أحوال الحضارة

بعض الكلمات أدل من طوال المجلدات.

ومن هذا القبيل تلك الكلمات التي تنتقل من لغة قوم إلى لغة قوم آخرين، فتدل على ما انتقل معها من أحوال المعيشة وألوان الحضارة، وتبسط لنا في قليل من المفردات ذلك الفارق البعيد في شئون الأمة بين ما كانت عليه قبل اقتباس تلك الكلمات المعدودات، وبعد اقتباسها وتداولها في أحاديثها اليومية.

وفي لغات الأوروبيين كلمات لها مثل هذه الدلالة على أثر المعيشة العربية في المعيشة الأوروبية، وبالمعاشرة، أو الاتباع في الحكم، أو تبادل التجارة.

منها الكلمات الدالة على القطن Cotton، أو على الحرير الموصلي Muslin، أو الحرير الغزي Gause، أو الحرير الدمشقي Damas، أو الجلد القرطبي Cordevan، أو الجلد المراكشي Morocco، أو الجبَّة Jupe، أو المسك Musk، أو العطر Attard، أو الزعفران Saffron، أو الشراب Syrup، أو الجرة Jar، أو الصفَّة بمعنى المقعد الطويل Sofa، أو الأرز Rice، أو البرتقال من النارنج Orange، أو الليمون Lemon، أو السكر Sugar، أو القهوة Coffee، أو القنوة Condy، إلى أشباه هذه المفردات.
وقد شاعت هذه المفردات في الإنجليزية والفرنسية وبعض اللغات الأوروبية الأخرى. أما الذي دخل الإسبانية والبرتغالية من الكلمات الدالة على أحوال المعيشة فقد يُحصى بالمئات، ولا يقصر على العشرات، ومنها: القباء Gaban، والبناء Albanil، والمخزن Almacen، والقطران Alquitran، والسطيحة Azotea، والطريحة Al Tariha، والفندق Fonda، والطاحون Tahone، والحجر الكريم أو الجوهر Alhaja، والبراءة Albaran، والكراء Alquiler، والقبة Alcoba، والساقية Assaquiya، وبعض المكاييل كالفنيقة، وهي الغرارة Fanega، والثماني Celemines، والقطيفة Alcatifa، والربعة Arroba، والجيب Algibeira، والخياط Afaiate، والرطل Arratel، وألفاظ كثيرة من أسماء الحاجيات المتداولة أو الأعلام على المواقع والبلاد.

وليس كل الشأن في انتقال هذه المفردات إلى الإسبانية أو البرتغالية أنها صفحات زيدت على معجم اللغتين، وإنما الشأن الصحيح فيها أنها دليل على صبغة المعيشة العربية التي اصطبغت بها تلك البلاد وكل بلد غيرها اقتبس مثل هذا الاقتباس، أو بعض هذا الاقتباس، وأنها مقياس الفارق بين أحوال الأمم الأوروبية قبل اتصالها بالحضارة العربية، وبعد شيوع هذا الاتصال.

ولم تكن الجزيرة الأندلسية هي المجاز الوحيد بين القارة الأوروبية والحضارة العربية؛ لأن القوافل التي تنقل البضائع من آسيا الغربية إلى أوروبا الشرقية لم تنقطع كل الانقطاع في عصر من العصور، ولأن الأوروبيين قد عرفوا الشيء الكثير عن الشرق في إبان الحروب الصليبية، ولكن الجزيرة الأندلسية هي القطر الوحيد الذي يُقال فيه على التحقيق: إنه لم يعرف له عصرًا ذهبيًّا في تاريخه كله غير العصر الذهبي الذي رآه في أيام الدولة العربية الزاهرة، ولا استثناء في ذلك لعهد فيليب الثاني وما كان فيه من مظاهر الأبهة والرخاء؛ لأنه كان رخاء مستعارًا من الخيرات التي تدفقت على إسبانيا من مستعمراتها الأمريكية بعد كشف العالم الجديد، ولم يكن رخاء محمولًا على حضارة تزدهر فيها المعارف الإنسانية، وتتفتق فيها عقول الأمة عن فتح مبتكر يُنسب إلى أهل البلاد.

ففي عصر الأندلس الذهبي كانت المدن الأندلسية أعمر المدن في القارة الأوروبية من أقصاها إلى أقصاها، وكان في قرطبة وحدها دكان نسخ واحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلفات لطلاب الكتب النادرة، وكان في قصر الخليفة أربعمائة ألف كتاب، وكان سادات أوروبا يفاخرون بما يقتنونه من منسوخاتها، أو مصوغاتها المعدنية، أو آنية الفخار التي لا يُعرف لها نظير في بلد آخر، وكان عدد سكانها نحو ألف ألف، يسكنون نحو مائتين وخمسين ألف بيت. ولم تكن مدينة في أوروبا تأوي إليها أكثر من ثلاثين ألفًا أو خمسين ألفًا على أكبر تقدير.

