وأخيـرًا

استطعت أن أغادر مصر في يوم الثلاثاء ٢٩ يوليو سنة ١٩٢٤ بقطار الساعة الحادية عشرة صباحًا قاصدًا بورسعيد لأبحر منها إلى لبنان على الباخرة الإيطالية كارينوليا من بواخر اللويد تريستينو، وغادرتها ومعي زوجي وابني، وسافر معنا والدي ليودعنا على ظهر الباخرة، وودعنا على المحطة رؤوف زكي وعزمي وأحمد الشيخ والغمراوي.

أذكرتني سفرتي هذه بسفرتي سنة ١٩١٤، في سنة ١٩١٤ غادرت المنصورة في يوم ٢ أغسطس بقطار الساعة التاسعة صباحًا قاصدًا بورسعيد لأبحر منها إلى لبنان على ظهر الباخرة برنس عباس من بواخر الشركة الخديوية في رفقة صديقي عبد الرحمن بك الرافعي، وكنا يومئذٍ وحيدين لأن كلًّا منَّا كان شابًّا لم يضطلع بعد من أعباء الحياة إلا بشؤون نفسه؛ لذلك لم يسافر معنا أحد ولم يودعنا على المحطة أحد.

٢ أغسطس سنة ١٩١٤! … ٢٩ يوليو ١٩٢٤!

عشر سنوات كاملة! عشر سنوات لم يشهد العالم مثلها في تاريخه من يوم كان العالم: تغير وجه الأرض أمام نظر الإنسان؛ إن تغيرت نفس الإنسان تغير وجه الأرض وإن لم يتغير في الوجود شيء! فالأرض أرض والسماء سماء والشمس تشرق وضاحة الجبين والقمر يحبو في سماواته فتتعلق بطلعته أحداق العاشقين.

عشر سنوات ما بين رحلتي الأولى ورحلتي الثانية إلى لبنان، وتاريخ الرحلة الأولى هو تاريخ إعلان الحرب الكبرى، أما تاريخ هذه الرحلة الثانية فلا يذكر بشيء لأن الحرب الكبرى الحقيقية لمَّا تضع أوزارها، وكيف تضع أوزارها والدوافع إليها تزال قائمة! كيف تضع أوزارها ولا يزال الضيق مستحكمًا، ولا تزال الطوائف يرهق بعضها بعضًا، ولا يزال بين الناس سيد ومسود وعابد ومعبود، ولا تزال الأمم تتحكم في الأمم، ولا يزال الإنسان لا يُروى له ظمأ ولا تنقع له غلة إلا إذا ولغ في دم أخيه الإنسان.

في ٢ أغسطس سنة ١٩١٤ كان العاقم قد أترع سلامًا وعظمة فكان يتيه كبرًا وغرورًا، وكانت الحروب التي سبقتْ تلك السنة ما بين تركيا ودول البلقان، وبين تركيا وإيطاليا، وبين الروسيا واليابان، وبين إنكلترا والترنسفال، كانت هذه الحروب تافهة ضئيلة لم تتجاوز في نظر العالم أن كانت معارك فردية تنشب بين أمة وأمة، ثم تمر من غير أن يصيب العالم منها ألم يحرك قلبه أو يهز ضميره، كانت أشبه شيء بالجرح البسيط يصيب قدم الرجل والرجل سائر فلا يعبأ به ولا يهتم له ولا يفكر في الجرح الدامي الذي يهز قلبه ويرسل الرعب إلى فؤاده، ويهدد بالخطر حياته والذي ينتظره وراء الأكمة القريبة منه والتي يقصد هو إليها مطمئنًّا يريد أن يأخذ في أدغالها الأسد والوحش على غرة منها جميعًا.

أترع العالم سلامًا فتاه غرورًا فاندفع إلى الحرب بكل قوته، فطال به مداها فابتلعت كل ما توفر له من شباب ومال وسلام، وها نحن في سنة ١٩٢٤ نرجو السلام فإذا السلام سراب، ونطلب المال فإذا المال وعود تضطرب، ونطلب الشباب فإذا الشباب خلو من خير ما في الشباب، وإذا الشباب خلو من الإيمان بالحياة والأمل فيها والميل لغورها، إذا الشباب يرى الحياة قشورًا ويأسًا ولهوًا.

تغير العالم بين سنة ١٩١٤ وسنة ١٩٢٤ وتغيرت مصر كذلك، كانت مصر قبل الحرب وادعة تعمل في جد، وتعالج فروع الحياة المختلفة، وتسعى للإصلاح جهدها، حاسبة دائمًا حساب الإنكليز ووقوفهم في وجه كل حركة وكل نزعة استقلالية، أما مصر في سنة ١٩٢٤ فلا تزال في اندفاعها الذي بدأته سنة ١٩١٨، ونسيت فروع الحياة وعلاجها وقامت تطلب استقلالها التام، وقد أتيح لها بفضل جهود أبنائها جميعًا أن تزحزح الإنكليز عن موقفهم موقف العنت في وجه كل إصلاح، لكنها مع الأسف لم تفد من ذلك كثيرًا؛ لأن الطوائف الصاخبة رفعت إلى منصة الحكم قومًا لا يعرفون الإصلاح ولا يقدرون ما يصلح حياة المجموع.

وتغيرت أنا أيضًا … ومن ذا الذي لا يتغير؟ انتقلت من حياة إلى حياة فإلى حياة ثم إلى حياة أخرى، كنت في سنة ١٩١٤ الدكتور هيكل المحامي بالمنصورة، وكنت سعيدًا تفيض بي المسرة، معافى من المرض، وحيدًا لا أُسأل عما أفعل، وكنت أجد فراغًا من الوقت وطمأنينة إلى النفس يسمحان لي أن آخذ بنصيب فيما يحلو لي من ملذات الحياة، وكانت القراءة وكان التفكير الحر أحب هذه الملذات لنفسي وأحلاها عندي، وكنت ولا أزال في بدء الصبا وميعة الشباب لا أجد في الحياة إلا بسمات تفتر أحيانًا عن ضحكات وعن قهقهات، وكان جو الوجود صفوًا تجاوب فيه الضحكة الضحكة ويلتقي فيه الابتسام بالابتسام، فلما ارتحلنا إلى لبنان ثم حمي وطيس الحرب واضطرب نظام سير البواخر استشارني رفيقي الرافعي في أمر العودة حتى لا تؤخذ علينا المسالك ونحبس في دار الحرب، فكان جوابي في ابتسام: إن خانتنا الباخرة فلن يخوننا ظهر الجمل.

ولم يكن أيسر من رحلتنا إلى لبنان يومئذٍ، لم نفكر في جواز السفر لحظة؛ لأنَّا لم نكن بحاجة إلى جواز سفر، ولم نفكر في الالتجاء إلى الحكومة، ولا في أمر الجمرك؛ لأن الأفراد كانوا أحرارًا تحمي الحكومات حريتهم ولا تعتدي عليها، ولم يَجُلْ بخاطرنا أنَّا نجد في طريقنا إلا ما نريد ما دمنا لا نريد شرًّا ولا نكرًا.

