الفصل التاسع عشر

اليد الخفية

في نظر البروفيسور، كانت الآنستان فلود-بورتر تجسيدًا للنخبة. في وطنه، كان يشتهر عنه أنه رجل غير اجتماعي مُكتفٍ بذاته، لكن فور أن يسافر خارجه، تنتابه ريبة من التعامل مع أشخاص لا يألفهم، وينمو لديه تهيُّب يجعله يسعى غريزيًّا للبحث عن الأمان لدى أبناء طبقته الاجتماعية.

كان يريد أن يسمع شخصًا ما يتحدث بلكنته — مهما كان غير ودود — شخصًا ارتاد الكلية نفسها، أو تغدَّى في ناديه، أو يعرف قريبًا من أقرباء أحد معارفه.

بينما كان يُدخن في الممر بعد أن نُفي من مقصورته، نظر بشوق منقطع الرجاء إلى المقصورة التي تجلس فيها الأختان. كان عمر الآنسة روز — مع أنها تكبره سنًّا — قريبًا من عمره بما يجعلها خطرًا محتملًا، لكن وجهها كان يُبدد أي مخاوف من هيستيريا خامدة. كان فكها السفلي بارزًا قليلًا، وكانت معالم شفتها وذقنها البارزين مطمئنة.

تراجع تلقائيًّا عندما التقت عيناه بعينَي الأخت الأكبر سنًّا، فدعته للدخول بإيماءة مبتسمة، لكنه دخل وجلس بجوار الآنسة روز متصلبًا.

سألته الآنسة روز بحدة: «هل تمنعك تلك الفتاة من دخول مقصورتك المحجوزة؟»

عندما شرح البروفيسور الوضع، كان رد الأختين متذمرًا.

قالت الآنسة روز بنبرة مستنكرة: «أُغشي عليها؟ لقد مرَّت من جوارنا وهي تضحك متأبطةً ذراع ذلك الشاب. الأمر كله يبدو لي غامضًا للغاية، لكني آمل من قلبي ألا تثير ضجة وتتسبب في تعطيلنا جميعًا في ترييستي دون داعٍ.»

قالت الأخت الكبرى بصوت منخفض: «الأمر يتعلق بكلبها.»

عضَّت الآنسة روز على شفتها السفلى.

وقالت في تحدٍّ: «أجل، إنه سكوتي. أعترف أني أقلق بشأنه أكثر من اللازم، لكنه يحبني بشدة، ويذوى لفراقي. الشخص الوحيد سواي الذي آمنه عليه هو رئيس الخدم.»

قال البروفيسور معلقًا: «هذا غريب؛ فكلبتي تنفر بشدة من رؤساء الخدم، بخاصة رئيس خدم عمي.»

ازدادت الحميمية في حديثهما، فأسرَّت إليه الآنسة روز ببعض من خصوصياتها.

«الأمر كالآتي، كولز — رئيس خدمنا — يُخطط للذهاب في رحلة بحرية فور عودتي. تلك تجربة جديدة بالنسبة له وهو متحمس لها. إن تأخرت في العودة فغالبًا سيبقى في المنزل مع سكوتي، وبالطبع أنا لا أريد أن تفوته الإجازة. وعلى الجانب الآخر، إن ذهب فسيُصاب سكوتي المسكين بالذعر، سيشعر أنه فقد كل أصدقائه.»

أضافت الآنسة فلود-بورتر قائلةً: «لدينا طاقم خدمة بارع، لكن مع الأسف لا أحد منهم يحب الحيوانات.»

ارتسمت ابتسامة على وجه البروفيسور المستطيل جعلته يبدو مثل حصان ودود.

قال لهما: «أستطيع تفهم ما تشعران به؛ فأنا أعترف أن كلبتي تجعلني أفقد صوابي. نادرًا ما أسافر خارج البلاد؛ لأني لا أستطيع اصطحابها معي بسبب قواعد الحجر الصحي، لكن تلك السنة بدا لي التغيير الشامل مطلوبًا.»

تبادلت الأختان النظرات.

وقالت الآنسة فلود-بورتر: «أليس ذلك غريبًا؟ فهذا وضعنا بالضبط.»

اقشعرَّ بدن الآنسة روز وغيَّرت مجرى الحديث بسرعة. سألته: «من أي فصيلة كلبتُك؟»

«من فصيلة سيلِهام. لها فراء أبيض.»

لم يعد البروفيسور يجلس منتصب القامة؛ فبعد أن بدأت صداقتهم بالحديث عن رؤساء الخدم، ووطَّدها اشتراكهم في امتلاك كلب، شعر أنه يجلس في رفقة متآلفة؛ لذا تراخى حديثه من الرسميات إلى القيل والقال.

