الأدب

كتب الأستاذ جب Gibb في مجموعة تراث الإسلام فصلًا ممتعًا عن أثر العرب في الآداب الأوروبية، استشهد فيه بكلمة للأستاذ ماكييل Mackail من محاضراته على الشعر قال فيها: «إن أوروبا مدينة لبلاد العربية بنزعتها المجازية الحماسية Romance، كما هي مدينة بعقيدتها لبلاد اليهودية …»

«وإننا — يعني الأوروبيين — مدينون لبطحاء العرب وسورية بمعظم القوى الحيوية الدافعة، أو بجميع تلك القوى التي جعلت القرون الوسطى مخالفة في الروح والخيال للعالم الذي كانت تحكمه رومة.»

ولا يُقرُّ الأستاذ جب كل هذا التعميم والإطلاق، ولكنه لا يبطله كل الإبطال، ولا ينفي الأثر الذي تركه الأدب العربي في شعر الأوروبيين ونثرهم منذ القرن الثالث عشر إلى القرون الحديثة، وإن كان يرجح أن هذا الأثر قد تسرب من طريق الإيحاء والرواية اللسانية بين المسلمين الذين كانوا يتكلمون العربية وبعض اللغات الأوروبية، وبين شعراء فرنسا الجنوبيين ممن لم تثبت معرفتهم بالعربية على التحقيق.

والذي نعتقده على أية حال أن العقل يأبى كل الإباء أن قيام الأدب العربي في الأندلس يذهب من صفحة التاريخ الأوروبي بغير أثر مباشر على الأذواق والأفكار والموضوعات، والدواعي النفسية، والأساليب اللغوية التي تستمد منها الآداب.

ويزيدنا اعتقادًا لذلك أن أوروبا كانت تتلقى آثار الثقافة العربية من ثلاث جهات متلاحقة في القرون الوسطى؛ أولاها: جهة القوافل التجارية التي كانت تغدو وتروح بين آسيا وأوروبا الشرقية والشمالية من طريق بحر الخزر أو طريق القسطنطينية، وربما كانت هذه هي الطريق التي وصلت منها أطراف الأخبار الإسلامية إلى بلاد الاسكندناف.

والجهة الثانية: هي جهة المواطَن التي احتلها الصليبيون وعاشوا فيها زمنًا طويلًا بين سورية ومصر وسائر الأقطار الإسلامية.

والجهة الثالثة: هي جهة الأندلس وصقلية وغيرهما من البلاد التي قامت فيها دول المسلمين، وانتشر فيها المتكلمون باللغة العربية.

وقد اقترنت بموضوعات الأدب العربي أسماء طائفة من عباقرة الشعر في أوروبا بأسرها خلال القرن الرابع عشر وما بعده، وثبتت الصلة بينهم وبين الثقافة العربية على وجه لا يقبل التشكيك، أو لا يسمح بالإنكار.

ونخص منهم بالذكر بوكاشيو ودانتي وبترارك الإيطاليين، وشوسر الإنجليزي، وسوفانتيز الإسباني، وإليهم يرجع الأثر البارز في تجديد الآداب القديمة بتلك البلاد.

ففي سنة ١٣٤٩، كتب بوكاشيو Boccaccio حكاياته التي سماها «الصباحات العشرة»، وحذا فيها حذو «الليالي العربية» أو ألف ليلة وليلة التي كانت يومئذ في دور النشر والإضافة بين مصر والشام. وقد ضمنها مائة حكاية من طراز حكايات ألف ليلة وليلة، وأسندها إلى سبع من السيدات، وثلاثة من الرجال اعتزلوا المدينة في بعض الضواحي فرارًا من الطاعون، وفرضوا على كل منهم حكاية يقصها على أصحابه في كل صباح تزجيةً للفراغ، وقد ملأت هذه الحكايات أقطار أوروبا، واقتبس منها شكسبير موضوع مسرحيته «العبرة بالخواتيم» All is Well That ends Well، كما اقتبس منها لسنغ الألماني مسرحيته «ناثان الحكيم».
وكان «شوسر»، إمام الشعر الحديث في اللغة الإنجليزية، أكبر المقتبسين منه في زمانه؛ لأنه لقيه حين زار إيطاليا، ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم «قصص كانتربري»، وأدارها على محور يشبه المحور الذي اختاره بوكاشيو لقصص الديكاميرون، ومنها قصة «السيد» التي اقتبس فيها إحدى قصص ألف ليلة وليلة، واستهلها بالكلام على بلاط خان من خانات التتر أو المغول. ولم يزل الشعراء الغربيون ينسجون على هذا المنوال في نظم القصص إلى عهد لونجفلو Longfellow، صاحب الديوان الذي سماه «قصص خان بمنعطف الطريق».