عدت ورفيقيَّ من لبنان بعد ثلاثة أسابيع قضيناها في ربوعها بعيدين عن ضجة السياسة، جاهلين ميول الناس في مصر، مكتفين بالأخبار تنقلها إلينا صحف بيروت في الصباح لتكذبها صحف بيروت في المساء، عدنا على نفس الباخرة برنس عباس، وكانت يومئذٍ مكتظة بالعائدين الذين قنعوا بالقليل من الوقت قضوه في أحضان الطبيعة مخافة أن يمتد لهيب الحرب إلى تركيا فتصبح العودة إلى مصر محفوفة بالخطر، وتصبح الطبيعة الناضرة الباسمة كالحة عبوسًا، ولم يكن للعائدين جميعًا حديث غير حديث الحرب، ولم يكن لهم أمل إلا أن ينتصر فريق على فريق؛ ذلك بأنهم وهم جميعًا من أمم محكومة كانوا يرجون في انتصار فريق على الآخر السبيل لحرية بلادهم وسعادتهم.

أما أنا فعدت إلى مصر أبعد ما يكون عن الميل لأي من الفريقين، فلما رأيت الناس تتعسهم الأهواء وتتنازعهم الشهوات أبديت رأيي في وجوب وقوف المصريين موقف الحياد، وأردت أن آخذ في الحركة السياسية الجديدة بمثل النصيب الذي كان لي قبلها، لكن الحرب وما ترتب عليها من إعلان الأحكام العرفية الإنكليزية، والمراقبة الصحفية وما أعقبها من إعلان إنكلترا حمايتها على مصر، وتطور الظروف بعد ذلك تطورًا جعل كل تكهن بانتهاء الحرب عقيمًا، ذلك كله جعلني أميل عن السياسة لآخذ بأسباب البحث العلمي، فاستقصيت ما استطعت نظرية الجبر والاختيار وفكرة المسؤولية، وكتبت ما استقر عنده رأيي ونشرته في المقتطف، على أن هذا البحث لم يكفِ لسداد ميولي، فاشتغلت بالتدريس في قسم العلوم الجنائية بالجامعة المصرية سنة ١٩١٧، وبالتدريس في هذا القسم وفي قسم الحقوق سنة ١٩١٨ وسنة ١٩١٩ وسنة ١٩٢٠ وسنة ١٩٢١ وسنة ١٩٢٢، وقد استغرق التدريس أوقات قراءتي وبحثي، وكنت قد تزوجت سنة ١٩١٨، وكانت الحركة السياسية قد قامت سنة ١٩١٩ فأخذت فيها بنصيب جدي، واشتركت مع إخواني الذين ألفوا الحزب الديمقراطي كما اشتركت مع العاملين من الشبان في مختلف نواحي الحركة، ورُزقت ممدوح والحركة الوطنية في أشدها.

وفي سنة ١٩٢١ نشب الخلاف بين عدلي باشا وسعد باشا، وكنت واقفًا على مقدماته وأسبابه وكنت عليمًا بخفاياه ومخبآته، وكان سعد باشا قد بدأ يفكر تفكيرًا جديًّا في أن يكون وحده وكيل الأمة ورمز أمانيها وعنوان استقلالها، والكل الذي تنبعث منه في البلاد كل حياة وكل فكرة وكل حركة، فلم يكن بدٌّ من الوقوف في وجه هذا التيار الذي أودى بحياة الحركات الوطنية في كل أمة قام فيها، وقد صادفت فكرتي هذه قبولًا لدى إخواني أعضاء الحزب الديمقراطي الذين رأوا معي ما في الدكتاتورية من قضاء محتوم على الفكرة الديمقراطية، فوقفنا في صف الأقلية، وقفنا نحن أعضاء الحزب الديمقراطي العاملين بعيدين عن الاتصال بأية هيئة سياسية حريصين كل الحرص على حريتنا محتفظين بما تقضي أنفة الشباب الاحتفاظ به، لكن موقفنا هذا كان دقيقًا محفوفًا بالأخطار والمصاعب.

فقد كان من بيننا أعضاء قضت عليهم ميولهم الطائفية بالانضمام علانية إلى سعد باشا، وكان من بيننا آخرون أغراهم حب المظهر والولع بالهتاف إلى السير في طريق الأولين، وكان من بيننا كذلك أعضاء رأوا في التقرب من عدلي باشا ومن الحكومة سدادًا لشهوات تقابل شهوات الأولين، وكان هؤلاء أشد إضرارًا بالحزب لأنهم أظهروه في نظر السواد بمظهر المنتمي للحكومة، والله يعلم وعدلي باشا وسعد باشا يعلمان أنه كان حزبًا بعيدًا عن الانتماء لأية هيئة أو سلطة بعيدًا عن الخضوع إلا لما تملي به ضمائر المتقدمين من أعضائه وذممهم.

وكان من أثر هذا الانفراج في الميول بين أعضاء الحزب والبعض الآخر وابتعاد عدد غير قليل من الفريقين عن مركز قيادة الحزب أن ضعف سلطانه بعض الضعف، لكنَّا استمسكنا بموقفنا، فلما انقطعت المفاوضات الرسمية في سنة ١٩٢١ كان الحزب أول من أعلن فكرة عدم التعاون مع الإنكليز في ظل مذكرة ٣ ديسمبر، ولما نُفي سعد باشا كان الحزب أشد هيئات الأمة حرصًا على التمسك بفكرة عدم التعاون؛ لذلك ليس من الغلو في شيء أن يقال إن الحزب كان له أثر كبير في اقتناع الإنكليز بضرورة الاعتراف باستقلال مصر، بل إن من الحق أن يقال إن الحزب الديمقراطي كان هو الهيئة الوحيدة التي أثبتت في تقريرها عن مشروع لورد ملنر ضرورة إعلان إنكلترا إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال بصك منفرد كالصك الذي أعلنت به الحماية؛ لأن الاستقلال حق طبيعي لا يجوز التعاقد عليه.

أعلنت إنكلترا إنهاء الحماية واعترفتْ باستقلال مصر، فتألفت على أثر ذلك وزارة ثروت باشا، وفكرتُ في تأليف لجنة لوضع الدستور من الأحزاب والهيئات المختلفة، ولما خاطبتُ ثروت باشا في أمر تمثيل الحزب الديمقراطي في اللجنة أخبرني أنه لا يرى مانعًا على أن يبدي الحزب له في الأمر رأيًا بالقبول، وليس هنا محل لذكر الأسباب التي منعت من قبول هذه الفكرة عند زملائي، فالتحقت بإخواني أحمد بك أمين أستاذ القانون الجنائي بمدرسة الحقوق ومحمد بك متولي السكرتير العام المساعد لمجلس النواب حالًا ومحمود بك صادق القاضي بالمحاكم الأهلية والشيخ عبد العزيز البشري القاضي بالمحاكم الشرعية في سكرتارية لجنة الدستور؛ حرصًا على تحقيق بعض مبادئ كنت حريصًا على أن تحقق.

ولما قاربت لجنة الدستور الانتهاء من عملها فكر عدلي باشا وأصحابه ومن بينهم أعضاء لجنة الدستور في تأليف حزب الأحرار الدستوريين وفي إنشاء جريدة السياسة، وكان الدفاع عن الدستور قبل صدوره وبعد صدوره هو الفكرة الأساسية التي تألف الحزب من أجلها، ودعيت يومئذٍ لرئاسة تحرير السياسة فلم أتردد في القبول لأني رأيت هذه الفكرة الجليلة من أشرف ما يدافع الإنسان عنه.