«يبدو أن مسئولية تجاه تلك الفتاة الغريبة قد ألقيت على عاتقي. يبدو أنها مُصرة على إحراج الجميع. عرفت أنها كانت تنزل بالفندق نفسه الذي نزلتما به، ما رأيكما بها؟»

قالت الآنسة روز بحدة: «لا تسألني رأيي، فأنا متحيزة ضدها؛ لذا قد لا يكون من الإنصاف أن أُبدي رأيي بها.»

تولَّت أختها التفسير.

«نحن لا نعرف شيئًا عنها هي، لكنها كانت برفقة زمرة من أشباه العراة، الذين يسكرون ليل نهار، وكانوا مصدر إزعاج تام. كان صخبهم يفوق آلة حفر طرق تعمل بضغط الهواء، وقد أتينا إلى ذلك المكان البعيد كي ننعم بالراحة والهدوء.»

طقطق البروفيسور.

وقال: «أتفهم جيدًا شعوركما. ما أقصده هو هل تبدو لكما هيستيرية؟»

«لا أعرف سوى أن مشهدًا مشينًا وقع عند البحيرة أمس. كانت فتاتان تتشاجران بشأن رجل، وكانت هي إحداهما.»

قال البروفيسور معلقًا: «لا أستغرب ذلك. ففي الوقت الحالي، إما أنها تختلق حفنة من الأكاذيب كي تلفت الأنظار إليها، أو أنها تُعاني من هلاوس بسيطة نتيجة ضربة الشمس التي تعرَّضت لها. والاحتمال الثاني يعد ترفقًا، لكنه يعني أن على عاتقنا مسئولية. ففي النهاية، هي من أبناء وطننا.»

بدأت الآنسة روز تتململ. عندما فتحت علبة سجائرها وأخرجت منها واحدة، كانت أصابعها ترتعش.

سألته: «ماذا إن كان ما تزعمه حقيقيًّا؟ ليس من الإنصاف أن نترك الفتاة في ترييستي دون أي مساندة. أنا قلقة للغاية لأني لا أعرف ماذا عليَّ أن أفعل.»

لو سمعتها السيدة فروي، لصفَّقت بيديها العجوزتين المتيبستين. فأخيرًا، كان موقف الآنسة روز يتسق مع توقعاتها. خيرة الناس سيعتنون بويني؛ لذا لا يمكن أن يُصيبها مكروه، لكن على أية حال: «احفظها سالمة، وأعِدْها إلينا.»

لسوء الحظ، كان البروفيسور حصينًا من قوة الدعوات. ارتسم على وجهه نظرة عبوس متشككة.

وقال: «يبدو لي أن قصتها لا أساس لها من الصحة فلا أصدقها، لكن حتى إن لم تكن تلك المعلمة المختفية مجرد أسطورة، لا أستطيع أن أفكر في سبب يدعوني للقلق بشأنها؛ إذ لا بد أن اختفاءها كان طواعية، فإن كان ثمة مكروه قد أصابها، أو وقع لها حادث، كان سيُبلِغ به على الفور شاهد عيان.»

وافقته الآنسة فلود-بورتر قائلةً: «بالضبط؛ فالقطار مزدحم للغاية، وإذا كانت مُلمة بخباياه لاستطاعت أن تختبئ من جامع التذاكر لأجل غير مسمًّى.»

قال البروفيسور ملخصًا الأمر: «إذن، إن كانت مختبئة بالفعل، فسيكون لديها دافع شخصي قوي لتصرفها ذلك. أنا شخصيًّا أميل لعدم التدخل في المشكلات الخاصة أبدًا. ستكون صفاقة وعدم لياقة منا أن نبدأ البحث عنها علانية.»

سحبت نفسًا عميقًا من سيجارتها.

وسألته: «أنت إذن لا ترى أني حمقاء تمامًا لأني أقدم مصلحة سكوتي؟»

أجابها البروفيسور: «بل كنت لأعتبرك قد خذلت كلبك إن ضحَّيت بمصلحته في مقابل مشكلة غير معقولة كتلك.»

«هذا ما أراه أيضًا. شكرًا لك يا بروفيسور!» تفحَّصت الآنسة روز كفيها القويتين الورديتين. «لقد تلوَّثت يدي. أحرى بي أن أذهب للاغتسال.»

عندما خرجت إلى الممر، أسرَّت الآنسة فلود-بورتر للبروفيسور.

قالت: «لم يسعني أن أذكر الأمر أمام أختي — فهذا موضوع حساس بالنسبة إليها — لكننا مررنا لتونا بتجربة محطمة للأعصاب، وأنا أرى أن ما فعلناه من خير ليس بالقليل. هل أضجرك؟»

«على الإطلاق.»

