الفصل العشرون

غرباء يتدخلون

بعد أن اختفت الآنسة فروي كأن لم تكن، تركت آيريس لتعتمد على نفسها مرة أخرى. عندما مضى شعورها المبدئي بالراحة بعد أن نحت ذلك اللغز عن ذهنها، بدأ قلقها يزداد تجاه ما تشعر به من أعراض. كانت ركبتاها ترتعدان، وكانت تشعر أن رأسها خاوٍ كقشرة بيضة مفرغة.

كانت الآنسة فروي لتُدرك أن الإنهاك الذي تُعانيه الفتاة سببه أنها لم تتناول أي غذاء خفيف، هذا بجانب ما تُعانيه من الآثار اللاحقة لضربة الشمس. في ذلك الموقف، كانت خسارتها لا تُعوَّض؛ إذ إن هير — بنية حسنة — كان لا يملك إلا أن يعرض عليها المنبهات.

بينما كانت آيريس تتشبث بالقائمة، تُصارع نوبات الدوار المتكررة، قالت في نفسها إنها مُجبَرة على الصمود حتى تصل إلى بازل.

قالت في نفسها بارتياع: «سيكون الوضع كارثيًّا إن خارت قواي. ماكس يافع للغاية وليس بوسعه أن يساعد. سيزجُّ بي شخص متطفل إلى خارج القطار عند أول محطة، ويرسلني إلى المستشفى المحلي.»

وهناك يمكن أن يحدث لها أي شيء، كما حدث للفتاة في القصة المريعة التي روتها لها الآنسة فروي، أم أن الآنسة كومر هي من روتها لها؟

كانت تجد صعوبة كبيرة في الوقوف، لكن مع أنها أصرَّت أن تترك هير — عندما شعرت أن التحدث والاستماع قد صارا مُجهدين — شعرت بالتردد إزاء فكرة العودة إلى مقصورتها؛ فهي قريبة للغاية من الطبيب وبعيدة للغاية عن أبناء وطنها. هناك في آخر الممر، تشعر أنها محاصرة خلف خطوط العدو.

كما أنها أيضًا كان يسكنها شبح العانس الضئيلة ذات الحلة التويدية التي ليس من الحكمة أن تفكر بها طويلًا.

كان الحديث الدائر بين الأختين فلود-بورتر بصوت حاد مرتفع — كان مسموعًا خلال الباب المفتوح — بمثابة تشتيت لذهنها.

قالت الآنسة فلود-بورتر: «لقد راسلت الكابتن باركر كي يلقانا بسيارته في محطة فيكتوريا؛ ليُساعدنا في تسريع إنهاء الإجراءات الجمركية.»

قالت الآنسة روز بتململ: «أتمنى أن يكون حاضرًا. إن خذلنا فلربما فاتتنا المواصلة التالية. أنا أيضًا راسلت الطاهي كي يجهز العشاء في تمام السابعة والنصف بالضبط.»

«ماذا طلبت؟»

«لم أطلب الدجاج بالطبع. سأحتاج إلى بعض الوقت كي أستطيع تقبل أكل دجاجة مرة أخرى. طلبت منه أن يُعد شريحة مختارة بعناية من السلمون وفخذة ضأن صغيرة، والبازلاء إن أمكن، وإن كان موسمها قد انتهى فليُعد الفاصولياء الخضراء والكوسة. تركت للطاهي اختيار التحلية.»

«يبدو لي ذلك جيدًا جدًّا؛ فأنا أتوق لتناول عشاء إنجليزي تقليدي مرة أخرى.»

«وأنا كذلك.»

ساد الصمت لبرهة قبل أن يتجدد قلق الآنسة روز.

«آمل ألا يحدث أي لبس بخصوص حجوزات عربات النوم في ترييستي.»

صاحت أختها قائلةً: «يا إلهي! لا تقولي ذلك. لا أطيق فكرة الجلوس منتصبة القامة طوال الليل. هل سمعت مدير الفندق يُجري مكالمة بشأنها؟»

«بل كنت واقفة بجواره وهي يُجريها. بالطبع لم أفهم أي شيء مما قال، لكنه أكَّد لي قطعًا أنه حجزها لنا.»

