الفصل الخامس والعشرون

اختفاء غريب

بعد أن غادر البروفيسور، استرخت آيريس في مقعدها وأصغت لهدير التيار المتذبذب لإيقاع القطار المضطرب. كان البخار قد بدأ يتكوَّن على زجاج النافذة المعتم، فجعل من العسير رؤية أي شيء خارجها، عدا خط من الأضواء يُرى كل حين وآخر عندما يمرُّ القطار بسرعة من أمام محطة صغيرة.

منذ أن أثبتت قوانين المنطق أن لا وجود للآنسة فروي، كانت تشعر بإنهاك لدرجة جعلتها غير مهتمة بمحيطها. لم تجد في نفسها طاقة تكفي حتى لأن تظل حانقة على البروفيسور لتدخُّله في شئونها.

قالت في نفسها متأملةً: «جميع المسافرين أنانيون. لقد كانت الأختان فلود-بورتر هما السبب. خشِيتا أن تعلقا معي؛ لذا أثَّرتا على البروفيسور، وأتوقع أنه استشار الطبيب بشأن ما يمكن فعله.»

اعتدلت في جلستها في محاولة لإراحة ألم ظهرها. أرهقها الاهتزاز المتواصل للقطار، وشعرت بأن رقبتها متيبسة وكأنها مصنوعة من الجص الباريسي وستنفلق إلى نصفين إن حرَّكتها حركةً مفاجئة. في تلك اللحظة تاقت إلى فراش مريح تأوي إليه لترتاح بعيدًا عن القعقعة والطنين المتواصلين.

كان ذلك ما اقترحه الطبيب؛ نومٌ ليلي مريح، لكن مع أنها بدأت تُشكك في حكمته من السباحة عكس التيار، ظلَّت ثابتة على إصرارها على عدم الامتثال لنصيحته.

في تلك اللحظة، دخل عليها هير وجلس قبالتها في مقعد الآنسة كومر.

سألها مستبشرًا: «هل ستتوقفين في ترييستي؟»

أجابته آيريس بعناد: «كلا.»

«لكن هل أنت واثقة أنك قادرة على متابعة الرحلة؟»

«وهل يعنيك ذلك؟»

«كلا، لكن على أي حال أنا قلق للغاية بشأنك.»

«لمَ؟»

«لا أعلم البتة؛ فذلك ليس من عادتي.»

ابتسمت آيريس ابتسامة واهنة رغمًا عنها. كانت لا تقدر على نسيان الآنسة فروي، فذِكراها كانت بمثابة شعور خفي مُلِح، كضرسٍ توقَّف نموه مؤقتًا. ومع ذلك كان لحضور هير تأثير مُسكن موضعي للألم؛ فرغم بؤسها كانت تشعر بحماسة غريبة عندما تكون معه وحدها في تلك الرحلة الكابوسية.

قال لها: «ابتهجي؛ فقريبًا تكونين في الديار، وسط زمرة أصدقائك.»

بدت تلك الفكرة منفرة لآيريس فجأةً.

قالت بنفاد صبر: «لا أريد أن تقع عيناي على أي منهم، ولا أريد العودة. ليس لي بيت. أشعر أنه لا يوجد ما يستحق العناء.»

«ماذا تفعلين في حياتك؟»

«لا شيء سوى العبث.»

«مع الآخرين؟»

«أجل. جميعنا نقوم بالأمور نفسها. أمور خرقاء. ليس فيهم شخصٌ واحد غير مزيَّف. أحيانًا يُرعبني الأمر؛ فأنا أهدر شبابي. إلامَ سينتهي كل ذلك؟»

لم يحاول هير التخفيف عنها أو إجابة سؤالها، بل حدَّق في الظلام بالخارج وعلى شفتيه تراقص شبح ابتسامة. عندما بدأ حديثه تحدَّث عن نفسه.

«حياتي تختلف كثيرًا عن حياتك؛ فأنا لا أعلم قط ماذا ستكون وجهتي التالية، لكن حياتي دائمًا خشنة. تحدث أمور لا تكون دائمًا سارَّة، لكن إن تسنَّى لي اصطحابك معي إلى وظيفتي التالية، فسيكون ذلك بمثابة تغيير كامل بالنسبة لك؛ إذ ستُحرَمين كل وسائل الراحة المتاحة في منزل فاخر، لكنني أراهنك على أنك لن تشعري بالضجر قط مجددًا.»

