الفصل الخامس عشر

مشهد التحول

شعرت آيريس براحةٍ بالغة، فكانت دموعها توشك أن تتساقط من عينيها عندما التفتت إلى البروفيسور. سألته بصوت مختلج: «هل اقتنعت الآن؟»

نظر البروفيسور إلى زوجة القس نظرةً سريعة تكاد تكون اعتذارية؛ إذ كانت السيدة من النوع المألوف الذي يروق له ويستحسنه، لكن فقط عندما تكون متزوجة بالفعل من رجل آخر.

قال: «لا داعي لذلك السؤال. فما وددت إلا أن أحصل على دليل يؤيد ادعائك. أنا آسف لأني شككت بكلمتك في المقام الأول. لقد كان ذلك بسبب ضربة الشمس المؤسفة التي تعرَّضتِ لها.»

قالت آيريس مُصرة: «حسنًا إذن، ماذا ستفعل؟»

كان البروفيسور قد ارتكب غلطة بالفعل؛ لذا لم يكن يود أن يتسرع تلك المرة.

فقال: «أعتقد أنه من الأفضل أن نستشير هير؛ فهو خبير لغات محنَّك، وله عقل راجح، مع أنه قد يبدو غير مسئول في بعض الأحيان.»

قالت آيريس ملحة: «إذن لنعثر عليه في الحال.»

مع عجلتها، توقَّفت لتتحدث بعفوية إلى زوجة القس قائلة:

«شكرًا لكِ جزيلًا! أنت لا تدرين كم يعني ذلك لي.»

سألت السيدة بارنز باندهاش: «إنه لمن دواعي سروري، لكن علامَ تشكرينني؟»

تركت آيريس الأختين فلود-بورتر يشرحان لها الأمر، وتبعت البروفيسور. بدا الارتياب الحقيقي على هير عندما عثرا عليه في عربة المطعم بعد بحث طويل.

«عجبًا، هل أثير أمر الآنسة فروي من جديد؟ لكن هناك شيئًا بخصوص تلك السيدة الصالحة يشغل بالي. لا أمانع أن أعترف أني لم أصدق قط وجود تلك العجوز الودود، لكن ماذا حدث لها؟»

نزع البروفيسور نظارته كي يُلمعها. دونها، بدت عيناه واهنتين لا باردتين، وأثار الحزَّان الحمراوان المؤلمان على جانبَي أنفه تعاطف آيريس. الآن وقد صارت قضية مشتركة تربطهما وهي استعادة الآنسة فروي، شعرت آيريس بالود تجاهه.

قالت: «الآنستان فلود-بورتر لم تودَّا التدخل في الأمر؛ فقد بدا ذلك بوضوح، لكن لمَ كذب ستة أجانب بشأنها؟»

قال البروفيسور بتوتر: «لا بد أنه سوء تفاهم ما قد وقع. ربما أكون قد …»

قاطعه هير قائلًا: «كلا لم تفعل. لقد قمت بدور المترجم الفوري ببراعة يا بروفيسور، ولم تقع في أي أخطاء.»

أعجبت آيريس بسجيته السمحة الحاضرة التي دفعته إلى طمأنة البروفيسور؛ فقد كانت واثقة أنه في نفسه يراه مُتباهيًا مُملًّا.

تابع هير قائلًا: «سنلعب اللعبة القديمة «أين السيدة»، وفي تخميني أنها متنكرة في هيئة الطبيب؛ فتلك اللحية السوداء واضحة جدًّا حتى إنها تُسهل الأمر للغاية، أو ربما تكون هي من تسير القطار، متنكرةً في هيئة محرك أنثوي. لن أستبعد أن تفعل الآنسة فروي أي شيء.»

لم تضحك آيريس.

بل قالت: «هذا ليس مضحكًا، يبدو أنك نسيت أنها بجانب كونها شخصًا حقيقيًّا، فهي لا تزال مفقودة. علينا أن نفعل شيئًا ما.»

وافقها البروفيسور قائلًا: «بالفعل، لكن تلك مشكلة مُحيرة، وأنا لا أريد أن أتصرف بشأنها دون إمعان التفكير.»

قال هير مفسرًا: «هو يعني أنه يريد أن يدخن. حسنًا يا بروفيسور. سأعتني بالآنسة كار ريثما تروي أنت ظمأك الذهني.»

على الجانب المقابل من الطاولة التي يُغطيها رماد السيجار، ابتسم هير لآيريس.

وسألها: «هل الأمر كما فهمت؟ هل حقًّا الآنسة فروي تلك غريبة عنك تمامًا؟»

«بالطبع.»

