يجهز جنودًا مرتزقين وجيشًا مصريًّا لغزو «آسيا»، وقد ابتز من مصر مقادير كبيرة من الذهب والفضة لضرب العملة، وكان من جراء ذلك أن ضُرِبت نقود أثينية أضيف إليها (الاستاتر الإغريقي Staters = ١٠٥ قروشٍ تقريبًا) عليه اسم الفرعون بالإغريقية، وكذلك قطع من ذوات ثلاث الدرخمات عليها اسم فرعوني ولقب، وقطع صغيرة من الفضة تشبه قطع نقود «نقطانب الأول» ولكن على ظهرها رسم مصري.
  • ٣٥٩–٣٤١ق.م: قَمَعَ في هذه الفترة نقطانب الثاني بمساعدة الجنود الإسبرتيين الاضطرابات الداخلية التي قامت بسبب عزل «تيوس» وتولى هو حكم مصر، وبعد ذلك بعامين هَزَم الحملة الفارسية التي حاولت غزو مصر بمساعدة جيش من المصريين والإسبرتيين والأثينيين، وفي خلال سنينِ الرخاءِ التي تلت ذلك بقي جيش الجنود المرتزقين قائمًا يتألف من عدد كبير من هؤلاء الجنود لدرجة أن فِرَقًا منه كانت تُرسل لمساعدة حلفاء مصر مثل «صيدا» وفي تلك الفترة استمر ضرب النقود الأثينية وأُدخل كذلك ضرب النقود الذهبية بالأسلوب المصري، وكانت تُسَكُّ بعدد لا بأس به، ومن المحتمل أن نقودًا مصرية مختلطة الأسلوب قد استمر سكُّها حتى نهاية هذا العصر.
  • ٣٤١ق.م: وفي هذا العام هُزم الفرس على يد القائد الفارسي «باجوس» الملك نقطانب الثاني الذي هرب إلى أعالي النيل ومع كنز كبير يشمل عددًا كبيرًا من النقود التي نُقش عليها «نفر-نب».

النقد المصري في العهد الهيلانستيكي البطلمي

عندما تولى الإسكندر الأكبر زمام الأمور في مصر لم يكن استعمال النقود المسكوكة باسمه بالشيء الغريب عن المصريين وبخاصة بين الأوساط الراقية؛ فقد كانت هناك نقود مسكوكة باسم آخر فرعون، وإن كان معظمها يصرف أجورًا للجنود المرتزقين، وتدل شواهد الأحوال على أن كثيرًا من النقود التي كانت تُتداول في مصر وقتئذ قد أحضرها المهاجرون إلى مصر معهم،٩٥ هذا إلى قطع نقود عليها صور أخرى.
وفي خلال العهد الذي كان فيه بطليموس شطربة مصر وكذلك في السنين الأولى من تولِّيه عرش مصر نجده قد قَفَا السياسة النقدية التي كان يسير على نهجها الإسكندر فَسَكَّ نفس العملة الذهبية والفضية التي كانت تتبع المعيار الأتيكي، كما كان المتَّبع في كل العالم الهيلانستيكي، ونجد أنه في عهد «الإسكندر الرابع» كان النقد الذي سُكَّ في حكمه مميزًا بخاصية وهي أن رأس الإسكندر المصورة على النقد كانت مغطاة بمسلاخ فيل بدلًا من مسلاخ الأسد الذي كان مستعملًا من قبل هذا، ونشاهد على ظهر النقود في تلك الفترة صورة الآلهة «أثينا» المحاربة، وبذلك حلت محل الإله «زيوس» الذي صُوِّر قاعدًا على عرشه، هذا وقد شوهد كذلك نسر بطليموس على النقد، وأخيرًا نجد على بعض قطع أن اسم بطليموس قد أضيف إلى اسم الإسكندر، ومن سلسلة هذه الصور يمكن تتبع ما كانت تنطوي عليه نفس بطليموس من طموح متزايد شيئًا فشيئًا،٩٦ ويلفت النظر أنه في عقد زواج مؤرخ بالسنة ٣١١ق.م؛ أي عندما كان بطليموس لا يزال شطربة قد اشترط فيه أن يكون المهر بالدرخمات المسكوكة من الفضة التي عليها صورة الإسكندر، وهذا العقد عُثر عليه في الفنتين،٩٧ وهذه الدرخمات كان عيارها كعيار الدرخمة الأتيكي.
وعلى أية حال فإن بطليموس الأول لم يلبث أن ابتدع سياسة نقدية جديدة فغيَّر العيار بسكِّ عملة فضية أخف وزنًا من العملة الأتيكية، وربما كان غرضه من ذلك أن يجعلها تتفق مع أثمان المعادن الثمينة التي كانت آخذة في الارتفاع بثبات في حالة الفضة وآخذة في النقصان من حيث الذهب، فضَرَبَ نقوده على حسب العيار المتبع في جزيرة «رودس» وهو الذي كان أخف وزنًا، وربما كان الغرض من ذلك تسهيل التجارة بين مصر وهذه الجزيرة، وفي عام ٣٠٥ق.م بدأ «بطليموس الأول» يسك نقوده مُزينة بصورته، فكانت أول نقود بطلمية عُرفت لنا، وكانت نقوده عبارة عن استاتر إغريقي (١٠٥ قروش تقريبًا)، وقِطَعٍ من ذوات ثلاث الدرخمات من الفضة و«أبولات» من النحاس، وقد تخلى عن المعيار الروديسي واستعمل العيار الفينيقي وبخاصة في سيريني، وكانت مصانع السكة موجودة في «سيريني»، والإسكندرية.٩٨

ومما تجدر ملاحظته هنا أن «بطليموس الأول» لم يتخذ المعيار الفينيقي إلا في أواخر حكمه، وقد كان غرضه من ذلك أن يخفض وزن النقد الفضي على حسب العيار الذي كان مستعملًا في البلاد الفينيقية، وهذا المعيار قد استمر حتى نهاية العهد البطلمي.

وقد كانت الفضة التي استُعملت العيار الرئيسي تتبع تقلبات السعر التجاري للذهب والفضة في عالم البحر الأبيض، فكانت السكوك المتتابعة تعطي للقطع النقدية الوزن الذي يجعل النسبة دائمًا محفوظة بين كل النقود المسكوكة من حيث القيمة دائمًا، فكانت نسبة الذهب للفضة واحدًا إلى عشرة في القرن الخامس، وقد نزلت هذه النسبة إلى حوالي واحد إلى عشرة بعد حملات الإسكندر الذي شتت شمل خزائن الدولة الفارسية.

وفي بداية القرن الثالث ازداد نزول قيمة الذهب كذلك في كل العالم الإغريقي، ومن ثم كانت نسبة وزن العملة هي واحد إلى ثمانٍ، وفي نهاية النصف الأول من القرن الثالث ازدادت قيمة الذهب شيئًا فشيئًا، ويرجع السبب في ذلك إلى انقطاع وصول الذهب من «البنجاب» في نفس الوقت الذي انسحب من هذا الإقليم التسلط المقدوني، يضاف إلى ذلك أن استغلال مناجم الفضة في أسبانيا بكثرة قد حطَّ من قيمة هذا المعدن بالنسبة إلى الذهب، وفي حوالي ٢٥٨-٢٥٧ق.م وُجد في تقدير محتويات كيس من المال جاء ذكره في ورقة من أوراق «زينون» ما يدلنا على أن النسبة بين الذهب والفضة هي واحد إلى ثلاث عشرة وثلث؛ أي إنها بالضبط النسبة التي كانت متبعة في القرن الخامس، وقد أكد ذلك أن استغلال مناجم الذهب في مصر لم يكن له تأثير على سوق هذا المعدن.

أما من حيث المكانة التي كان يشغلها الذهب بالنسبة للفضة فإن مصر الفرعونية كانت حتى عهد الرعامسة على أقل تقدير في موقف مختلف عن الذي كان فيه عالم شرقي البحر الأبيض المتوسط فلا بد من أن الفضة كانت تُستورد إليها بمصاريف باهظة فكانت غالية نسبيًّا ونادرة، ففي الأسرة العشرين كانت نسبة ثمن الذهب للفضة كنسبة اثنين لواحد، هذا ولا نعلم ماذا حدث لهذه النسبة عند فتح الإسكندر للبلاد المصرية؟٩٩ حيث يقول إن النسبة كانت تتراوح ما بين ١٥ و١، وهذا يختلف عما ذكره المؤرخ «ملن» Milne، وعلى أية حال فإنه ليس لدينا ما يجعلنا نأخذ بهذه النسبة في آخر العهد الفرعوني.

والواقع أن الفضة التي كانت نادرة في مصر في عهد البطالمة كما يدل على ذلك قلة ذكرها في ورقة «هاريس» الكبرى قد أخذت تدخل إلى البلاد بفتح باب التجارة بين مصر وبلاد الإغريق بمقدار قليل، ونجد في المعابد الكبيرة سبائك فضة كانت تُتداول، وقد جاء ذكر الفضة في العقود والأثاث وشراء العبيد والحيوان، وبوجه خاص ذُكرت بمثابة مهر زواج.

إصلاح العملة في عهد بطليموس الثاني

تحدثنا فيما سبق عن التغيير الذي أدخله «بطليموس الأول» في عيار الذهب والفضة على حسب العيار الفينيقي، وهذا النظام في العملة كان على حسب النظام المتبع في كل العالم الهيلانستيكي، ويتلخص في أنه ضرب عملة من الذهب والفضة مُقدَّرة على حسب قيمة هذين المعدنين في السوق كما ضرب قطع عملة من النحاس يصل قطرها حتى ثلاثين مليمترًا ذات قيمة اسمية، أو يعبر عنها بمثابة رمز لقيمتها كما هو الواقع في أيامنا.

ولكن في عهد بطليموس الثاني حدث تغير مُحَسٌّ في عام ٢٧٠ق.م وأهم مميز لهذا التغير هو إدخال قطع كبيرة من النقد النحاسي يحتوي على ثلاثة مسميات جديدة في العملة النحاسية يبلغ قطر كل منها على التوالي ٤٨، ٤٢، ٣٦، وهذه العُملات هي التي أصبحت قطع العملة السائدة الاستعمال في كل بلاد القُطر، وهذا التغيير لم تكن أهميته اقتصادية وحسب، بل كان له أهمية أخرى سنذكرها، وأول ما يجب ملاحظته في هذا الصدد أن مثل هذه القطع الضخمة من النحاس لم يكن لها نظير في كل العالم الإغريقي، والواقع أن هذا التجديد يعد انفصالًا مميَّزًا عن تقاليد النقد الهيلانستيكي بالنسبة لملك من أصل هيلاني كبطليموس الثاني.

والسبب في هذا التجديد مقتضيات الشئون الداخلية للمملكة المصرية، وذلك أن استعمال النقود المسكوكة في البيع والشراء لم يكن يعد تجديدًا في مصر وحسب، بل إن فكرة استعمال عيار للفضة كانت فكرة غريبة لدى عامة الشعب المصري الأصيل، فإن معاملتهم التقليدية منذ أقدم العهود كما أشرنا من قبل كانت بالنحاس، وعلى ذلك فإنه من المحتمل أن التجار قد أظهروا ميلهم بصورة مُحَسَّة إلى بقاء استعمال النحاس في معاملتهم لدرجة جعلت الحكومة تمدهم بنقود من المعدن الذي اعتادوا التعامل به، وهذا الغرض قد يعضده الطابع الذي كان على ظهر العملة الجديدة؛ ففيما سبق كانت الصور التي تُطبع على النقود ذات طابع إغريقي، بل وكانت إغريقية محضة فنجد على وجه النقود المصنوعة من الذهب بعد أن أصبح بطليموس ملكًا على البلاد صورة رأسه، في حين كان على النقد النحاس صورة رأس الإسكندر (وذلك في نوعين واحد منهما بمسلاخ فيل، والثاني عارٍ) ورأس الإله «زيوس» وفي حين نجد من جهة أن هذه الصور قد بقيت لمدة على قِطَع النحاس الصغيرة القديمة نجد من جهة أخرى أن القطع الأكبر التي ضربها بطليموس الثاني قد طُبع عليها رأس إله له علاقات محلية بمصر وهو الإله «آمون» في «سيوة»، ومن الجائز أن هذا الطراز قد انتُخب ليميز هذه النقود بأنها نقود مصرية محضة.

ومما تجدر ملاحظته أن صورة «آمون» التي انتُخبت هنا كانت صورة «آمون» في شكله الإغريقي أي إله ذو لحية وقرن قصير ملتوٍ حول الأذن، ومن الجائز أنه قد جيء به إلى «سيريني» بالمستعمرين الدوريين، ومن هناك حمل إلى الواحة، وعلى أية حال فإن طراز هذا الإله كان موجودًا في «سيريني» من أقدم عهد فني سُجِّلت فيه صورته، هذا وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الوحي في «سيوة» قد ظهر في التاريخ الإغريقي قبل أن يظهر في التاريخ المصري، وإن كان وجود الإله «آمون» في «سيوة» يرجع إلى زمن بعيد، ولكن منذ غزو الفرس لمصر كانت عبادة آمون رع قد وُحِّدت بعبادة «آمون» سيوة، كما أوضحنا ذلك في غير هذا المكان في فصل سابق من هذا الكتاب، ومن المحتمل أن سبب ذلك يرجع إلى جماعة من كهنة آمون طيبة قد هربوا من الاضطهاد الفارسي واحتموا في واحدة سيوة وغيرها حيث كانت المعابد المصرية قائمة هناك، وكان توحيد الإلهين سهلًا ميسورًا، وذلك لأنه كان يوجد في «سيوة» إله يتفق في الاسم والمظهر مع إلههم آمون، وكان له قرنان، غير أن قَرْنَي الإله المصري الذي كان يمثَّل في طيبة وغيرها في صورة إنسان برأس كبش من فصيلة أخرى، وهذا التوحيد بين إله إغريقي وإله مصري كان يتفق مع السياسة البطلمية كما تحدثنا عن ذلك من قبل، وعلى ذلك فإنه عندما دعت الحاجة إلى إنشاء طراز ليوضع على النقود بوصفها مصرية فإنه كان لا بد أن يوجد في رأس إله صِفاته وعلاقاته معترَف بها من قِبَل الكهنة المصريين.