وكذلك انتقلت في هذه السنوات العشر من الدكتور هيكل المحامي بالمنصورة غير المسؤول إلَّا عن نفسه وعن عمله إلى الدكتور هيكل المحامي بمصر والمسؤول عن أهله وولده والأستاذ بالجامعة المصرية، وإلى الدكتور هيكل رئيس تحرير السياسة، وإذا صح ما قاله أناتل فرانس من أن الإنسان إذ ينتقل من حياة إلى حياة يموت حياة ليحيى حياة أخرى فقد ماتت لي في هذه السنوات العشر حيوات عدة واستبدلت بها حيواتٍ عدة كذلك، ولست أدري أي هذه الحيوات خير، وقد تكون كلها متعادلة إن كانت تطورات نفسي واحدة في أطوار مختلفة.

بعد سنتين انقضتا في رئاسة تحرير السياسة شعرت بإجهاد شديد؛ لأنني شعرت لهذا العمل منذ توليته بمحبة شديدة، وليس أشد إجهادًا للنفس من حب العمل الذي يقوم الإنسان به، ينسى الإنسان نفسه فيه فلا يفكر في صحته ولا في طعامه ولا في نعمة الحياة ومسرتها؛ لأن الحب يحتل من النفس محل الصحة والطعام والنعمة والمسرة جميعًا، شعرت بالإجهاد وجاء على أثر الإجهاد المرض، ثم عقب المرض نزال السياسة والحكومة في ساحة القضاء حين رفعت الدعوى الأولى التي اتهمتْ الحكومة فيها السياسةَ بإهانة هيئة مجلسي النواب والشيوخ، وفيما كانت هذه القضية منظورة كان التحقيق جاريًا في قضية جديدة، تلك دعوى النيابة أن السياسة قذفت رئيس الوزراء وأهانت هيئة الوزارة وحضَّتِ الناس على كراهية نظام الحكم إلى غير ذلك من الادِّعَاء، ولما انقضت الدعوى أمام القضاء جرت النيابة في تحقيق جديد هو نشر السياسة محضر تحقيق القضية الأولى، وجرت كذلك في التحقيق مع سعادة حلمي عيسى باشا عن مقالاته التي نشرها في السياسة، وباشرت تحقيقات جديدة مع صحف أخرى، وخيل للناس جميعًا أن النيابة قد أعدت عدتها ليكون محرر السياسة معها في كل يوم للتحقيق معه.

وكنت قد اعتزمتُ السفر إلى لبنان للاستراحة من جهد العمل قبل أن تبدأ النيابة هجومها، فلما امتد خط ذلك الهجوم تمهلت حتى فرغت النيابة من تحقيقاتها، ثم خشيت أن أطلب جواز سفري وأن أحدد موعده فتطلبني النيابة للتحقيق في عشيته.

فوسَّطت من كلَّم النائب العمومي فعلمت من وسيطي أنه خاطب سعد باشا زغلول رئيس الحكومة مباشرة، وأن الأخير رأى أن ليس لي أن أسافر وضد السياسة قضيتان وأبدى — كما علمت — أنه على استعداد لحفظ القضيتين إن أنا اعتذرتُ عمَّا نشرته السياسة من أن سعد باشا تداخل في الانتخابات التكميلية لمجلس النواب، وصرحت بأن الخبر مكذوب، ولما كنت أعلم صحة الخبر الذي نشرته السياسة لم أقبل التكذيب وعمدت إلى طلب جواز السفر وحددت موعده، وأعددت نفسي لنزال جديد مع الحكومة، لكن الحكومة لم تتعرض لي، ولست أدري أكان عدم تعرضها لأنها لم تعلم بسفري أم كان منها حرصًا على الدستور والقانون أم أنها خشيت أن تظهر بمظهر المتعنِّت من غير أي مبرر للعنت؟.

وكذلك استطعتُ أخيرًا أن أغادر مصر في يوم الثلاثاء في ٢٩ يوليو سنة ١٩٢٤ بقطار الساعة الحادية عشرة صباحًا قاصدًا بورسعيد لأبحر منها إلى لبنان على الباخرة الإيطالية كارينوليا من بواخر اللويد تريستينو.

وصلنا بورسعيد الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان في انتظارنا أصدقاؤنا المقيمين بها، وعلى الرغم من أن الباخرة لا تقوم قبل الساعة الثامنة مساء فضَّلنا الذهاب توًّا إليها هربًا من حر المدينة وطلبًا لهواء البحر نستنشقه بضع ساعات قبل السفر، ولم يكن على ظهرها حين وصولنا إلا سيدة وابنتها وخادم.

كارينوليا باخرة صغيرة تبلغ حمولتها مائتين وخمسين ألف طن، وهي من البواخر التي تجوب شواطئ الشرق الأدنى على مهل؛ لأنها كما تنقل المسافرين تنقل المتاجر وتتسع لها أكثر من اتساعها لهم، وغرف الدرجة الأولى فيها قديمة النظام تسع كل واحدة منها ثلاثة من المسافرين، وصالونها الذي وضع به البيانو لا يمكن لأكثر من أربعة أشخاص أو خمسة الجلوس فيه، وغرفة المائدة المجاورة للصالون متسعة فوق سطح الباخرة وقد مدت فيها ثلاث مناضد طويلة حول كل منها أربع وعشرون مقعدًا، فأما المنضدة الوسطى فكان يجلس إليها قبطان الباخرة والمتقدمون من رجالها، وأما اليمنى عند اتجاهك لحيزوم الباخرة فكان يجلس إليها العائلات، وكان يجلس باقي المسافرين إلى المائدة الثالثة.

وكنا نجلس إلى المائدة اليمنى، وكان معنا عائلات من السوريين واللبنانيين المقيمين بمصر، وكان لهذه المائدة مظهر ظرف؛ أن كان أكثر الذين يجلسون إليها من الأطفال ومن الشبان الذين لم يتجاوزوا سن الحلُم، ولم يكن عليها من الرجال إلا ثلاث، المسيو عطا الله والدكتور سامي كمال وأنا.

وقد اخترنا المكان المجاور للدرج الهابط إلى (الكابين) حتى إذا أصيب أحدنا بدوار البحر كان على مقربة من مرقده، لكن اختيارنا لم يكن ذا فائدة لأن الباخرة كانت تسير كل يوم في المساء بعد أن يفرغ الناس من طعامهم، وكانت تقف في الصباح وتظل واقفة يومها ولا تعود للسير إلا مساء، وبذلك لم يكن أحد يشعر بأنَّا على سفر، بل كُنَّا جميعًا نرى أنها أشبه (بالكازينو) أو (بالبير) في عرف الإنجليز، ولو أن صالونها أو غرفة التدخين بها كانا أكثر سعة، ثم لو أن السطح لم يكن ضيقًا بمقدار لا يتسع لمقعد طويل لكان شعورنا هذا معبرًا عن حقيقة لا مجرد خيال ووهم.

كانت عائلة عطا الله بجوارنا على المائدة، ومسيو ميشيل عطا الله موظف بالبنك العقاري، وزوجه — مدام أديل عطا الله — أعرق منه في اللبنانية، ولهما ولدان وبنتان، فأما البنتان فطفلتان لم تبلغ إحداهما العامين وأما الأخرى فلم تبلغ الثالثة من عمرها، وهذه الأخرى واسمها جاكلين غاية في لطف الطفولة البريئة الباسمة.

