الموسيقى

أما في الموسيقى فالاختلاف ظاهر بين الموسيقى العربية وموسيقى العصر الحديث في أوروبا، من القرن الثامن عشر إلى الآن.

ولكن هذا الاختلاف لا يرجع إلى فارق أصيل بين الفطرة العربية والفطرة الأوروبية، كما خطر لبعض المحدثين الغربيين في معرض المفاضلة بين العناصر والأجناس؛ لأن الموسيقى الأوروبية القديمة كانت على مثل هذا الفارق بينها وبين الموسيقى الأوروبية في أطوارها الأخيرة، فكانت موسيقى اليونان والرومان قائمة على الأغاني الحسية، أو على الأنغام التي تصاحب الرقص والغناء، ويتغلب فيها قصد الطرب على قصد التعبير، وكانت الألحان الأوروبية إلى ما قبل القرن الثامن عشر ألحان ترنيم وتنغيم، ولم تكن ألحان تنسيق وتنويع على الأسلوب الذي سماه المحدثون «بالهرمونية»، أو فن تناسق الألحان المختلفة.

والأوروبي الحديث مع هذا لا يطرب لموسيقى «الهرمونية» فطرة وارتجالًا بغير تعليم أو تدريب، فإذا تعددت الأنغام، وتفاوتت الطبقات، واتسع نطاق التباعد بين القوافي المرددة؛ فالسامع الأوروبي يضل طريقه إليها، ويشعر بالجهد والإعياء في محاولة التوفيق بينها، وربط فواصلها، وانتظار اللازمة التي تسري بين فصولها، ولا بد له من إحاطة واسعة بمواضع الإيقاع وطبقات الأنغام حتى يسيغ تلك الموسيقى المركبة، ويغتبط بسماعها اغتباط المرء بفنون الذوق والجمال، وقد يكون على أرقى نصيب من الفن الموسيقي الرفيع، ثم يستمع إلى توقيع جديد فينفر منه حتى يسيغه ويستعذبه بعد التأمل والأناة، وفي ذلك يقول الأستاذ دوجلاس مور Douglas Moore، أستاذ الموسيقى بجامعة كولومبيا، في كتابه «من الأنشودة إلى الموسيقى العصرية»:

إن السامع الذي تدرب على سماع النماذج السهلة خليق أن يشعر بالانقباض إذا أحس أنه يضل طريقه عاجلًا وهو يصغي إلى السيمفونية. فليطمئن إذن، ولا بأس على ذلك؛ لأن ما يتفق له من هذا القبيل يتفق لغيره على نحو من الأنحاء بالغًا ما بلغ نصيبه من التدريب والاختبار؛ إذ إن قدرتنا على الانتباه المركز أضيق من أن تتسع كثيرًا لتعليق الإصغاء مع صحة السماع، وأهل الصناعة أنفسهم يرتاحون للمألوف من الموسيقى فوق ارتياحهم إلى الجديد منها؛ لأن مجهودهم في الإصغاء إلى المألوف قليل بالقياس إلى الجديد، ولكن المرانة والدأب على الانتباه مع الصبر والتفهم يمهدان الطريق إلى الألفة، ويعجلان بتمهيده، فتزداد القدرة على استيعاب معاني الموسيقى الجليلة وآياتها الرفيعة أوفر مزيد …

فالذي طرأ على الموسيقى الأوروبية الحديثة من التنويع والتركيب قد باعد بينها وبين موسيقى اليونان والرومان، كما باعد بينها وبين موسيقى العرب والشعوب الشرقية على التعميم، ولم يكن طارئًا على الفطرة الأوروبية أو الفطرة الإنسانية، وإنما كان طارئًا من طوارئ المعارف والمخترعات بعد التوسع في علم الصوت، وتركيب الآلات، وتلقيح الموسيقى الحسية بموسيقى العبادات، ثم بموسيقى السبحات الروحية والتأملات الفلسفية.

فقد تباعد الاختلاف بين الموسيقى القديمة والموسيقى الحديثة في اليوم الذي اتسعت فيه؛ للاشتمال على العواطف الدينية والصلوات الإلهية، وأصبح السامع يُصغي إليها في محاريب العبادة وهو متهيئ للخشوع والإنابة إلى عظمة الله، والغوص في سرائر الأكوان، فلما اتسعت الموسيقى لهذه التعبيرات العليا لم يكن لها أن تضيق بتعبيرات الحكمة العميقة، والبداهة الصوفية، والنفحات العبقرية التي شاع سلطانها في أوروبا بعد وهن السلطان الديني فيها من جراء ثورات التمرد والتجديد.

وليس بعجيب من أجل هذا أن تكون بلاد الموسيقى الكنسية هي بلاد الموسيقى الهرمونية، أو بلاد الموسيقيين الذين أبدعوا في الأوبرا والسيمفوني وسائر فنون التركيب، وهي — على الأغلب — بلاد إسبانيا وإيطاليا والنمسا وألمانيا، ثم روسيا التي شاعت في كنائسها فرق الترتيل والتقسيم. وقد يلفت النظر في هذا الصدد أن الأقاليم التي انقض فيها سلطان الموسيقى الكنسية مرة واحدة — وهي أقاليم ألمانيا اللوثرية — كان نصيبها من كبار الموسيقيين دون نصيب الأقاليم التي اتصل فيها القديم بالحديث.