هذا وقد قال بعض المؤرخين إنه توجد علاقة في هذا الاختيار — وبيَّن التطور الذي حدث في نفس المدة على ما يظهر — بالنسبة لقصة الإسكندر التي تؤكد بحقٍّ الأهميةَ الدينية لزيارته آمون بواحة سيوة، هذا ولا بد أن نلفت النظر إلى التطور الفني في تمثيل الإسكندر بقرن على معبده؛ فقد كان المقصود أن يُعبد بوصفه ابن آمون، ويقول بعض الأثريين إن هذا القرن ليس مأخوذًا بوجه التأكيد عن آمون؛ أي إنه ليس مشتقًّا من قرن آمن-رع، وذلك لأنه صُوِّر دائمًا قرنًا قصيرًا مقوسًا من طراز إغريقي أي إنه ليس بالقرن الطويل المزدوج الالتواء الذي نشاهده في قَرْنَيْ آمون المصري، وعلى الرغم من أنه مثل قرن آمون فإن رأسه الذي يدل على الشباب يشبه أكثر الرأس الذي يظهر على نقود سيريني الإغريقية الصبغة، وقد وُحِّد برأس الإله الدوري «كارنيوس» Carneius الذي كان يُعبد هناك، وفي أجزاء عدة من بلاد الإغريق مع آمون وكان له قرن مثله، والواقع أن «كارنيوس» قد يُعَدُّ بأنه ابن آمون، وهذا يمكن أن يفسر استعمال رأسه ليمثل رأس الإسكندر، غير أن النقطة الهامة بالنسبة للموضوع الذي نبحثه هي أن صورة الإسكندر ذي القرنين لم تظهر إلا بعد موته بعدة سنين ولم تظهر وقتئذ في مصر بل في «تراقيا» على نقود «ليزيماكوس»، ولما لم يكن لدينا برهان على عبادة آمون و«كارنيوس» في شمالي بحر إيجه فإنه من المحتمل أن «ليزيماكوس» قد أخذ هذا الطراز من عبادات محلية وأنها قد جُلبت إلى مصر على يد «أرسنوي» كما تحدثنا عن ذلك من قبل، وعلى أية حال يحتمل أن «أرسنوي» هي التي ابتدعت ضرب العملة الجديدة من النحاس التي تتفق مع التقاليد والعادات المصرية وصُوِّر عليها رأس إليه معروف في مصر وكانت علاقته مع الإسكندر معروفة بأنه ابنه ووريثه على عرش الفراعنة، ومن ثم أخذت «أرسنوي» كما تحدثنا عن ذلك من قبل تعمل على إحياء هذه الفكرة التي ظلت سائدة حتى نهاية عهد البطالمة، ومن المحتمل أنه اعترافًا لهذه الملكة بإيقاظ هذه الفكرة التي وضع أساسها الإسكندر، من مرقدها، أن القوم قد اتَّبعوا ضرب هذه النقود النحاسية الضخمة الحجم لضرب عدة نقود كبيرة ذات روعة من الذهب والفضة كان حجمها خارجًا عن حد المألوف مُزينة بصورة «أرسنوي» واسمها.١٠٠

ومما تجدر ملاحظته أنه منذ ظهور العملة النحاسية الكبيرة الحجم في عهد «بطليموس الثاني» وانتشارها اختفت العملة الفضية من خزائن العملة في مصر وأخذت تحل محلها العملة الجديدة، ومن ثم نفهم أن النقد النحاسي الذي ابتدعه «بطليموس الثاني» كان رمزًا آخر وتوضيحًا للثنائية التي أُسست في مصر على طريقة النظام البطلمي، فمصر القديمة أي مصر التي كان يقطنها الفلاحون كان لها عُملاتها الثقيلة العتيقة المصنوعة من النحاس، وجنبًا لجنب معها قامت مصر الجديدة أي مصر الإسكندرية والإغريق بنقدها الأنيق الخفيف الوزن من الفضة والذهب الفاخرة، غير أن غرض بطليموس لم يكن إرضاء مطالب المواطنين المصريين بإدخال هذه العملة المصنوعة من البرونز بل رأى أن هذا النقد الجديد يمكن أن يمنع الفضة والذهب من التداول، وأن العملة المصنوعة من هذين المعدنين يمكن أن تعود شيئًا فشيئًا إلى الخزانة الملكية حيث تُكنز هناك ويستعملها الملك لأغراضه الخاصة، وهذا هو نفس ما حدث بعد حكمه.

والواقع أن نقد البطالمة كما ذكرنا كان الغرض منه أولًا أن يُستخدم في شئون تجارتهم وفي حاجيات مصر كما نظموها، وهذا الغرض نجده واضحًا في فرض قطع عملة ثقيلة الوزن كان مصيرها أن تصبح العملة الرئيسية في الأرياف (القرى)، هذا إلى قطع العملة التي تساوي ثلاث درخمات المصنوعة بكثرة من الفضة، وهي التي كان لها عيار ثابت، وكانت لا تُستعمل تقريبًا إلا في الإسكندرية والأملاك المصرية في الخارج وفي الممالك الأجنبية التي تتَّجر مع مصر، ولكن نجد من جهة أخرى أن العملة البطلمية كانت سلاح دعاية داخلية، وكان الذهب هو الوسيلة، وذلك أن الذهب لم يكن يُستعمل في تجارة البلاد الداخلية وبخاصة أجمل النقود، ونخص بالذكر منها القطع ذات خمس الدرخمات التي ظهرت في عهد «بطليموس سوتر»، وفيما بعد القطع ذات ثماني الدرخمات، وغيرها التي ضُربت في عهد «بطليموس الثاني» و«أرسنوي» وعليها صورتا بطليموس وزوجه «أرسنوي» وهذه النقود كانت تستعمل بوجه خاص في التجارة الخارجية والأمور السياسية، ولا نزاع في أن هذه النقود كان لها تأثير على معاصري بطليموس بما كانت تدل عليه من فخامة وغنًى وقوة.

وبعد أن وطد «بطليموس الثاني» نقده وأصبح يباهي به أخذ يراقب استيراد النقود الأجنبية ويفصل النقد المصري عن نقد العالم الهيلانستيكي، وذلك لأن «بطليموس الثاني»، أراد أن تكون إمبراطوريته وحدة محكمة النسج وبناءً قويًّا له نظام نقد منسجم، وهذا الميل إلى نظام نقد منسجم والكفاية الشخصية قد ظهر في اتخاذه عدة إجراءات في هذا الصدد، وذلك أنه سعى في أن تكون عملته هي النقد الوحيد لكل إمبراطوريته المترامية الأطراف، وبهذا يكون قد خالف ما كانت عليه مملكة السليوكيين في سوريا و«بابل»، وأول خطوة اتخذها في هذا السبيل أنه عمل على إجبار ممتلكاته على أن يستعملوا نظامه النقدي وعملته المصرية، وكانت القاعدة أن المدن الإغريقية التي كانت تحت حكم «بطليموس الثاني» لم يكن مسموحًا لها أن تبقى على عملتها الخاصة، وفي الحالات الخاصة التي كان يسمح لها بذلك كان لزامًا على البلد المصرَّح له أن تحول عيار عملته إلى العيار الفينيقي، يضاف إلى ذلك أن هذا الحظر الذي فرضه بطليموس على النقد قد فُرض على المدن الفينيقية وفلسطين، وعلى ذلك بطل العمل بنقدهم، وقد اتخذت أعظم هذه المدن «فينيقية» مراكز لضرب النقود البطلمية، وكان من جراء هذه السياسة أن أصبح النقد البطلمي النقد الوحيد المستعمل في الأملاك البطلمية، هذا ولم تسفر أعمال الحفر الحديثة عن وجود أي نقد بطلمي في الطبقات الأرضية التي تنسب إلى عهد البطالمة وبخاصة في المدن الفلسطينية التي عُمل فيها حفائر على الطرق العلمية مثل «جيزر» و«ماريسا» و«سماريا» و«بيت زور»، والواقع أنه لم يكن هناك شيء غير عادي في مثل هذا التوحيد في عملة الممتلكات المصرية، وهذا هو ما نجده الآن في توحيد عملة الاسترليني والدولار، ولكن بنظام آخر يختلف بعض الشيء عن نظام البطالمة، وعلى أية حال نجد أن «بطليموس الثاني» لم يكتفِ بهذا الوضع بل اتخذ خطوة أخرى أكثر أهمية وأكثر اعتيادًا في نفس الاتجاه إذ نجد أنه لم يفعل ما كان يفعله السليوكيون وهو السماح بدخول النقد الأجنبي الذي كان بنفس العيار في بلادهم والتعامل به بل اتخذ إجراءات خاصة لمنع النقد الأجنبي من دخول السوق المصرية، وهذا يمكن أن يفسَّر به ما جاء في بردية وصلت إلينا من سجلات «زينون»، وهذه الوثيقة عبارة عن خطاب أرسله موظف يُدعَى «ديمتريوس» (يحتمل أنه كان هو المسيطر على العملة في الإسكندرية) إلى «أبوللونيوس» وزير مالية «بطليموس الثاني» وقد كتب «ديمتريوس» هذا الخطاب بسبب صعوبات قد ظهرت له بسبب منشور الملك عن إعادة سك النقود الذهبية الممسوحة وكذلك النقود الأجنبية التي لم تُضرب في مصر وجُلبت إليها.١٠١

وهذا الخطاب يقدم لنا برهانًا واضحًا على إقامة مصر نوعًا من الاحتكار لتبادل العملة وعلى الأقل العملة الذهبية التي كانت مربحة جدًّا للملك وخسارة ظاهرة للتجار، وذلك أن لم يكن مسموحًا بوجود صرَّافي عملة خاصين ولا يوجد مصارف حرة أو ملكية للقيام بهذه العملية بل كانت كل هذه العملية مركَّزة في الإسكندرية في يد موظف ملكي خاص، ولم تكن مثل هذه الإجراءات معروفة في العالم الإغريقي فيما مضى، والواقع أن مجرد وجود هذا الاحتكار كان يعني منع الذهب الأجنبي من دخول السوق المصري، يضاف إلى ذلك أن أمر الملك بضرب هذه النقود من جديد كان أشد خطرًا، وهذا يعني أن الملك قد فرض أنه من المسلَّم به أن كل أعمال التجارة الهامة في مصر التي كان الذهب يستعمل فيها سبيلًا للمبادلة، لا بد أن تقام على أساس العملة البطلمية، على أن مثل هذا الحظر على حرية التجارة قد زاد في خطورته لتسير على حسب النظام البيروقراطي المُبالغ فيه مما جعل عملية الصرف وإعادة ضرب النقود الأجنبية بطيئة وغير منظمة مما سبب غضب التجار الأجانب وسخطهم.

ومما سبق نفهم أن السياسة النقدية في عهد كل من بطليموس الأول والثاني كانت تتمثل في وجهتين؛ فمن وجهة تدل شواهد الأحوال على أن مصر كانت ملك بطليموس أو بعبارة أخرى ضيعته التي كان لها وجود منفصل، وكانت متصلة بسائر العالم الهيلانستيكي عن طريقه هو وحده، وهذا كان معناه إدخال العملة المضروبة من النحاس في مصر وتعميمها فيها، ومن وجهة أخرى قد ادَّعى البطالمة الأُول لأنفسهم مكانة استثنائية في العالم الهيلانستيكي، ولم يرغبوا في أن يكونوا أعضاء في توازن القوى الهيلانستيكية بل صمموا على أن يعيشوا في برج عاجيٍّ، اللهم إلا إذا كان في مقدورهم أن يجذبوا شيئًا فشيئًا سائر العالم الهيلانستيكي إلى حظيرة دائرة نفوذهم، ومن أجل ذلك مالوا إلى قبول عيار النقد الفينيقي وفرضهم الاحتكار الملكي وذلك باستعمال نقدهم على كل إمبراطوريتهم.

وقد تُوِّجت سياستهم بالنجاح، وعلى الرغم من أنه لم يكن في مقدورهم فرض سيادتهم على العالم الهيلانستيكي، فإنهم بلا نزاع أصبحوا بمعزل عن سائر هذا العالم، وهذه العزلة قد أصبحت شيئًا فشيئًا المميز الرئيسي لحياة البلاد المصرية وقتئذ.

وعلى الرغم من أن النقد البطلمي كان في جملته أداة سياستهم الخارجية ومعاملاتهم التجارية مع المديريات التي يسيطرون عليها، وكذلك سائر العالم فإنه غيَّر كثيرًا من أحوال مصر نفسها، فكما نعلم لم يكن استعمال العملة المسكوكة مجهولًا قبل عهد البطالمة في مصر كما ذكرنا من قبل؛ فقد كانت هناك كميات كبيرة من العملة الأجنبية والمحلية المسكوكة متداولة في البلاد، غير أن استعمالها بمثابة عملة كان محصورًا في الطبقات العليا من السكان وبخاصة بين الأجانب، وكانت المعاملة بالمبادلة تضرب بأعراقها بين السكان الأصليين وبعد عهد «الإسكندر» أخذت النقود المضروبة تحل محل التبادل، وقد استُعمل النقد بين سكان البلاد من الإغريق كأنه أمر طبيعي، ولكن لا نعرف لأي مدًى وبأية سرعة حلت النقود محل المبادلة بين المصريين أنفسهم؛ إذ الواقع أن هذا موضوع يصعب البتُّ فيه، وعلى الرغم من أن معلوماتنا عن هذه النقطة كثيرة فإنها ليست كافية؛ وذلك أنه فضلًا عن ما جاء في سجلات «زينون» وبخاصة ما كان منها خاصًّا بالإحصاءات لدينا مئات من الوثائق، هذا بالإضافة إلى مواضيع خاصة متعلقة بسياسة البطالمة الداخلية؛ مثال ذلك أجور الجنود والموظفين والعمال الذين يأخذون أجورهم عينًا ومنح الجنود أراضيَ مقابل أجورهم، كل ذلك يوحي بنقص في العملة في مصر، ومن جهة أخرى نجد أن الأهالي المصريين كانوا متمسكين بعاداتهم القديمة مما أدى إلى تعلقهم بالمبادلة في كثير من نشاطهم الاقتصادي في مصر، فمن ذلك نجد في سجلات زينون حسابات نقد وحسابات سلع قد سُدِّدت بأرقام تكاد تكون متساوية، ونجد مشابهًا لذلك في النظام البطلمي المالي المبكر ضرائب كثيرة دُفعت عينًا؛ مثال ذلك أجور فلاحي الملك وضريبة السدس Apomoira وغيرها، وذلك جنبًا لجنب مع الضرائب التي دُفعت نقدًا، وتدل شواهد الأحوال على أن قلة النقد المسكوك قد أدت إلى رفع سعر الفائدة على كل القروض في كلٍّ من المصارف الملكية، وعند عامة الناس، غير أن سعر القرض كانت تحدده الحكومة، وقد حُدد سعر الفائدة وهو ٢٤٪ وكان أعلى بكثير عن السعر الجاري في بلاد اليونان حيث كانت النقود المسكوكة كثيرة.١٠٢

تلك كانت حالة النقد في عهد كل من «بطليموس الأول» و«بطليموس الثاني» بشيء من الاختصار.

المصارف وأعمالها في عهد بطليموس الثاني

لا نزاع في أن تطور النقد في العهد البطلمي ووضْعه على أسس قويمة بوصفه وسيلة للتعامل كان له دخل في إقامة مصارف في طول البلاد وعرضها شيئًا فشيئًا، ثم امتد هذا النظام إلى الخارج، والواقع أن النقد هو أداة للمعاملات المنوعة يقوم بها رجال المصارف بوجه خاص، ولكن المصارف لم تكن في مصر البطلمية حرة كما كانت في الممالك الهيلانستيكية المجاورة لها؛ وذلك لأننا نجد أن المصارف منذ بداية نشأتها كانت كسائر معظم المؤسسات الأخرى يحتكرها البطالمة ويؤجرونها لملتزمين، كما كانت الحال في احتكار الزيوت بأنواعها، والواقع أننا نجد في محتويات «قوانين الإيرادات» منشورا خاصًّا بتأجير المصارف، غير أنه لسوء الحظ وُجد هذا المنشور ممزقًا ولم يبقَ منه إلا بعض أسطر مهلهلة، ومع ذلك يمكن أن نستخلص منه بعض حقائق.١٠٣

فكان بطليموس يضمن لأصحاب الامتياز، أو بعبارة أخرى أصحاب المؤسسة، الحق المطلق في بيع العملة وشرائها وتحويلها، وكان الملك يورد للمصارف جزءًا من المال الذي تتعامل فيه المؤسسة، وذلك لأن الخزانات الملكية التي في القرى والمدن والمصارف الملكية كان يودع فيها حصيلة الضرائب لحساب المصارف المؤمَّن عليها وهي صاحبة الامتياز، كل عشرة أيام وإلا عوقب من خالف ذلك بدفع غرامة، من ثم نفهم أن الملك كان يمون ملتزمي المصارف بالمادة الأولية وهي العملة كما كان يضمن لمَعاصر الزيت المواد الدهنية التي يُستخرج منها الزيت وهي السمسم وغيره.

وكان الملك يصدر مرسومًا بسعر النقد كما كان يحدد سعر بيع الزيت، وكان على أولئك الذين يشترون حق إدارة هذا المورد الملكي (أي المصرف) أن يجعلوه ينمو ويربح، هذا وقد وُصفت لنا العمليات التي خُوِّلت لرجال المصارف في العمودين ٧٧-٧٨ من «قوانين الإيرادات»، غير أن هذين العمودين بكل أسف قد وُجدا ممزَّقينِ في البردية كلَّ مُمَزَّقٍ، ومن الجائز أن الملك قد دون فيها سعر الفائدة التي تُقرر على القروض، وتدل الظواهر على أن رجال المصارف لم يكونوا محصنين ومحميين فيما يخص موضوع القروض كما كانوا محصنين في موضوع سعر تحويل النقد والاتجار فيه من جهة المنافسة الحرة؛ فقد وجدنا في سجلات بردي «زينون» المشهورة أنه توجد بوجه خاص وسائل عدة للإقراض عُقدت بوساطتها قروض بين أفراد الشعب، والواقع أن السعر القانوني للوارد من العملة يجب أن يكون محددًا بحيث يكون هناك توازن بين الشاري والمشتري، وقبل كل شيء في صالح الملك الذي كان يقرر هذا السعر، ولذلك كان على الملك أن يحتفظ بسعر مرتفع لحد ما، لأجل أن يشتري منه الملتزمون بثمن أغلى حق ثمن إدارة المصارف، وكذلك لأجل أن يودع أصحاب رءوس الأموال نقودهم عن طيب خاطر في مصر، غير أن هذه الاتجاهات التي ترمي إلى ارتفاع السعر كانت محددة فيما يخص المقرضين من أفراد الشعب، ولكن منافساتهم كانت في الواقع ضعيفة، وذلك لأن طلب رءوس الأموال كان يأتي غالبًا من الملك نفسه أو من ملتزمي المصارف.