«ومع ذلك أنت تكادين تفقدين صوابك قلقًا عليها. لا بد أنك الشخص الأكثر إيثارًا على وجه الأرض. حقًّا، فذلك أمر غير عادي.»

قالت آيريس معترفةً بصدق: «لكني لست كذلك، بل نقيضه. وهذا هو الأمر الذي يُثير دهشتي؛ فأنا لا أفهم نفسي البتة.»

«حسنًا، كيف بدأ الأمر؟»

«على النحو التقليدي. كانت لطيفة للغاية معي، ومدَّت لي يد العون، وما إلى ذلك؛ لذا في البداية افتقدتها لأنها لم تعد في ظهري، لكن وبعد أن ادَّعى الجميع أنها من وحي خيالي، تحوَّل الأمر كله إلى كابوس مريع. كان أشبه بمحاولة إثبات أن جميع من عداي مخطئ.»

«ذلك أمر ميئوس منه، لكن لمَ شعرت أنك مضطرة لإثبات أنها حقيقية؟»

«ألا تفهم؟ لو أني لم أفعل، لما استطعت أن أشعر أن أي شيء أو أي شخص أراه حقيقي مجددًا.»

علَّق هير بفتور: «لم أكن لأفقد صوابي لو كنت مكانك؛ فحينها كنت لأعرف أن تلك هي الأعراض اللاحقة لإصابة بالمخ؛ ومِن ثَم كنت لأعتبره أمرًا منطقيًّا للغاية.»

قالت آيريس محتجةً: «لا يمكنك مقارنة تجربتك بتجربتي؛ فأنت رأيت شخصًا حقيقيًّا لكنك خلطت بينه وبين الأمير. بينما يُفترض أني تبادلت الحديث مع شبح. لا يسعني أن أخبرك كم شعرت بالراحة عندما تذكَّرتها السيدة بارنز.»

ارتسمت على وجهها ابتسامة مبتهجة وهي تتطلع من النافذة. الآن بعد أن رسَّخت قدميها في العالم المنطقي مرةً أخرى، بعد أن ظلَّت هائمة في غياهب العالم الخيالي، لم تستطع كآبة المنظر حولها أن تتسلل إليها. حل العصر مبكرًا، فامتدت فترة الغسق مُضيفةً لمسة أخيرة إلى كآبة البلدة الصغيرة التي كان يمر القطار من جانبها ببطء.

كلما عبروا من أمام شارع، كانت آيريس ترى محالَّ متواضعة تعرض سلعًا يسيرة مثيرة للشفقة، وطرقًا مرصوفة بالحجارة، ولمحات من نهر مزبد زاخر من خلال الفجوات بين المباني. بدت البيوت — التي تتشبَّث بالتلال الصخرية مثل رقع من نبات الحزاز على سطح منزل — شبه متهدمة بفعل الزمن والعوامل الجوية. منذ زمن بعيد، طُلي خشبها وجصها باللون الرمادي، لكن المطر محا لون بعض الحوائط والشمس أبلتها فصار لونها أبيض متسخًا. كان كل جانب بالبلدة ينمُّ عن الفقر والعزلة.

قالت آيريس مقشعرةً أثناء مرورهم بجوار بوابة حديدية صدئة وراءها حديقة نمت بها أعشاب الحماض: «يا له من مكان مريع! أتساءل من بإمكانه أن يطيق العيش هنا، عدا المنتحرين.»

قال هير مقترحًا: «الآنسة فروي.»

توقَّع أن تثور ثائرة آيريس، لكنها لم تكن تُصغي إليه.

سألته: «متى نصل إلى ترييستي؟»

«في الساعة العاشرة وعشر دقائق.»

«وهي الآن السادسة إلا خمس دقائق. لا ينبغي أن نهدر المزيد من الوقت. يجب أن نعثر عليها. أعلم أن ما أقول يبدو تمامًا مثل فيلم رديء، لكن أسرتها تترقب عودتها إلى المنزل. أبواها عجوزان ومثيران للشفقة، وكلبها الغبي يذهب لاستقبال أي قطار قادم.»

بترت كلامها متعجبةً من تهدج صوتها. لدهشتها، وجدت أنها تأثَّرت حقًّا عندما فكَّرت بترقب الوالدين وصول ابنتهما. كانت المشاعر مخالفة لتقاليد الزمرة، فشعرت بخجل من ضعفها.

قالت وهي ترمش لتطرد الدموع التي تجمَّعت في عينيها: «سأحتسي ذلك المشروب رغم كل شيء. فأنا أشعر أن حسي صار مرهفًا، وذلك أمر سخيف، فالعجائز ليسوا جديرين بالشفقة بقدر اليافعين؛ فقد أوشكوا أن يبلغوا نهاية رحلتهم. أما نحن فلا يزال أمامنا الطريق طويلًا.»

