الفصل الأول

جنسانية المؤمن أو فوكو واعترافات الجسد

١

حين نتصفَّح سيرة فوكو التي كتبها ديدي أوريبون١ نشعر أن الفيلسوف ما بعد التنويري ليس له مهنةٌ جاهزة بل هو في بحثٍ حثيث وشاقٍّ عن شيء لا يعرفه، لكنه مستعد تمامًا للمجازفة بانتظاره وبلْورة أي صيغةٍ مؤقتة مناسبة للتعبير عنه أو فقط للإشارة إليه. في سنة ١٩٧٥م نشر فوكو كتاب المراقبة والمعاقبة حول ولادة السجن، بعد عامٍ ونصف نشر كتاب إرادة المعرفة حول تاريخ الجنسانية. وتم التساؤل عن وجه الصلة بين الكتابَين. وطبعًا كانت إجابة فوكو عندئذٍ هي أن هذا الرابط بديهي؛ وهو ليس شيئًا آخر سوى مسألة السلطة وطُرق ممارستها.٢ إن إجراءات فرْض الانضباط هي التي تجمع بين الجنس والسلطة. كما أن الكلام عن الجنسانية ليس جديدًا في كتابات فوكو؛ إذ هو قد أشار سنة ١٩٦٠م إلى هذا الموضوع في تصدير كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، وكذلك في مقالٍ سنة ١٩٦٣م عن جورج باطاي. وعاد إلى الحديث عن مشروع الكتابة عن الجنس سنة ١٩٦٥م في حوارٍ خاص مع صديقه جيرار لوبران شاكيًا له صعوبة العثور على الأرشيف الخاص بهذا الموضوع. وفي سنة ١٩٦٨م كان الجميع يتحدث عن الجنس وعن الكبت وعن القمع الجنسي … إلخ.
لكن أول هدف بحثيٍّ سعى فوكو إلى تحقيقه في كتاب إرادة المعرفة هو أولًا إبطال ما يسمِّيه «الفرضية القمعية» التي ظلَّت تتحكم في مسألة الجنسانية تحت عنوان الممنوع وانتهاك الممنوع. إن المطلوب هو الشروع في استكشاف طريقٍ آخر: فصل سُلطة الجنس عن الفرضية القمعية ومحاولة فهمها في استقلالية إشكالية تخصها، وهو ما يعني لدى فوكو ١٩٧٦م: كتابة تاريخ الخطابات الحديثة حول الجنس وعمليات «موضعة الجنس» منذ القرن السابع عشر إلى حدود ظهور الجنسانية في القرن التاسع عشر، والتأكيد على أنها كلها خطابات سُلطة أو قامت على مركَّب «السلطة-المعرفة-اللذة» (pouvoir-savoir-plaisir) في عمليةٍ معقَّدة نقلَت الجنس من دائرة النقاش الأخلاقي إلى دائرة السيطرة العقلانية للمعرفة. وبعامَّةٍ يمكن القول إن كتاب إرادة المعرفة هو — بوجهٍ من الوجوه — مواصلةٌ لأبحاث فوكو السابقة عن تاريخ المعرفة ونقد السلطة.
قال: «باختصار، علينا أن نحدِّد نظام السلطة-المعرفة-اللذة، في سيرورته ومبررات وجوده، الذي يدعم لدَينا الحديث أو الخطاب حول الجنس عند البشر. ومن هنا فإن النقطة الجوهرية هي … أن نقيم الاعتبار لواقع التحدث عنه، للأشخاص الذين يتحدثون عنه … للمؤسسات التي تحض على الحديث عنه … باختصار، فإن النقطة الخطابية الإجمالية هي وضع الجنس في الخطاب. من هنا أيضًا ستكون النقطة الهامة هي أن نعرف تحت أية أشكال، وعبر أية قنوات، وخلال الانزلاق في أية خطابات، قد توصلَت السلطة إلى تصرفاتها الأكثر دقة وفردية. من هنا، أخيرًا فإن النقطة الهامة … ستكون إبراز «إرادة المعرفة» التي تقوم بآنٍ معًا مقام الركيزة والأداة معًا لتلك الخطابات والآثار.»٣
كان هم فوكو هو أن يبيِّن أن الخطاب حول الجنس قد جُعل لنخفي ما نريد. قال: «حتى مجيء فرويد على الأقل فإن الخطاب حول الجنس — خطاب العلماء والمنظِّرين — ما كفَّ أبدًا عن إخفاء ما كان يتحدث عنه.»٤ والعنوان العام هنا هو وضع «علم الجنس» موضع التنفيذ من خلال بيولوجيا التناسل وطب الجنس.

هذا التشخيص العام للخطاب حول الجنس باعتباره يحوي خطاب سُلطةٍ معينة، دفع فوكو سنة ١٩٧٦م إلى ضبط تمييزٍ لن يلتزم به لاحقًا، هو الفصل بين نوعَين من الإنتاج لحقيقة الجنس.