«حسنًا، لنأمل الأفضل. لقد كنت أتصفح دفتر مواعيدي. سيُقيم الأسقف آخر حفلة له في الحديقة بعد يوم من عودتنا.»

«أوه، يجب ألا تفوتنا.»

ابتسمت آيريس نصف ابتسامة مريرة وهي تُصغي إلى ذلك الحديث المميز الذي يدور بين مسافرتين غير محنكتين تشعران أنهما ابتعدتا كثيرًا عن مسارهما المألوف.

قالت في نفسها: «وأنا كنت أنتظر منهما أن تخاطرا بتفويت حجوزاتهما وإفساد خطة عشائهما. يا له من أمل!»

أسندت ظهرها إلى النافذة مرة أخرى بينما رأت النادل ذا الشعر الأشقر يسير نحوها في الممر. رأته الآنسة روز يمر، فلحقت به.

وصاحت بنبرة أودعتها أقصى ما بوسعها من تغطرس: «انتظر. هل تتحدث الإنجليزية؟»

«أجل سيدتي.»

«إذن أحضر لي بعض أعواد الثقاب رجاءً. أعواد الثقاب.»

«أفهم سيدتي، حسنًا.»

قالت آيريس التي صارت تتشكك في الجميع في نفسها: «أتساءل إن كان قد فهمها حقًّا.»

كانت شكوكها غير مبرَّرة؛ إذ بعد برهة عاد النادل ومعه صندوق أعواد ثقاب. استخدم واحدًا منها لإشعال سيجارة الآنسة روز، ثم ناولها الباقي محنيًا رأسه لها احترامًا.

قال للآنسة روز: «سائق القطار يفي بالتزاماته، وسيصل القطار إلى ترييستي في موعده المحدد.» أجابته بدورها: «أوه، ذلك أمر جيد بكل تأكيد.»

بدا متحمسًا لخدمة الجميع. عندما نادت عليه آيريس بدورها، دار على عاقبيه برشاقة وكأنه متحمس لخدمتها.

لكن عندما عرفها تغيَّر وجهه. اختفت ابتسامته وتلفَّت حوله، وبدا كأنه يحاول أن يهزم رغبته في أن يفر هاربًا.

لكنه مع ذلك، استمع لها ممتثلًا وهي تُعطيه أمرًا.

قالت له: «أنا لن أذهب إلى عربة الطعام لتناول العشاء. أريد منك أن تُحضر لي شيئًا لآكله في مقصورتي، تلك التي في آخر الممر. أريد كوبًا من الحساء أو مرقة بوفريل، أو حليب أوفالتين. لا أريد أي جوامد. هل تفهمني؟»

«أفهم سيدتي، حسنًا.»

انحنى لها وذهب، لكنه لم يُحضر الحساء.

نسيت آيريس طلبها فور أن أملته له. بدأت مجموعة من الركاب تتدفق في الممر بجوارها، وتسحقها في جانبه. كانوا جميعًا يسيرون في الاتجاه نفسه، فنظرت إلى ساعتها.

رأت أن موعد تقديم وجبة العشاء الأولى قد اقترب.

قالت في نفسها بابتهاج بعد أن تحررت من إلحاح فكرة الدقائق المُهدرة: «ثلاث ساعات فقط ونصل إلى ترييستي.»

كانت تعيق سير الموكب حيث تقف — إذ كان معظم الركاب جوعى — فكانوا مستائين من وجودها باعتبارها عقبة في طريقهم. لقيت منهم معاملة خشنة، ولكن لم يكن هناك جدوى من أن تصارع عكس ذلك التيار من البشر للخروج منه. فعندما حاولت ذلك، كادت تسقط أرضًا عندما بدأ بعض الركاب الغليظين يدفعون غيرهم.

لا يبدو أن أحدًا لاحظ المحنة التي لاقتها وهي تحاول الخروج من وسط الزحام. كان القطار يسير بأقصى سرعته، فكان جسدها يرتج ويُرض وهي متشبثة بالقضيب الحديدي. خافت أن تُسحَق، فتعرقت راحتا يديها وتسارعت نبضاتها في هلع.