هذا وكانت رءوس الأموال كذلك مقيدة بصعوبات الدفع التي كانت تجر في ذيولها ربحًا فاحشًا، وعلى أية حال إذا كنا لم نجد سعر القرض قد دُون في «قوانين الإيرادات» فإن سعر القروض الحرة كان قد حُدد بمقتضى القانون منذ منتصف القرن الثالث ق.م،١٠٤ وهذا السعر هو على وجه التقريب ٢٤٪ وقد استمر ثابتًا طوال عهد البطالمة، هذا ونعلم من القانون الذي وضعه الملك «بوكوريس» فرعون مصر على حسب ما رواه ديودور،١٠٥ أنه بمقتضى القانون كان محرَّمًا أن يكون مجموع الأرباح المتراكمة على المدين زائدًا عن قيمة القرض الأصلي، وهذا القانون كان لا يزال معمولًا به في عهد «بطليموس الثاني»، أو أنه جُدِّد في عهده وأصبح معمولًا به، ويمكن أن نستنبط ذلك مما جاء في إحدى وثائق «زينون» التي تحدثنا عن قضية أقامها دائن تَعِس.١٠٦
وإذا قرنَّا سعر الفائدة في مصر بغيرها من بلدان العالم الهيلانستيكي لوجدنا أنها كانت مرتفعة في مصر بدرجة كبيرة فكان في «ديلوس»، وفي «رودس» مثلًا من ٨٪ إلى ١٠٪،١٠٧ وعلى أية حال فإن هذا الفرق في سعر الفائدة كان لا يمكن أن يستمر في بلد فيها نظام اقتصادي حر، فإذا كانت هذه الحرية الاقتصادية موجودة في مصر لرأينا رءوس الأموال الأجنبية تغزو البلاد، ومن ثم كان لا بد أن أن ينخفض السعر، ولهذا السبب اتخذ «بطليموس الثاني» الحيطة للاحتفاظ بهذا السعر المرتفع، وذلك بإصدار قانون غاية في الشدة فيما يخص استيراد رءوس أموال أجنبية، كما نص على احتكار ذلك لنفسه، وذلك لأنه كان في حاجة لرءوس أموال أجنبية، ومع ذلك نجد أنه إذا اجتذب أصحاب رءوس الأموال إلى بلاده فإنه كان لا يسمح لهم بصورة أكيدة أن يقوموا بأية منافسة مالية في مصر، ومن ثم نصل إلى نتيجة واحدة وهي أن مصر كانت لا تتصل بالعالم الخارجي إلا عن طريق ملوكها.
وكان يجب أن تحدَّد قوانين الإيرادات والضمانات التي في أيدي رجال المصارف بالنسبة للأفراد الذين يقرضونهم من أموال الملك، ولم يكن الضمان الذي يقدمه أصحاب المصارف من ممتلكات كافيًا على وجه التأكيد، ومن ثم نجد أن الملك كان حَذِرًا أكثر من اللازم من هذه الناحية، فلم يكن يسمح أن يقرض نقد إيرادته إلا إذا كان ذلك مقابل رهن عيني أو ضمانات عقارية. وسنفحص هنا بعض الوثائق الخاصة بالضمانات التي كان يتخذها الملك لحفظ أمواله في المصارف ونرى إذا كانت تؤكد وتكمل ما جاء ناقصًا في «قوانين الإيرادات»، ومن أهم هذه الوثائق خطاب جاء في برديات «زينون»،١٠٨ وهذا الخطاب يكشف لنا في سياقه عن نظام ترتيب الوظائف في المصارف، ومما يؤسَف له أن كلمة مصرف قد وُجدت ممزقة في هذا الخطاب الذي كتبه رجلان من رجال المصارف بعد بضع سنوات خلت من وضع «قانون الإيرادات» ولكن لما كان هذا الخطاب صادرًا عن رجل يُدعَى بيثون Python الذي كان يشغل وظيفة مدير مصرف في مقاطعة «أرسونيت» (الفيوم) ومن أحد زملائه، فإنه من المحتمل أن الكلمة الممزقة هي كلمة مصرف، وهذان الماليان قد عَرَضَا هذا الخطاب على «باناكستور» Panakestor الذي كان وكيلًا لوزير المالية وقتئذ الذي اتفق على أن يأخذ هذا المصرف لنفسه ولا يؤجره لأحد لأنه ملك الملك، ولكن كان في مقدوره أن يؤجر المصارف الأخرى التي في المقاطعات التابعة له، وقد تسلَّم هذان الماليان من «أبوللونيوس» الوزير هذا الضمان.

والمصرف الذي أقامه الملك هو على ما يظهر المصرف المركزي بالإسكندرية، فهل كان «أبوللونيوس» يديره بوصفه أحد موظفي الملك ومدير ماليته أو بوصفه ملتزمًا؟ وتدل شواهد الأحوال على أن الوزير «أبوللونيوس» كان ملتزم مؤسسات، وعلى أية حال فإن المتن يكشف عن وجود مصرف رئيسي وهو مصرف الملك، وكذلك مصارف المقاطعات التي تعمل تحت إشرافها مصارف المراكز والقرى، غير أننا لا نفهم على وجه التأكيد وظيفة المصرف المركزي بالإسكندرية، ولكن يحق لنا أن نقول إنه كان يدير مجموع كل إيرادات الملك ويمد مشاريعه الكبرى بالمال اللازم لإتمامها.

وقد ذكرنا أن رءوس أموال المصارف كانت تحتوي على الأقل على جزء من أموال المصارف الملكية التي في المدن والقرى، ونشاط هذه المصارف معروف جيدًا؛ فقد كانت تتسلم من الممولين ومن جباة الضرائب أو من الملتزمين كل المبالغ المستحقة بكل أنواعها للخزانة، وبخاصة الأموال المحصَّلة على رُخَص الحِرَف والضرائب بكل أنواعها، وكذلك حقوق نقل الملكية وعلى أثمان المشتريات التي تُعمل للملك أو لملتزمي احتكارات البيع، وعلى ثمن شراء الأرض التي باعها الملك، وعلى ثمن بيع الوظائف الدينية١٠٩ والغرامات.

هذا وكانت مؤسسات الإيداع بوصفها إدارات إيرادات ملكية تتسلم كذلك الرهونات العينية أو الرهونات العقارية التي أودعها الملتزمون الملكيون أو مَنْ ضَمِنَهم، والأثمان التي حصلت عن بيع المنتجات التي قَدْ رُهِنَ عليها وفاءَ ضرائبَ معينةٍ، والمبالغ المستحقة للحكومة على المَدِينِينَ.

وقد استُنْبِطَت المهام التي تقوم بها هذه المصارف من وثائق عدة، وهي عبارة عن المخالصات التي كان يصدرها رجال المصارف وإيصالات الدفع، كما جاء ذكر دفعات أُودعت لحساب الملك في كثير من حسابات أوراق «زينون» أو في خطابات من سجلاته وفي دفاتر الوارد التي كان يستعملها رجال المصارف، وتسجيل عقود بيع حيث كان يشهد موظف المصرف بأن حقوق نقل المدفوعات قد حُصلت، ومن جهة أخرى نجد أن المصارف كانت تدفع مبالغ بمقتضى مستند يصدره موظف مختص، كما كان يؤخذ عن بعض المصاريف الملكية إيصالٌ، وذلك مثل المرتبات ومصاريف الإدارة وصيانة الضيعة وثمن المشتريات والمبالغ اللازمة للمشروعات العامة.

والظاهر أن عمليات بعض المصارف كانت مقصورة على هذه المبالغ الخاصة بإيرادات الملك ومصروفاته، ووظائف هذه المصارف نجدها موضحة في اليمين الذين أقسمه «سمتوس» عندما تسلم مهام وظيفته بوصفه مندوب مدير مصرف المقاطعة؛ فاستمع إليه:
أقسم بأن أدير بمتقضى أوامر كليتارك Clitarque مساعد مدير المصرف «أسكلبيادي» خزانة الإيرادات فيبيخيس Phebichis من أعمال مقاطعة «كويتيس» Koites وأن أقدِّم على نهج صحيح وبأمانة تقريرًا عن كل المبالغ التي تُودَع أمانةً في الخزانة الملكية وعن النقد الذي سأتسلمه من «كليتارك» عدَا النقود التي أحفظها، وأن أدفع هذه المبالغ في «مصرف» «أهناسية المدينة» (أي مصرف المقاطعة)، وإذا طُلب مني بعض مصاريف فإنه يجب عليَّ أن أدفعها في الحال، وأن أقدم حسابًا إلى كليتارك من المبالغ المدفوعة، وكذلك عن الرصيد وعن المستحق، وأن أقدِّم إيصالات عن كل ما صرفته، فإذا وُجد أنني مَدِين بشيء ما عند تقديم الحساب فإني سأكون ملتزمًا دفْعَه للمصرف الملكي في مدة خمسة أيام، وسيكون لكليتارك الحق في تنفيذ الحكم على شخصي وعلى ممتلكاتي، وأقسم بأني لن أبدد شيئًا من هذه الممتلكات، وإذا خالفت ذلك فإن الاتفاق الحالي سيكون حربًا عليَّ، وأقسم بأني لن أخفي شيئًا من «كليتارك» ولا عن وكلائه، وأن أبقى خارج أي معبد أو مذبح أو حرم مقدس ولن ألتجئ لأي حماية، وإذا حافظت على قسمي فمن صالحي، وإذا حنثت في يميني فإني أكون قد ارتكبت إثمًا.
والواقع أن «كليتارك»، هذا كان المدير العام لمصرف Koites في نهاية عهد «أيرجيتيس الأول» وهو معروف لنا من إضمامة بردي عُثر عليها في الحيبة١١٠ أما «إسكليبيادس» رئيسه الذي جاء ذكره في نفس الإضمامة فيظهر أنه كان في وقت واحد السكرتير المالي والمدير العام لمصرف مركز «كويتيس» Koites، وهذه الأوراق تُرينا بالضبط أن «كليتارك» هو الذي كان ينفذ في المصرف الذي تحت إداراته كل العمليات التي وعد «سمتوس» Sentneus نائبه بالقيام بها.
ووكلاء خزانات الملك لم يكونوا ملتزمين، وعلى ذلك يتساءل الإنسان عن الفائدة التي كانوا يجنونها في الواقع من مثل هذه الإدارة؟ ولا نزاع في أن «سمتوس» الذي نتحدث عنه كان موظفًا من موظفي المالية، ولكنه كان موظفًا مسئولًا، قد كان محصلًا في المصرف وكان عرضة لأن ينفَّذ على شخصه أو على ممتلكاته أي حكم عند ظهور عجز فيما عُهد إليه، هذا وكان التعهد باليمين على أية حال يقويه تعهد بِرَهْنٍ أخذ على نفسه أن يقدمه عند أي طلب.١١١
ومهما يكن من أمر فإن إدارة هذه الخزانات كان يراقبها السكرتير المالي، وهاك ما يقول في أعلام ورقة من أوراق تبتنيس:١١٢

راجع حسابات الإيرادات في كل قرية إذا أمكن — وهذا على ما يظهر ليس بالأمر المستحيل إذ كنت مخلصًا للأعمال — وإلا ففي كل مركز، ثم صوِّب مراجعتك فيما يخص الدخل النقدي على المبالغ الوحيدة التي أودعت في المصارف، وفيما يخص الإيرادات التي دُفعت قمحًا أو ثمارًا دهنية على الدفعات التي ورَّدها مديرو مخازن القمح، وإذا كان هناك بعض عجز فعليك أن تجبر حكام المراكز والملتزمين بالإيرادات على أن يدفعوها في المصرف، أما عن العجز في القمح فعليهم أن يدفعوه بالثمن المحدد وعن المواد الدهنية بثمن الزيت الذي كان يجب أن تباع به المواد الدهنية، وذلك بالسعر المحدد لكل نوع من الزيت.

ومن ثم نرى أن مخازن الغلال العامة والمصارف كانت مراقبة بنفس الطريقة وبنفس الموظف، وقد يُلحَظ الإنسان أن المسئولية المالية الواقعة على عاتق مدير المصرف وهي التي اعترف بها «سمتوس» لم يأتِ ذكرها هنا.

والواقع أن هذه المسئولية قد جاء ذكرها في أوراق أخرى، وذلك أن اليمين الذي جاء في ورقة «تبتنيس» السالفة الذكر واليمين الذي ذكره في ورقة أخرى١١٣ هما من عهد واحد، ويظن المؤرخ «روستوفتزف» الذي علق على هذه الورقة السابقة أن مطاردة مديري المصارف المسئولين لا تدين السكرتير المالي في شيء، والواقع أن ورقة تبتنيس رقم ٧٠٣ ليست إلا ملخصًا لواجبات السكرتير المالي، وعلى ذلك لا يجب أن نستنبط شيئًا من هذا السكوت عن مسئولية السكرتير المالي، ولكن من الممكن أن المطاردات كانت رسالة الموظفين المكلفين خاصة بجيمع المبالغ المتخلفة.
وأخيرًا لدينا وثيقة ترجع إلى القرن الثالث تدل على أن السكرتير المالي هو الشخص الذي يلي الوزير بعد الوكيل العام في شئون المقاطعة المالية، وذلك لأن موظفي الخزانة كانوا يُعيَّنون عن طريقه، ولدينا خطاب توصية ورد في سجلات «زينون» يثبت ذلك.١١٤

وقد اتضح من قوانين الإيرادات أن الأرصدة الفعلية من الإيرادات التي دخلت الخزانة الملكية قد وكل أمرها لمديري المصارف الذين أجروا من الملك الحق المطلق لاستثمارها.

وكان مجمل المبلغ الذي تملكه المؤسسة يمثل الربح الصافي الذي يجنيه الملك من محصول إيراداته.

ولم يكن عمل رؤساء المصارف قاصرًا على أموال الملك في التعامل بل كانوا يستغلون رءوس الأموال التي كان يودعها أفراد الرعية، فمن ذلك أن الوزير «أبوللونيوس» كان له حساب في عدة مصارف في القرى، والظاهر أن هذه الأموال لم تكن تُستعمل بالربا.

وكانت الودائع في المصارف تزداد بإيداع دفعات متتالية، فقد وُجِدَت بعض إيصالات تدل على توريد مبالغ مضافة إلى الرصيد، وهاك مذكرة بإيداع نقود لحساب الوزير أبوللونيوس جاء فيها:

تسلم المبلغ المذكور أدناه وقُيِّد لحساب أبوللونيوس …

وكان مديرو المصارف يقومون لعُملائهم بعمليات مختلفة، والواقع أن الصيغة التي ذكرناها هنا تظهر أنه كان في الإمكان إضافة مبالغ لحساب شخص ثالث، وذلك بأمر من صاحب الرصيد، ولدينا عدة برديات تبرهن على ذلك، وذلك أن وكلاء «زينون» و«أبوللونيوس» الذين كانوا يقومون بأسفار لبيع محاصيل الضيعة وشراء السلع التي كانوا يبيعونها في أماكن أخرى، كان لا بد أن يجدوا لتيسير أمورهم في محاطِّ تنقلاتِهم مصارف يمكنهم أن يودعوا فيها أو يسحبوا نقودًا منها.١١٥

من ذلك نفهم وجود مراسلات بين مديري المصارف مما يجعل عمليات التعامل في نقل النقود عملية واحدة لرصيد شخص بعينه.

