إجمال

غنيٌّ عن القول أن البلاد الشرقية تلقت دروسًا كثيرة في العلوم والصناعة التي تسمى أحيانًا بعلوم أوروبا وصناعاتها، إما في مدارس أوروبا نفسها، وإما في المدارس الشرقية التي أنشئت على غرارها.

وهذه حقيقة واقعة غنية عن الإفاضة في شرحها، مفهومة بطبيعتها، ولأن المهم عندنا في تسجيل آثار الحضارة الأوروبية في الشرق هو الآثار النفسية التي كان لها مساس بروح الشرق وضمائر أبنائه، ولسنا ممن يرون أن العلوم والصناعات المنقولة كان لها في ذاتها ذلك الأثر، إلا من طريق الخطأ في فهمها واستخلاص مراميها؛ لأنها تدخل في حيز المنقولات العقلية والمنقولات الآلية التي لا تستتبع بعدها انقلابًا خطيرًا في عالم الروح وسرائر الوجدان.

وعلى سبيل التفسير لهذا الرأي نرجع إلى القول بكروية الأرض ودورانها، فهذا القول لم يكن بالجديد على الثقافة الشرقية، ولكن الأدلة الحسية لم تكن مثبتة له في تصوير الدهماء وأشباه الدهماء من أصحاب المعلومات القاصرة، فاستطاع الجهلاء أن ينكروه، وأن يلصقوا إنكاره بما فهموه من ظواهر النصوص الدينية.

فلما جاء القول بكروية الأرض ودورانها عن طريق الغرب، وجاءت الكشوف الجغرافية بما يثبت هذا القول القديم، أخطأ الجهلاء فهم الدين وفهم العلم الحديث زمنًا سرى فيه الشك إلى ضمائر المتعلمين، ولم يسع هؤلاء المتعلمون إنكار كروية الأرض أو إنكار دورانها، وظل هذا الشك ساريًا إلى أن قرت الحقيقة العلمية في نصابها، وعجز الجهلاء عن مقاومتها بالنصوص الدينية، فزال العارض الذي أصاب الضمائر من خطأ الفهم وخطأ التأويل.

وهذا الذي عنيناه بقولنا: إن العلوم والصناعات لم يكن لها مساس جوهري بالحياة الروحية في البلاد الشرقية؛ لأنها قد استطاعت أن تستقر في حيز المعارف العقلية أو المعارف الآلية دون أن تقلق بواطن الضمير.

والأولى عندنا أن يُقال: إن الحياة الروحية في البلاد الشرقية قد تأثرت من طريق ظواهر المعيشة ومن طريق المذاهب الفكرية، ولم تتأثر مباشرة من طريق العلم أو الصناعة.

فظواهر المعيشة التي حملها الأوروبيون معهم إلى بلاد الشرق العربي قد نشرت معها جوًّا من الإباحة الفعلية، والاستخفاف بالقيود الأخلاقية الموروثة … فقلَّ الحرج من سماع الآراء الطارئة وتوجيه النقد إلى الشعائر المرعية، وكان أثر هذا كله في الحياة الروحية أعمق جدًّا من كل أثر سرى إلى الضمائر من معارف العلم والصناعة.

أما المذاهب الفكرية التي لامست عالم الروح في الشرق، فهي من قبيل مذهب النشوء والارتقاء لنيتشه، ومذهب التفسير المادي للتاريخ وفلسفة المقارنة بين تواريخ الأديان، وهي — على أقوى ما نلحظه من آثارها — لم تتجاوز أثر الفلسفة القديمة، ولا مذاهب الشيع المعتزلة التي شغلت عقول المشارقة في أواسط الدولة العباسية وما بعدها، وقد كانت آثارها هذه فردية لا تتعدى المئات من المفتونين بها ممن يتلقفونها ويتخطفون عناوينها، ولا يحيطون بأسرارها ومضامينها.

وكانوا في الزمن القديم كما كانوا في الزمن الحديث على غرار الآخذين بمذهب النشوء والارتقاء، ممن خُيِّل إليهم أن هذا المذهب قد حل مشكلة الوجود … وهو في جوهره — على التحقيق — لم يزد على أن جعل «خلق الإنسان والحيوان» مسألة ملايين من السنين بدلًا من مسألة ألوف ومئات؛ ولم يلمس قط سر الخلق الأبدي الذي لا يزال بابًا مفتوحًا للتفكير والاعتقاد، بعد كل ما قيل في مذهب النشوء والارتقاء.

فالمذاهب الفكرية التي أشرنا إليها لمست روح الشرق في نطاق الأفراد المعدودين، ولمسته في هؤلاء الأفراد لمسًا عاجلًا قريبًا لا يستأصل جذور اليقين، إلا ما كان من هذه الجذور قريب الاستئصال.

والمهم فيما بقي بعد هذا من آثار الحضارة الأوروبية على بلادنا وشعوبنا هو الذي عرضنا له في الفصول السابقة، ويتلخص في انتباه الشرقيين إلى فهم الدين، وفهم الوطنية، وفهم العلاقة بين الفرد وبين الله، والعلاقة بين الفرد والدولة فهمًا يتحدى أساطير الجمود ومخلفات الجهالة في عصور الضعف والاضمحلال.

وننتهي بالبحث كله إلى عبرتين خالدتين؛ أولاهما: أن الأمم الشرقية والغربية جميعها دائنة ومدينة في تراث الحضارة الإنسانية، وأنه ما من أمة لها تاريخ إلا وقد أعطت كما أخذت من ذلك التراث.

وثانية العبرتين: أن الأمم تستفيد في باب الحضارة على الرغم منها، وعلى الرغم ممن يفيدها؛ فالمستعمرون الغربيون لم يقصدوا تعليم الشرقيين حرية الأوطان، ولكنهم تعلموها وهم ناقمون، والشرقيون قد شحذوا السلاح الذي ضربتهم به يد الاستعمار، وأصيبوا به قبل أن يعرفوا كيف.

وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.

وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ.

وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