بدأت الآنسة فلود-بورتر تروي تلك الأحداث التي لعبت دورًا في تشكيل سلوك الأختين؛ وبهذا كان لها أثر — غير مباشر — على مصير امرأة غريبة.

«نحن نقطن في حي هادئ للغاية قريب من الكاتدرائية، لكن تعكَّر صفو الجميع عندما جاء شخص مريع ليسكن به. أحد المتربحين من الحرب، هكذا أسمِّي أمثاله جميعًا. في أحد الأيام، كان يقود سيارته بسرعة جنونية — وهو سكير كعادته — فدهس امرأة. رأينا الحادث وأدلينا بشهادتنا، فحُبِس على أثر ذلك ستة أشهر؛ إذ لم تكن القضية ضده متماسكة.»

«أهنِّئكما على حسكما بالمسئولية العامة.»

«يؤسفني أننا كنا كذلك راضيين جدًّا عن نفسينا، حتى خرج من السجن. بعد ذلك صِرنا هدفًا له. آذانا ذلك الرجل بشتى الطرق بمساعدة صِبيانه؛ فحطَّموا نوافذنا وأغاروا على مراقد الأزهار، وألقوا بأشياء مريعة عبر أسوار الحديقة، وكتبوا رسائل بذيئة بالطباشير على البوابة. لم نستطع أن نُمسك بهم مُتلبسين، مع أننا لجأنا للشرطة فوضعوا حراسة خاصة على المنزل. بعد مدة نال الأمر من أعصابنا. أينما نكون وأيما نفعل، دائمًا ما كنا نترقب سماع صوت حادث آخر. كان أثر ذلك الأمر أكبر على أختي؛ إذ كانت تخشى بشدة أن يكون أحد حيواناتها الأليفة هو ضحيتهم التالية. لحسن الحظ، قبل أن تصل الأمور إلى ذلك الحد، ترك ذلك الرجل البلدة.»

قطعت الآنسة فلود-بورتر حديثها؛ فقد اجتاحتها الذكريات التي أيقظتها.

بدأ الأمر في ذلك الصباح الذي خرجت فيه إلى الحديقة لتجد أن أزهار الدلفينيون الفريدة خاصتها قد اقتُلعت من جذورها أثناء الليل.

بعد ذلك بدأ التوتر يتزايد، واستمرَّت المضايقات، والخسائر المالية التراكمية، ولم تعُد ثَمة جدوى من الإصلاحات؛ إذ كان زجاج النوافذ يُحطَّم مرة أخرى بعد استبداله. كان الأمر أشبه بالوقوف في مفترق طرق في يوم عاصف تتلطمك دوارة ريح غير مرئية، تظل تدور حول نفسها مرارًا وتكرارًا بعد أن تضرب ضربتها. كانتا تتوجسان خيفة كلما مر من جوارهما الصِّبية الخبثاء مسرعين بدراجاتهم، ويبتسمون لهما ابتسامة انتصار وقحة، ثم بعد مدة تحَّطمت أعصابهما، فجمح معهم خيالهما، وبدأتا تخشيان ما يُخبئون لهما من شرور أفظع.

انتهى الأمر في تلك الليلة التي وجدت فيها الآنسة فلود-بورتر أختها روز تبكي. لو أن صخرة جبل طارق ارتجَّت فجأة مثل الهلام، لما ارتاعت لهذا الحد.

رفعت عينيها إلى البروفيسور فالتقتا بعينَي البروفيسور المتعاطفتين.

سألته: «هل بإمكانك أن تلومنا عندما أقول لك إني بعد ذلك الأمر، أقسمنا على ألا نتدخل في أي شأن مرة أخرى، إلا إذا كان يتعلق بوحشية تجاه حيوان أو طفل؟»

عندما مرَّت آيريس من جوار النافذة، في إشارة إلى أنه صار بإمكانه العودة إلى مقصورته، نهض البروفيسور.

قال ناصحًا إياها: «اطلبي من أختك أن تتوقف عن قلقها، وأن تعود إلى كلبها بأسرع ما يمكن. لن يكابد أحد أي عناء. وإن حدثت أي تعقيدات أخرى، بإمكانكما أن تثقا في أني سأتولى الأمر.»

بعد بضع دقائق، عندما كرَّرت الآنسة فلود-بورتر رسالته على مسمع أختها، شعرت الأنسة روز براحة كبيرة.

قالت: «الآن بإمكاني أن أرجع إلى سكوتي مرتاحة البال، فأي شخص سيثق حتمًا في البروفيسور ثقةً تامة.»

لكنها أغفلت نقطة مهمة، وهي أن البروفيسور كان يتحدث على أساس أن الآنسة فروي هي خيال صنعته الهيستيريا، لكن الأختين رأوها رأي العين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