لمدام عطا الله ميزة إحياء المجلس الذي تكون فيه، وهي تبالغ أحيانًا في هذه الميزة، التي تعتبر من أَجَلِّ ميزات الرجال والنساء إذا عرف صاحبها سبيل القصد فيها؛ لذلك لم نكد نأخذ مكاننا إلى جانبهم على المائدة حتى اتَّصَل ما بيننا وبينهم، وسرعان ما توثقت رابطتهم بنا حتى كانت أساس تزاوُرٍ بعد وصولنا جميعًا إلى لبنان.

واتصل ما بيننا وبين باقي المسافرين شيئًا فشيئًا، وكان من بينهم جماعة من المصريين عرفناهم رجال كياسة وأدب ولطف، وصارت المركب أشبه بمنزل تقيم فيه عائلة واحدة، فارتفعتْ الكلفة إلى حد كبير ما بين الأشخاص، وأمضينا ثلاث ليالٍ ويومين ناعمين مطمئنة نفوسنا بعيدين عن ضوضاء الناس وضجتهم، قانعين بدارنا المطمئنة فوق ظهر الماء، سعداء بالبحر المستسلم الهادئ، نتبادل أتفه الأحاديث لأنها أكثرها لذة فيروي بعضنا ما لاقى من قبل في لبنان، ويروي آخرون ما رأوا في غير لبنان، ثم يترك الأطفال أمهاتهم ليجيئوا إلينا، فيشعر كل منَّا بعطف على كل طفل ويأخذ معه في الحديث، وكذلك انقضى الوقت ولم نشعر بانقضائه، ومرت الأيام والليالي ولم يَشْكُ أحد سأم الفراغ.

تحركت كارينوليا في الساعة الثامنة مساء من بورسعيد، ولمَّا تكد تتخطى أحجار المرفأ حتى هَبَّ نسيم البحر قويًّا رقيقًا ينساب إلى نفوس متعبة وصدور مفعمة فينعش النفوس ويخفف أثقال الصدور، وابتعدت السفينة عن الشاطئ رويدًا رويدًا حتى غرقت أنوار المدينة المصرية في لُجَّةِ الليل المدلهم، واستردتنا ظلمة ملأت ما بين السماء والماء، واختفى في ثناياها الأفق فجعلنا نلتمسه خلالها، وأرسل كلٌّ خيوط أحلامه وآماله تنادي حائرة في هذه المملكة الداجية لولا ما يتخللها من بريق النجوم في السماء ولمع الموج في استحياء، على أن لظلمة الدجى بين السماء والماء جمالًا وجلالًا لا مثال له في ظلمة جوِّنا نحن أهل الأرض، ظلمة الأرض مملوءة بالأشباح وبالجرائم وبالشهوات وبالمخاوف، فيها الذئاب الضارية من وحش ومن بشر، وفيها هوس الشهوات وهواها وفيها الشر الحلو البريق، وفيها السوء يدبر وينظم، وينفذ أيضًا، فهي ظلمة ثقيلة الظل كالحة عبوس الخير في اجتنابها والحذر منها، أما ظلمة ما بين السماء والمساء فمسرى الأرواح المنيرة تشعر بها وتكاد تلمسها، وتجد فيها دائمًا عزاء للنفس وسكينة للفؤاد وطمأنينة للقلب، هي أجنحة الملائكة حجبت الشمس لراحة ساكني الماء، وتركت أجنحة الشياطين تحجب الشمس لشقاء أهل الأرض.

غرقت أنوار بورسعيد في لُجَّةِ الليل، وسرت السفينة تخترق أحشاء الليل، وبقي أهلها زمنًا يمتعون بهواء الساعة العذب، ثم تسللوا إلى مضاجعهم واحدًا بعد واحد، وطلع عليهم النهار والباخرة تسير وقد بدت تباشير الشاطئ فاتجهت الأنظار تجتلي طلائع يافا خلال ضوء النهار.

وكان على السفينة عدد جم من اليهود قضوا ليلهم في عنبر الدرجة الثالثة، لا يفكرون في أنوار بورسعيد ولا في أجنحة الملائكة وأجنحة الشياطين، ولا يطرق الكرى جفونهم إلا غرارًا، وتخفق قلوبهم خفقة الطرب وهم في انتظار الصباح على جمر؛ لأنهم وحدهم أشد المسافرين حرصًا على بلوغ يافا.

يافا، المرفأ السعيد، مدخل الوطن القومي، باب أرض الميعاد، إنك لن تقدر فلسطين في نظر اليهود كما تقدرها في هذه الساعة التي تنجلي فيها طلائع يافا، انظر إليهم! … انظر إلى هؤلاء الفقراء في أسمالهم البالية وأطمارهم الرثَّة وقد طالت لحاهم وأرسلت شعورهم غدائر وغارت منهم الصدوغ والخدود، انظر إليهم يحدقون بعيونهم الحادة يفصل بينها أنفهم الطويل المصفر إلى ذلك الشاطئ المحبوب، انظر إليهم ترهم في نشوة وحشية وجذل مضطرب يصعدون معًا فوق سطح المركب ويقفون في انتظار الشاطئ، فإذا بدا الشاطئ انفرجت شفاههم جميعًا عن أغنية عبرية هي أغنية السلام لأرض الميعاد فرتلوها وأعادوها، ثم التمس كل واحد منهم إهابه وانتظر عند درج الباخرة لتقله (الشختورة) مع أصحابه فترده إلى التربة المقدسة وتعيده ليطأ في رفق رفات الأجداد، ولينبت من تراث هذه الرفات حياة ناضرة تتجلى فيما تراه إذا نزلت إلى يافا من كروم وبساتين.

رست كارينوليا ثم لم تكن إلا برهة حتى علمنا أن بين أحد اليهود في يافا وبين اللويد تريستينو تقاضٍ حكم فيه ابتدائيا لمصلحة ذلك اليهودي، وقد انتهز مرسى الكارينوليا فأوقع عليها حجزًا تحفظيًّا لم تكن لتستطيع معه أن تغادر مياه فلسطين لولا أن تداخل قنصل إيطاليا وأن قدم الضمان الكافي.

وقضينا يومنا على سطح السفينة ولم ينزل إلى الشاطئ إلا قليلون؛ لأنَّ مينا يافا مشهورة باضطراب موجها ممَّا يجعل العبور إلى الشاطئ فوق الفلائك غير ميسور.

وعاودت السفينة السير في الماء، ورست بنا في حيفا عندما بدت تباشير الصبح.

نزلت حيفا سنة ١٩١٤ وزرت دير الكرمل، وكانت حيفا في سنة ١٩١٤ من البلاد العثمانية التي تطلعت ألمانيا لبسط نفوذها في الشرق من طريقها؛ لذلك كانت مملوءة بالألمان وواقعة تحت نفوذهم.