«يبدو ذلك لطيفًا. هل تطلب يدي؟»

«كلا، بل أنتظر ريثما تبدئين بقذفي بفطائر المهلَّبية كي أتفاداها.»

«لكن العديد من الرجال يطلبون يدي للزواج، كما أني أودُّ الذهاب إلى مكان وعر.»

«حسنًا. الآن صار بإمكاني أن أبحث الأمر بجدية. هل تملكين المال؟»

«أملك شيئًا منه؛ مجرد فُتات.»

«هذا يُناسبني؛ فأنا لا أملك منه شيئًا.»

بالكاد كانا يعيان ما قالاه في حديثهما العشوائي الذي خاضاه باللغة الوحيدة التي يفهمانها، تخالف كلماتهما الواهية التوق البادي في عينيهما.

قال هير قاطعًا فترة من الصمت: «أتدرين؟ كل ذلك ليس إلا هراءً؛ فأنا ما أقوله إلا لإبعاد تفكيرك عن مشكلتك.»

«أتعني الآنسة فروي؟»

«أجل، تلك المرأة اللعينة.»

تفاجأ عندما غيَّرت آيريس الموضوع.

سألته: «كيف هو عقلك؟»

«يتراوح بين الذكاء الشديد والمتوسط، هذا عندما يكون صافيًا. الجعة هي أفضل وقود له.»

«هل تستطيع كتابة قصة بوليسية مُشوقة؟»

«كلا، فأنا لا أحسن التهجئة.»

«لكن هل بإمكانك أن تحلَّ لغز واحدة؟»

«أجل، أنجح بذلك في كل مرة.»

«إذن، ما رأيك أن تُقدم لي تفسيرًا؟ لقد نجحت ببراعة في إثبات أن الآنسة فروي لا يمكن أن تكون حقيقية، لكن إن كان وجودها حقيقيًّا، فهل بإمكانك أن تكتشف ما عساه أن يكون قد حدث لها، أم أن ذلك صعب عليك للغاية؟»

انفجر هير ضاحكًا وقال: «لطالما ظننت أني إن أُعجبت بفتاة، فستكون قائدة فرقة موسيقية لها شعر مموَّج. لم يُخيَّل لي قط أني سأضطرُّ لأن ألعب دورًا مُساندًا لمعلمة عجوز. أعتقد أن الدهر ينتقم مني؛ فمنذ زمن طويل عضضت معلمة، وقد كانت معلمة بارعة بحق. حسنًا، لنبدأ.»

أشعل غليونه وقطب جبينه بينما راقبته آيريس باهتمام بالغ. بدا على وجهه — الذي زال عنه التواني واللامبالاة — أمارات التركيز، فبدا كأنه رجل مختلف. كان تارةً يُمرر أصابعه خلال شعره عندما تنتصب خصلة شعره الثائرة، وتارةً أخرى يضحك ضحكات خافتة مكتومة، ثم ما لبث أن صاح صيحة انتصار.

«لقد نجحت في حَبْك قصة ملائمة. يتخلل الخداع بعض أجزائها، لكنها تظل متماسكة. هل تودين سماع القصة التي تُدعى «الاختفاء الغريب للآنسة فروي» التي ألَّفتها؟»

أجفلت آيريس من نبرته المرحة.

قالت له: «سيسرُّني أن أفعل.»

«إذن، لك ما أردت، لكن أولًا عندما صعدت على متن القطار، هل كان بالعربة المجاورة راهبة واحدة أم اثنتان؟»

«لم ألاحظ إلا واحدة عندما مررنا بالمقصورة. كان وجهها مريعًا.»

«مم! قصتي تتطلب وجود واحدة أخرى، فيما بعد.»

«هذا ملائم، فثَمة أخرى. لقد قابلتها في الممر.»

«هل رأيتها منذ ذلك الحين؟»

«كلا، ولكني لم أكن لأُلاحظ على أي حال؛ فالزحام شديد.»

«هذا جيد. هذا يُثبت أنه ما كان أحد ليلحظ على الأرجح إذا كان ثَمة راهبة واحدة أم اثنتان يرعيان المريضة المضمدة، لا سيما أن الزحام شديد في نهاية الممر. كما ترين كان عليَّ أن أقلِّب أمر تلكما الراهبتين المبجَّلتين في رأسي؛ لذا فهما مهمتان جدًّا.»

«أجل. تابِعْ.»