قال: «من جهةٍ، المجتمعات التي خصَّت نفسها بفنٍّ شبقي (ars erotica)، وهي كثيرة: الصين، اليابان، الهنود، الرومان، والمجتمعات العربية-الإسلامية. في الفن الشبقي، تُستخرَج الحقيقة من اللذة نفسها، المُنالَة كممارسة والمحصَّلة كتجربة … ليس لحضارتنا فنٌّ شبقي، كما يتراءى لنا في مقاربةٍ أولية على الأقل. بالمقابل، إنها الحضارة الوحيدة، بلا ريب، التي تمارس «علمًا جنسيًّا». أو بالأحرى إنها الوحيدة التي طوَّرَت — خلال قرون من الزمن، ومن أجل قول حقيقة الجنس — إجراءاتٍ تنظم أساسًا في شكل من أشكال السلطة-المعرفة، يتعارض بشدة مع فن التلقين والسر الأعظم. هذا الشكل هو الاعتراف.»٥
ثم نقرأ صفحاتٍ رائعة حول نقد مؤسسة الاعتراف المسيحية بوصفها هي جهاز إنتاج الحقيقة، والطقس الذي يدور حوله الخطاب حول الجنس طيلة تاريخ الغرب.٦ وعلينا أن نلاحظ أن فوكو يقرُّ صراحة بأن الفن الشبقي لم يختفِ من الحضارة الغربية، وأنه كان موجودًا في صُلب الاعتراف المسيحي.٧ لكن هدف فوكو الصريح سنة ١٩٧٦م هو التأريخ لأجهزة السلطة والمعرفة التي أنتجَت حقيقة الجنس من خلال خطاباتٍ حديثة عقلانية وموضعة تعمل على إخفاء حقيقة الجنس الخطرة: كيف أن الجنس مادة حولها «تُنتَج المعرفة وتُضاعَف الخطابات وتُستحَث اللذة وتُولَّد السلطة.»٨
غير أن فوكو قد انخرط بعد ١٩٧٦م في بحوث ونشاطات غير مسبوقة قادته إلى إعادة بناء مشروعه بطريقةٍ طريفة جدًّا. طبعًا، هناك أحداثٌ جمَّة انخرط فيها فوكو وحاول في كل مرةٍ نحت المفردات المناسبة لتشخيصها والتأريخ لها من الداخل. نذكر خاصة: أحداث الثورة الإيرانية («ثورة الأيدي العارية» كما قيل)٩ والتعرف إلى تجربة المجتمع الأمريكي عن المثلية الجنسية في سان فرانسيسكو.١٠ ولكن هناك أحداثًا أقل سطوعًا مثل محاولته في أفريل ١٩٧٨م تعلُّم فن الزان في اليابان حيث شهد الفرْق المزعج بين الروحانية المسيحية التي تُعلِّم التوغل في ماهية الفرد المتوحد، وبين مذهب الزان الياباني في محو الفرد بكليَّته.١١
وإنما في هذه الفترة بالتحديد قد أخذَت تتشكل لدى فوكو فكرةٌ موجبة وغير نقدية (أي لا تقوم على تقليد نقد مركَّب المعرفة-السلطة) حول إمكانية التفكير والبحث والممارسة والتجريب تحت عنوان يقول: الحياة بوصفها عملًا فنيًّا (la vie comme une œuvre d’art).١٢
ويبدو أن درس سنة ١٩٧٩-١٩٨٠م تحت عنوان «حكومة الأحياء» (Le gouvernement des vivants) قد كان حاسمًا بوجهٍ ما في بلْورة ملامح الطريق نحو إعادة رسم برنامج تاريخ الجنسانية. هذا الدرس تم تخصيصه للبحث في «الإجراءات المتعلقة بالفحص عن النفس والاعتراف في المسيحية الأولى». والسؤال الهادي حسب تعبير فوكو: «كيف تكوَّن نمط من حكم البشر حيث لم يعد المطلوب هو أن نطيع، بل أن نكشف عما نكونه؛ وذلك من خلال التصريح به.»١٣ والمقصود هو دراسة تاريخ أعمال التوبة وتقنين عمليات فحص الضمير في الأديرة حيث يجب على الراهب أن يقول كل شيء عن نفسه إلى معلِّمه. وهذا البحث هو الذي أدَّى إلى كتاب اعترافات الجسد (Les Aveux de la Chair) والذي لم ينشره فوكو، ولم يظهر إلا في فيفري ٢٠١٨م.١٤ إن ما وقع عندئذٍ هو الانخراط في تغييراتٍ مستمرة لبرنامج تاريخ الجنسانية وللشكل الذي ينبغي أن يأخذه.
في مقابلةٍ أجراها فوكو سنة ١٩٨٣م استجمع فوكو آخر الأمر كل أعماله تحت عنوانٍ واحد، ألا وهو: تاريخ الذات. قال: «كيف يمكن للمرء أن يقول الحقيقة حول الذات المريضة؟ كيف يمكنه أن يقول الحقيقة حول الذات المجنونة؟ كان ذلك غرض كتابيَّ الأوَّلَين. كان كتاب الكلمات والأشياء يسأل: بأي ثمنٍ يمكن للمرء أن يستشكل وأن يحلل ماذا تكون الذات المتكلمة، والذات العاملة، والذات الحية؟ ولهذا السبب أنا حاولتُ تحليل مولد النحو، والنحو العام، والتاريخ الطبيعي، والاقتصاد. ثم طرحتُ نفس نوع الأسئلة فيما يخص المجرم ومنظومة العقوبات: كيف يمكن للمرء أن يقول الحقيقة حول نفسه من حيث هو يستطيع أن يكون ذاتًا مجرمة؟ وهذا هو ما سوف أقوم به حول الجنسانية، وذلك بالذهاب إلى مستوًى أبعد من ذلك: كيف يمكن للذات أن تقول الحق حول نفسها من حيث هي ذات للذة الجنسية، وبأي ثمن؟»١٥
لم يعد مركَّب المعرفة والسلطة هو الذي يقود تفكير فوكو، بل إن «الذات» بمختلف تعبيراتها (le sujet, le soi) وبمختلف علاقاتها مع الحقيقة، قد أصبحَت هي قطب الرَّحى، ليس فقط في كتابات مجلدات تاريخ الجنسانية بل في قراءة كل أعمال فوكو السابقة عليها. ثمة مسحةٌ نقدية وكلبية طبعَت روح فوكو ربما إلى حدود ١٩٧٦م، لم نعد نجد لها أثرًا بعد ١٩٨٠م. لا يتعلق الأمر بأي ارتباك في المشروع البحثي بل فقط بتغيُّر في نبرة الفيلسوف. إلا أنه يبقى من الضروري أن ندقق دلالة المصطلحات عندما نستعملها في فتراتٍ مختلفة من أعمال فوكو. ونقصد هنا مفاهيم أساسية من قبيل «الذات» و«الذاتية» و«الحقيقة» … إلخ. وليس بعض المفردات الجانبية.
في وقتٍ سابق، مثلًا سنة ١٩٧٣م، تحدَّث فوكو عن «أنواع الذاتية» (types de subjectivité) وكان يقصد بذلك أن «أشكال المعرفة» (formes de savoir) هي علاقاتٌ بين البشر والحقيقة. وإذا ما قارنَّا هذه الدلالة مع استعمال فوكو لمفهوم الذاتية بعد درس ١٩٨٠-١٩٨١م عن «الذاتية والحقيقة» أو درس ١٩٨١-١٩٨٢م عن «تأويلية الذات» (L’herméneutique du Sujet)، أو كتاب اعترافات الجسد الذي حُرِّر بين عامَي ١٩٨١ و١٩٨٢م وأودِع لدى دار غاليمار في خريف ١٩٨٢م، فإننا سوف نلمس تغيُّرًا نموذجيًّا في معنى الذاتية لدى فوكو نخرج به من ادعاء المحدَثين أنهم وحدهم يملكون مقول الذات (le Sujet) إلى استعمال متحرِّر لهذا المصطلح في مماهاةٍ صريحة له مع معاني العلاقة مع النفس لدى القدماء جميعًا أكانوا يونانًا أو مسيحيين، وصار التداخل بين مصطلحات «النفس» (le soi) و«النفس» (l’âme) و«الذات» (le sujet) سياقًا خصبًا لطرح إشكالاتٍ غير مسبوقة والمشي في طُرق بحث لم تكن مطروقة بهذه النبرة وهذا الرهان.