وكأن الذكرى تدعو الإنسان للعود إلى الأمكنة التي سار من قبل فيها ليشهد ما صنع الزمان بها، وليرى إن كانت قد تغيرت بمقدار ما تغير، فنزل الأكثرون من ركاب السفينة ونزلنا معهم، ما أكبر الفرق بين الأمس واليوم! نزلت ورفيقيَّ في سنة ١٩١٤ فلم يسألنا أحد من أنتم ولا فيم تنزلون، أما اليوم فيجب أن تودِع جواز سفرك لدى عامل الجمرك الذي جاء إلى السفينة خصيصًا لهذا، ومقابل إيداعك الجواز يناولك العامل ورقة تسمح لك بالمرور، فإذا عدت رد العامل جوازك إليك وضمن بذلك مغادرتك الديار، وهذا الفرق في المعاملة سببه ما دفعت الحرب إلى نفوس السواد من الثورة على كل نظام قائم، فرجال الحكم يريدون أن يطمئنوا إلى أن النازلين لا يقصدون إلى الإقامة في بلادهم، وإلى أن من قصد منهم إلى الإقامة ليس من محركي الثورات ولا من المهيجين، وهم يحرصون اليوم على ما لم يكونوا بالأمس يحرصون عليه لأسباب شتى، فنفوس أهل الأمم المختلفة لا تزال تملأها عوامل البغضاء منذ الحرب، لا يزال الإنكليزي ينظر إلى الألماني بعين الحذر، ولا يزال الفرنسي ينظر إلى الألمان بعين المقت، ولا يزال الألماني ينظر إليهما جميعًا بعين الكراهية، وليست الأمم التي كانت متحالفة أيام الحرب لتخلو من النظر إلى بعضها البعض الآخر بعين الحقد، ففرنسا وإنكلترا تتنافسان النفوذ في الشرق وتخشى كل واحدة منهما أن تدس الأخرى لها الدسائس وأن تضع في سبيلها العقبات والعراقيل، وليس هذا كل السبب في مراقبة المهاجرين، بل ليس هو معظم السبب، فقد كانت الأمم تتنافس قبل الحرب وكانت تدس الدسائس، ولكن الهيئات الحاكمة كانت مطمئنَّةً إلى أن قوة نفسية الأهلين وحرصهم على استتباب النظام واستمساكهم ببقائه كل ذلك كفيل بضياع آثار الدسائس سُدى وببقاء الأمن والسكينة في البلاد، أما اليوم فالنظام القائم موضع النقد من كل إنسان، لا يرضاه الذين أصيبوا أثناء الحرب في ثورتهم وجاههم وصاروا فقراء بعد أن كان لهم الأمر والنهي، ولا الذين رفعتهم الحرب من أماكن الضعة إلى حَظٍّ من الثروة أحلَّهم محل الاحترام وجعلهم يرون ما أوتوا قليلًا إلى جانب ما قاسَوْا من قبل، هؤلاء تدفعهم غلظة طبعهم للانتقام من ذوي الحسب والأصل القديم وممَّن لا يزالون بحكم الطبيعة سادة الوقت وإن لم يكونوا في منصة الحكم، كذلك ترى الدول لا يطمئن بعضها إلى بعض، وترى الأفراد لا يطمئنون إلى نظام الحكم، وترى الحكومات لا تطمئن إلى سكينة الأفراد؛ ولذلك كانت الرقابة وكان الحرص على مضايقة الحرية.

نزلنا حيفا وسلكنا السبيل إلى دير الكرمل، والدير يقع على ارتفاع عشرة ومائة متر فوق سطح البحر فيما أخبرنا أحد قساوسته، والطريق إليه اليوم هو الطريق الذي كان سنة ١٩١٤ ولم يغيرونه، وكان أثناء الحرب يتسع للأوتموبيل المدرَّع ولما هو أكبر من الأوتموبيل المدرع، تسير فوقه العربة صاعدة إلى الدير فإذا الجبل من يمينك والوادي عن يسارك وكأنَّ الجبل والوادي هذه السنة أقل بهاء منهما في سنة ١٩١٤، ولعل أكبر السبب لذلك أنَّا صعدنا إلى الكرمل سنة ١٩١٤ والشمس منحدرة إلى المغيب يلذ ضوؤها العيون وتدع أشعتها نسمات الهواء تحرك أغصان الشجر وتتلاعب بأوراق النبات وتبعث إلى النفس مسرَّة تزيدنا حبًّا للحياة ولما فيها، أما اليوم فقد ذهبنا إلى الكرمل والشمس صاعدة إلى عرش الزوال والضوء حادٌّ والأشعة قاسية والهواء ساكن … ذلك في ظني أكبر السبب، وهو ليس بالعجيب، فالجبل والوادي صورة أمام العين، والصورة يزداد لدينا جمالها وينقص بمقدار ما ينبعث عليها من ضوء وعلى قدر ما في نفوسنا من استعداد للمتاع بالجمال.

جبال حيفا جرداء لا ترى عليها من النبت ولا من الشجر إلا القليل، وسفوحها فيما دون الطريق إلى الكرمل أكثر خضرة وبهاء، تنمو عليها بعض أشجار التوت والزيتون، وبطن الوادي سهل منحدر إلى الشاطئ تقوم فوقه أنواع من الزرع متجاور مختلف ألوانه.

تعبر في طريقك إلى الدير بابًا كبيرًا، تقف بك العربة عنده حتى تدفع رسم مرور العربة قرشين ونصف القرش يتقاضاها رجال الدير لينفقوا على الدير ومجاوراته منها، فإذا بلغت الدير وجدت تلقاءه نصبًا أقيم فوق رفات قتلى الحرب من الحلفاء ذكرى لمجد الحرب ومجازرها، ووجدت إلى جانب الدير كنيسة وإلى جانب الكنيسة منزلًا يأوي إليه الرهبان، وإلى جانب المنزل فندقًا ينزل فيه حجاج من ذوي الورع والتقى.

دخلنا الكنيسة مع راهب نَيَّفَ على الستين ممتلئ صحة أحمر الوجنات أبيض الشعر خاشع الطرف رضي النفس لين الكلام، وكنيسة الكرمل صغيرة رشيقة فيها من الضوء أكثر ممَّا اعتادت الكنائس، وينحدر إليها النور من نوافذ ركبت في أعلى الجدار، وزانتها صور قدسية نقشت الزجاج تحكي أساطير المسيح المنجى والعذراء المضحية، وأنت إذ تتخطى باب الكنيسة المقابل لنصب شهداء الحرب تجد نفسك في فناء يبلغ ستة أمتار في خمسة، وترى إلى يسارك في هذا الفناء بابًا هو باب منزل الرهبان، ثم تعدو درجة فإذا بك وسط الكنيسة، وإذا أمامك صورة العذراء وصورة المسيح تحف بهما الشموع وهما في بريقهما الذهبي مثال الخشوع والخضوع، وليس هذان النقشان كل ما في مذبح الكنيسة من إبداع، بل لقد نظمت حولهما من الأوعية والآثار المقدسة ما يكل الطرف عن الإحاطة به لأن قداسة مكان مقدس تحول دون تحديقك بدقائقه وبخاصة إذا كان عليك من راهب أو قسيس رقيب، ولأن قداسة الأماكن المقدسة تشتملها دائمًا ظلمة لا تبدد منها الشموع إلا بمقدار يزيدها قداسة، وليس من شأن الظلمة أن تجلو ما اشتملت، بل يكل النظر خلالها كلاله عند التحديق بنور الشمس الساطع الوهاج.

وليس مذبح كنيسة الكرمل قائمًا فوق سطح الأرض، بل هو يعلو كهف شعيب! وكهف شعيب نقر في جبل الكرمل لأكثر من تسعمائة سنة خلت، وقد بنيت الكنيسة وبني إلى جانبها الدير لتحل بهما بركات ذلك الكهف وساكنه.

ولست تستطيع إذ تنحدر إلى ما تحت المذبح على ثلاث درجات غير منتظمة أن تميز في ظلمة الكهف شيئًا، وليس بك من حاجة لاختراق حجب تلك الظلمة، فهي ظلمة منيرة للمؤمنين وإن كانت داجية، وهي لغير المؤمنين قتام لا يحوي غير صخر ينطوي خلاله القبر القديم.