«أنا لم أبدأ بعد. كان أمر الراهبتين مجرد تمهيد. إليك القصة الأساسية. الآنسة فروي جاسوسة بحيازتها معلومات تحاول تهريبها خلسةً إلى خارج البلاد؛ لذا يجب اغتيالها. وأي ظروف ستكون أنسب لذلك الغرض من رحلة قطار؟»

سألته آيريس بوهن: «أتعني أنهم ألقَوا بها على القضبان أثناء مرور القطار بأحد الأنفاق؟»

«دعي عنك تلك السخافة، وذلك الشحوب أيضًا. إن كانوا قد ألقوا بها على القضبان لعُثر على جثتها ولطُرحت الأسئلة الغريبة. كلا، يجب أن تختفي. وما أرمي إليه هو ما يلي. إن اختفت أثناء رحلة، فسيضيع الكثير من الوقت الثمين قبل أن يمكن إثبات أنها مفقودة حتى. في البداية سيظن أهلها أن وسيلة مواصلات فاتتها أو أنها توقَّفت في باريس لليلة أو ليليتين للتسوق؛ لذا عندما يبدءون بالبحث عنها سيكون أثرها قد انمحى تمامًا.»

«لكنهم لن يعرفوا ما يجب عليهم فعله؛ فهما عجوزان لا حول لهما ولا قوة.»

«يا لسوء طالعهما! أنت تجعلين قصتي تبدو مثيرة للشفقة تمامًا، لكن حتى إن كانا من ذوي النفوذ ويعرفان الإجراءات اللازمة، سيجدان نفسيهما لقاء مؤامرة من الصمت عندما يبدآن في التحري عنها.»

«يا للهول! هل الركاب جميعهم مشتركون في المؤامرة؟»

«كلا، فقط البارونة والطبيب والراهبتان. بالطبع سيكون هناك مؤامرة من الصمت السلبي، كما ذكرت لك من قبل؛ فلن يجرؤ أي من الركاب من أهل البلدة أن يناقض أيًّا من أقوال البارونة.»

«لكن لا تنسَ أن البارونة قالت شيئًا لم تفهمه أنت لجامع التذاكر.»

«أتلك حكايتي أم حكايتك؟ لكن ربما أنت مُحقة، ربما تواطأ معهم موظف أو اثنان من موظفي السكة الحديدية. في الواقع، لا بد أن تلاعبًا ما قد حدث عند مفترق الطرق بخصوص مقعدها المحجوز؛ إذ كان يجب أن يضمنوا أن تجلس في مقصورة البارونة، وأن تكون تلك المقصورة في مؤخرة القطار.»

«وأن تكون مجاورة لمقصورة الطبيب كذلك، لكن ماذا حدث لها؟»

كانت آيريس قد قرَّرت الاحتفاظ برباطة جأشها، ومع ذلك قبضت أصابع يدها في ترقب وهي تنتظر.

قال هير بتأمل: «هنا يأتي دور ذكائي. الآنسة فروي ترقد في المقصورة المُجاورة لتلك، مغطَّاةً بالأوشحة متخفيةً وراء الضمادات والقصاصات، حتى إن أمها ما كانت لتتعرف عليها الآن.»

«كيف؟ متى؟»

«حدث ذلك عندما كنتَ تغطُّ في النوم. حينها يدخل الطبيب ويسأل الآنسة فروي إن كان بإمكانها أن تؤدي خدمة بسيطة لمريضته. أنا واثق أني لا أعلم كيف أقنعها بذلك، ومعه ممرضةٌ طوْعَ بنانه، لكنها ستذهب معه.»

«أنا واثقةٌ أنها كانت لتفعل ذلك.»

«فور أن تدلف إلى المقصورة، تجد بانتظارها أكبر مفاجأة في حياتها. بادئ ذي بدء، تجد جميع الستائر منسدلة والظلام يعم المقصورة. ترتاب في الأمر، لكن قبل أن يتسنى لها أن تصرخ، ينقضُّ عليها ثلاثتهم.»

«ثلاثتهم؟»

«أجل! فالمريضة أحد أفراد العصابة. تُقيدها إحداهما، وتكتم الأخرى أنفاسها حتى لا تتمكن من الصراخ، بينما ينهمك الطبيب في حقنها بعقار يجعلها تفقد الوعي.»

شعرت آيريس بدقات قلبها تتسارع وهي تتخيل ذلك المشهد. قالت: «ذلك ممكن الحدوث.»

ابتسم لها هير ابتسامة فرحة.