وإذا ما احترمْنا نشأة المسائل تحت قلم فوكو؛ علينا أن نلاحظ أن فوكو عاد إلى المسيحية الأولى من أجل البحث في «اعترافات الجسد» المؤمن والتعرف إلى ذاتية من نوعٍ غير حديث، أي لا يقع تحت مركَّب المعرفة والسلطة الذي تأسس منذ القرن السابع عشر، وسيَّطر على كامل تاريخ الذات الحديثة، إلا أنه قد تفطن إلى أن المسيحية لم تكن أصيلة نفسها هنا، وعلينا أن نتراجع أكثر نحو فترةٍ سابقة عليها، حتى يمكننا أن نقيِّم تجربتها حول الذاتية والحقيقة والجنس.

يذكر Frédéric Gros في توطئة المجلد الرابع من تاريخ الجنسانية، أي اعترافات الجسد، أن فوكو قد وضع سنة ١٩٧٦م مشروعًا عن مجموعة من ستة مجلدات هي على التوالي:
  • المجلد ١: إرادة المعرفة (وقد ظهر سنة ١٩٧٦م)؛ ثم خمسة كتب لم تظهر هي:

  • المجلد ٢: الجسد والجسم (La chair et le corps).
  • المجلد ٣: الحملة الصليبية للأطفال (La croisade des enfants).
  • المجلد ٤: المرأة، الأم والهستيرية (La femme, la mère et l’hystérique).
  • المجلد ٥: المنحرفون (Les pervers).
  • المجلد ٦: السكَّان والأعراق (Population et races).١٦

لكن البحث يبين أن مشروع سنة ١٩٧٦م عن تاريخ الجنسانية الحديثة (من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر) قد تم التخلي عنه لصالح مشروعٍ آخر، هو نفسه قد تمفصل على مرحلتَين كلٌّ منهما لها نبرةٌ خاصة:

مرحلة أولى: تم فيها تركيز البحث على استشكالٍ تاريخي للجسد المسيحي، دامت ما بين ١٩٧٩ و١٩٨٢م.

ثم مرحلة ثانية: تم فيها توجيه البحث نحو الفحص عن طُرق العيش اليونانية-الرومانية وفنون الحياة وتقنيات الوجود وأشكال اللذة، باعتبارها تدخل كلها في نوع من الروحانية غير الدينية والسابقة على المسيحية، هي روحانية «العناية بالنفس» و«الاهتمام بأنفسنا»، ودامت ببين ١٩٨٢ و١٩٨٤م.١٧