وربما كانت صلة «دانتي» بالثقافة العربية أوضح من صلة بوكاشيو وشوسر؛ لأنه أقام في صقلية على عهد الملك فردريك الثاني الذي كان يدمن دراسة الثقافة الإسلامية في مصادرها العربية، ودارت بينه وبين هذا الملك مساجلات في مذهب أرسطو كان بعضها مستمدًّا من الأصل العربي، ولا تزال نسخته المخطوطة محفوظة في مكتبة السير توماس بودلي بأكسفورد.

وقد لاحظ غير واحد من المستشرقين أن الشبه قريب جدًّا بين أوصاف الجنة في كلام محيي الدين بن عربي وأوصاف دانتي لها في القصة الإلهية. وقد كان دانتي يعرف شيئًا غير قليل من سيرة النبي — عليه السلام — فاطلع على الأرجح من هذا الباب على قصة المعراج، ووصف الإسراء، ومراتب السماء، ولعله اطلع على رسالة الغفران لأبي العلاء، واقتبس من هذه المراجع كلها رحلته إلى العالم الآخر كما وصفها في القصة الإلهية. وأكبر القائلين بالاقتباس على هذا النحو هو عالِمٌ من أُمَّة الإسبان انقطع للدراسات العربية، وهو الأستاذ آسين بالسيوس  Asin Palacios.
وعاش بترارك في عصر الثقافة العربية بإيطاليا وفرنسا، وحضر العلم بجامعتي مونبليه وباريس، وكلتاهما قامتا على تلاميذ العرب في الجامعات الأندلسية. أما «سرفانتس» فقد عاش في الجزائر بضع سنوات، وألَّف كتابه «دون كيشوت» بأسلوب لا يشك من يقرؤه في اطلاع كاتبه على العبارات العربية والأمثال التي لا تزال شائعة بين العرب حتى هذه الأيام. وقد جزم برسكوت Prescott، صاحب الاطلاع الواسع على تاريخ الإسبان، بأن فكاهة «دون كيشوت» كلها أندلسية في اللباب.

•••

إلا أن الأثر الذي يفوق هذه المقتبسات الفردية جميعًا هو الأثر الشامل الذي يعزى إليه أكبر الفضل في إحياء اللغات الأوروبية الحديثة، وترقيتها إلى مقام الأدب والعلم بعد أن كانت مجفوَّةً مزدراة في حساب العلماء والأدباء، وبعد أن كان كل أدب وكل علم لا يكتب بغير اللاتينية أو الإغريقية، ولا يكاد يكتب فيها أحد غير رجال الدين ومن في حكم رجال الدين، وهم يقصرون الفهم على أنفسهم، ولا يشركون فيه جمهرة، ولا سيما طبقة السواد.

فقد كان شيوع التعليم بالعربية سببًا لإهمال اللاتينية والإغريقية، وخطوة لا بد منها لإحياء اللغات الشعبية وتداول الشعر والبلاغة، والعلم من طريق غير طريق القسوس والرهبان والمنقطعين للمباحث الدينية. ويروي لنا دوزي في كتابه عن «الإسلام الأندلسي» رسالة ذلك الكاتب الإسباني، الفارو، الذي كان يأسى أشد الأسى لإهمال لغة اللاتين والإغريق، والإقبال على لغة المسلمين، فيقول: «إن أرباب الفطنة والتذوق سحرهم رنين الأدب العربي؛ فاحتقروا اللاتينية، وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها.» وساء ذلك معاصرًا كان على نصيب من النخوة الوطنية أوفى من نصيب معاصريه، فأسف لذلك مرَّ الأسف وكتب يقول: «إن إخواني المسيحيين يعجبون بشعر العرب وأقاصيصهم، ويدرسون التصانيف التي كتبها الفلاسفة والفقهاء المسلمون، ولا يفعلون ذلك لإدحاضها والرد عليها، بل لاقتباس الأسلوب الفصيح. فأين اليوم من غير رجال الدين من يقرأ التفاسير الدينية للتوراة والإنجيل؟ وأين اليوم مَن يقرأ الأناجيل وصحف الرسل والأنبياء؟ وا آسفاه، إن الجيل الناشئ من المسيحيين الأذكياء لا يحسنون أدبًا غير الأدب العربي واللغة العربية، وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكثيرة بأغلى الأثمان، ويترنمون في كل مكان بالثناء على الذخائر العربية، في حين يسمعون بالكتب المسيحية فيأنفون من الإصغاء إليها؛ محتجين بأنها شيء لا يستحق منهم مؤنة الالتفاف. فيا للأسى! إن المسيحيين قد نسوا لغتهم، فلن نجد فيهم اليوم واحدًا في كل ألف يكتب بها خطابًا إلى صديق. أما لغة العرب فما أكثر الذين يحسنون التعبير بها على أحسن أسلوب! وقد ينظمون بها شعرًا يفوق العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء …»