وإلى قرطبة وزميلاتها غرناطة وأشبيلية وطليطلة ومرسية ومالقة كانت تتجه وفود العواهل الأوروبيين في طلب الأدوية أو التحف، أو أدوات الترف والزينة وفرق الموسيقى والغناء. وأجمل بعض هذا المؤرخُ الإنجليزي استانلي لاين بول، فقال: «إن حكم عبد الرحمن الثالث الذي قارب خمسين سنة أدخل على أحوال إسبانيا تجديدًا لا يلم الخيال — على أجمح ما يكون — بحقيقة فحواه» …

ولا نعرف شهادة لهذا العصر الذهبي أعظم ولا أصدق من ذلك الحنين الذي يذكره به غلاة الوطنيين الإسبان وكبار كتابهم، حين يلتفتون إلى ماضي بلادهم، ويتمنون لها حاضرًا كماضيها في أيام الدولة العربية؛ فلم تنجب إسبانيا في عصرها الحديث وطنيًّا غيورًا، ولا كاتبًا مبرزًا أشهر من بلاسكوا أبانيز، الذي تُوفي منذ بضع سنوات، ولكنك لا تقرأ لعربي ولا شرقي كلامًا في الإشادة الحماسية بمجد العرب الأندلسيين كالذي تقرؤه لهذا الكاتب النابه في أهم مصنفاته، وهي «ظلال الكنيسة»، حيث يقول:

… لقد أحسنت إسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى حتى تفتح لها الأبواب، وتتلقاها بالترحاب … وكانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وتدويخ، ولم يزل ميل المهاجرين يتدفق من جانب المضيق، وتستقر معه تلك الثقافة الغنية الموطدة الأركان، نابضة بالحياة، بعيدة الشوط، ولدت منتصرة، وبث فيها النبي حمية قدسية، واجتمع إليها أفضل ما في وحي بني إسرائيل وعلم بيزنطة وتراث الهند وذخائر فارس والصين.

وهكذا تسرَّب الشرق إلى أوروبا على نهج غير نهج داردا وزركسيس من قبيل أثينا التي قاومته خوفًا على حريتها، وإنما اختار له في هذه المرة نهجًا مقابلًا لأثينا من الناحية الغربية، وهو الجزيرة الأندلسية؛ حيث سلطان الملوك «اللاهوتيين» والقساوسة المجاهدين؛ فتلقته مفتوحة الذراعين.

وفي خلال سنتين اثنتين استولى الغزاة على ملك قضى مستردوه سبعة قرون كاملة في استرداده، ولم يكن في الواقع فتحًا فُرض على الناس برهبة السلاح، بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمنًا عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقَّة للشعوب؛ فقَبِلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع اليهود، ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها غير حاسد لها ولا راغب في السيادة عليها، ونمت على هذا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر أجمل الحضارات وأغناها في القرون الوسطى.

وفي الزمن الذي كانت أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية، يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة، كان سكان إسبانيا يزدادون فيزيدون على ثلاثين مليونًا تنسجم بينهم جميع العناصر البشرية والعقائد الدينية، وخفق قلب الحياة الاجتماعية بأقوى نبضاته التي عرفها تاريخ الجماعات البشرية، فلا نرى لها قرينًا نقابله به غير ما نجده في الولايات المتحدة الأمريكية من تنوع الأجناس، واتصال الحركة والنشاط.

فعاشت في الجزيرة الأندلسية طوائف من النصارى والمسلمين، وأهل الجزيرة والشام، وأهل مصر والمغرب، ويهود إسبانيا والشرق، فكان منهم ذلك المزيج الذي تميز منه المستعربون والمدجنون والمولدون، وعاشت بفضل هذا التفاعل الحي بين العناصر والعروق جميع الآراء والعادات، والكشوف العلمية، والمعارف والفنون والصناعات، والمخترعات الحديثة، والأنظمة القديمة.

وانبثقت من تجاوب هذه القوى مواهب الإبداع والتجديد، ووصل من الشرق الحرير والقطن والقهوة والورق والليمون والبرتقال والرمان والسكر مع هؤلاء الوافدين، كما وصلت السجاجيد والمنسوجات والبارود والمعادن المنقوشة، وأخذنا عنه الحساب العشري والجبر والكيمياء والطب وعلم الفلك والشعر المقفى.

ونجا الفلاسفة الإغريق من الضياع في غمرة النسيان؛ حيث تبعوا العربي في فتوحه وغزواته، فتربع أرسطو في جامعة قرطبة التي ذاعت شهرتها في الآفاق، وظهرت بين العرب الأندلسيين فكرة الفروسية التي تبناها فيما بعد رجال الشمال كأنها ميزة مقصورة على الأمم المسيحية.