والواقع أن عدد الدفعات التي أجريت بوساطة المصارف بهذه الصورة بين رجال الأعمال الذين التفوا حول «أبوللونيوس» كانت كثيرة، فكانت المرتبات تُصرف بشيكات، وكذلك تُعطى وكلاء التجار شيكات لمدهم بالمال، كما كانت تدفع حسابات مقاولين عدة من الذين يعملون في الضيعة بالشيكات، وتحول مبالغ من حساب شخص لآخر بشيكات، غير أنه ليس لدينا أمثلة مؤكدة في هذا الصدد، ومع ذلك فإنه كان لا بد أن «أبوللونيوس» عندما كان يدفع بعض الضرائب المستحقة على ضيعته للملك قد اتبع طريقة التحويل، وعلى أية حال فإن هذه الطريقة لم تكن معروفة في العالم الإغريقي خلال القرن الرابع ق.م كما لم تكن معروفة في مصر في العهد البطلمي، ومع ذلك فإنه ليس لدينا ما يدعو لعدم استعمالها في حسابات «أبوللونيوس» المختلفة.

والمصارف الملكية التي وصفناها حتى الآن تعد مؤسسات إيداع ولكنها كانت كذلك تقرض النقود؛ إذ توجد فقرة في «قوانين الإيرادات» توحي بشروط بمقتضاها كانت المصارف الملكية تقرض المال، والواقع أن أصحاب المصارف كانوا يُقرِضون نقودًا مقابل رهونات.١١٦
وكذلك كانت تعطي قروضًا على رهن عقاري، حقًّا إن الوثيقة الوحيدة التي تبرهن على الرهن العقاري كانت لصالح عميل من عُملاء صاحب المصرف،١١٧ ومن ثم نفهم أنه لم تكن نقود الملك هي التي يقرضها مدير المصرف الملكي.

وتصريف عمليات المصارف بهذه الصورة يفسر لنا النشاط الاقتصادي حيث كانت تُستخدم واردات الملك وهي محصول العمل في مصر، وكذلك رءوس الأموال التي كان يدعها الإغريق على قيمة العمل المصري.

وكانت أعمال المصارف هذه تجري بوجه خاص بين السكان الإغريق، ولكن الصانع المصري كان له كذلك حسابه في المصرف، ولا نزاع في أن مصرف الإيداع كان أداة لا يمكن الاستغناء عنها لتجارة نشطة، بل هو في الواقع المنشئ للحياة التجارية، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن رجال المصارف في القرن الثالث الذين ظهرت أسماؤهم غالبًا في أوراق «زينون» وأوراق «بترى» وأوراق «ليل» وفي خلاصات الملح،١١٨ وحتى في الاستراكا وفي تسجيلات المصارف التي من القرن الثاني ق.م في إقليم طيبة أننا نجد كل أصحاب هذه الوثائق كانوا يحملون أسماء إغريقية، حقًّا توجد أسماء كَتَبة مصريين وكذلك بعض موظفين يعملون في المصارف مثل «سمتوس» (راجع: P. Gradenwitz 4.) كانوا على الأقل من أصل مصري ولكن نجد أن «بيثون» في «أرسنوي» (الفيوم) و«ستراتوكليس» Stratokles في «ديوسبوليس» الوجه البحري و«برومتيون» Prometheon في «منديس» (تل الربع الحالية) و«بوزيدنيوس» Posidonios في «منف» و«أرتميدوروس» Artemidoros وعشرين غير هؤلاء كانوا رجال أعمال من أصل إغريقي يعاملون إغريقًا مثلهم، والظاهر أن طرقهم في المعاملة كانت لا تختلف عن طرق رجال المصارف الإغريق في القرن الرابع ق.م.

ولأجل أن تقدر أهمية المصرف المصري كان لا بد من معرفة عنصر هام وهو مقدار الأعمال التي كان يقوم بها، والواقع أنه ليس لدينا أية فكرة عن مقدار المبالغ التي كان يتصرف فيها فرد مثل «بثون» أو المبالغ التي كانت تتعامل فيها مصارف «الإسكندرية».

هذا وكانت نسبة العمليات المالية التي تُجرى لحساب الملك كما وُجدت في الوثائق الخاصة بالقرى تؤلف الجزء الأكبر من حيث النقد، وذلك لأن الفلاح المصري كان لا يظهر في المصارف إلا عندما كان يأتي إليها لدفع مبالغ لحساب الملك أو ليتسلم مرتبه، ولكن من جهة أخرى نجد أن الصانع أو التاجر المصري أو الإغريقي كان يحتاج إلى خدمات المصرف الذي كان يصفي له كل أعماله، والواقع أن المصرف الإغريقي كان متأصلًا في حياة المجتمع المصري.

ومع ذلك فإن ما كان يؤديه المصرف من خدمة للمواطنين المصريين لم تكن إلا عملية مربحة تنحصر في دفع مبالغهم التي كانت كل فائدتها تعود على الملك وحده، ومن ثم نجد أن الأوضاع الإغريقية التي أُدخلت في مصر لم تتغير من حياة الفلاح المصري، ومن أجل ذلك نفهم لماذا كانت تعود الحياة المصرية إلى ما كانت عليه عندما كان يضعف سلطان الملك في البلاد، هذا وإذا كان لدينا معلومات عن مصارف الإسكندرية التي كانت لا تعتبر جزءًا من مصر لأمكننا دون شك أن نرى ونقدر اقتصادًا مختلفًا حيث كانت الأعمال الحرة في بلد حرة هي صاحبة السيادة.

ومع ذلك فإن الشعب المصري لم يفقد كل شخصيته من هذه الناحية في أمور أخرى، فقد كانت هناك وحدات اقتصادية قائمة بذاتها منذ أقدم العهود، وأعني بذلك الشعائر الدينية التي كان يمدها الملك بالمال والآلهة المصريين الذين كانوا يملكون الحدائق والكروم الشاسعة التي كان دخلها من النقد ينفق منها على خدمتهم، وجماعات الكهنة الذين كانوا يتمتعون بمعاشات ملكية، والمعابد التي كانت تنظم مراكز صناعة مزدهرة، كل هذه الوحدات كان مثلها كمثل المعابد القديمة تعتبر مؤسسات تملك أموالًا هامة، وهذا أمر لا نزاع فيه لأن الامتيازات كانت من الأشياء الموروثة عن مصر الفرعونية وظلت باقية مستمرة في عهد البطالمة الذين كانوا يَعملون جهدَهم في اكتساب حب رجال الدين إلى جانبهم، وأهم وثيقة تحدثنا عن مبلغ سلطان رجال الدين ومقدار نفوذهم وامتيازاتهم في عهد الفراعنة هي ورقة «هاريس» الكبرى التي خلفها لنا رعمسيس الثالث؛ ففي هذه الوثيقة نجد شرحًا مستفيضًا عن مكانة رجال الدين والآلهة في العهد الفرعوني، وقد أسهبنا القول في محتويات هذه البردية وبخاصة أن كل التراجم التي وُضعت لها قد أخطأها التوفيق بصورة مَشينة مما قلب الأوضاع رأسًا على عقب (راجع مصر القديمة الجزء السابع)، وسنتحدث فيما بعد عن الحياة المصرية في عهد البطالمة الأول بما لدينا من وثائق ديموطيقية من عهدَيْ بطليموس الأول والثاني.

وعلى أية حال لا بد أن نميز وجود عهدين في تاريخ اقتصاد المعابد المصرية في عهد البطالمة، فالعهد الأول يمتد حتى ظهور منشور «حجر رشيد» حيث كانت ممتلكات المعابد على ما يظهر تديرها الحكومة بقوة وحزم، والعهد الثاني وهو الذي أعقب الأول وأصبحت فيه المعابد ثانية بفضل الهبات والمصانع والإعفاء من الضرائب، وحدات سياسية واقتصادية، ففي العهد الأول كان النشاط الاقتصادي في المعابد نشاطًا ملكيًّا، ولدينا ما يبرهن على أنه كان للملك في حرم هذه المعابد خزانة للإيراد والمصروفات، وأن نقود الآلهة قد أُودعت في مصارف للقرض كما كانت تقرض نقود الملك لاستثمارها،١١٩ هذا ومن الجائز أن المعابد قد حصلت على بعض امتيازات في هذا الصدد منذ القرن الثالث، غير أنه ليس لدينا وثائق تشير إلى ذلك.
وعندما تخلى الملك عن حقوق إدارة ثروة المعابد أصبح من البدهي أن هذه المعابد قد شرعت في القيام بأعمال مالية لاستثمار عقاراتهم ومحاصيلهم، ومن الجائز أنهم كانوا يقرضون أموالهم للملك،١٢٠ وسنتحدث عن ذلك في حينه.
هذا وقد كانت للمصارف أوجه نشاط أخرى لا نعرف عنها إلا القليل وأعني بذلك الرصيد الدولي، ولا بد أن ذلك كان معمولًا به في الإسكندرية بوجه خاص؛ لأنها كانت بلدًا حرًّا، غير أنه مما يؤسف له أن الوثائق التي وصلت إلينا من هذه المدينة في هذا الصدد نادرة، وهاك مع ذلك عملية تسليف دولية حُفظت لنا في إحدى أوراق «زينون»،١٢١ وتتلخص في أن مدينة «هليكارناسوس» التي كانت تعتبر جزءًا من إمبراطورية بطليموس الثاني قد أجبرها الملك على مده بسفينة ووكل تنفيذ هذا الأمر لرجل يُدعى «كزانتيب» Xanthippe، ولما لم يكن لديه المال اللازم لتنفيذ أمر الملك فإن «أبوللونيوس» الذي كان على ما يظهر يقوم بوظيفة السكرتير المالي لملك في «هليكارناسوس» قد أقرضه مبلغ ألفي درخمة من خزانة المدينة خصمًا على المتحصل من ضريبة الطب، على أن يعاد هذا المبلغ يدًا بيد لشخص يُدعى «مديوس» Medios.
ومن جهة أخرى كلف «أبوللونيوس» مدير المصرف المسمى «سوبوليس» Sopolis الذي دفعت له خزانات مدينة «هليكارناسوس» المبلغ المتحصل من ضريبة Stephanos وهي المستحقة للملك على أن يدفع على حساب هذه الوظيفة إلى «كزانتيب» مبلغ ثلاثة آلاف درخمة، وقد ضمن الوزير «أبوللونيوس» كزانتيب هذا ودفع له هذا المبلغ، ومن ثم كان على «كزانتيب» أن يعترف بدفع مبلغ ثلاثة الآلاف درخمة في الإسكندرية.

ومن هذا التتابع في العمليات نفهم أن المبالغ التي كان يستحقها الملك من مدينة «هليكارناسوس» قد أُودعت في المصرف، وأن هذه الأموال كان يمكن أن تُستعمل في عمليات مالية، وأن سلفيات هامة كانت تعمل بمال الملك الذي كان يعتبر صاحب رأس مال ضخم، وأن النقل الفعلي للنقد إلى ما وراء البحار قد تُجُنِّبَ، وذلك لأن المال المقترض كان قد استُعمل في مكانه في «هليكارناسوس» لإعداد سفينة، وأنه كان سيدفع ثانية في الإسكندرية للوزير «أبوللونيوس» ممثل الملك ودائن المقترض وهو مدينة «هليكارناسوس»، هذا ولا نرى أن هذه السلفيات كانت مربحة، ولكن من المحتمل أنها كانت تأتي بأرباح غير مباشرة.

هذا وتدل شواهد الأحوال على أن البطالمة كانوا يربطون برباط وثيق بين السياسة والشئون العامة، وهذا أمر عام في كل العالم، فمن الممكن مثلًا أن سلفية تُمنح في مناسبة طيبة قد تكون سببًا في أن تجذب محبة الشعب نحو الملك وهذا نفس ما فطن له وعمل به «بطليموس سوتر» عندما أقرض الكهنة المصريين مبلغ خمسين درخمة لتجهيز حفل دفن العجل أبيس،١٢٢ وقد قدمها لهم دون فائدة، والظاهر أنه لم يستردها، وهذه لفتة تدل على حكمة وبُعد نظر من جانب بطليموس الذي كان يرى أنه في حاجة إلى محبة المصريين.
ومن جهة أخرى نجد أن البطالمة الأُول كانوا على استعداد لقرض سلفيات للمالك الأجنبية، فقد طلب القرطاجنيون إلى بطليموس الثاني أن يقرضهم ألفي تالنتا،١٢٣ وإذا كان بطليموس الثاني قد رفض إقراضهم هذا المبلغ في نهاية الأمر فإن ذلك لم يكن بسبب أن هذا الطلب في غير موضعه، بل لأنه لم يكن يريد أن يُغضب الرومان الذين بدءوا يلعبون دورًا هامًّا في السياسة العالمية وقتئذ، وكانوا في الوقت نفسه أكبر مناهضين للقرطاجنيين.

(٢) موارد الضرائب الأخرى التي لم يشدد عليها الاحتكار الخناق بصورة سياسية

(٢-١) النسيج

كان النسيج من أهم موارد الإيرادات للدولة في عهد البطالمة، وقد عُنِيَ «بطليموس الثاني» بأمر هذه الصناعة فقد ذكرها في بردية «قوانين الإيرادات»، ولكن مما يؤسف له أن الفقرة التي جاء فيها ذكر هذه الصناعة وُجدت ممزقة.

وصناعة النسيج صناعة قديمة في مصر ترجع إلى أقدم العهود، وكان النبات الوحيد الذي استُعملت أليافه في صناعة النسيج طوال عهد الفراعنة هو الكتان، وتقول الأساطير: إن «أوزير» إله الموتى كان أول من كُفن في نسيج الكتان بعد انتقاله إلى عالم الآخرة، وتدل بقايا النسيج الذي عُثر عليه منذ عصر «البداري» على أن صناعة النسيج الكتاني كانت منتشرة في مصر منذ أقدم عهودها وبخاصة عندما نعلم أن الأستاذ «ينكر» عثر في مقابر «مرمده» (بني سلامة) على قطع من غزل الكتان أقدم عمرًا من التي وُجدت في «البداري»،١٢٤ وكذلك عثر على قطع نسيج من العهد الحجري في منطقة الفيوم.١٢٥
لا نزاع إذن في أن الغزل والنسيج كانا من أقدم الحِرَف في مصر القديمة، ولكن تمثيل هذه الصناعات لم يعثر عليه بصورة جلية إلا في عهد الأسرة الثانية عشرة المصرية في مقابر «بني حسن» حيث مُثلت الأدوار التي تمر بالنبات بعد نضجه من تعطين ودق وتمشيط وغزل ونسج، هذا إلى أنه كشف عن نماذج لنساء يشتغلن بالغزل والنسيج في مقابر الأسرة الحادية عشرة في طيبة، وهذه النماذج محفوظة الآن في متحف القاهرة.١٢٦
والواقع أن النماذج التي وُجدت في مقبرة «مكت-رع» التي عَثَر عليها «ونلك» في جبَّانة طيبة من عهد الأسرة الحادية عشرة تعد الأولى من نوعها قبل المناظر التي وُجدت في مقابر بني حسن، وقد ظهرت هذه النماذج في كتاب حديث أصدره الأستاذ «ونلك»، وشرح فيه الخطوات التي اتُّخذت لإعداد النسيج في صورته النهائية.١٢٧
وتدل البذور الكثيرة التي عُثِر عليها في المقابر المصرية على أنه كان هناك نوع خاص من الكتان يختلف عن النوع الذي يُزرع في البلاد١٢٨ الآن، وقد تكلم مؤرخو الإغريق عن نسيج الكتان المصري ودقه وصنعه وبخاصة عن نوع منه دقيق جدًّا حتى إنهم قالوا: إنه نُسج بالهواء، ويطلَق عليه اسم «بيسوس» Byssus،١٢٩ ويعتقد الأثري «لوريه» أن هذه اللفظة تقابل في الهيروغليفية الكلمة القديمة «نيسوت» أي الملكي للدلالة على أنه أفخر نوع من نسيج الكتان،١٣٠ وقد استمرت هذه الصناعة حتى العهد الهيلانستيكي؛ حيث نجد أن البطالمة كانوا يهتمون بها بل كانوا يحتكرون صناعتها إلى حد ما (راجع عن صناعة النسيج واحتكاره).١٣١

والواقع أن إيرادات النسيج كان مثلها كمثل إيرادات الزيت تؤجر للملتزمين ويشرف على تحصليها السكرتير المالي للمقاطعة ومندوبوه، أما المواد التي كانت تُستعمل للنسيج فهي الكتان والصوف والقنب.