وقد قال دانتي: إن الشعر الإيطالي وُلِد في صقلية، وشاع نظم الشعر باللغة العامية في إقليم بروفنس  Provence؛ حيث تلتقي الأمم اللاتينية في الجنوب، فانتشر من ذلك الإقليم أولئك الشعراء الجوالون الذين عُرفوا باسم التروبادور Troubadour، واشتق الأوروبيون اسمهم هذا من كلمة تروبر Trobar، وقيل في رأي بعض المستشرقين: إنها مأخوذة من كلمة «طرب» أو طروب، وإن اسم قصيدهم Tenson «تنزو» مأخوذ من كلمة «تنازع» العربية … لأنهم كانوا يلقون الشعر سجالًا يتنازعون فيه المفاخر والدعاوى كما يفعل القوالون حتى اليوم بين أبناء البادية المحدثين، ولوحظ بين أوزانهم وأوزان الزجل الأندلسي تشابه جد قريب.

وقد ظهر الزجل قبل ظهورهم، وتغنى به المطربون، وتداوله المنشدون في البيوت والأسواق، ووجدت في أشعار الأوروبيين بشمال الأندلس كلمات عربية، وإشارات إلى عادات لم توجد بين قوم غير المسلمين، وهي: تخميس الغنائم، واختصاص الأمير بالخمس منها.

•••

ولم تنقطع الصلة بين الأدب العربي — أو الأدب الإسلامي على الجملة — وبين الآداب الأوروبية الحديثة من القرن السابع عشر إلى اليوم. ويكفي لإجمال الأثر الذي أبقاه الأدب الإسلامي في آداب الأوروبيين أننا لا نجد أديبًا واحدًا من نوابغ الأدباء عندهم خلا شعره أو نثره من بطل إسلامي أو نادرة إسلامية، ومنهم شكسبير وأديسون وبيرون وسوذي وكولردج وشلي بين أدباء الإنجليز، ومنهم جيتي وهردر ولسنغ وهيني بين أدباء الألمان، ومنهم فلوتير ومنتسكيو وهيجو بين أدباء الفرنسيين، ومنهم لافونتين الفرنسي. وقد صرح باقتدائه في أساطير بكتاب كليلة ودمنة الذي عرفه الأوروبيون من طريق المسلمين.

ولقد تأثرت القصة الأوروبية في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في القرون الوسطى، وهي المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان في سبيل المجد والغرام، وترى طائفة من النقاد الأوروبيين أنفسهم أن رحلات جليفر التي ألفها سويفت، ورحلة روبنسون كروزو التي ألفها ديفوي مَدينةٌ لألف ليلة وليلة، ورسالة حي بن يقظان التي ألفها الفيلسوف ابن طفيل. وقد كان لألف ليلة وليلة بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية أول القرن الثاني عشر أثر يربى على كل آثارها السماعية قبل الترجمة المطبوعة، واقترن ذلك بنقل التصانيف الأخرى التي من قبيلها، فأصبح الاتجاه إلى الشرق حركة مألوفة في عالم الأدب كما كانت مألوفة في عالم السياسة والاستعمار.

على أن المدرسة المجازية الحماسية في أوروبا في القرون الوسطى إنما هي وليدة الحياة الحماسية المجازية التي سرت إلى الغرب كله من فاتحي العرب والمسلمين بالقدوة العملية التي لا فكاك منها، ويعتقد «أبانيز» الكاتب الإسباني المشهور — كما يرى القارئ في موضع آخر من هذا الكتاب — أن أوروبا لم تكن تعرف الفروسية، ولا تدين بآدابها المرعية ولا نخوتها الحماسية قبل وفود العرب إلى الأندلس وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب، وهو اعتقاد يعززه كثير من الأسانيد.

ولعل أقوى الأسانيد التي تعززه ذلك النموذج العسكري الجديد الذي لم يكن معهودًا في أبطال الوقائع الرومانية أو الإغريقية، وذلك الغرام الملتهب الذي لم يسبق له نظير في غزل الغربيين من أهل الجنوب أو الشمال، وذلك التقديس للمعشوقة على نمط العذريين، أو على النمط الذي أجاز لمتصوفة المسلمين أن يمزجوا بين نغمة العبادة ونغمة التشبيب، ولم يكن تشبيب العاشق بالحبيب في آداب الغرب إلى هذا المقام.

وقد بلغت المفردات العربية التي أضافها الإسبان وأهل البرتغال إلى لغتهم ما يملأ معجمًا غير صغير، ولكن العبرة مع ذلك بدخول تلك المفردات في الحياة الاجتماعية والمقاصد النفسية، لا بمجرد دخولها في صفحات المعاجم، فإنها لم تتمثل على الألسنة إلا بعد أن تمثلت في أحوال المعيشة ونوازع الإحساس والتفكير، ومن هنا يُعزى إليها من فعل الإيحاء والتوجيه أضعاف ما يُعزى إليها من فعل النقل والتلقين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