وبينما كانت شعوب الفرنجة والسكسون والجرمان يعيشون في الأكواخ، ويعتلي ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور في القلاع المظلمة، ومن حولهم رجالهم هم عالة عليهم يلبسون الزرد، ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ، كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء، ويرودون الحمامات كما كان سراة رومة يرودونها من قبلُ للمساجلة في مسائل العلم والأدب، وتناشُد الأشعار، وتناقُل الأخبار.

وكلما آنس راهب من نفسه رغبة في العلم اختلف إلى الجامعات العربية أو المجامع الإسرائيلية في إسبانيا، ووقر في أخلاد الملوك والأمراء أنهم مبرَّءون من أمراضهم لا محالة إذا أسعدهم الحظ بطبيب إسباني، مهما يكلفهم ذلك.

ثم انفصل العنصر الوطني عن الغزاة، وتجمعت القوميات المسيحية الصغيرة؛ فاشتبك العرب والإسبان في حروب سجال لا تنتهي إلى الإبادة والاستئصال بعد الانتصار، وأضمر كل منهم لصاحبه احترامًا عميقًا، فهو يعاهده على فترة طويلة من فترات السلم كأنما يحاولون بذلك تأجيل تلك اللحظة التي يحم فيها الفراق الأخير، ويعاونه خلال ذلك في بعض الأعمال التي تفتقر إلى اشتراك الجهود.

ولقد عمت الحرية في ذلك العهد أقاليم إسبانيا المسيحية نفسها قبل أوروبا الشمالية بزمن طويل، واستقلت بتنظيم أمورها المالية، وجعلت الملك أو الأمير بمقام رتبته العسكرية، وأصبحت المقاطعات كالجمهوريات الصغيرة التي يتولاها حكامها المنتخبون.

وكان المتطوعون في المدن قدوة مُثلى للجيوش الديمقراطية، وكانت الكنيسة المسيحية وهي على اتصال بالشعب تعيش بسلام في جوار الأديان المختلفة، ونجمت في الأمة طبقة وسطى فعالة، فأبدعت الصناعات المتعددة، وأنشأت على السواحل أعظم قوة بحرية في زمانها، وراجت المنتجات الإسبانية في جميع المرافئ الأوروبية، وقامت في البلاد مدن تضارع في تعداد سكانها الحواضر الحديثة، واختصت بعض القرى بمعامل النسيج، ووزعت الأرض في شبه الجزيرة بأسرها.

وقد ارتقى العرش ملوك الكثلكة في الوقت الذي بلغت فيه القوى الوطنية أوجها، وإنما يرجع طول ملكهم إلى موارد القرون الوسطى الفياضة بالإبداع، المخزونة في ودائع العصور السابقة.

إلا أنه كان ملكًا مشئومًا بغيض العواقب؛ لأنه حاد بالسياسة الإسبانية عن سواء السبيل، فاندفع بإسبانيا إلى التعصب الممقوت، ونفخ فينا نزعة التوسع في الاستعمار.

كانت إسبانيا يومئذ تتبوَّأ المكانة التي تتبوأها إنجلترا في عهدنا الحاضر، ولو أنها اتبعت سياسة التسامح الديني والتعاون بين الشعوب، وواصلت عمل العرب الصناعي والزراعي بدلًا من مغامرات الحرب، ومطامع الاستعمار؛ لكان لنا اليوم شأن غير شأننا الذي وصلنا إليه.

وإن الطابع الإسباني لأبرز في عصر النهضة الأوروبية من الطابع الإيطالي الذي اتسمت به إيطاليا، بما انبعث فيها من آداب الأمم القديمة وفنون الإغريق؛ فإن النهضة لم تقتصر على الميادين الأوروبية والفنية، بل أخرجت إلى العالم حضارة جديدة بتقاليدها وصناعتها وجيوشها وعلومها. وهذا كله من ثمرات إسبانيا العربية والإسرائيلية والمسيحية.

فالقائد العالم القرطبي الكبير «جون سالفو» رسم خطط الحرب الحديثة، وتفوق «بدرونوفارو» في الهندسة، واستخدمت الجيوش الإسبانية الأسلحة النارية لأول مرة في التاريخ، فكان استخدامها هو الذي خلق فِرَق المشاة، وجعل من الحرب قوة ديمقراطية؛ لأنه قدم الشعب على جماعة الفرسان الذين كانوا سجناء تلك الشكة العسكرية الأرستقراطية.