وكان وزير المالية يصدر قرارا سنويًّا يحدد فيه مقدار المساحات التي كان لا بد من بذرها بالكتان، وقد علمنا ذلك من شكوى وصلت إلينا مؤرَّخة بنهاية القرن الثالث ق.م، غير أنه مما يؤسف له أنه عُثِر عليها ممزقة،١٣٢ ويتلخص ما جاء فيها أن ملتزمًا سيئ الطالع وصف لنا في هذه البردية أن إدارة مزارع كتان واسعة قد تعهدها هو خلال فصول عدة، ويذكر لنا بعد ذلك هذا الملتزم بوجه خاص أن الوزير قد أصدر أمرًا بأن يبذر العام التاسع بعناية وإخلاص ما مساحته ألف وخمسمائة وخمسون أرورا كتانًا إضافية، وأنه إذا لم يكن لدى الفلاحين بذور فيُقرَضون ثمنها، ولا نزاع في أن مثل هذا الأمر يؤكد وجود عجز في زراعة الكتان يرجع عهده إلى القرن الثالث.١٣٣

وفي هذا المصدر نجد أن الكتان قد اعتُمد من بين النباتات التي فُرضت زراعتها والرقابة عليها، وتدل شواهد الأحوال على أن توزيع البذور أو القرض لشرائها قد وكل أمرهما لحكام المقاطعات أو المراكز المسئولين أمام الملك والملتزم المسئول عن توريد دخل المحاصيل في الحال، هذا وكان السكرتير المالي موكلًا بالإشراف على جمعها، والظاهر أن تحديد زراعة المساحات المخصصة للكتان لم تكن إجبارية كما أن زراعة الكتان لم تكن قاصرة على أراضي الملكية وحسب.

صناعة النسيج

وتدل ظواهر الأحوال على أن صناعة النسيج كانت مسألة عويصة أكثر تعقيدًا من صناعة الزيت، يضاف إلى ذلك أنها كانت من الصناعات التي امتازت بها مصر القديمة كما أشرنا إلى ذلك الآن.

صناعة الصوف

وتأتي بعد صناعة الكتان في الأهمية صناعة المنسوجات الصوفية، وأخيرًا منسوجات أخرى كانت تُصنع من القنب وبخاصة في تجهيز معَدات السفن، ويجدر بنا عند التحدث عن المنسوجات أن نذكر المقادير الضخمة من الغزل التي كانت تُصنع في البيوت المصرية الخاصة، وكذلك التقدم العظيم الذي وصلت إليه صناعة النسيج في المعابد المصرية، ولا نزاع في أن «قوانين الإيرادات» التي وضعها «بطليموس الثاني» ذكرت المواد الثلاث التي كانت تُستعمل في النسيج وهي التي ذكرناها فيما سبق، وقد ذُكرت تحت عنوان واحد، غير أننا نجد في التعليمات التي تركها لنا وزير المالية في ورقة «تبتنيس»١٣٤ أنه لم تُذكر إلا صناعة الكتان، ومن ثم يجوز أن صناعة المادتين الأخريين وهما الصوف والقنب كانتا منظمتين على نفس النسق الذي كانت تسير عليه صناعة الكتان.
على أن ما لدينا من مصادر يدل على أن إدارة صناعة الكتان كانت معروفة أكثر من غيرها، وعلى أية حال لا تزال توجد بعض نقاط غامضة في إدارة هذه الصناعة، وقد قدمت لنا ورقة «تبتنيس» التي تعد أحسن مصدر لدينا حتى الآن الخطوط العريضة عن نظام هذه الصناعة، ويتضح من فحص محتويات هذه الورقة أن نظام صناعة الكتان يشبه كثيرًا نظام صناعة الزيوت النباتية. والظاهر كما ذكرنا آنفًا أن صناعة إنتاج الكتان لم تكن محددة، غير أنها مع ذلك كانت تحت مراقبة الحكومة،١٣٥ وذلك لأن الفلاح كان يورد من المحصول مقدارًا معيَّنًا للحكومة، في حين أن الفائض كان يتصرف فيه المنتج كما شاء، هذا وكان للملك مصانع كتان خاصة لصناعة ما تحتاج إليه الحكومة، ويحتمل كذلك أن ما كان يبيعه أو يصدره للخارج كان لحسابه أيضًا، وكانت جهات القُطر المصري تعج بأعداد عظيمة من النساجين المدربين الذين يعملون لحساب الملك، غير أن السواد الأعظم من بينهم كانوا ينتجون في بيوتهم؛ حيث كانت توجد أنوالهم الخاصة بهم، وكانت تُصنع في كل عام كمية من النسيج والملابس للإدارة الحكومة الرئيسية، وهذه الكميات كانت تخصص لكل من المقاطعات، وكان العمل يوزَّع بمقتضى هذا النظام في كل من المدن والقرى التي تحتويها المقاطعة، وكانت الأخيرة توزع بدورها أنصبتها بين أفراد النساجين، وكانت الحكومة تبرم عقودًا مع هؤلاء النساجين فيتسلم كل واحد نصيبه المفروض عليه نسجه أو الذي كُلف بعمله ملابس من التي ميز نوعها بدقة، ويُلحظ أن بعضها كان يُحلَّى أحيانًا بالتطريز، أما ما كان يلزم هذه المنسوجات من خيوط وتترات لغسلها فكانت الحكومة على ما يظهر تورده للنساجين، وعلى الرغم من أن المصادر البطلمية لم تذكر لنا مَن الذين كانوا يغزلون هذه الخيوط فإن المنطق والقياس يُحَتِّمان علينا القول إنها كانت تُغزل في البيوت، كما كانت الحال في مصر القديمة كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وكما كانت الحال في مصر الحديثة حتى عهد قريب جدًّا، بل ولا زلنا نرى هذه الصناعة في بعض القرى التي لم تدخلها المدنية بصورة ظاهرة في عصرنا الحالي.

وبعد توريد النسيج والملابس على الوجه المطلوب كان يفحصها السكرتير المالي بكل دقة وعناية وكانت تُدفع للنساجين أجورهم على حسب التعريفة الموضوعة لذلك، وإذا اتفق حدوث نقص في الكمية أو النوع المتفق عليه فكان يُغرَّم النساجون بالفرق على حسب التعريفة التي على ما يظهر كانت كالسابقة، أما فيما يتعلق بالأنوال التي كانت لا تدار فكانت تؤخذ من النساجين وتُحفظ في مخازن عاصمة المقاطعة خوفًا من تشغيلها خلسة.

أما عن بيع المنسوجات فليس لدينا إلا بيانات ضئيلة جدًّا، ولم تحدثنا ورقة «تبتنيس»١٣٦ بشيء عنه، في حين أن ما وصل إلينا من وثائق أخرى يتضارب مع بعضه البعضُ والظاهر أن النسيج والملابس التي كانت تصنعها المصانع الملكية أو التي كانت تُنسج للملك في مصانع خاصة كان الغرض منها هو أن تسد قبل كل شيء حاجة الملك الخاصة، وكذلك ما يلزم لأفراد بيته وحاشيته وهؤلاء كانوا عديدين، ومن الجائز أن بعض المنسوجات الدقيقة الصنع كانت تباع لتجار أجانب، غير أننا لا نعرف مقدار ما كان يُوزَّع منها على السوق المصري، كما لا نعرف الشروط التي كانت توزع على حسبها، هذا وليس لدينا أي بيان عن التحفظات التي كانت تفرض على الإنتاج المحلي وعلى المصانع الحرة، أما المعابد فكانت لا تزال تنتج على ما يظهر على نطاق واسع الكتان الجميل المسمى «بيسوس» Byssus منذ أقدم عهود التاريخ المصري، وكان جزء منه يورد للملك الذي كان يشدد بدرجة عظيمة في توريد طلباته كاملة من حيث النوع والكمية، وكان نساجو المعبد مثلهم كمثل نساجي الملك يدفعون غرامة عن مقدار النسيج الذي يعجزون عن توريده، كما كان عليهم أن يدفعوا غرامات خاصة عن النسيج الجميل الذي لم يكن قد نُسج على حسب الحجم والنوع المطلوبين، ومن الجائز أن بعض النساجين الأحرار كان لديهم تصريح أو رخصة لإنتاج المنسوجات اللازمة للسوق الحرة، وهذا التصريح كان على ما يظهر تُدفع عليه ضريبة، هذا ولا نعلم حتى الآن إذا كانت مثل هذه المنسوجات تباع بثمن محدد وضعته الحكومة أو بثمن وضعه تجار مرخَّص لهم من قِبَل الحكومة، أما المعابد فكان لها الحق على وجه التأكيد في بيع نسيج كتانها لتجار أجانب، ولدينا نقش نعلم منه أن تاجرًا عربيًّا — كان في الوقت نفسه كاهنًا لمعبد مصري — قد استورد بعض العطور من بلاد العرب وصدر مقابلها كتان بيسوس من المعبد الذي يعمل فيه.١٣٧
ومما يؤسف له أن معلوماتنا عن صناعة النسيج المصنوع من الصوف أقل من معلوماتنا عن صناعة الكتان، وكان على ملوك البطالمة أن يعتنوا اعتناءً كبيرًا بتنميتها، فقد كانت المللابس الصوفية والأبسطة والسجاجيد والمراتب تستعمل كثيرًا في مصر وبخاصة عند الإغريق، وذلك لأن المصريين كانوا يرتدون الملابس المصنوعة من الكتان ويستعملون الحصر المصنوعة من البوص وخوص النخل ومن مواد أخرى، ولما استوطن الإغريق مصر كانوا قد أحضروا معهم عادة صنع ملابسهم وملابس أسرهم بأيدي زوجاتهم وخادماتهم، هذا ويذكر كل فرد وصف «تيوكريتيس» لربة البيت الإسكندري؛ فقد كانت تتميز من الغيظ من زوجها بسبب شرائه صوفًا من نوع رخيص له من السوق، والظاهر من ذلك أن البطالمة على ما يُظَنُّ لم يضعوا تحفظات بعيدة المدى على تجارة الصوف أو على الإنتاج المحلي من النسيج والملابس والصوفية، ويجوز أنه كانت لهم مصانعهم الخاصة للصوف في الإسكندرية وأماكن أخرى في مصر، ولدينا برهان على ذلك في الإسكندرية في خلال القرن الأول ق.م،١٣٨ ولا يحتمل أن البطالمة قد أنشئوا أي شيء يشبه الاحتكار الملكي لنسيج الصوف وتجارته، ومما لا شك فيه أنه كانت هناك بعض لوازم للحكومة من الصوف، كتوريد نوع خاص من نسيج الصوف الذي يُعرف «بالسوري» وكان مستعملًا كثيرًا في الجيش؛ فقد كان يُنسج إجبارًا بأيدي صناع إخصائيين قد نظموا بنفس الطريقة التي نظمت بها صناعة الملابس الكتانية، غير أن هذا كان إجراء استثنائيًّا.

ولدينا وثائق عدة تحدثنا عن تجارة الصوف بعبارات تدل على أنها كانت تجارة حرة، فمثلًا نعلم من مراسلات «زينون» أن سيده الوزير «أبوللونيوس» كان له مصانع في مدينة «منف»، ويحتمل كذلك في بلدة «فيلادلفيا» وكان يُصنع فيها الصوف بكميات كبيرة، ونعلم أن المصانع فيهما كانت تعمل لسد حاجات أولئك الذين كان يستخدمهم «أبوللونيوس» في ضيعته وللسوق أيضًا، ولا نظن أن حالة «أبوللونيوس» هذه كانت حالة فردية؛ إذ لدينا وثائق عدة تتحدث عن النسيج ويحتمل أن معظمه ملابس من الصوف كان يبيعها لخلق مختلفين، وعلى وجه عام يظهر من المحتمل أن صناعة الصوف كانت منظمة بنفس الطريقة العامة التي كانت مُتَّبعة في الكتان مع الفارق أن التحفظات التي كانت تتبع في صناعتها أقل.

ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن الصوف كان ينتج في مصر نفسها، وذلك لأن «أبوللونيوس» كان يستورد الغنم من آسيا الصغرى ويأقلمها بجو «الفيوم» على يد رعاة أُحضروا معها خصيصًا،١٣٩ وسنتحدث عن ذلك فيما بعد.

وعلى أية حال كان البطالمة يبذلون مجهودًا لإنتاج صوف يعادل في جودته الصوف الذي كان يُنتج في بلاد الإغريق و«آسيا الصغرى» و«بلاد العرب»، وأسهل طريق للوصول إلى ذلك كان باستيراد غنم أجنبية وأقلمتها في مصر.

وقد كان للوزير «أبوللونيوس» اليد الطولى في مساعدة «بطليموس الثاني» في تنمية هذا المورد من الثروة؛ فقد كان «أبوللونيوس» هذا يملك قطيعًا مدهشًا من غنم «ميليتوس». وقد جاء ذكره كثيرًا في أوراق «زينون»،١٤٠ وقد كتب «أبوللونيوس» إلى «زينون» و«باناكستر» خطابًا مؤرَّخًا بعام ٢٥٤ق.م،١٤١ وهذا الخطاب له أهمية خاصة؛ وذلك لأن «أبوللونيوس» كان قد أرسل راعيًا مدربًا يُدعى «مارون» إلى «فيلادلفيا» لأجل أن يقوم على رعاية القطيع الميليزي، وكان على «باناكستر» و«زينون» أن يسلما له الغنم وكل الأدوات اللازمة، وأن يضعا رعاة الغنم وأربعة صبية تحت أوامره، وكان هناك أمل كبير في أقلمة الغنم الميليزية؛ وذلك لأن مراعي الفيوم المشبعة بالماء لم تكن تختلف كثيرًا عن تلك التي على شواطئ نهر «مايندر».
هذا وكانت التجربة أكثر نجاحًا في أقلمة الأغنام العربية، وذلك لأن الأغنام العربية والرعاة العرب كان يشار إليهم كثيرًا في مراسلات «زينون» وغيرها،١٤٢ ومما تجدر ملاحظته أن الموكب العظيم الذي نظمه «بطليموس الثاني» قد وصفه «كاليكزينوس» Calixenus،١٤٣ وكان قد عرض فيه على العامة أغنامًا عربية و«أثيوبية» و«أيوبية» Euboean، وذلك ليبرهن على إظهار المجهودات العظيمة التي كان يبذلها «بطليموس الثاني» لسد حاجيات رعاياه من الإغريق حتى من صوف الأغنام الذي تعودوا لبسه في بلادهم.

(٢-٢) صناعة الجعة

كان قدماء المصريين يُعَدُّون، على ما يُحتمل، أعظم قوم في العالم يحتسون الجعة، وتدل الآثار الباقية على أن الشعب المصري كان يشرب الجعة منذ عصر ما قبل الأسرات، فقد وُجد مدفونًا مع رجل ما قبل الأسرات، وما قبل التاريخ جِرَار من الجعة فيها بقايا هذا الشراب، وعلى أية حال لا يمكن أن نضع تاريخًا محددًا لبداية استعمال المصري للجعة، وبعد أن بدأ المصري يعرف الكتابة والقراءة وجدنا على كل لوحة قبر صلاة ودعاء يطلب فيها أن يمون المتوفى بأهم مقومات الحياة في نظره وهي الخبز والجعة، وأحيانًا النبيذ، هذا ونجد أحيانًا قائمة حقيقية بالمواد التي تتألف منها وجبة المتوفى، فكانت الجعة تعد من ألزم المواد وأهمها له، وأقدم مصادر ذكرت فيها الجعة قوائم القربان ويرجع عهدها إلى حوالي ٥٤٠٠ سنة ق.م أي منذ عصر بناة أهرام الجيزة وقبله، وتسمى الجعة في المصرية القديمة «حنكت»، وكانت تصنع بنقع الخبز المصنوع من الشعير أو الشعير المحمص بعض الشيء في الماء لمدة يوم ثم يُنشر في الهواء ثم يُنقع في الماء ثانية لمدة خمس ساعات يُصفى بعدها ثم يوضع ثانيًا في مكان دافئ حتى يتخمر ثم يوضع عليه نقيع بعض الأعشاب المُرة، وفي هذا الوقت كانت تؤخذ المادة المُرة من الترمس لأن المصريين كانوا لا يعرفون وقتئذ حشيشة الدينار الأصلية.