ثم أخيرًا خف الزحام، وتنفست الصعداء وهي تنتظر حتى يمر الركاب الأكثر تهذيبًا. حينها، عرفت من مزيج الخطوط والرقط والشُّرَط باللونين الأبيض والأسود أن الأسرة متجهة إلى العشاء وقد شابكوا أيديهم. بعد أن تحرروا من قيد حضرة البارونة، كانوا يتحدثون ويضحكون، في مرح متطلعين لوجبتهم.

كان الوالدان ضخمين بما يكفي كي يعتصراها بلا هوادة وهما يحشران نفسيهما للمرور من جوارها، لكنها مع ذلك سعدت لرؤيتهما، إذ حاولت إقناع نفسها أنهما حتمًا يسيران في ذيل الموكب. ثم انسلت من جوارها الشقراء — الباردة ككتلة جليدية — في رباطة جأش لا تتزعزع، لا تشرد من شعرها شعرة واحدة.

كان الممر قد صار خاليًّا تقريبًا، لكن آيريس ظلت مكانها، غير قادرة على مواجهة فكرة العودة للمقصورة والجلوس وحدها مع البارونة. لكن تهللت أساريرها عندما ظهرت البارونة برفقة الطبيب. لما كانت واثقة من أنها ستحظى بمقعد في عربة المطعم — مهما تأخرت في الحضور — فقد انتظرت حتى انفض جمع الغوغاء.

عندما مرت بهيئتها الضخمة المتشحة بالسواد من جانب آيريس، تكوَّن في ذهنها تشبيه مناظر: حشرة تدهسها قدم عديمة الشفقة.

نظر إليها الطبيب نظرةً مهنية متفحصة رصدت جميع أمارات القلق البادية عليها. أحنى رأسه في تحية رسمية ثم مضى في طريقه، واستطاعت هي أن تعود إلى المقصورة الخاوية بعد أن ظلَّت تتخبط وتتأرجح في الممرات.

ما إن جلست في مقعدها، بعد أن نظرت لا إراديًّا إلى الموضع الخاوي الذي كانت تجلس به الآنسة فروي، حتى دلف هير إلى المقصورة مسرعًا.

وسألها: «هل ستأتين إلى جولة العشاء الأولى؟ انتبهي؛ فالجولة الثانية لا يُقدَّم بها سوى بقايا الطعام.»

أجابته قائلة: «كلا، فالنادل سيُحضر لي حساءً إلى هنا؛ فقد خضت عراكًا خشنًا ولا أطيق حرارة الجو.»

راقبها وهي تمسح جبينها المتعرق.

«يا إلهي! أنت تبدين مُنهَكة تمامًا. دعيني أحجز لك مقعدًا. كلا؟ حسنًا إذن، لقد تعرَّضت لتوي لتجربة مثيرة. وأنا في طريقي إلى هنا، أمسكت بكمي يدٌ مرتعشة لامرأة، وهمست لي امرأة بصوت مثير للشفقة: «هلَّا أسديت لي معروفًا؟» التفتُّ فإذا بي أتطلع إلى عينَي زوجة القس الجميلتين. ولا داعي لأن أقول إني تعهَّدت بخدمة السيدة الواقعة في مأزق.»

سألت آيريس: «هل طلبت منك إحضار قربة ماء ساخن لزوجها؟»

«كلا، بل طلبت مني إرسال برقية نيابةً عنها فور أن نصل إلى ترييستي. وهنا يأتي الجانب الشائق؛ فقط طلبت ألا أخبر زوجها أو أدعه يشك في أي شيء. وبعدها، لا يمكنني أن أشير إلى الرسالة تلميحًا.»

سألته آيريس بضجر: «ومن يهمُّه ذلك؟»

«أنا آسف. أرى أنك منهكة تمامًا. لن أزعجك أكثر من ذلك. أراكِ لاحقًا.»

ما كاد هير يُغادر المقصورة حتى أطل برأسه مرة أخرى من الباب.