٢

بلا ريبٍ، علينا أن نذكر أن فوكو قد بدأ مبكرًا التفكير في دراسة التراث المسيحي بوصفه الخيط الدفين الذي استشرفه تحت كل خطابات المحدَثين منذ القرن السابع عشر عن الجنس وعلم الجنس، وذلك إلى حد فرويد نفسه. هنا علينا أن نذكر أنه إبَّان سنتَي ١٩٧٦-١٩٧٧م قد جمع جملةً كبيرة من الملاحظات من قراءة لاهوتيَّين مسيحيَّين مثل Tertullien (١٥٠-٢٢٠م) وCassien (٣٦٠-٤٣٣م)، حول تطوُّر الرعوية الكاثوليكية وطُرق التوبة والكفارة لدى المسيحيين الأوائل. وربما كان غرض المجلد الثاني «الجسد والجسم» (La chair et le corps) أن يتعلق بتحليل تلك الملاحظات. وحين درس أشكال «الحكومية» (gouvernementalités) سنتَي ١٩٧٨-١٩٧٩م هو قد رصد اللحظة المسيحية حول الحكومية الرعوية و«أعمال الحقيقة» (actes de vérités)، أي طُرق «قول الحق على النفس» (dire le vrai sur soi-même).
لكن سنة ١٩٨٠م هي السنة الحاسمة في الطريق إلى كتاب اعترافات الجسد كما يظهر اليوم سنة ٢٠١٨م. إن دروس فوكو في سنة ١٩٨٠م وكذلك المحاضرات التي ألقاها في أمريكا، قد تعلقَت بموضوعاتٍ تصب كلها في إطار المجلد الرابع من تاريخ الجنسانية: من قبيل دراسة الفرائض المسيحية عن الحقيقة عند تحضير المعمودية، وطقوس التوبة والكفارة، والإرشاد الرهباني بين القرنَين الثاني والرابع المسيحيَّين، مذهب الزواج عند Clément d’Alexandrie (١٥٠-٢١٥م)، والفن المسيحي في البكارة وتطوره، وأخيرًا دلالة الليبيدو لدى القديس أغسطينوس بعد السقوط من الجنة وبعد الزواج. ما بين ١٩٧٨ و١٩٨٠م هيَّأ فوكو كل المصادر المسيحية التي يحتاجها من أجل رصد الجذور غير المفكَّر فيها التي تختبئ وراء خطابات الجنس الغربية منذ القرن السابع عشر. وهو جو من البحث سيطر إلى حدود سنة ١٩٨٢م حيث تبدأ نبرةٌ أخرى في الظهور.
وعلى الرغم من أن فوكو قد أودع مخطوط اعترافات الجسد في خريف ١٩٨٢م عند دار غاليمار إلا أنه تمهَّل بشدة في نشره، وقرَّر، تحت تشجيع صديقه بول فاين، أن يقوم قبل ذلك بتخصيص مجلد عن التجربة اليونانية-الرومانية عن تقنيات اللذة أو اﻟ aphrodisia/الأفروديسيات. وهو بحث توسع أكثر مما كان منتظرًا وانقلب إلى الموضوعات التي نعرفها في كتاب استعمال الملذَّات وكتاب العناية بالنفس اللذيْن ظهرا في ربيع ١٩٨٤م قبل موت فوكو المفاجئ في شهر جوان، وهو بصدد مراجعة مخطوط اعترافات الجسد.
أما كتاب اعترافات الجسد بحد ذاته (كما ظهر سنة ٢٠١٨م) وبوصفه هذه المرة المجلد الرابع من تاريخ الجنسانية، كما تحدد ذلك عند المجلدَين الثاني والثالث سنة ١٩٨٤م، إلى ثلاثة أقسام، الأول والثاني من وضع المحقق، والثالث من وضع المؤلف. هذه الأقسام هي:
  • القسم الأول: «في تكوين تجربة جديدة» (La formation d’une expérience nouvelle)، وتدور حول «تقنيات الذات».
  • القسم الثاني: «أن تكون بكرًا» (Être vierge).
  • القسم الثالث: «أن تكون متزوجًا» (Être marié).
إن أول ما يثير الانتباه في بداية الكتاب هو أن فوكو كان يركِّز بحثه على دراسة الطريقة التي تلقَّى بها المسيحيون نظام الأفروديسيات التي هاجرَت إليهم من الثقافة اليونانية. يقول فوكو: «هذه المبادئ تكون بوجهٍ ما قد هاجرَت (émigré) إلى الفكر والممارسة المسيحيَّين انطلاقًا من أوساطٍ وثنية.»١٨ ما أخذه آباء الكنيسة الأوائل من الفلاسفة الوثنيين هو مفاهيمهم عن قواعد الحياة، وخاصة تدبير اللذة (le régime des aphrodisia) كما يمكن تلقِّيه داخل فكرٍ مسيحي مشغول بمسائل الزواج وعلاقته بالعلاقات الجنسية والإنجاب وكبح الشهوة (la continence). إن المشكِل الجديد هو كيف يمكن إرساء «فن العيش بطريقةٍ مسيحية» (l’art de vivre chrétiennement)١٩ أو «فن التصرف بطريقةٍ مسيحية» (l’art de se conduire chrétiennement٢٠ وهو يعني: كيف يمكن تنظيم «الحياة الدنيا» (la vie d’ici-bas) في ضوء «الحياة العليا» (la vie de là-haut) كما هي موصوفة في الكتاب المقدَّس؟
إن قُطب الرحى في أبحاث فوكو هي هنا على الدوام رصد «قواعد الحياة» (les règles de vie)؛ لأن ما يجمع بين المسيحي والوثني هو بالضبط فن تدبير الحياة، ولا شيء آخر. والرهان هو: العثور على «شكل الوجود» (forme d’existence) أي ما سمَّاه الرواقيون kathêkonta: جملة «السلوكات الملائمة»، من أجل عيش حياةٍ أبدية فاضلة، وذلك هو معنى «الإيمان» لدى المسيحيين الأوائل.٢١ الإيمان هو نوع من قواعد الحياة (une règle de vie)، وليس أي شيءٍ آخر. وهو ما أدَّى إلى «تقنين» (codification) اللذة، وجعلها قاعدة لنوع من الحياة، العنصر المسيحي فيها هو التشبه بالإله أو اللوغوس: كل الرهان متعلق بالنجاح في ترتيب حياة أو «وجود «مشابه» لله» (une existence ‘semblable’ à Dieu). وإنه على مدى كل هذا المسار إنما يتعين نظام أو اقتصاد العلاقات الجنسية.٢٢
ذلك يؤدِّي مثلًا إلى اعتبار الإنجاب هو الغاية من الزواج وليس اللذة. يصطدم هنا نوعان من التقاليد الجنسية: تقليدٌ وثني (يوناني-روماني) يدور حول تدبير الأفروديسيات. وتقليدٌ مسيحي يريد أن يؤسس نفسه، يدور حول مؤسسة الزواج إمَّا بشكلٍ سابق عليها (مؤسسة العذرية أو البكارة)؛ أو بشكلٍ لاحق عليها، أي مؤسسة الإنجاب. هذا التقليد الثاني أدَّى إلى أسئلةٍ جديدة من قبيل: كيف يجب أن نحدد نوع السلوك الجنسي بين الأزواج؟ وذلك يعني: كيف نجمع في وقتٍ واحد بين «نظام للجنس» (un régime du sexe) و«أخلاق للزواج» (une morale du mariage٢٣