والمناظر التي كان يرسمها المصريون والتي لا تزال باقية حتى الآن على جدران مقابرهم التي عُثِر عليها منذ وقت قريب، تدلنا على الطرق المختلفة لصناعة الجعة، وكانت تصنعها عادةً النسوة، هذا وكان الملوك والأشراف وأثرياء القوم يضعون جعتهم في منازلهم، أما رجل الشارع فكان يحتسي جعته في حوانيت الجعة العامة التي ترجع إقامتها وفتح أبوابها للشعب إلى ما يقرب من أربعة آلاف سنة مضت، وكانت تعرف باسم حوانيت الجعة.

وعلى مر الزمن أصبح التعبير إقامة حانوت جعة يعني حفلة سمر، ولا أدل على ذلك من أنه في عهد رعمسيس الثالث أي حوالي ١١٩٨ق.م قد اتُّهم بعض رجال المحكمة العليا للقضاء بأنهم أقاموا حانوت جعة بصحبة بعض السيدات الهينات الفضيلة من حريم القصر الملكي وكنَّ قد اتُّهمن بالخيانة العظمى في مؤامرة لاغتيال حياة رعمسيس.١٤٤

هذا وكان المصري القديم يحتسي أنواع عدة من الجعة، وقد وصلت إلينا قائمة بأنواع الجعة التي كان يعدها الملك «أوناس» (حوالي ٢٦٢٥ق.م) ضرورية لحياته الآخرة، ولا نزاع في أنه كان يفرج بها عن نفسه من هموم الحكم ومتاعبه، ومن هذه الأنواع الجعة العادية «حنكت» وجعة الصداقة «خنسس» والجعة الفاخرة «سزرت» وجعة زويو، وكلها قد نُقشت أسماؤها على جدران قاعة دفنه بهرمه في «سقارة»، وكانت الجعة السوداء كذلك معروفة؛ فقد جاء اسمها بعد ذلك بألف سنة في النقوش أي منذ ٣٠٠٠ سنة مضت، وتدعى «شدح» وكانت تُحلى بعسل النحل، وهناك نوع آخر يُدعَى «قده» كان يؤتى به من بلاد تحمل نفس الاسم في آسيا الصغرى، ولكن على الرغم من ذلك كانت مصر تعد أهم بلد لإنتاج الجعة والموطن الأصلي لصناعتها. وكانت الجعة تلعب دورًا هامًّا في حياة المصري القديم؛ فقد كانت تُستعمل كإحدى وسائل المعاملة (التبادل) ولدينا نقش من عهد الأسرة الخامسة تركه لنا أحد نبلاء القوم دُفن في مقبرة عظيمة بجوار الهرم الأكبر بالجيزة، ويقول فيه: «لقد أقمت قبري هذا ودفعت أجر إقامته خبزًا وجعة.» وعلى أية حال كانت الجعة من أهم دواعي جلب السرور للقوم حتى إن التعبير «شرب الجعة» كان معناه إقامة وليمة، وقد أخبرنا «هردوت» أن الأعياد الوطنية التي كانت تقام في «بوبسطة» كان شراب الجعة فيها هو الشراب المفضل.

وقد استمرت الجعة تحتل مكانة الصدارة بين المشروبات المصرية في عهد البطالمة، وكانت تصنع من الشعير كالعادة وهناك صنف منها كان يصنع من الجميز.١٤٥
وكان استغلال مصانع الجعة في طول البلاد وعرضها في يد مؤسسات يديرها ملتزمون قائمون على إدارتها، هذا وليس لدينا إلا بعض خطابات من قانون بلدة فيلادلفيا، وهو الذي نظم حقوق الملتزمين، غير أننا نجد بين أوراق البردي الإغريقية عناصر تدل على احتكار الملك للجعة، ويوجد أوجه شبه بين احتكار صناعة الزيت وصناعة الجعة؛ فقد كان صناع الجعة يأخذون على عاتقهم صناعة كمية من الشعير جعة، وهذه الكمية كانت توردها لهم مصالح الحكومة المختصة بذلك مقابل ثمن معين، ففي القرن الثالث كان السكرتير المالي بمساعدة الكاتب الملكي هما اللذان يمونان مصانع الجعة في المقاطعة،١٤٦ كما كان السكرتير المالي هو الشخص المكلف بتزويد مصانع الزيت بالبذور الدهنية.
هذا وكانت توجد مصانع جعة في القرى التي كانت تعتبر ضياعًا، ولدينا خطاب من سجلات «زينون» تكشف محتوياته عن المشاكل التي كانت تنشأ عن الاتجار في هذه المادة، ففي عام ٣١ من حكم الملك «بطليموس الثاني» كتب «أبوللونيوس» خطابًا إلى «زينون» جاء فيه:

لا بد أن تعلم أن «بياس» قد أجر حانوت الجعة الكائن ببلدة «فيلادلفيا»، وقد أخذ على عاتقه أن يدفع للخزانة على حسب الإنتاج اليومي من بيع الجعة من اثني عشر إردبًّا من الشعير، فحرِّرْ معه عقدًا، وبعد حلف اليمين سلِّمْه حانوت الجعة، وكذلك عيِّن معه محصلًا أمينًا لمراقبة العمل، أما عن صانع الجعة الحالي فيجب عليه أن يقوم بالتزاماته عن المدة التي كان يدير فيها هذا العمل.

ثم تحدث بعد ذلك بقليل في نفس السنة قائلًا: إن صانع الجعة «أمناس» قد اتهمه صراف الخزينة أو المراقب بأنه فَاهَ بكلام يُعَدُّ جريمة، ومن أجل ذلك أرسل «أبوللونيوس» قاضيًا خاصًّا ليستمع للقضية، فهدد «أمناس» بأنه إذا ثبتت عليه التهمة فإنه سيُساق في الشوارع، وبعد ذلك يُنَفَّذ فيه حكم الشنق، والظاهر أن الموضوع كان سياسيًّا أكثر منه اقتصاديًّا، وسيأتي ذكره فيما بعد.

أما عن «بياس» السالف الذكر فإن على إثر وصوله إلى فيلادلفيا ادعى أن اتفاقه مع «أبوللونيوس» كان على أحد عشر إردبًّا، فكتب «زينون» في هذا إلى الوزير «أبوللونيوس»، وبعد مضي ثمانية أيام جاء رد الوزير على ذلك مظهرًا فيه دهشته وحيرته وقد أخبره الوزير بأنه كذب عليه، ثم قال: «احجزه حتى أصِلَ ومُرْ بملاحظة حانوته.» وتحليل هذا الموضوع هو أن الملتزم الذي قيد اسمه ضمن جماعة جعة مقاطعة «أرسنوي» قد اتفق مع «أبوللونيوس» على أن يدير حانوت جعة بلدة «فيلادلفيا»، بصنع اثني عشر إردبًّا من الشعير يوميًّا جعة، وقد أخذ على نفسه عهدًا بأن يشتريها يوميًّا من مخازن الدولة، ومن الواضح أنه بصرف النظر عن ضيعة «أبوللونيوس» نجد أن مثل هذه العقود لم تكن تُبرَم بوساطة الوزير بل بوساطة مدير مؤسسات المقاطعة وهو السكرتير المالي الذي يورِّد الشعير يوميًّا لحانوت الجعة، وكان العقد يوافق عليه بِحرية غير أن الخطابات التي أوردناها هنا تكشف عن الحالة السيئة التي كانت عليها الإدارة التي تبيع مثل هذه الامتيازات للمتلزمين.

فنجد أن «بياس» لأجل أن يحصل على الصفقة وعد بشراء كمية أعلى من التي كان يمكنه أن يصرفها، ولكنه بمجرد تسلُّم حانوت الجعة نجده أخذ يتلاعب التراجع في قوله، وبدلًا من شراء ١٢ إردبًّا لم يرغب إلا في شراء أحد عشر إردبًّا، على أننا نعرف قبل العثور على هذه الأوراق التي حللناها هنا بأن صانع الجعة وصاحب حانوتها كان في العادة فردًا واحدًا في كل حالة؛ أي إنه هو الذي كان يصنعها ويبيعها، وذلك لأن صناعة الجعة كانت لا تحتاج إلى عناء كبير أو إلى آلات خاصة كما شرحنا ذلك من قبل، هذا ونعلم أن حقوق صناعة الجعة وبيعها لم تكن مباحة لكل فرد؛ فقد كان على صناع الجعة أن يحصلوا على رُخَص خاصة بذلك يدفعون عليها رسومًا، وهذه الرخص كانت تحرَّر في صورة عقد خاص يُبرم بين صانع الجعة وهو صاحب الحانوت والملتزمين بصناعة الجعة وموظفي الحكومة، والآن نعلم أكثر من ذلك فنعرف أن صناع الجعة كانوا يتسلمون موادهم الغفل أي الشعير من الحكومة أو من ملتزم صناعة الجعة في صورة «قرض» كان عليهم أن يصنعوه جعة ويبيعوه، وكان كل مقدار من الشعير يتسلمه صانع الجعة يحدد المبلغ الذي كان عليه أن يدفعه من إيجاره، أما الجعة التي كان يصنعها فكانت تباع كلها في حانوته، وكان ثمن ما يباع لا يتسلمه هو بل كان يستولي عليها الصراف والمراقب، وعلى ذلك فكانا إما مشتركَيْنِ معه في الجريمة أو من ألَدِّ أعدائه، وكانت النقود المتحصلة تُدفع لخزانة الدولة وتضاف إلى حساب المؤسسة، وبعد خصم ثمن الشعير يعمل حساب ختامي عام، وبعد خصم المصروفات كلها منه كان صناع الجعة يتسلمون ما يبقى بوصفه دَخْلَهم الخاص.

ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن الملك وبخاصة «بطليموس الثاني» كان يستغل المنافسة التي كانت تقوم بين الملتزمين عند تقديم عطاءاتهم فيكسب بذلك أعلى الأثمان لإيجاره، ولكن لما لم يكن في مقدور من رسا عليهم العطاء أن يقوموا بالتزاماتهم دفعة واحدة، فإنه كان ينجم عن ذلك سلسلة مشاكل تؤدي إلى استيلاء الملك على ما قدمه الملتزمون من ضمانات أو الحبس بسبب الدَّين للخزانة، وكان أحيانًا يستولي على الملتزمين الفزعُ فكانوا يعملون على التخلص من الوقوع في الخطأ وذلك بارتكاب الغش والتزوير في إمضاءاتهم أو بالبيع بأثمان أعلى من التسعيرة المفروضة، وفي هذه الحالة كانوا يعرضون أنفهسم للمراقبة والمحاكمة، ولا أدل على ذلك مما فعله «بياس» السالف الذكر.

هذا وكان العقد الذي يصحبه اليمين يحتوي فضلًا عن ذلك على الرهونات الخاصة به كما هي العادة، ومعلوم أن الجعة غذاء ضروري، غير أن استهلاكها كان أقل من استهلاك زيت الاستصباح على وجه التأكيد، وعلى ذلك كانت فرص المؤسسة قليلة في الربح، فكل نقص في عدد السكان وكل تأخير في دفع المرتبات وكل تخفيض في عدد سكان القرية كان يؤثر في دخل حوانيت الجعة، وكذلك نجد في جانب أولئك من كان ينازع مثل «بياس» وهو من القلة الذين كانوا يأملون في استغلال كبير وخاب ظنهم فكانوا يطلبون إعادة النظر في عقودهم.

والواقع أن الملتزم لم يخرج عن أنه كان وقتئذ في أغلب الأحيان رجل مال يضمن للملك تحصيل إيراده، فقد كان يؤجر إيراد قرية أو عدة قرى دفعة واحدة، ولم نجد في الاقتصاد الملكي ما يشير إلى وجود مشاريع تدار بالوراثة من الأب إلى الابن مع العناية بالمحافظة على نقل ثمرة مجهود طويل في الأسرة.

والواقع أن الاقتصاد البطلمي كان يجهل الصناعة الأسرية أي التي كان يرثها الابن من الأب ولذلك نجد أن الفرد يكون مدة عام ملتزم زيت قرية مثلًا وبعد ذلك يكون في عام آخر مؤجرًا للجعة، وفي الوقت نفسه مؤجرًا لمادة الملح مثلًا، وعلى أية حال نجد أن العمال الذين يعملون في ذلك كانوا مرتبطين بمقاطعتهم فلا يغادرونها إلى مكان آخر، هذا ويُلحَظ اختفاء هذا التثمير في المجهود الذي يسعى إليه الإنسان ليصبح ملتزمًا، وذلك عن طريق اشتراك رجل مال وعامل لا يعرف الواحد منهما الآخر، وهذا من خواص اقتصاديات أصحاب رءوس الأموال في هذه الفترة، وقد ظهر في نظام حانوت الجعة هذا الخطأ في الاقتصاد البطلمي أكثر مما ظهر في احتكار الزيت؛ وذلك لأن البطالمة أرادوا تفريق الخطر والعمل والمكسب والمبادرة، وبذلك خلقوا عند الفرد حاسة التجارة، ومن المحتمل أن هذا هو سبب الركود الاقتصادي الذي وقعت فيه مصر منذ القرن الثاني ق.م.

هذا وكانت المعابد دائمًا صاحبة امتياز بصورة ما حتى لا يبتلعها الاقتصاد الملكي، ولذلك كانت لها حوانيت جعتها الخاصة بها،١٤٧ وأخيرًا نجد ثانية أن البطالمة وفقًا لنظام الاحتكارات البطلمية أعطوا مركزًا قانونيًّا منفصلًا لحانوت الجعة،١٤٨ والمنشورات التي أصدرها بطليموس «أيرجيتيس الثاني» وهي التي تعطي امتيازات في صالح كل أولئك الذين كانوا في خدمة الدخل الملكي بصورة ما، تعفي أصحاب حوانيت الجعة من تحمل تقديم مسكن للجنود المرتزقة.١٤٩ هذا وتدل شواهد الأحوال على أنه كانت تفرض ضريبة على كل ما يستهلكه كل فرد من الجعة.١٥٠

(٢-٣) زراعة الزيتون والنباتات الأخرى التي غُرست في عهد «بطليموس الثاني»