•••

إلا أن الصلة لم تنقطع بين العرب وتطور الموسيقى الأوروبية في هذا الطريق؛ لأن الأندلس هي البلاد التي تلقت فن الأنغام على العرب، وامتزجت فيها الموسيقى الحسية بموسيقى العبادة عدة أجيال بعد زوال الدولة العربية، فكان للإنسان رقص ديني ترعاه الكنيسة، وتنعقد فيه الصلة بين موسيقى الأقدمين وموسيقى المحدثين.

ومن الحقائق المقررة أن أبناء أوروبا الغربية كانوا يتعلمون أفانين الأنغام على أساتذة من العرب الأندلسيين، وأنهم نقلوا أسماء بعض الآلات بألفاظها العربية، فبقيت في اللغات الأوروبية حتى اليوم بعد تصحيف يسير؛ فكلمة لوت  Lute من العود، وكلمة نكر  Naker من النقارة، وكلمة Clef أو المفتاح الموسيقي من أقليد، وكلمة Rebec من الرباب، وأزياء الفنانين التي توارثتها أوروبا بعد تبدل أسبابها قد بقيت مشابهة لأزياء المغنين حين كانوا في المغرب يتجملون كما يتجمل القيان، فيرسلون الشَّعر، ويَطلُون الخدود، ويُكحِّلون الجفون.
على أن بعض الأوروبيين الخبراء بتاريخ الموسيقى العربية — كالأستاذ فارمر Farmer — يرون أن العرب قد سبقوا الأوروبيين إلى نوع من الهرمونية يسمونه «التركيب»، ويعنون به توقيع النغمة الواحدة من عدة طبقات في وقت واحد، وهو غير الهرمونية كما تُفهم اليوم، ولكنه خطوة إليها من طريق الترنيم المعهود.

ولا خلاف بين المؤرخين في تداول العلماء الأوروبيين لبحوث العرب في الموسيقى النظرية، فإنهم على قلة ما ترجموه من تلك البحوث قد كان منهم مئات يطلبون العلوم بمدارس قرطبة وغيرها، ومنها الموسيقى النظرية، وقد كانت الخبرة باللغة العربية شرطًا من شروط الرجل المثقف بين الإسبان المسيحيين؛ فكان طلابهم في جامعة أكسفورد الإنجليزية يسخرون من العالم المشهور «روجر باكون» كلما أخطأ في الترجمة اللاتينية العربية؛ لأنهم كانوا يطلعون فيها على النص الصحيح.

وقد خُيِّل إلى بعض النقاد الأوروبيين في الزمن الحديث أن أصوات العرب لم تكن تحتمل التفخيم والارتفاع قياسًا على ما يسمعونه في الأسواق من الصيحات البدوية التي تغلب عليها الحدة و«النحافة» … وهو تخيل كان خليقًا بهم أن يعلموا مكانه من الخطأ إذا أحضروا في أذهانهم «الحداء» في الصحراء، وهو غناء العرب القديم، وفيه ما فيه من مجال للأصوات التي تملأ الفضاء، وترتفع إلى جميع الطبقات.

•••

وليس بين الموسيقى العربية والموسيقى الأوروبية فرق أصيل في السلم المعتمد عند العرب والأوروبيين، إلا أن الموسيقي العربي المتشبث بالمألوفات يعتز بما يسميه ربع المقام، ويحسبه فرقًا جوهريًّا بين أنغام الشرقيين وأنغام الأوروبيين، ولكن ملاحظة هذا «الربع» ليست شرطًا للسمع في الآذان العربية، وإنكاره ليس شرطًا للسمع في الآذان الأوروبية.

وقد صنع الموسيقي الحديث هانس بارت Hans Barth بيانًا لوحظ فيه ربع المقام، وألَّف إيفان وشنجرادسكي Ivan Wischnegradsky كتابًا في الربع والموسيقى الهرمونية، ووضع ألواز هابا Alois Haba أوبرا وتوقيعات أخرى على قاعدة الربع الملحوظ في الأغاني العربية، وصنع جوليان كاريلو Julian Carello قيثارًا على هذه القاعدة، ولحن بها جون أبليبي Appleby موضوعًا يدور على حديث لسقراط، وأنشأ نيقولا رمسكي كورساكوف Korsakof جماعة لدراسة ربع المقام منذ نيف وعشرين سنة في لننجراد. «راجع موسوعة مكملان للموسيقى والموسيقيين».
وهؤلاء عدا الموسيقيين الذين أدخلوا الأنغام العربية في تقسيماتهم المسرحية وغير المسرحية، أمثال: روبنشتين، وفليكان دافيد، وسان سنس Saint Seans، وقربوا بين الترنيم والهرمونية بعض التقريب.

فإذا شاعت هذه القاعدة في أوروبا ودخلت في تركيبات الآلات وتوزيع الأدوار؛ فهي أثر جديد للفن العربي يُضاف إلى الأثر القديم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