وخرجنا من الكنيسة بعد إذ تفضل الراهب الهرم فقص علينا طرفًا من تاريخها، وسرنا فإذا حول الدير والكنيسة والمنزل والفندق وحشة الجبل يؤنسها إيمان أولئك الرهبان، ويعمرها بعض أشجار الجوز والخروب والصنوبر انتشرت متباعدة بعضها عن بعض، وأردنا أن نوغل في الجبل فخيل لنا أنه موحش كله، لكنني علمت بعد إذ أقمت بلبنان زمنًا أن عند قمته مدفعًا ضخمًا، وأن لهذا المدفع قصة، فقد استولى الحلفاء أيام الحرب على حيفا، وتراجع الأتراك وضباطهم من الألمان خلا الجندي القائم على هذا المدفع الذي أبى أن يتراجع وظل يصب الموت على المهاجمين حتى صمت صوته وصوت مدفعه.

وشققنا طريقنا وسط المدينة عائدين إلى الباخرة، ومررنا بحانوت ألماني يتكلم لغة أهل البلاد كأنه منهم؛ ذلك بأنه وُلد في حيفا وكان يأمل مع الألمانيين أن تكون حيفا مصدر النفوذ على الشرق الأدنى والمتسلطة على سكة حديد بغداد والمهددة للهند وللهند الصينية.

وأمضينا بقية يومنا فوق ظهر الماء، وتحركت الباخرة في المساء، ثم تنفس صبح الجمعة عن شواطئ بيروت، وعند الساعة العاشرة كانت السيارة تقطع بنا الطريق من بيروت إلى برمانا.

بيروت عاصمة لبنان الكبير، ولم يُدع لبنان كبيرًا إلا بعد أن ضم الانتداب الفرنسي بيروت إليه وجعلها عاصمته، أما قبل ذلك فكان لبنان لبنان فقط، وكان وسط بلاد الدولة العلية إيالة تمتعت بالاستقلال الذاتي منذ سنة ١٨٦٨.

ومن بيروت تتفرع الطرق إلى ربوع لبنان، فينبعث أحدها شمالًا إلى طرابلس وإلى شمال لبنان، ويسير الآخر جنوبًا إلى عاليه وصوفر والشام، ويتوسط هذين طريق يمر ببرمانا وبكفيا إلى ظهور الشوير، وتتفرع من هذه الطرق الثلاث الرئيسية الصاعدة من الشاطئ إلى قمم سلاسل لبنان طرق كثيرة أخرى بعضها يحاذي الأولى ويهبط البعض الآخر إلى بطن الوادي، يسير عليه من يريد أن ينتقل من إحدى سلاسل لبنان إلى سلسلة أخرى.

وليس في لبنان طريق لسكة حديد إلا ذلك الطريق القديم الصاعد من بيروت إلى صوفر فزحلة والمعلقة ورياق حيث يتفرع فيذهب فرع إلى الشام ويذهب آخر إلى سوريا، وهذا الطريق ممل بطيء يحتاج المسافر عليه من بيروت إلى دمشق لأكثر من ثمانِ ساعات، وقد كان الناس به راضين فرحين يوم لم يكن له منافس إلا العربات تجرها الجياد، أما اليوم لوى الناس عنه وجوههم وكادوا ينسونه لأن الأوتموبيلات قد قصرت الوقت وأذهبت الملال، والأتومبيلات في لبنان كثيرة يزيد عددها على الألفين، ونفقتها يسيرة إلى جانب سائر نفقات المصطاف، فلست تجد ما يدفعك إلى ركوب عربات سكة الحديد ولو كانت البلدة التي تقصد إليها واقعة عليها.

وأكثر الأوتموبيلات في لبنان من الطراز الأمريكي، والفورد عظيم الرواج، كذلك تجد الدودج والبويك والهدسن، أما الطراز الأوروبي كالفيات والرينو فنادر جدًّا؛ لأن طرق الجبل عسيرة، ولأن السيارات الأوربية عالية الثمن والبلاد ليست غنية وأهلها أحوج إلى النافع منهم إلى الجميل.

وتصعد الأوتموبيلات من الشاطئ على مستوى سطح البحر إلى صوفر أو إلى ظهور الشوير أو إلى أهدن، أي إلى أماكن ترتفع ما يناهز ألفًا وخمسمائة متر فوق سطح البحر، وتصل إلى هذا الصعود في زمن وجيز لا يتجاوز الساعة ونصف الساعة، وتلك معجزة لمن لم يرها، كيف تتسلق السيارات الجبال الصاعدة إلى السماء؟ كيف يفكر إنسان في زيارة أرز لبنان وهو مطمئنٌّ إلى مقاعده الوثيرة في سيارته حتى يصل إلى بلدة بشرى المرتفعة فوق سطح البحر بمقدار ١٥٥٠ مترًا، وكيف يفكر أهل الجبل في تمهيد باقي الطريق إلى الأرز لتتسلق عليه الأوتموبيلات مرتفعة أربعمائة متر أخرى فوق مستوى بشرى؟ ليس تصور هذا الأمر يسيرًا

لكنك تتصوره وتطمئن له وتُسَرُّ به متى رأيته، فليست سلاسل لبنان ذاهبة في ارتفاعها إلى السماء توًّا من عند سطح البحر، ولست تجد هذا المنظر البديع الذي تجده حين تمرُّ في الرفييرا بفرنسا وبإيطاليا فترى الجبال الشامخة تقوم على شاطئ البحر المتوسط لا يفصل بينهما إلا طريق تمر به العجلات ويجري فوقه الترام، فإذا نظرت عن جانب رأيت الأفق الأزرق الدائم الصفاء، ورأيت فيما بينك وبين الأفق الأمواج المتتالية تتدافع نحو الشاطئ لتنكسر عليه في دوي ورغاء وزبد، وإذا نظرت عن الجانب الآخر حال الجبل دون امتداد النظر فإذا رفعت طرفك كان الجبل دائمًا هو الذي يلقاه حتى يلقى الجبل السماء … لست تجد هذا المنظر البديع في سلاسل لبنان إلا في بعض الطريق ما بين بيروت وطرابلس، فأنت في هذا البعض من الطريق ترى سيارتك تطير بين الماء والصخر على طريق لا تزيد سعته على ثمانية أمتار، ويقابلك أثناءه نفقان يلتقي عندهما البحر والجبر من غير واسطة، على أن بين جبال الرفييرا وهذا القسم من جبال لبنان فرق كبير، جبال الرفييرا رفيعة معطرة بالزهر مختلفة الوجوه ونباتية الصور، أما هذا القسم من جبال لبنان فلا تأخذ رفعته ولا يأخذ عبيره بالنظر، وإنما يأخذ بالنظر منه وجوم واستجمام وتقشف، وقد يكون للوجوم وللتقشف أثر على النفوس لا يقل عمَّا لروعة البهاء والعطر من أثر.

أما سائر سلاسل لبنان فتنبت عند الشاطئ وترتفع رويدًا رويدًا حتى تبلغ غاية ارتفاعها بعد عدة كيلو مترات، فإذا أنت وقفت عند ملتقى الطرق بظاهره بيروت ومددت ببصرك رأيت القرى والضياع منثورة بعضها فوق بعض، ويتسنم بعضها الجبل ويحتمي البعض الآخر بالسفح، فإذا كان موقفك في إحدى ساعات الليل رأيت هذه القرى والضياع أنوارًا يبدو لالأؤها إلى أن تنتهي عند القمم بلقيا نجوم السماء، وكأنها لولا لونها المحمار صورة هذه النجوم انطبعت على الأرض انطباعها على الماء، وكأن القمم هي الأفق الذي تلتقي عنده الصورة بالخيال.