كانت أشجار الزيتون تُزرع في مصر في العهود المصرية القديمة لاستخراج الزيت منها،١٥١ غير أنها كانت تُزرع على نطاق ضيق، ولكن لما جاء البطالمة والسكان الإغريق الذين وفدوا معهم إلى مصر قاموا بعمل يعد فتحًا جديدًا في زراعة الزيتون في مصر، ولا غرابة في ذلك فقد كان ولا يزال الزيتون وزيته يعدان من أهم المواد الغذائية عند الإغريق ولا يرضون عنه بديلًا، وذلك لأنهم منذ نعومة أظفارهم قد اعتادوا على استعمال زيت الزيتون الأصيل، وقد صمموا على أن يكون لديهم الكمية الكافية منه في مصر، حقًّا كانت تُزرع في مصر بعض أشجار زيتون كما قلنا من قبل، ولكن كان المقصود منها الحصول على زيت الطعام، هذا ونجد في بعض الأماكن أن زراعة أشجار الزيتون كانت ثابتة، ومن ثم يحدثنا «ثيوفراستوس» (الفيلسوف الإغريقي مواطن أرسوس Eresus إحدى مدن جزيرة «لربوس»، وقد عاصر كلًّا من «أفلاطون» و«أرسطوطل» وله كتب في الخطابة والشعر) أنه عُرِفَتْ زراعة الزيتون في إقليم «طيبة»، ويحتمل كذلك في الواحة الخارجة بوجه خاص حيث لا تزال زراعة الزيتون باقية حتى الآن، ثم يحدثنا أن زيت الزيتون الذي كانت تنتجه مصر لم يكن أقل جودة من الذي ينبت في بلاد الإغريق.
وعلى أية حال كان للبطالمة الفضل في زيادة مساحة الأرض التي تُزرع أشجار زيتون وتكثير مقدار الزيت الذي يُستخرج من ثمارها، وليس لدينا من القرن الثالث ق.م بيان كافٍ عن زراعة الزيتون، ولكن نعلم من مراسلات «زينون» أي في عهد بطليموس الثاني أن «أبوللونيوس» غرس أشجار زيتون في ضيعته وأراد أن يزيد فيها شيئًا فشيئًا،١٥٢ وكانت نتيجة هذا المجهود أن أصبح بلا ريب أحد المنتجين لزيت الزيتون في السوق، ومن الجائز أن هذا الوزير حرر لزينون رسالة في هذا الصدد،١٥٣ وفي هذه الرسالة يقول «أبوللونيوس» الوزير لوكيله «زينون» أن يفرغ شحنة زيت الزيتون عند وصولها إلى ميناء الإسكندرية من قرية «أيكوس» Oikoe وأن يحافظ عليها بقوة في مخزن حصين إلى أن يصبح في مقدور «أبوللونيوس» الحضور بنفسه بمصر ويباشرها، ويظن الأثري «إدجار» أن زيت الزيتون قد جيء به من ضيعة سورية ملك «أبوللونيوس» وهذا جائز، ولكن يجوز كذلك أن تكون رسالة صدرت من الفيوم إلى الميناء النهرية للإسكندرية وفُرغت هناك.
والواقع أن «أبوللونيوس» عندما زرع أشجار الزيتون بكثرة لم يكن قد أتى بعمل استثنائي، فقد حدثنا «إسترابون»١٥٤ أن مقاطعة «أرسنوي» (الفيوم قديمًا) كانت تنتج في أيامه مقادير وفيرة من زيت الزيتون، في حين أن الأراضي التي كانت حول الإسكندرية كانت مغروسة بأشجار الزيتون لتغذي المدينة بما تحتاج إليه من هذه المادة، وهذا دليل على أن الزيتون كان يُزرع في مصر في العهد الهيلانستيكي بمقدار كبير وبخاصة في العهود المتأخرة عن عصر البطالمة، وقد عزز بيان «إسترابون» هذا وثائق عدة تثبت كثرة أشجار الزيتون في «الفيوم» في العهد الروماني كما كانت تُزرع في جهات أخرى من مصر، ولا بد أن نلحظ هنا على أية حال أن زيت الزيتون الذي كان يُستخرج في مصر من صنف رديء جدًّا.
هذا ولا نعرف إلى أي حد كانت الحكومة المصرية في عهد البطالمة تراقب إنتاج زيت الزيتون المصري وبيعه، ولم تتناول «قوانين الإيرادات» التي سنها «بطليموس الثاني» زيت الزيتون، على أن هذا لا يعني أن الكمية التي كانت تنتج من هذا الزيت في مصر كانت قليلة بحيث إنها لم تلفت نظر الحكومة، ومن المحتمل أن موضوع زيت الزيتون قد عولج في لوائح خاصة به، وعلى أية حال قد يجوز على حسب ما جاء في الرسالة السالفة الذكر أنه قد فُرضت بعض تحفظات على توريد زيت الزيتون إلى الإسكندرية من مصر، وذلك لأن «أبوللونيوس» على ما يظهر قد أراد أن يحضر بنفسه لعمل الإجراءات الرسمية والمبالغ الخاصة بتوريد كمية عظيمة من زيت الزيتون الذي يعد أمرًا مستحدَثًا (هذه الوثيقة مؤرخة بعام ٢٥٤ق.م) هذا وليس لدينا معلومات عما إذا كان زيت الزيتون يخضع لنفس القواعد التي كانت تخضع لها النباتات الأخرى الدهنية، ولم يكن ثمن زيت الزيتون أقل من ثمن الزيوت النباتية المحددة، وعلى أية حال لم نعرف حتى الآن ثمن زيت الزيتون، وكانت الضريبة التي تُجبى على زيت الزيتون المستورد كبيرة جدًّا؛ فقد بلغت ٥٠٪ من ثمنه. وكان الغرض من ذلك حماية الزيت الوطني بما في ذلك زيت الزيتون، يضاف إلى ذلك أننا لا نعرف إلى أي زمن بقيت حماية الزيت، وفي خلال القرن الثاني لم تكن هذه الحماية شديدة كما كانت في القرن الثالث.١٥٥

وعلى أية حال نعلم على وجه التأكيد أنه قد عُملت محاولة في عهد البطالمة الأول لإمداد السكان الإغريق في مصر بزيت وطني، وبذلك أصبحت مصر من هذه الوجهة كذلك مستقلة عن الوارد الأجنبي من هذه السلعة.

(٢-٤) الفاكهة والخُضَر

هذا ونعلم أن البطالمة الأُول قد قاموا بعمل تجارب عدة خاصة بزراعة نباتات كثيرة لم تكن معروفة في مصر من قبل، وقد كان الغرض من ذلك هو مد الإغريق الذين يعيشون في مصر بالخضر والفاكهة التي تعودوها في بلادهم، وبذلك يقللون من اسيترادها، ومن أجل ذلك غُرست أشجار فاكهة منوعة في ضيعة «أبوللونيوس» في بلدة «فيلادلفيا» بنفس النشاط الذي بُذل في زراعة العنب والزيتون، فغُرست أحسن أنواع أشجار التين الوارد من البلاد الأجنبية،١٥٦ كما غرست أشجار السفرجل والرمان وأشجار التفاح المبكر والمتأخر والمشمش والبندق، وهناك أسباب تدعو إلى الاعتقاد أن أشجار الفسدق قد زُرعت في مصر للمرة الأولى خلال تلك الفترة، وقد اتُّخذت خطوات مماثلة لزراعة الخُضَر فنعرف مثلًا أن الثوم قد أُدخلت زراعته في مصر، وهو نبات يستعمل بكثرة عند الإغريق والطليان حتى يومنا هذا، وقد زُرع منه نوعان في ضيعة «أبوللونيوس» والنوع الشهير أُتي به من «تلوس» في «ليكيا» من أعمال آسيا الصغرى، ونوع آخر كان ينمو في واحات مصر.١٥٧
وقد عُملت محاولة في نفس الوقت لتحسين نوع الكرنب الذي كان يُزرع في مصر، وذلك باستيراد بذوره من جزيرة «رودس».١٥٨
هذا ويمكن الإشارة هنا إلى إحدى وثائق مراسلات «زينون» وهو خطاب من «أبوللونيوس» إلى زينون،١٥٩ يطلب إليه فيه أن يغرس على أقل تقدير ثلاثمائة شجرة من شجر الصنوبر في كل البستان في «فيلادلفيا»، وكذلك حول كَرْم العنب ومزارع الزيتون، ثم قال: «لأن الشجرة (أي الصنوبر) لها صورة تجذب النظر، وستكون ذا فائدة للملك.» المقصود من عبارة «فائدة للملك» هو أن هذه الشجرة كانت مفيدة بوصفها خشبًا يحتاج إليه في مصر، هذا وكان في نفس البستان مزارع واسعة من الورود لم تكن قد غُرست لمجرد الزينة وحسب.١٦٠

(٢-٥) الأفاويه وسيطرة الملك عليها

كان الملك في مصر يسيطر على تجارة الأفاويه وهي المُر والقرفة والقثاء الهندي وغيرها، وهذه الأشياء كانت تُعرف عند الإغريق بالعطريات، وكان معظمها يرد إلى مصر من بلاد العرب وشرقي «أفريقيا» وبلاد «الهند»، وكان الاستهلاك المحلي من هذه الأفاويه بوصفها موادَّ غفل أو مصنوعة من روائح عطرية، وكذلك تصدير جزء منها إن لم يكن كلها بمقادير عظيمة بمراقبة الإدارة الملكية.

الظاهر أن تجارة التجزئة كانت أثمانها محدودة، ومن ثم يظهر من المؤكد أن الملك خلافًا للمراقبة الشديدة التي كان يفرضها على الزراعة التي كانت تدر عليه دخلًا كبيرًا من المأكولات والمواد الغفل وعلى المعادن والمحاجر وصيد الأسماك والصيد إلخ، كانت له مراقبة أخرى تامة وأحيانًا جزئية على فروع كثيرة من النشاط الاقتصادي، وبهذه الطريقة كان إنتاج المواد الأساسية وبيعها في يَدَيِ الملك، وكانت تدار على حسب نظام قويم.

وإنه لمن المستحيل أن نذكر بالضبط عدد فروع الإنتاج التي كانت تدار بالطريقة التي وصفناها، ولكن من المهم أن نلحظ هنا أن البيانات الضئيلة التي في متناولنا لم تظهر لنا أي فرع من فروع الإنتاج سواء أكان زراعيًّا أم صناعيًّا لم يكن منظمًا ويدار إلى حد كبير بطريقة أو بأخرى بإشراف من الحكومة، وهذا النظام بعينه كان ينطبق على كل فروع الإنتاج الأخرى التي حفظت لنا الصُّدَف بعض معلومات عنها، والواقع أن التجار الذين نصادفهم في الوثائق كانوا كلهم ملتزمين للحكومة، وهم رجال كانوا يتسلمون رخَصًا أو تصاريح مقابل دفع أجرة عنه، ومن ثم كان لهم الحق في الاتِّجار في مؤن خاصة، فنسمع من وقت لآخر عن ملتزمي بيع الزيت والجبن والخبز واللحم والسمك المحفوظ وحتى العدس المطبوخ ولب القرع الملح والنباتات، وكان بعض المواد ثمنها محددًا وبعضها الآخر لم يحدَّد ثمنه، ولكن كانت كل فروع التجارة تحت رقابة الحكومة، هذا ولدينا فقرة في بردية من «تبتنيس»١٦١ تقدم لنا معلومات غاية في الأهمية عن السلع والتصرف فيها، فقد ذكر فيها الوزير التعليمات التي يجب أن يسير على مقتضاها السكرتير المالي فاستمع إلى ما جاء فيها:

انتبه كذلك حتى لا تباع السلع المعروضة للبيع بأسعار أعلى مما هو محدد لها، وقُمْ بفحص دقيق لهذه السلع التي لم يحدَّد ثمنها، وهي التي يمكن التجار أن يضعوا لها أثمانًا على حسب أهوائهم، وبعد أن نضع زيادة معقولة على السلع التي تباع اعمل … التصرف فيها.

(٣) وسائل النقل

تحدثنا فيما سبق عن إدارة الإنتاج والبيع في داخل البلاد، وذكرنا أنها كانت منظمة لصالح الملك قبل كل شيء، هذا وكانت وسائل نقل المنتجات منظمة على نفس المبادئ العامة التي تسير على مقتضاها السياسة البطلمية. حقًّا لم تكن وسائل النقل المحلي منظَّمة بدقة وقوة، وذلك على الرغم من أنه كانت تحصَّل ضرائب معيَّنة على دواب الحمل وبخاصة الحمير، كما كانت تجبى ضرائب خاصة على أولئك الذين يشتغلون في أعمال النقل، وهذا النظام كان ينطبق كذلك على طرق النقل النهرية بسفن ذات شحنات مختلفة، ولم تكن قاصرة على الملك؛ فقد جاء في وثائق كثيرة ذكْر سفن يملكها أشخاص أحرار، وكذلك ذُكرت دواب حمل لأفراد من الشعب، فنجد مثلًا أن «أبوللونيوس» وزير الملك «بطليموس الثاني» كان يملك طرقًا كثيرة للنقل برًّا وبحرًا استعملها لنفسه ولموظفيه لتنقل السلع التي كانت تنتجها ضيعته في الفيوم، وكان له قائد بحري خاص يُشرف على أسطوله الخاص، غير أن حالة «أبوللونيوس» يمكن أن تكون فردية استثنائية، والواقع أننا لا نعلم إذا كانت هذه السفن التي كانت تحت تصرفه يملكها «بطليموس الثاني» بوصف أن «أبوللونيوس» وزيره أو كانت تابعة لضيعته، ولا شك في أن موضوع النقل كان مسألة هامة في نظام الاقتصاد البطلمي، ولا أدل على ذلك من أن لوازم الجيش في وقت السلم والحرب وفي أسفار الملك العديدة، وكذلك في أسفار رجال حاشيته وموظفيه الآخرين وتنقلات البريد وبخاصة نقل كميات ضخمة من الحبوب والمواد الأخرى من المكان الذي كانت تنتج فيه إلى المخازن الملكية في الإسكندرية وفي الأرياف كل هذه الأشياء كانت تحتاج إلى الآلاف من دواب الحمل وسائقيها، وكذلك إلى المئات بل الألوف من السفن الصغيرة والكبيرة من نواتيها.

وكان الملك كغيره من أصحاب البيوت يملك تحت تصرفه لخدمته الخاصة طرق نقله، فكان له جياده وجماله وحميره وبغاله وعرباته إلخ، هذا من جهة، كما كان من جهة أخرى يملك سفنًا منوعة مجهَّزة بنواتيها، ومما يؤسف له أن معلوماتنا عن هذه الإدارة الخاصة ببيت الملك ضئيلة جدًّا إلا إدارة البريد فلدينا عنها بعض المعلومات، والظاهر أن السائقين والمُجدِّفين كانوا على ما يُظَنُّ من المصريين الذين كانوا يعملون بمقتضى عقود، ولكنهم عند الضرورة كانوا يُسَخَّرون، ولا غرابة في ذلك لأن الإغريق كانوا الأسياد والمصريين هم العبيد فيقومون بالأعمال الحقيرة.

وفي زمن الحرب على أية حال نجد أن حركات الجنود في داخل البلاد أو الأسفار الطويلة التي كان يقوم بها الملك للتفتيش كل سنة في فصل الحصاد، وعندما كانت آلاف الآلاف من مكاييل الحبوب ومن المنتجات الأخرى تُنقل بالطرق البرية والنهرية والترع، كانت طرق النقل التي يملكها الملك غير كافية، وفي هذه الأحوال كانت الحكومة البطلمية تحشد كل ما لها من حقوق ثابتة لهذه الأغراض من رجال ودواب حمل وسفن، وفي الأوقات العادية كان استخدام الطرق الخاصة بالنقل يُنفذ بمقتضى عقود تُبرَم مع أصحابها، فكانت العقود تُبرَم بوجه خاص مع الحمَّارة المحترفين وكذلك مع البحَّارة المحترفين، وفي حالة الطوارئ كان البطالمة يلجئون لنظام السُّخرة القديم، فكانوا يُسَخِّرون لخدمة الحكومة دواب الحمل والرجال والسفن، وهذه السُّخرة كان المصريون يخشون حدوثها؛ لأنها كانت تُنفَّذ فيهم لا في غيرهم، وهذا ما كان متبعًا في عهد إسماعيل وعهد الاحتلال قبل استقلال مصر.

(٤) التموين

وكان التموين بطبيعة الحال له علاقة وثيقة بنظام النقل وبخاصة المواد الغذائية والتوريدات الأخرى اللازمة للملك والجيش وكبار الموظفين عندما يكونون على سفر، وهذا التموين كان يطلق عليه لفظ «هبات» غير أننا لا نعرف إلى أي حد كانت تُستعمل هذه الهبات لتغذية فِرَق الجنود في سيرهم أو في مُكْثهم في البلاد وبخاصة في عهد بطليموس الأول،١٦٢ ومن المحتمل جدًّا أن ثمن هذا التموين كان على حساب السعر الذي حددته الحكومة، وقد كانت هذه هي الحالة مثلًا في شراء الحبوب على يدي الحكومة، وكانت تعد صورة من صور التموين.

(٥) الضرائب

وفضلًا عن الأعباء الفادحة العديدة التي كان يرزح تحت وطأتها السكان، وهي التي وصفناها فيما سبق، كانت هناك ضريبة أخرى منظَّمة، وقد ذكرنا ضرائب عدة من قبل كالضرائب التي كان يدفعها المزارعون وأصحاب الأملاك على أنواع مختلفة من المحاصيل، والتي كان يدفعها الصناع، والعامة جميعًا (وهي ضريبة الرءوس الخاصة بالاحتكارات)، وخلافًا لذلك وُجِدَت أنواع كثيرة من الضرائب.

ويمكن القول إنه لم تظهر ضريبة رءوس شخصية فُرِضَت على المصريين في عهد بطليموس الأول، ولكن من جهة أخرى كانت هناك ضريبة أخرى منظمة على الملكية؛ مثال ذلك ضريبة على البيوت وضريبة على العبيد وعلى العقود القانونية الخاصة بالملكية كتسجيل الوثائق الخاصة والبيوع والمزادات والوراثة وعلى التجارة الخارجية للصادرات والواردات وعلى التجارة الداخلية وبخاصة فيما يتعلق بتبادل السلع بين الوجه القبلي والوجه البحري وعلى استعمال المين والمراسي والطرق إلخ. وعلى أية حال كانت الضرائب منوعة كثيرًا وفادحة.١٦٣

وسنتحدث عن هذه الضرائب كما وردت في العقود الديموطيقية في فصل خاص.