وقال لها: «لم أرَ ملاك رحمة أقبح من تلك الجالسة في العربة المجاورة، لكن ما جاء بي حقًّا هو ذلك: هل تعرفين من يكون جابريال؟»

«واحد من رؤساء الملائكة.»

«حسنًا، يبدو أنك لا تعرفين.»

عندما مر الوقت ولم يأتِها النادل بالحساء الذي طلبته، فاستنتجت أنه نسي طلبها بسبب انشغاله الشديد، لكنها كانت مرهقة للغاية فلم تُبالِ، فلم يعنِها سوى عقارب ساعة يدها التي تُقربها في كل لحظة إلى ترييستي.

في الواقع، كان النادل الأشقر صاحب قلب من ذهب، ويد تهتز غريزيًّا كعصا العِرافة في اتجاه أي مصدر للبقشيش. كان ليجد وقتًا ليُحضر لها بسرعة كوب الحساء الذي طلبته مهما كان منشغلًا، لكن الشيء الوحيد الذي منعه هو أنه لا يعرف شيئًا عن طلبها.

كمعظم أقرانه من الريفيين، كان يُتقن اللغات بطريقة التبادل بين أبناء العائلات من جنسيات مختلفة. كان طموحًا، فرأى أن اكتسابه للغة إضافية قد يُرجح الميزان في كفته عندما يتقدم لوظيفة؛ لذا تعلَّم الإنجليزية من معلمه الذي تعلَّمها بدوره من كتاب صوتيات.

اجتاز النادل، الذي كان تلميذًا فطنًا، اختبارات مدرسته، وصار قادرًا على أن يُثرثر بسيل من العبارات الإنجليزية، لكن في المرة الأولى التي سمع فيها بريطانيًّا يتحدث اللغة، لم يكن يستطيع فهمها.

لحسن الحظ، كان السياح الإنجليزيون نادرين، وكانوا يقتصرون في أغلب حديثهم معه على متطلباتهم التي تخص وجباتهم. كانت أذناه قد بدأتا تعتادان الأمر؛ لذا نجح في الاحتفاظ بوظيفته بالحيلة وببراعته في التخمين.

عندما رأى سيجارة الآنسة روز غير المشعلة، خمَّن أنها تريد أعواد ثقاب، كما أن صوتها كان مرتفعًا، وكانت مقتضبة في حديثها.

لكنه ذاق هزيمته على يد آيريس؛ فصوتها المبحوح وكلماتها غير المألوفة غلباه تمامًا. بعد تجربته الأولى الموترة للأعصاب، لم يسعه إلا أن يتراجع لإجابته التلقائية: «أجل سيدتي.» ويهرع للاحتماء بساتر.

قبل أن يعود الركاب الآخرون إلى المقصورة، جاء آيريس زائرٌ آخر؛ البروفيسور. نزع نظارته كي يُلمعها بتوتر، فيما بدأ يشرح طبيعة مهمته.

«لقد تحدَّث إليَّ هير، وهو قلق بشأنك بصدق. لا أريد أن أُثير قلقك. بالطبع أنت لست مريضة — أعني أننا لا نجزم بمرضك — لكننا نتساءل ما إذا كنت قادرة على متابعة الرحلة وحدك.»

صاحت آيريس بذعر: «بالطبع أنا قادرة على ذلك. أنا بصحة جيدة، ولا أريد أن يقلق أحد بشأني.»

«لكن إن تردَّت صحتك لاحقًا، فستضعين نفسك وتضعيننا جميعًا في موقف حرج. لقد كنت لتوي أناقش ذلك الأمر مع الطبيب، وقد قدَّم لي اقتراحًا من شأنه إنقاذ الموقف.»

صمت فبدأت نبضات قلبها تتسارع في خوف، إذ استشفت بحدسها ماذا سيكون الاقتراح.

تابع البروفيسور قائلًا: «سيصحب الطبيب مريضة إلى مستشفى بترييستي، وقد عرض أن يتأكد من وصولك بأمان إلى دار رعاية أوصى بها لتبيتي الليلة فيها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