وافقها هير قائلًا: «أنت بالفعل تحتاجين إلى شراب. سأذهب لأجد النادل.»

بينما كان يهمُّ بالنهوض، جذبته آيريس ليجلس مرةً أخرى.

وهمست قائلةً: «لا تذهب الآن؛ فقد أتى ذلك الطبيب المريع.»

بدا أن صاحب اللحية المدبَّبة كان يبحث عن شخصٍ ما، وعلى الفور لمح بنظارته الشابَّين اليافعين لتنتهي بذلك رحلة بحثه. توجَّه إلى طاولتهما على الفور وانحنى تحيةً لآيريس.

قال: «لقد عادت صديقتك إلى المقصورة.»

قالت آيريس وقد نسيت نفورها منه في خضم انفعالها: «الآنسة فروي؟ كم هذا رائع! أين كانت؟»

بسط كفيه وهز كتفيه.

«طوال ذلك الوقت كله كانت قريبة للغاية؛ فقد كانت في العربة المجاورة تُثرثر مع ممرضتي.»

قالت آيريس ضاحكةً: «أجل، هذا هو المكان الذي كنت لأجدها فيه. ذلك أول مكان كان يُفترض أن أبحث فيه ولم أفعل.»

حكَّ هير ذقنه مُتشككًا. «مم! أمرٌ غريب للغاية. هل أنت واثق أنها المرأة المقصودة.»

رد الطبيب: «هي السيدة التي رافقت الآنسة إلى عربة المطعم. سيدة قصيرة ضئيلة الجيد، ليست شابَّة، ولكنها ليست عجوزًا كذلك، تضع ريشةً زرقاء في قبعتها.»

صاحت آيريس: «تلك هي الآنسة فروي.»

قال هير مُصرًّا: «لكن لمَ وقع كل ذلك الغموض؟ ولمَ أنكر الجميع معرفتها وكل ذلك؟»

هز الطبيب كتفيه باستنكار وقال: «أها؛ لأننا لم نفهم ما تقصده الآنسة؛ فقد كانت تتحدث بسرعة وتذكر سيدة إنجليزية. وتلك السيدة ربما تكون ألمانية أو نمساوية، لا أعلم قطعًا، لكنها ليست إنجليزية.»

أومأت آيريس برأسها لهير.

وقالت له: «لقد وقعت في ذلك الخطأ أيضًا في البداية؛ فهي لا تبدو من بلد معيَّن، وتتحدث اللغات كلها. تعالَ لنطمئن عليها.»

بدأت آيريس تعتاد الرحلة في ممرات القطار حتى إنها شعرت أنه صار بإمكانها أن تقطعها معصوبة العينين. أثناء مرورها بجانب مقصورة الزوجين بارنز، استرقت النظر إلى داخلها. كان القس يبدو بطوليًّا على نحو يبعث على الكآبة، وقد عقد ذراعيه أمام صدره وقطب حاجبيه، بينما بدت أمارات التعب بوضوح على زوجته. كانت هالات سوداء تحيط بعينيها الغائرتين، لكنها ابتسمت بشجاعة لآيريس.

وسألتها: «ألا زلت تبحثين عن صديقتك؟»

قالت آيريس: «كلا، لقد عثرنا عليها.»

«حمدًا لله!»

اعترفت آيريس لهير بعد أن تابعا شق طريقهما مرةً أخرى: «لم أكن أحب تلك السيدة المبجَّلة، لكن قدرها ارتفع للغاية في نظري. هي حقًّا امرأة طيبة.»

عندما بلغا المقصورات المحجوزة، أصرَّت آيريس على اصطحاب البروفيسور الذي بشَّرته بالخبر.

قالت: «أريدك أن تأتي لتُقابل الآنسة فروي. ستتحمس للغاية عندما تعرف بالضجة التي أثارتها.»

قال البروفيسور معلقًا بنبرة لاذعة: «يبدو أن الرغبة في جذب الاهتمام صفةٌ أنثوية أصيلة.»

ضحكت آيريس من فرط حماستها؛ فقد انتفض قلبها فجأة.

صاحت قائلةً: «ها هي. ها هي هناك في آخر الممر.»

مرةً أخرى، فاضت بداخلها المشاعر الإنسانية التي طالما كانت تزدريها عندما رأت الهيئة الضئيلة المألوفة ذات الحلة التويدية الفاتحة.

وصاحت بصوت مُتهدج: «الآنسة فروي.»

التفتت السيدة فرأت آيريس وجهها. فور أن رأته، تراجعت في ذعر وصرخت.

قالت: «تلك ليست الآنسة فروي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