والسؤال عن الوقت يؤدِّي إلى السؤال عن «الأوان» المناسب (kairos) للاتصال الجنسي بين المتزوجين المسيحيين. إن مصطلح «كايروس» قد أصابه تغيرٌ مثير من المعجم الرواقي مثلًا (حيث هو شرط يجعل الفعل المسموح به ذا قيمةٍ موجبة) إلى المعجم المسيحي؛ حيث يأخذ دلالةً جديدة عندما يتعلق بالجنس داخل الزواج، المهم هو الأوان المناسب للعلاقة الجنسية، ولكن في معنى «اللحظة المناسبة للإنجاب».٢٤ وحسب فوكو الجديد هنا هو أنه على خلاف الفلاسفة اليونان الذين تحدثوا عن الجنس بين الأزواج بشكلٍ ثانوي انخرط المسيحيون في دراسةٍ مستقلة بذاتها للجنس بين المتزوجين وحوَّلوه — لأول مرة — إلى جنسٍ خطابي قائم بنفسه له موضوعٌ خاص هو «الفحص عن العلاقات الجنسية بين الأزواج وتحليلها».٢٥ لقد تم نقل الجنس من سؤال اللذة إلى مؤسسة الزواج؛ حيث تم التمييز بين «الهدف» من الجنس و«الغاية» منه. الهدف من الجنس هو صُنع الأطفال (paidopoiia)؛ أما الغاية فهو «التكاثر» أو «الخِلفة» أو «الذُّرية» أو «حب البنين» (euteknia)؛ ويصفه فوكو بأنه «الكمال الذي يمثِّله بالنسبة إلى كائنٍ بشري أن له خِلفةً أو نسلًا (le fait d’avoir une descendance).»٢٦
لا يتعلق الأمر بمنح الجنس «قيمةً روحانية» بل التأكيد على أن الرهان ليس الاتصال الجنسي، بل اتباع قواعد للحياة الجنسية تجعلنا مشابهين لله.٢٧ وتوقف فوكو عند نقاشٍ طريف في ذلك العصر حول إمكانية أو عدم إمكانية تغيير الجنس، وحسب الأبيقوريين يمكن تحول الأجناس، وهذا دليل على أنها ليست من أصلٍ إلهي؛ وهنا يدافع المسيحيون عن ثبات الجنس، والمعنى هو: «إن فردًا لا يستطيع أن يغير جنسه ولا أن يكون له جنسان ولا أن يكون جنسًا ثالثًا يكون وسيطًا بين المذكَّر والمؤنث.»٢٨ إن القصد هو الحفاظ على علامة الله في الجسد. وهذا يمر عبر جنس لا يمكننا تغييره. ولكن مع التأكيد على مفارقةٍ مفادها أن العالم الآخر خالٍ من الفروق بين الجنسَين.
يؤوِّل فوكو دلالة هذا التأكيد المسيحي على محو الفرْق الجنسي بين البشر على أنه دعوة إلى نوع من «الحياة المشتركة» (vie commune) بين الناس كافة، أو إلى «نوعٍ مشترك (genre commun) يوحد ما وراء الفرْق بين الأجناس (sexes)»، وخلاص النوع البشري هو خلاص من دون تمييزٍ جنسي. وهذا يعني أن الفرْق بين الرجل والمرأة هو طبيعي عند الله لكنه لا يمنعهما من الانتماء إلى النوع البشري ولا من السعي إلى التحرر من الفاصل الجنسي بينهما في العالم الآخر.٢٩
والنتيجة التي يصل إليها فوكو هي: «أن نمطًا آخر من التجربة قد أخذ يتكوَّن شيئًا فشيئًا.»٣٠ ويحصر فوكو أهم مقومات هذه التجربة الجديدة، أي التجربة المسيحية عن معنى الجنس، في مظهرَين: من جهةٍ: انضباط التوبة أو الكفارة (discipline pénitentielle) انطلاقًا من النصف الثاني من القرن الثاني. ومن جهةٍ: التنسك الرهباني (l’ascèse monastique) انطلاقًا من نهاية القرن الثالث.٣١
يقول: «إن هذين النوعين من الممارسات لم ينتجَا مجرَّد تعزيز للممنوعات ولا هما دعوة إلى صرامة أشد في الأخلاق. بل هما قد حدَّدا وطوَّرا نمطًا معيَّنًا من علاقة الذات بذاتها (rapport de soi à soi) وعلاقة معينة بين الشر والحق، لنقُل على نحوٍ أدق: بين المغفرة عن الخطايا، وتطهير القلب والكشف عن الذنوب المخفية للفرد وعن أسراره وأغواره، عند مراجعة النفس وفي الاعتراف بالذنب (l’aveu)، وفي توجيه الضمير أو الأشكال المختلفة من «اعتراف» (confession) التوبة.»٣٢
حين يهتم فوكو بممارسات التوبة أو تمارين الحياة النُّسكية فهو لا يفعل ذلك بمقصدٍ ديني، بل هو يصرف اهتمامه في كل مرة إلى أمرَين مترابطَين هنا على نحوٍ إشكالي: من جهةٍ: نوع العلاقات التي تستتبُّ بين «فعل السوء» (le mal faire) و«قول الحق» (le dire vrai)، ومن جهةٍ: وهو الأهم هنا، شبكة العلاقات بالنفس (relations à soi) في ضوء العلاقة بالشر وبالحق. لكن الاستنتاج العالي لا يتعلق بالسؤال التقليدي عن الشر الأخلاقي أو عن الحقيقة الفلسفية، بل بشكل «الذاتية» الذي يتمخض عن هذه التجربة الجديدة للحقيقة، والتي لم يعرفها اليونان.
قال: «إن الأمر يتعلق فعلًا بشكل الذاتية: تمرين النفس على النفس، معرفة النفس بنفسها، تشكيل أنفسنا كموضوع للتفتيش وللخطاب، تحرير النفس وتطهيرها، والخلاص عبر عملياتٍ تجلب النور إلى أعماق النفس، وتقود الأسرار الأشد عمقًا إلى نور التجلي الغفور. إن ما تبلور عندئذٍ هو شكل من التجربة علينا أن نفهمها في كرَّةٍ واحدة بوصفها نمطًا من الحضور لدى أنفسنا وخطاطة عن تغيير أنفسنا. وإن هذه التجربة هي التي عملَت شيئًا فشيئًا على أن تضع مشكِل «الجسد» (la chair) في مركز عتادها. وبدلًا من امتلاك نظام للعلاقات الجنسية، أو للأفروديسيات، يندمج في القاعدة العامة لحياة مستقيمة؛ فإن ما سوف يتم الحصول عليه هو علاقةٌ أساسية مع الجسد تخترق الحياة برمَّتها وتسند القواعد التي نفرضها عليها.»٣٣
لا يدور المشكِل إذن حول الجسد المسيحي أو الشهوة المسيحية كما ينظر إليها آباء الكنيسة، بل إن الرهان الفلسفي هو رسم «شكل الذاتية» (forme de subjectivité) الذي نشأ على أرضية المسيحية باعتباره شكلًا يتميز بعلاقةٍ جديدة للنفس بنفسها، ألا وهي العلاقة بالجسد: ليس بالجسم المادي (le corps) بل بالجسد أي اللحمة الحية للإنسان من حيث هو ذو شهوةٍ جنسية (la chair). الجنس إذن هو الذي يميز الجسم عن الجسد.
قال: «علينا أن نفهم «الجسد» بوصفه نمطًا من التجربة، نعني بوصفه نمطًا من المعرفة والتغيير للنفس بنفسها (de soi par soi)، وذلك في ضوء علاقةٍ معينة بين إبطال الشر وإظهار الحقيقة.»٣٤
إن المسيحية لم تخترع فكرة تنظيم الجنس بواسطة الزواج، بل هي ورثَته عن غيرها. وهي ليست أكثر تشدُّدًا في اللذة من غيرها. لكن الجديد هو بَلورة تجربة من نوعٍ جديد أهم عنصر فيها هو «تكوُّن تكنولوجيات معينة عن الفرد، نعني انضباط التوبة والتنسك الرهباني»،٣٥ والرهان هو «شكلٌ من التجربة الذي يستعمل الشفرة بطريقةٍ جديدة.»٣٦
والهدف الفلسفي لدى فوكو هو دراسة تاريخ تكون هذه التجربة الجديدة من أجل الإمساك بالخيط الناظم للعلاقات التي تجري بين «الصفح عن الشر والكشف عن الحق واكتشاف النفس.»٣٧
لكن تصفُّح الأقسام الثلاثة من كتاب اعترافات الجسد (عن التجربة الجديدة عن الجسد، وعن العذرية، وعن الزواج) يظل يوحي للقارئ بأنه كتاب لم يأخذ شكله النهائي بعد. إنه كتابٌ بلا خاتمة يمكن أن تربطه بالمجلدات السابقة، أو على الأقل بالمجلدَين الآخرَين المنشورَين سنة ١٩٨٤م. هو كتابٌ مكتوب قبلها لكنه منشور بعدها حسب منطق النشر بشكلٍ مضاعف.