«أتمنى لو أنك كنت حاضرة وأنا أقص حكايات مباريات الهوكي التي خضتها؛ فأنت تُبدين رد الفعل المناسب تجاه الأكاذيب؛ أعني الأكاذيب المحبوكة بمهارة بالطبع. بالمناسبة، إحدى الراهبتين رجل؛ تلك ذات الوجه القبيح.»

«أظن أنها كذلك.»

«لا تكوني متحاملة؛ فالرجال ليسوا جميعًا قبحاء. على أي حال، تسقط الآنسة فروي فاقدةً الوعي، فيتسنَّى لهم تضميدها بقوة، ولصق الضمادات الطبية على وجهها لإخفاء هويتها، ثم يُقيدونها، ويُكممون فمها، ويُمددونها حيث كانت ترقد المريضة المزيَّفة التي ترتدي بالفعل الزي الموحَّد، إلا أنها كانت تُخفيه تحت البطانيات؛ لذا لم يكن عليها سوى إزالة الضمادات اللاصقة ووضع حجاب على رأسها المضمد كي تبدو كراهبة تقليدية. الراهبة رقم اثنين.»

أومأت آيريس برأسها. «لقد رأيت راهبةً ثانية في الممر.»

«لكن في ذلك الحين، تعثرين على بعض الركاب الإنجليزيين ممن سيذكرون الآنسة فروي، حتى إنك حملت زوجة القس على تأييدك. كما شرحت لك من قبل حسبما أذكر، كان على المتآمرين أن يأتوا بشخصٍ ما، ويتَّكلون إلى الحيلة؛ لذا ينسدل الستار مجددًا، فيما ترتدي الراهبة الثانية — التي كانت تلعب دور المريضة الأصلية — زي الآنسة فروي.»

ظلَّت آيريس صامتة بينما بدت الكآبة على هير.

«أُقرُّ بأنها قصة واهية، لكن ذلك هو أقصى ما بوسعي.»

بالكاد سمعته آيريس؛ إذ كانت تستجمع شجاعتها كي تطرح سؤالًا.

«ماذا يكون مصيرها عند وصولهم إلى ترييستي؟»

قال هير مفسرًا: «ذلك هو الجزء الذي سيعشقه قرائي. سيضعونها في عربة إسعاف ويأخذونها إلى منزل معزول، يطل على مسطَّح مائي عميق مهجور — جدول أو فرع من بحيرة أو ما شابه. تعرفين حتمًا ما أعني — مياه سوداء متعكرة تكتنف رصيفًا بحريًّا مهجورًا، ثم سيربطونها بثقل وما إلى ذلك، ويُلقون بها بعنايةٍ وسط الطمي والوحل، لكني لست عديم الرحمة بالكلية. سأدعهم يتركونها مُخدَّرة حتى نهايتها التعيسة؛ لذا فلن تشعر العجوز الودودة بأي شيء. هاك القصة. ما الأمر؟»

هبَّت آيريس من مقعدها وكانت تجذب الباب محاولةً فتحه. قالت لاهثةً: «كل ما قلته قد يكون حقيقيًّا. يجب ألا نهدر أي وقت. يجب أن نفعل شيئًا.»

أجلسها هير في مقعدها مرة أخرى.

وقال: «اسمعي يا …» كانت كل شيء بالنسبة له، ومع ذلك غاب اسمها عن ذاكرته تمامًا. «تلك مجرد قصة ألَّفتها لأجلكِ.»

صاحت آيريس: «لكن يجب أن أصل لتلك المريضة؛ فهي الآنسة فروي. يجب أن أتأكد بنفسي.»

«دعي عنك تلك السخافة. المريضة التي ترقد في المقصورة المجاورة حقيقية، وقد تحطَّم جسدها. إن اقتحمنا المقصورة عنوةً وشرعنا في إثارة أي جلبة فسيطردنا الطبيب، وسيكون محقًّا في ذلك أيضًا.»

سألته آيريس بيأس: «إذن فلن تُساعدني؟»

«كلا بكل تأكيد. أنا آسف لأني لا أكفُّ عن ذكر ذلك، لكني لا أستطيع نسيان أنك تعرَّضت لضربة شمس، وعندما أتذكر التجربة التي تعرَّضت لها وكيف أني خلطت بين مدربي …»

«وأمير ويلز. أعلم، أعلم.»

«أنا آسف للغاية لأني جاريتك، لكني لم أفعل سوى أني أخبرتك كيف كانت الأمور لتتم، لكني كتلك العجوز التي ترى زرافة للمرة الأولى. بصدق، «أنا لا أصدِّق ذلك».»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