تدرج الجبال في ارتفاعها من الشاطئ إلى القمة هو الذي جعل سير الأوتمبيلات فوق ظهرها ممكنًا. لكن … لا تحسب هذا التدرج هينًا ترتقي وإياه في طريق مطمئن مستقيم يصل بين البدء والغاية كسيرك من شاطئ النيل إلى سفح الهرم، وإنما يتحايل الأوتموبيل على تسلق هذه السفوح تحايلًا، فقد اختط الناس الطرق عليها في صورة شبه حلزونية عجب شكلها، تسير بك السيارة في طريق صاعد وتستمر في سيرتها خمسون مترًا ثم يقابلها الوادي فتدور متسلقة في دورانها كوعًا يمتد بعده طريق يحاذي الطريق الذي كانت تسير من قبل عليه، ولكنه يرتفع عنه ويظل صاعدًا حتى لترى الطريق الأول أسفل منك بمقدار يبلغ في بعض الأحايين خمسة أمتار أو يزيد، ثم لا تمر بك دقيقة أو دقيقتان حتى إذا كوع آخر وإذا الأوتموبيل يتسلق، والويل له إن لم يكن قويًّا، فقد تراه في بعض هذه المواقف (متعسرًا) يرسل البنزين إرسالًا ويفحر في الأرض بعجلاته، ويدور كأنما يدور حول نفسه، ويحدث من الضجة ما يحدثه اللاهث المستغيث، وبينما يدور الأوتموبيل دوراته مسرعًا مرة مبطئًا أخرى تنجلي أمامك السفوح هابطة إلى الوادي مغطاة بأشجار الصنوبر تبدو خضرتها زاهية تحت ضوء الشمس أو قتامًا إذا كانت على السفح المقابل، ويمتد الصنوبر في غاباته جليلًا جميلًا وتتموج هاماته تحت الضوء ويحدث فيها الهواء اهتزازات لطيفة تزيد موجها جلالًا وجمالًا.

اختط بنا الأوتموبيل الطريق من بيروت إلى برمانا، قد أذكرتنا بيروت ساعة نزلناها بحرِّ القاهرة بعدما نسيناه ثلاثة أيام تباعًا فوق سطح البحر، وسار يتعرج في هذه الطرق ويتسلق السفح مسرعًا آنًا مبطئًا آونة، فلما علا فوق منازل بيروت وانكشف البحر وبدت السفوح الخضراء، هَبَّ نسيم رقيق كان يزداد رقة كلما ازددنا ارتفاعًا، وبعد مسيرة نصف الساعة وقف بنا عند نبع ماء تقابله قهوة تدعى الخروبة؛ لأنها واقعة تحت شجرة خروب تظلها، وهناك وجدنا أوتومبيلات سبقتنا تستقي من هذا النبع؛ ذلك أن صعود السيارات يحوجها للماء كي تهدئ ما بجوفها من حرارة تكاد تحرقها.

ونبع الخروبة واحد من ألوف النبوع الموجودة في لبنان، فهذه البلاد لا تعرف ماء النهر، وإنما تتسرب مياه المطر فيها خلال الجبال وتظل تنساب في ثناياها ثم تنبع صافية باردة يشرب منها الناس والدواب وتستقي منها الأوتموبيلات وتدار بها الطواحين.

ومرت بنا السيارة في عين سعادة وبيت مري قبل أن تصل بنا إلى برامانا، وتلك قرى لبنان مثلها مثل سائر القرى، بنيت بيوتها من حجر الجبل، وغطيت سطوحها بالقرميد يسيل من فوقه المطر أثناء فصل الشتاء، وإنك لتدهش لما بين هذه القرى وقرانا في مصر من فرق، حجر بدل اللبن، وقرميد بدل الأحطاب، وتحيط بقرية لبنان سفوح الجبل بأشجارها وينابيعها، وتحيط بقرية مصر المزارع إلا أن تفصل بينهما حاجة الزرع من سماد وبقايا مياه الترع من مستنقعات، وترى في أكثر قرى لبنان من مظاهر المدنية، نور الكهرباء يضيئها في المساء، أمَّا قرى مصر فتحترم ظلمة الليل أشد احترام.

ومعظم الفرق بين القريتين يرجع إلى أن لبنان جبل فالأحجار في متناول أهله، ولبنان مصيف فكل قرية من قراه تسعى لتتجمل كي تجذب إليها أنظار النازحين من مختلف جهات الشرق الأدنى يبتغون الراحة ويبتغون معها ما اعتادوا من ترف الحياة ونعيمها؛ لذلك كانت الكهرباء وكانت الفنادق في القرى … ولذلك كانت ظاهر المنازل جذابًا، وكان في أهل لبنان حفاوة وإسراع إلى النازل بين أظهرهم، فأما مصر فوادٍ يجري النيل خلاله فيدر على أهله من أخلاف الرزق خيرًا وبركة، من طينته المباركة يتخذ أهل القرى منازلهم، وفي تربته المباركة ينفقون مجهودهم، فقريتهم لهم لا لغيرهم، ورزقهم من سعيهم لا من متاع غيرهم؛ ولذلك لم يعنوا بظاهر المنازل ولم يكن الفلاح المصري حفيًّا وإن كان شهمًا كريمًا.

لبنان مصيف الشرق الأدنى، حبته الطبيعة مناخًا معتدلًا ونسيمًا رقيقًا ومنظرًا بديعًا، فاجتمع لديه البحر والجبل وما في البحر والجبل من جمال، يهب عليك الهواء نديًّا غير رطب ورقيقًا غير قارس، وتسرح طرفك حيث شئت فيأخذ به جمال الشجر الباسق تارة وجلال الجبل الجدب طورًا، فإذا كان المشرق أو المغرب أخذت الشمس زينتها لتحية الاستقبال أو لتحية الوداع، وهي تودع لبنان لتغيب في لُجَّةِ البحر تاركة وراءها السحب في سوار من نار وفي قلائد من عقيق وذهب، ولن تراها تضن يومًا بمغيب بديع، فإذا كانت أيام تكامل القمر اشتملت الوديان والسفوح والجبال لجة النور الرقيق الشفاف وامتدت هذه اللجة فانطرحت على سطح البحر وكست موجه حياة ونورًا.

ومن خلال الأشجار وفي قمم الجبال ينبع الماء تارة وينحدر أخرى، وهو في نبعه وفي انحداره نمير رقيق تنبع الحياة حوله ويزيدها بهاء وجمالًا، وهو في رقته وفي تبعثره يشعرك حقًّا أن لا حياة إلا حيث الماء، وأن بلدًا يغيض ماؤه يقضى عليه لا محالة بالجدب وبالموت.