ثمة نوع من المعاصَرة المزعجة بين هذه الكتب الثلاثة وكأنها مكتوبة في نفس الوقت من طرف مؤلفَين اثنَين على الأقل لا يعلم أحدهما بما يقوم به الآخر. وليس لنا سوى إشارات السيرة الذاتية كي نجد حلقة الوصل بينها.

٣

لو انتقلنا الآن إلى درس ١٩٨١م عن «الذاتية والحقيقة»،٣٨ والذي نُشر سنة ٢٠١٤م،٣٩ لعثرنا على الورشة التي خرج منها المجلدان الثاني والثالث من تاريخ الجنسانية. ويحدد فوكو موضوع الدرس على هذا النحو: «أن يدرس بأي وجه تمَّت دعوة الذات للتجلي وللاعتراف بنفسها، في خطابها الخاص، بوصفه في الحقيقة هي ذاتُ رغبتِها الخاصة.»٤٠ و«كيف تكونَت العناصر الرئيسية للأخلاق الجنسية»٤١ الغربية.

تبدو الخطة على النحو التالي: إن اليونان يتميزون بتجربة الأفروديسيات، وهو تميزٌ لا نعثر عليه لا في التجربة المسيحية عن الجسد ولا في التجربة الأوروبية الحديثة عن علم الجنس أو الجنسانية. لم يكن اليونان يملكون جهاز الجنسانية الذي يربط بين الذاتية والحقيقة. كانت لديهم تجربةٌ حرة عن اللذة. كانوا مجتمعًا يُوجَد قبل علم الجنس الحديث. كان الجنس عندهم لا يزال بلا حقيقة؛ أي بلا معرفةٍ علمية حوله.

يفصل فوكو بعنايةٍ كبيرة بين ثلاثة أنواع من التجربة الجنسية:
  • تجربة اللذات   les aphrodisia عند اليونان.
  • تجربة الجسد   la chair في المسيحية.
  • تجربة الجنسانية   la sexualité في الغرب الحديث ما بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر.
يقول: «إن الإغريق لم يعرفوا لا الجنسانية ولا جسد [الخطيئة]. بل هم قد عرفوا جملة من الأفعال المسمَّاة aphrodisia، وهي تدخل في نفس الفئة، وتضع في الصدارة نفس النوع من السلوك، ونفس ممارسات الجسم (corps) … إلخ. ولكن، مهما يكن من أمر، هي أفروديسيات، هي أعمال جنسية، وليست شيئًا من قبيل جسد [الخطيئة] (chair)، أو من قبيل الجنسانية. […] aphrodisia لدى اليونان، و veneria عند اللاتين، هي نشاط. هي ليست خاصية في الطبيعة، ولا سمةً طبيعية، وليست بُعدًا للذاتية، بل هي نوع، متوالية من الأعمال المخصصة بشكلها، المخصصة بعنف الرغبة التي تخترقها، بحدة اللذة التي نشعر بها، وبكونها نشاطًا هي تكاد، بسبب هذا العنف في الرغبة نفسها، وهذه الحدة في اللذة، تفلت من نفسها وتفقد السيطرة على نفسها. هكذا كانت الأفروديسيات في الثقافة والفكر اليونانيَّين.»٤٢
أهم استنتاجٍ ساقه فوكو هو أن اليونان لم يعرفوا تجربة الجسد المسيحية — جسد الخطيئة — ولا علم الجنس أو الجنسانية لدى المحدَثين. بل عرفوا فقط تجربة الأفروديسيات أو «اللذات». وبدلًا من خطاب الذات عن الجنس، بدلًا من جهاز الجنسانية، كان اليونان قد طوَّروا فن «العناية بالنفس». ومن ثَمة فإن العلاقة بين الذات والحقيقة هي تدور في مكانٍ آخر غير خطاب الجنسانية؛ هي تدور حول ما سمَّاه فوكو «تقنيات النفس» (les techniques de soi)؛ حيث دخلَت اللذة في علاقة مع الحقيقة، انطلاقًا من عبارةٍ رواقية هي «تقنية الحياة» (technê tou biou) أو فن العيش، القائم على نوع من «الحمية» استعملها فوكو من أجل بَلورة ما سمَّاه «استطيقا الوجود» (esthétique de l’existence)؛ حيث لا تُوجَد قيود على الجنس ولا تمييز بين جنسٍ محظور وجنسٍ مباح. التقنية حسب فوكو هي «مجموعةٌ نسقية من الأفعال ونمطٌ معيَّن من الفعل»؛ و«البيوس le bios هو الذاتية اليونانية».٤٣
لو أخذْنا الآن درس «تأويلية الذات» الذي ألقاه فوكو بين جانفي ومارس من سنة ١٩٨٢م، والذي تم نشره سنة ٢٠٠١م،٤٤ لوجدنا القارئ نفسه أمام نبرةٍ فلسفية من نوعٍ مختلف تمامًا عن جو اعترافات الجسد. لقد خرجنا من البحث في التجربة المسيحية عن الجسد (la chair) وصرنا مباشرةً أمام البحث في تاريخ تجربةٍ أخرى غير مسيحية وسابقة عليها هي التجربة اليونانية عن اللذات (aphrodisia).
يجدر بنا أن نذكِّر بأن فوكو لم يعد يفرِّق في هذه الفترة بين «الذات» (sujet) و«النفس» (le soi)، وهو يسحب هذا المعنى من العلاقة بأنفسنا على كامل التاريخ الغربي. عنوان الدرس هو l’herméneutique du sujet، وكأنه يتوجه بالخطاب هنا إلى المحدَثين: سوف أكتب تاريخ مقولة «الذات» التي تفتخرون بها. لكن تلخيص الدرس الذي نشره في حوليات الكوليج دي فرانس سنة ١٩٨٢م، يستعمل منذ الجملة الأولى عبارة l’herméneutique de soi. قال: «إن درس هذه السنة قد خُصص لدراسة تكوُّن تيمة تأويلية النفس.»٤٥
كل الرهان الفلسفي يدور حول تحديد الخيط الناظم لهذا النوع من «تأويلية النفس» وتمييزه عن خيطٍ آخر هو الذي سيطر على كامل تاريخ الذات الغربية منذ سقراط. وأطروحة فوكو هي: أن وراء أو صحبة الأمر السقراطي المشهور «اعرف نفسك بنفسك» (gnôthi seauton)، كان ثمة أمرٌ آخر لم يظهر إلى الصدارة لكنه أكثر طرافة أخلاقية: إنها ما كان يشار إليه في اليونانية بعبارة epimeleia heauto وترجمة اللاتين بعبارة cura sui، وما يشير إليه فوكو بعبارة le souci de soi. وعلينا أن نضيف نحن العرب، وهو معنًى لا يعسر أن نعثر في لغتنا الكلاسيكية على مقابلٍ له، هو عبارة «العناية بالنفس» المتداولة في مصنَّفاتٍ كثيرة مثل الحكمة الخالدة لابن مسكويه أو كتاب آداب النفس للحارث المحاسبي (ت ٢٤٣ﻫ).
كل دروس تأويلية الذات قد كانت تدور إذن حول تاريخ عبارة «العناية بالنفس» بدءًا من محاورة l’Apologie (وتحديدًا الصفحة ٢٩ د)؛ حيث يقدِّم سقراط نفسه بوصفه معلِّم العناية بالنفس، بتكليفٍ من الآلهة، وهو تاريخٌ يمتد على مدى ثمانية قرون، إلى حد Grégoire de Nysse (ت. بعد سنة ٣٩٤م)، وذلك مرورًا بالأبيقوريين والرواقيين والكلبيين، حتى عتبة المسيحية.٤٦ بل ربما هي فترةٌ تمتد حسب فوكو على مدى ألف سنة من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الخامس بعد الميلاد.٤٧