١  راجع نظام تقسيم أرض مصر في عهد الرعامسة في مصر القديمة الجزء الثامن.
٢  راجع: Zenon Pap. Edgar, vol. II, P. 13-14.
٣  راجع: A. Jardé, Les Céréales dans l’Antique Grec: I, 1925, 187.
٤  راجع: Preaux, L’Economie Royale des Lagides. P. 165; Rostovtzeff Kolonat. PP. 14 ff; & A Large Estate. P. 94.
٥  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
٦  راجع: P. Cairo, Zenon 59162.
٧  راجع …
٨  راجع: A Large Estate 93–103.
٩  راجع: A. Large Estate. P. 95.
١٠  راجع: P. S. I. 624; A Large Estate 96.
١١  راجع: P. Cairo Zenon 59033.
١٢  راجع: Excavations at Giza. The offering List in the Old Kingdom. Vol. VI. Part II. P. 399–402.
١٣  راجع: Claire Preaux, L’Economie Royale Des Lagides, P. 65 ff. Real Encyclopadie de Paul-Wissowa by Fè Heichelheim (1930).
١٤  راجع: A Large Estate. P. 166.
١٥  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
١٦  الأرورا ٢٧٣٥ مترًا.
١٧  راجع: Tebt. P. 105, 106.
١٨  راجع: P. Tebt 703, II. 126–134.
١٩  راجع: Large Estate 90-91.
٢٠  راجع: P. Columbia Zenon, 53.
٢١  راجع: P. Tebt. 703 II, 149–158.
٢٢  راجع: E. Berneker, Die Sondergerichtsbarkeit im. Griechischen Recht Aegyptens. (1935). PP. 59 sq.
٢٣  راجع: Rostovtzeff, C. G. A, 1909. P. 630–632, Cf. W. Otto; Priester Und Tempel I, PP. 291 ff.
٢٤  راجع: P. Tebt. 703, II, 145.
٢٥  راجع: P. Tebt. 703, II, 145–148.
٢٦  راجع: P. S. I. 515; P. Cairo-Zenon 59133; B. G. U. 12057; P. S. I, 1001 & 1002.
٢٧  راجع: P. Lille 9 3rd Century.
٢٨  راجع: P. Petrie, II, 28 = III, 66a & III, 66b, Grenfell. R. L. P. 197.
٢٩  الكوس = جالون، وعلى ذلك الزيت يساوي ثمانية جالونات.
٣٠  راجع: P. Cairo-Zenon, 59012 & 59015; Cf. A. S, 23 (1923) PP. 73–98.
٣١  راجع: P. S. I. 594.
٣٢  راجع: P. S. I. 535.
٣٣  راجع: P. Tebt, 703, II, 174–176.
٣٤  راجع: Rev. Laws. Col. 51, II, 248.
٣٥  راجع: P. S. I. 531.
٣٦  راجع: L. Bandi, I. Conti private (Aegyptus), 17, 1937, PP. 103–407 & 437-438.
٣٧  راجع: Preaux L’Economie, etc. P. 92.
٣٨  راجع: A. Andreadés, De l’origine des Monopoles Ptolémaiques Melanges Maspero II, Le Caire, (1934). PP. 289–295.
٣٩  راجع: Wilcken, Grundzuge, PP. 245–6.
٤٠  راجع: Rostwzew Gottengische Gelehrte Anzeigen (1909), PP. 632.
٤١  راجع: Chronique D’Egypte, Tome XXIX, No. 58, Juillet 1958. P. 512–527.
٤٢  راجع: Heichelheim, Recent Discoveries in Ancient Economic, History, Historia II, (1953), PP. 129–136.
٤٣  راجع مصر القديمة الجزء الثاني، راجع كذلك عن صناعة الورق في العهدين البطلمي والإغريقي، راجع: N. Lewis, L’industrie du Papyrus dans l’Egypte Greco-Romaine, Paris, 1934; Heichelheim, Monopole, Pauly-Wissowa, Real Enc. (1933), Coll. 185–186.
٤٤  راجع: P. Tebt. 709; Cf. Wilcken Archiv. II, (1933). P. 150; Cf. Lewis, Ibid. PP. 128–133.
٤٥  راجع: P. Cornell I.
٤٦  راجع: P. Columbia Zenon 4, Complété par P. Cairo-Zenon, 59688 verso, Cf. P. Cairo-Zenon 59317.
٤٧  راجع: P. Cairo-Zenon, 59054, II. 46–48.
٤٨  راجع: P. S. I. 519.
٤٩  راجع: P. S. I, 333 = Sel. Pap. 1, 89. 11.
٥٠  راجع: G. Glotz, Le prix du Papyrus dans l’Antiquité Grecque (Ann) à es l’Histoire Economique et Sociale I, 1929. PP. 1–13, et Bull. Soc. Arch. d’Alex. 25 (1930). PP. 83–96.
٥١  راجع: Pline Hist. Nat. XIII, 70.
٥٢  أحد العلماء الواسعي المعرفة عاش في أوائل القرن الثاني وولد حوالي ١١٦–١٢٧م.
٥٣  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
٥٤  راجع مصر القديمة جزء ٢.
٥٥  راجع مصر القديمة ج٢.
٥٦  راجع جزء ٢.
٥٧  راجع: P. Columbia-Zenon 38 & P. Cairo-Zenon 59758; Columbia-Zenon 36–39.
٥٨  راجع: A. S. 25, 1925. PP. 242–255.
٥٩  راجع: P. S. I. 423.
٦٠  راجع مصر القديمة الجزء السادس.
٦١  راجع: P. Petrie. II, 13, 1.
٦٢  راجع: P. Petrie II, 13 (1) = III 42, C (12); Ibid. II, 4 (8) = III, 42 C. III 43 (3); P. Hibeh 71; P. Petrie II, 4 (9).
٦٣  راجع: Heichelheim, Monopole Coll. 159–161; B. L. III. P. 239.
٦٤  راجع: Petrie III, 121 (B).
٦٥  راجع: B. G. U. 697 = Wilcken Chrest. No. 321.
٦٦  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
٦٧  راجع مصر القديمة الجزء الثاني، والجزء السادس، والجزء العاشر.
٦٨  راجع: Wilkinson, The Manners and Customs of the Ancient Egyptians II. P. 238.
٦٩  راجع: K. Fitzler Steinbruche und Bergwerke. PP. 6–7; J. E. A. (1925), Pl. XI; Dykman, Histoire Economique, etc. PP. 142–146.
٧٠  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
٧١  راجع: Wilkinson, Op. Cit. II, P. 250 ومصر القديمة الجزء الثاني.
٧٢  راجع: J. R. Partington, Origin and Development of Applied Chemistry (1935); PP. 362–5.
٧٣  راجع: Murray, J. E. A. Vol. II. Pl. XI, P. 144, Pl, XV, I; Strabo, XVII, P. 815.
٧٤  راجع: Diod. III, 12–14; Muller G. G. M. I, PP. 123–129.
٧٥  راجع: G. I. S. 132.
٧٦  راجع مصر القديمة الجزء ٣.
٧٧  راجع: Rostovtzeff Foreign Commerce of Ptolemaic Egypt. Journal of Economic & Business History IV, (1932). PP. 732–4.
٧٨  راجع: Diod. 12, 2.
٧٩  راجع: Wilcken Alexander der Grosse und hellenistische Wirtschaft (Schmollers Jahrb), 45 (1921). PP. 387–389.
٨٠  راجع: B. G. U. 1242.
٨١  راجع: P. Petrie III, 117 (e) (f), 119 (a); Heichelheim Monopole, Col. 186.
٨٢  راجع: Edgar, Le Musée Egyptiens II, (1907). PP. 57 ff.
٨٣  راجع: Social & Economic History of the Hellenistic World. Vol. III, P. 1410.
٨٤  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
٨٥  راجع: Rostovtzeff, Foreign Commerce of Ptolemaic Egypt. Journal of Economic & Business History, 4, (1932). P. 754.
٨٦  راجع: P. Cairo-Zenon 5978.
٨٧  راجع: P. S. I, 629, 630.
٨٨  راجع: Social & Economic History of the Hellenistic World. P. 362-363.
٨٩  راجع: J. E. A. Vol. 43. P. 71; Preaux, L’Economic Royale Des Lagides. P. 267; Rostovtzeff Social and Economic Hist. P. 89, 263, 264.
٩٠  راجع: Curtis Media of Exchange in Ancient Egypt in the Numismatist 1951. P. 482–491.
٩١  راجع: Jenkins, Greek Coins recently acquired by the British Museum in The Numismatic Chronicle (1955). P. 144–50.
٩٢  راجع: Vermeule Ancient Dies & Coining Methods in The Numismatic Circular (1953). PP. 397–401.
٩٣  راجع: The Numismatic Chronicle (1947). Nos. 12–14, Pl. 5.
٩٤  راجع: Curtis, Ioc. cit.
٩٥  راجع: Svoronos, Co 3-4; W. Grisecke Das Ptolemaergeld. PP. 3-4.
٩٦  راجع: Seltman, Greek Coins. P. 240.
٩٧  راجع: P. Eleph. 1.
٩٨  راجع: Gresecke, Das Ptolemaer geld, PP. 4–7, Pl. 1, Nos. 5, 6, 7.
٩٩  راجع عن هذه النقطة: Segré, Metrologie. PP. 257-258.
١٠٠  راجع: Ancient Egypt, 1928. Part II. PP. 37–39.
١٠١  راجع: P. Cairo-Zenon, 59021; A. S. 18, P. 167–171; Bekerman, Inst. des Seleucides. PP. 213-214; Preaux Econom PP. 271 ff.
١٠٢  راجع: Wilcken Alexander etc., Schmollers Jahrb. XLV (1921). PP. 78 (382) ff.
١٠٣  راجع: Rev. Laws Coll. 73–78; Wilcken Chrestomathie. No. 181.
١٠٤  راجع: P. Columbia-Zenon 272.
١٠٥  راجع: Diod. I, 79. راجع كذلك مصر القديمة الجزء الحادي عشر.
١٠٦  راجع: P. Cairo-Zenon 59355 = P. Edgar 365.
١٠٧  راجع: Heichelheim Wirtschaftliche Schwankungen. PP. 126-127.
١٠٨  راجع: P. Cairo-Zenon, 59503.
١٠٩  راجع: P. Mich-Zenon 9; P. Eleph. 21, 24, 17, 16.
١١٠  راجع: P. Hibeh, 66–70 (b) & 160–3.
١١١  راجع: P. Gradenwitz, 3.
١١٢  راجع: P. Tebt. 703 II, 117–134.
١١٣  راجع: P. Gradenwitz 4.
١١٤  راجع: P. Cairo-Zenon 59342. Cf. Wilcken Archiv. (1930) P. 231.
١١٥  راجع: P. PSI, 333, 324 & 325; P. Lond, Inv. 2093; P. Mich. Zenon 32. P. Col-Zenon 43.
١١٦  راجع: P. Cairo-Zenon 59327, 1, 95.
١١٧  راجع: P. Cairo-Zenon 59327, 1. 95; P. Enteuxeis 38; P. S. 512; P. Tebt. 890, 1. 130 Second Century B. C.
١١٨  راجع: Peremans, Vreemdelingen en Egyptenaren in Vroegypto-lemaeish Egypt, Louvian (1937). PP. 49–53.
١١٩  راجع: P. Eleph. 10 = Wilcken Chrestomathie. No. 182 (223–232); U. P. Z. 149, 1. 30 (time of Philopator); Wilcken Archiv. 5, 1913, PP. 211 Sqq.
١٢٠  راجع: P. Tebt. 6, 140 ff.
١٢١  راجع: P. Cairo-Zenon 59036 = P. Edgar 67.
١٢٢  راجع: Diod, I, 84, 8.
١٢٣  راجع: Arch. Pap. IX (1930). P. 233 f.
١٢٤  راجع: Badarian Civilisation. Brunton. P. 46-7.
١٢٥  راجع: Caton Thompson, The Neolithic Industry of the N. Fayum Desert, in journal of Anth. Inst. LVI (1926). P. 315.
١٢٦  راجع: H. E. Winlock, The Egyptian Exp. 1918–1920. In Bull. Met. Mus. of Art, New York, 1920. P. 22.
١٢٧  راجع: Winlock Models of Daily Life in Ancient Egypt, From the Tomb of Meket-Re at Thebes. P. 29–33, Pls. 25–28.
١٢٨  راجع: Bull. Inst. Egypte, 1884. P. 5.
١٢٩  راجع: Decret de Canope, Ligne 17.
١٣٠  راجع: Loret, l’Egypte au temps des Pharaons. P. 178.
١٣١  راجع: Heichelheim Pauly-Wissowa, Real Enc. Coll. 175–181; Wilcken Grundzûge, pp. 245-246.
١٣٢  راجع: P. Tebt. 769 237–6 or 212–11.
١٣٣  راجع: S. B. 4369 a. I. 40; Cf. Petrie III. 75. Rev. Laws, Col. 87.
١٣٤  راجع: Tebt, 703.
١٣٥  راجع: Tebt, 769.
١٣٦  راجع […] Tebt, 703.
١٣٧  راجع: Rost, S. Econ […] P. 388.
١٣٨  راجع: Ibid. P. 307.
١٣٩  راجع: P. Cairo-Zenon, 59430, 59195.
١٤٠  راجع: P. Cairo-Zenon, 59142, 59195, 59430.
١٤١  راجع: P. Cairo-Zenon, 59195.
١٤٢  راجع: P. Cairo-Zen. 59430, Cf. 59405 & Perhaps 59404; PSI. 429. 17, 377, 14; Hib. 36. 6. 11; Arabian wool, P. Cairo 59287; if. Edgar 107.
١٤٣  راجع: Athen. V, p. 201.
١٤٤  راجع مصر القديمة الجزء السابع.
١٤٥  راجع: Reil, Beitrage sur Kenntnis des Gewerbes im Hellenistischen Aegyptens 1913 PP. 164-165; Heichelheim Monopole, Pauly-Wissowa, Real. Enc. Coll. 170–1720; Wilcken Grundzuge, PP. 251-252; Rost, Large Estate. 118–120.
١٤٦  راجع: P. Lille, 3 II, 49–52.
١٤٧  راجع: Otto, Priester und Tempel, I, PP. 298–300; & II. P. 60.
١٤٨  راجع: P, Cairo-Zenon 59202. Cf. E. Berneker, Die Sondergerichtsbarkeit im Griechischen Recht Aegyptens (Munich 1935). PP. 146 & 166.
١٤٩  راجع: P. Tebt, 5, II, 168–173.
١٥٠  راجع: O. Tait. Boldl. 125, 122.
١٥١  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
١٥٢  راجع مصر القديمة الجزء الثاني.
P. Cairo-Zenon 59072, 59125, 59157, 59148, 59244, 59737, 59788, II, 18 & 27; P. Mich-Zen. 45. I, 26.
١٥٣  راجع: P. Col. Zen. 14; Arch. Pap. XI (1935). P. 218.
١٥٤  راجع: Strab. XVIII, I, 35.
١٥٥  راجع: Tebt. 728.
١٥٦  راجع: P. Cairo-Zen. 59033.
١٥٧  راجع: P. S. I. 428, 85 & 433; Cf. Lond. Inv. 2097, 14 ff.
١٥٨  راجع: Diphilus of Siphons, Contemporary of King Lysimachus in Athen. IX. 9. 369.
١٥٩  راجع: P. Cairo-Zen. 59157.
١٦٠  راجع: P. Cairo-Zen. 59269, 59735 & 59736, 23.
١٦١  راجع: Tebt. 703, I. 174 ff.
١٦٢  راجع: P. Ryl. Zen. 9 (251 b.c.); & Tebt. 729 (2nd cent. b.c).
١٦٣  راجع: U. Wilcken, Ostraca I, PP. 199; and Grundzuge. PP. 169 ff.; Cf. Alexander & C, Schmollers Jahrb. XIV (1920). PP. 81 (385) ff.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