إلى أن يقول:

أسرعت دونا إيزبيلا بذلك التعصب النسائي الذي امتلأت به فأنشأت محاكم التفتيش، وانطفأ من ثم مصباح العلم في المسجد والبيعة، وخلفته في الدير المسيحي ذبالة العبادة؛ لأن الساعة ساعة صلاة، وقد ولت ساعة العلم، وانزوت الفكرة الإسبانية في غياهب الظلمات؛ حيث ترتعد بردًا في عزلتها المضنية، وتخبو شيئًا فشيئًا إلى أن تموت، وإن بقيت منها بقية، فهي تلك التي تنصرف إلى الشعر والمسرح والجدل الديني، مذ كان العلم يُفضي بصاحبه إلى نار الحريق …

هذه الشهادة الإسبانية الصحيحة — شهادة أبانيز — للدول العربية في الجزيرة الأندلسية هي خلاصة التاريخ المتفق عليه، وليست تحية إعجاب وكفى من رجل منصف متوثب الخيال.

ولم يمارِ في هذه الخلاصة التاريخية أحد من المؤرخين المُعوَّل عليهم، سواء كانوا من العرب أو الأوروبيين أو الإسبان، إلا أفرادًا قلائل زعموا أن الحضارة العربية في الأندلس قامت على أيدي أبنائها الأصلاء دون الغرباء الوافدين عليها، وهو زعم عجيب يوحي أول ما يوحيه إلى الذهن أن يسأل: ولِمَ لا تزدهر العبقرية الإسبانية إلا في ظل الحكومة العربية، فلا تؤتي ثمراتها قبل وفود العرب، ولا بعد ذهابهم وذهاب آثارهم في العلم والصناعة والعمران؟!

وجواب هذا السؤال ينفي كل زعم يلهج به أمثال أولئك المنكرين المتعصبين، وبخاصة حين يرسلون زعمهم إرسالًا لا يؤيده اسم واحد من أسماء أبناء البلاد الأصلاء الذين ساهموا مع العرب في أعمال الحكم والتعمير، أو كانت مساهمتهم دليلًا على مشاركة عامة متسعة النطاق.

وأول ما يُستخلص من قيام الحضارة الأندلسية على هذا الوصف المتفق عليه، أن آثارها في أوروبا كانت أعم وأعمق مما تسجله الكتب المطولة أو الكلمات المقتبسة؛ لأننا نرى بأعيننا في عصرنا الحاضر كيف يكون أثر القدوة بالسماع، فضلًا عن القدوة بالمعاشرة الطويلة بين الشعوب. وهذه الثورة الفرنسية قد تخللت أوروبا وآسيا وأفريقيا بمبادئها وحوافزها ولمَّا يتجاوز المطلعون على حقيقتها آحادًا معدودين في كل بلد من بلدان تلك القارات، فإذا كانت القارة الأوروبية لا تغير نظرتها إلى الحياة بعد معاشرة تلك الحضارة الأندلسية على استفاضتها وطول أمدها؛ فالتهمة هنا تتجه إلى العنصر الأوروبي ولا تتجه إلى العنصر العربي أو الإسلامي بحال.

وقد أصاب أبانيز حين قال: إن عصر النهضة مدين للحضارة الأندلسية قبل الحضارة الإيطالية التي أعقبتها؛ لأن عصر النهضة لم يكن عصر تجديد للفنون الإغريقية القديمة ولا مزيد على ذلك من عنده، ولكنه كان عصر تجديد في الحياة العملية، والمرافق الصناعية والتجارية، وفهم مستحدث للعقيدة وللعالم وللعلاقات بين الحاكمين والمحكومين، أو كان عصر معيشة جديدة تناولت بالتبديل والتعديل طبقات الشعوب من العلية إلى السواد. وأولى أن يأتي ذلك من القدوة الشعبية في جميع الشئون العملية بعد اتصال المعاشرة بين حضارة العرب وأبناء أوروبا الغربية عدة قرون.

وفي وسع الأرقام والألفاظ أن تُحصي لنا آثار العرب في بعض العلوم أو بعض الصناعات، ولكن آثار العرب في الحضارة العامة لا تستقصيها الأرقام ولا الألفاظ، ولا هي موقوفة على استقصاء أرقام وألفاظ؛ لأن زعم الزاعم أنها قد مضت بغير أثر كبير يناقض العقل البشري كما يناقض المشاهد والمحسوس. وإسناد هذا الأثر إلى غيرها بلا مشاركة منها على الأقل تعسفٌ لا يُؤخذ به في سياق التاريخ.

وقد جاءت النهضة بعد عهد الحضارة الأندلسية، وجاء الإصلاح الديني بعد النهضة، وجاءت الحرية السياسية بعد الإصلاح، ولم ينكر أحد من الأوروبيين أثر واحدة من هذه الحركات في الأخرى؛ فليس في وسع المنكرين المتعصبين منهم أن يقطعوا الصلة بين الحركة الأولى وما تلاها، مع هذا التلازم في الزمان والأسباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