لكن فوكو لا يؤرِّخ إلا بقدر ما يحرِّر ما يؤرخ له من إرادة معرفةٍ سائدة تكون قد طمست الطريق إليه.

إن تعريف التفلسف الأصلي هو، حسب فوكو، دعوة سقراط للآخرين كي يهتموا بأنفسهم، وليس أي شيءٍ آخر.٤٨ الفلسفة هي العناية بالنفس. لكننا لن ننجح في استبصار هذا المعطى الأصلي إلا بقدر ما نتحرر من تاريخ الفلسفة الذي تم تشييده على أساس مبدأ آخر هو «اعرف نفسك بنفسك». ونحن نجد أن هذا الطمس لمبدأ «اعتنِ بنفسك» بواسطة مبدأ «اعرف نفسك» قد كان ساري المفعول أيضًا في تراثنا، ويظهر ساطعًا منذ مقدمة كتاب ابن مسكويه تهذيب الأخلاق؛ حيث يقول: «غرضنا في هذا الكتاب، أن نحصِّل لأنفسنا خُلقًا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة … والطريق إلى ذلك أن نعرف أولًا نفوسنا ما هي؟»
علينا التنبيه إلى أن فوكو لا يهتم بموضوع العناية بالنفس بوصفها مشكِلًا نظريًّا، بل خاصة بوصفه مجموعة من الممارسات والأنشطة المحددة بدقة. إنه طريقة أو طُرقٌ مخصوصة للاهتمام بأنفسنا كنشاطٍ يومي ومستمر ومباشر، هو ممارسة لذواتنا واشتغال مفتوح عليها من أجل تغييرها من الداخل. ويعتبِر فوكو العناية بالنفس بمثابة «طريقة كينونة، وموقف، وأشكال من التفكر» هي تدخل رأسًا في «تاريخ الذاتية» أو إن شئنا في «تاريخ ممارسات الذاتية».٤٩
والسؤال الأساسي الذي يعوِّل عليه فوكو هو: «كيف حدث أننا فضَّلْنا إلى هذا الحدِّ، وأعطيْنا هذا القدر من القيمة وهذا القدر من الحدَّة لمبدأ «اعرف نفسك بنفسك» وتركْنا جانبًا، في الظل على الأقل، هذا المفهوم عن العناية بالنفس الذي يبدو في الواقع، على الصعيد التاريخي، ومتى نظرنا إلى الوثائق والنصوص، هو الذي منح أول الأمر الإطار اللازم لمبدأ «اعرف نفسك بنفسك» … لماذا هذا التفضيل، بالنسبة إلينا، لمبدأ gnôthi seauton على حساب مبدأ العناية بالنفس؟»٥٠
وذلك علاوة على تشويهٍ معيَّن بمبدأ العناية بالنفس على أنه ضروب من الكآبة أو الانكفاء على النفس أو الأنانية، ومحاربته باسم أخلاقٍ تعدو إلى عدم الأنانية. والحال أن العناية بالنفس هو في أصله مبدأٌ إيجابي ولم يحتوِ أبدًا على عنصرٍ سلبي. وحسب فوكو ثمة علةٌ جوهرية هنا يجب الكشف عنها. إن الأمر ليس مجرَّد تفضيلاتٍ ثقافية. بل هو مرتبط بأمرٍ خطير يتعلق «بمشكِل الحقيقة وتاريخ الحقيقة».٥١
هذه العلة العميقة التي أدَّت إلى نسيان مبدأ العناية بالنفس ليست شيئًا آخر، حسب فوكو، سوى ما يسمِّيه «اللحظة الديكارتية». قال: «هي لحظة لعبت بطريقتَين بأنْ أعادت الرفع فلسفيًّا من قيمة مبدأ gnôthi seauton (اعرف نفسك بنفسك) وإن أحطَّت في مقابل ذلك من قيمة مبدأ epimeleia heauto (العناية بالنفس).»٥٢
يبدو أن ديكارت هو المسئول عن إقصاء مبدأ العناية بالنفس من حقل التفكير الفلسفي الحديث. والمقاربة الديكارتية تعني بالأساس الانتصار إلى تعريفٍ معيَّن للفلسفة ضد نوعٍ آخر مخصوص من العناية بالنفس كان يتميز به القدماء لا يتردد فوكو في تسميته بعبارة «الروحانية» (spiritualité) كمقابلٍ حادٍّ لخطاب «الفلسفة الحديثة».
قال: «لنسمِّ «فلسفة» شكل التفكير الذي يتساءل حول ما يسمح للذات بأن تلج إلى الحقيقة، شكل التفكير الذي يحاول أن يعين شروط ولوج الذات إلى الحقيقة وحدوده. وإذا ما سمَّينا هذا «فلسفة»، فأنا أعتقد أنه يمكننا أن نسمِّي «روحانية» [أعمال] البحث والممارسة والتجربة التي من خلالها تمارس الذات على نفسها التغييرات الضرورية من أجل الولوج إلى الحقيقة. وعندئذٍ سوف نسمِّي «روحانية» مجموع الأبحاث والممارسات والتجارب التي يمكن أن تكونها أعمال التطهير والتنسك (ascèses) والتزهد (renoncements)، وتحويل النظر، وتعديل الوجود … إلخ. التي تشكل الثمن الذي ينبغي دفعُه من أجل الولوج إلى الحقيقة، ليس للمعرفة بل للذات.»٥٣
وهكذا لا يعني «العصر الحديث» حسب فوكو شيئًا آخر سوى اللحظة التي تم فيها قرار تعيين طريقة الولوج إلى الحقيقة على أنها لا تحتاج إلا إلى المعرفة والمعرفة وحدها.٥٤ لم يعُد ضروريًّا أن نعتني بأنفسنا، أي لم يعد مطلوبًا أن نُجري أي تغيير بأنفسنا، حتى نعرف، أي حتى نلج إلى الحقيقة. وقع انفصالٌ بين العلاقة بالذات والعلاقة بالحقيقة. قال: «منذ اللحظة التي لم تعد فيها كينونة الذات في موضع سؤال بسبب ضرورة الولوج إلى الحقيقة، أنا أعتقد أننا دخلنا في عصرٍ آخر من تاريخ العلاقات بين الذاتية والحقيقة … وكما سوف تكون منذ الآن فإن الحقيقة لم تعد قادرة على إنقاذ الذات.»٥٥

إن الغرب المعاصر هو الإنسانية التي لم تعد فيها الحقيقة قادرة على إنقاذ الذات. ومن ثَم فإن معركة الإنسان قد صارت وراءها. ولكن خاصة أنه لم يعد يمكن تأويل أنفسنا إلا بقدر ما نعتني بها بوصفها الأفق الروحي الوحيد الذي يمكن التعويل عليه.

١  Didier Eribon, Michel Foucault, Paris, Flammarion, 1989.
٢  Ibid., p. 286.
٣  ميشال فوكو، تاريخ الجنسانية، إرادة المعرفة. بيروت، دار الإنماء القومي، ١٩٩٠م، ص٣٤-٣٥.
٤  نفسه، ص٦٨.
٥  نفسه، ص٧١-٧٢.
٦  نفسه، ص٧٣ وما بعدها.
٧  نفسه.
٨  نفسه، ص٨٥.
٩  Didier Eribon, Michel Foucault, op. cit. p. 298 sq.
١٠  ibid., p. 336 sqq.
١١  ibid., p. 330.
١٢  Ibid., p. 339 sqq.
١٣  Ibid.
١٤  M. Foucault, Histoire de la sexualité 4. Les aveux de la chair, Paris, Gallimard, 2018.
١٥  M. Foucault, Dits et Ecrits, IV, 330, p. 442-443.
١٦  Frédéric Gros, “Avertissement,” in: M. Foucault, Histoire de la sexualité, op. cit. p. I.
١٧  Ibid., p. VI.
١٨  M. Foucault, Histoire de la sexualité 4. Les aveux de la chair, op. cit. p. 9.
١٩  Ibid., p. 12.
٢٠  Ibid., p. 13.
٢١  Ibid., p. 14.
٢٢  Ibid., p. 19.
٢٣  Ibid., p. 21.
٢٤  Ibid., p. 47.
٢٥  ibid., p. 23.
٢٦  Ibid., p. 25.
٢٧  ibid., p. 28.
٢٨  Ibid., p. 30.
٢٩  Ibid., p. 31.
٣٠  ibid., p. 49.
٣١  Ibid., p. 50.
٣٢  Ibid.
٣٣  Ibid.
٣٤  ibid., p. 51.
٣٥  Ibid.
٣٦  Ibid.
٣٧  Ibid.
٣٨  Sandra Boehringer, “Michel Foucault, Subjectivité et vérité. Cours au Collège de France,” in: Essaim 2015/2 (n° 35), p. 159–162.
٣٩  M. Foucault, Subjectivité et vérité. Cours au Collège de France, 1980-1981, édition établie sous la direction de François Ewald et Alessandro Fontana par Frédéric Gros, Paris, ehess-Gallimard-Seuil, coll. “Hautes Études,” 2014, p. 338.
٤٠  Ibid., p. 17.
٤١  Ibid., p. 20.
٤٢  Ibid., p. 287.
٤٣  Ibid., p. 255.
٤٤  M. Foucault, L’herméneutique du sujet, Cours au Collège de France, 1981-1982, Paris, Seuil/Gallimard, 2001.
٤٥  Ibid., p. 473.
٤٦  Ibid., p. 11.
٤٧  Ibid., p. 13.
٤٨  Ibid., p. 9.
٤٩  Ibid., p. 13.
٥٠  Ibid., p. 13-14.
٥١  Ibid., pp. 14-15.
٥٢  Ibid., p. 15.
٥٣  Ibid., p. 16-17.
٥٤  Ibid., p. 19.
٥٥  Ibid., p. 20.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