لبنان مصيف الشرق الأدنى … وسويسرا مصيف أوربا … ولبنان يمتاز على سويسرا بالبحر تغرب فيه شمسه، وتمتاز سويسرا على لبنان بالبحيرات تحتفظ بمياه الجبال لتتغذى منها أكبر أنهار أوربا … وبين لبنان وسويسرا فرق آخر هو الفرق بين الشرق والغرب، فحيث سرت في سويسرا رأيت الإنسان سعيدًا للطبيعة ورأيت الطبيعة خاضعة لحكم الإنسان، وحيث سرت في لبنان رأيت الإنسان عبدًا للطبيعة خاضعًا لحكمها، في سويسرا ترتفع إلى قمة الجبل بقوة جذب البخار أو الكهرباء لعربات (الفنيكولير)، وفي لبنان تدور حول السفوح وتسير حيث تأمرك تعاريج الجبل، ثم لا تبلغ بعد ذلك من عليا القمم إلا يسيرًا، في سويسرا تتخطى من سفح إلى سفح وتخترق الجبال أميالًا في جوف النفق، وفي لبنان تدور مع السفح لتهبط إلى الوادي وتعتلي الجبل لتدور حول سفحه كي تهبط إلى وادٍ جديد، في سويسرا ما شئت من شجر وزهر، وفي لبنان أشجار قضت الطبيعة من الأبد أن تكون أشجار لبنان … ترى أي شيء أحب لنفس أهل الشرق: الرضا بالقضاء أم السعي ليمسكوا بيدهم صرف القضاء! هم إلى اليوم بالقضاء راضون، فهل يكون القضاء في غدٍ بهم راضيًا؟

قد يحتاج إخضاع الطبيعة المترامية الأطراف إلى جهد وزمن، وقد يكون الشرقيون في كفاء بما حبت الطبيعة به لبنان من بهاء وجمال، لكن المصطاف يحتاج إلى جانب جمال الطبيعة عيشًا رضيًّا، وذلك أول ما يدور حوله بحثه حين يصل إلى المصيف فيبحث في فنادقه وفي منازله عمَّا يكفي حاجته ويضمن طمأنينته، وهو واجد في لبنان شيئًا غير قليل من هذا، وهو بعد في حاجة منه إلى شيء غير قليل.

٢٢ أغسطس سنة ١٩٢٤

برمانا — بكفيا — اهدن:

في يوم الاثنين الماضي — ١٨ أغسطس — مر بي في برمانا عبد المنعم بك رسلان وعبد العزيز بك رضوان وشمس الدين بك عبد الغفار ومعهم الخواجه أمين عقل ولم أكن أعرفه من قبل، وقد علمتُ منهم أن إسماعيل باشا أباظة مصيف ببيت مري وأنهم ذاهبون لزيارته، فذهبت معهم وقابلناه ومن معه بلوكاندة العجيل، والرجل اليوم في العقد الثامن من عمره قد بلغ به الضعف كثيرًا، وتحدث زائروه في الانتقال من بكفيا حيث يقيمون، فدعاهم إلى بيت مري حيث المنظر جميل والهواء رقيق والاجتماع يحبب في الإقامة، وعرض عليهم صاحب الفندق غرف الفندق، لكنهم رأوا تأجيل البت في الأمر لأنهم كانوا قد اعتزموا السفر إلى اهدن، وعرض عليَّ شمس الدين أن أكون في جماعتهم فترددتُ ثم ذكرت له أن صديقنا الدكتور سامي كمال كان معتزمًا هذه السفرة، وإنني أُسَرُّ إذا كان معنا، وكان الدكتور سامي مقيمًا في ظهور الشوير، فتم الاتفاق على أن نكون جميعًا معًا، وفي يوم الأربعاء وصلني ببرمانا تلغراف من عبد المنعم بك رسلان يخبرني فيه بأن أوتموبيلا سيكون عندي في الساعة الخامسة من صباح الخميس، واستيقظت قبيل هذه الساعة، ووصل الأوتوموبيل وذهبتُ قاصدًا بكفيا في الساعة الخامسة والثلث، وكانت الشمس قد انجلى عنها غشاء المشرق المتورد وسطع نورها، وكان الهواء رقيقًا صفرًا، فجعلت السيارة تتسلل فوق طرق الجبل مختفية مرة وراء أكمة ثم مرتفعة فوق أكمة أخرى، وشجر الصنوبر يتكاثف في بعض الأماكن فيقع النظر منه على غابة تبدو جزوعها ملتفَّة قوية باسقة إلى السماء حتى تظلها رؤوس الصنوبر تتقارب فتبدو للعين كأنها قمة واحدة، ثم تصعد السيارة حتى إذا غابة الصنوبر التي كانت رفيعة أمامك قد صارت إلى جانبك، وإذا بك قد درت حولها في طرق الجبل المتعرجة المثنية الصاعدة وأختها فوق الأخرى تراها كأنها رقاب الجمال في لونها واستدارتها، أو كأنها سرب من الأفاعي انسابت هائمة من عند شاطئ البحر، فجعلت تتسلق الجبال وكأنها يطاردها مطارد، ولا تلبث إلا دقائق ثم إذا غابة الصنوبر قد بدت خاضعة رؤوسها مختفية جزوعها، وهذه الرؤوس الخضراء المتموجة تبدو تحت نور الشمس مطمئنَّة، وتبعث إلى الصدور شذًا رقيقًا لا تكاد تحسه، ولكنك تشعر للُقياه بسرور، فتفتح له كل صدرك وتستنشقه ملء رئتيك، وكذلك ظللت أتسلق الجبل تطير بي السيارة فوق هذه الرقاب الملتفَّة على كتف الجبل، والتي تذرك دائمًا بين الجبل قائمًا من ناحية يحدثك بخضرته ونضارته وبسموه ورفعته حديث الوحدة الساكنة إلى نفسها، وبين الوادي هابطًا في بطن مطمئن تنحدر إليه سفوح خضراء نضرة كلها شجر الصنوبر وكروم العنب والتين، وبلغت بكفيا في الساعة السادسة وأنا موقن أن أصحابي في انتظاري وأنَّا سنقوم توًّا إلى اهدن، لكن أصحابي كانوا لا يزالون نيامًا أو يكادون.

لبنان مصيف الشرق الأدنى، هو كذلك بطبيعة موقعه، فهو وسط بين تركيا والعراق وفلسطين والحجاز ومصر، والمواصلات إليه من هذه البلاد ميسورة سهلة، وأهله يتكلمون العربية التي يفهمها أهل هذه الأمم، وهواؤه معتدل، ومناظره جميلة، والتقاء البحر والجبل عنده يسمح لكل إنسان أن يختار المناخ الذي يناسب مزاجه، تجتمع فيه الفصول الأربع على ما قال أحد اللبنانيين، فهو يحمل الشتاء على رأسه، والربيع فوق أكتافه، والخريف على ذراعيه، والصيف تحت قدميه …

لكن أهل الشرق لم يتجهوا للاصطياف بلبنان قبل الحرب لأن طرقه لم تكن مطروقة، ولأن الحاكمين فيه لم يُعْنَوْا بتمهيد وسائل الانتقال، فكان المصطاف الذاهب إلى ظهور الشوير يقضي سبع ساعات في العربة التي تنقله من بيروت، ومتى بلغ غايته فقد قضي عليه أن يبقى بها وبالقرى المجاورة مباشرة لها حتى يفكر في العودة من حيث أتى، وتلك حال لا تشجع المصطافين، وإذا كان طلب الاصطياف قليلًا كان عرض حاجات المصطاف بالطبع قليلًا كذلك؛ لذلك كان نادرًا في الأزمان الماضية أن تجد فنادق في غير البلاد التي تمر بها سكة الحديد أو القريبة من بيروت، وكان العثور على منزل به من الأثاث ما يكفي حاجات المصطاف أندر كثيرًا.

أما اليوم قد قربت الأوتومبيلات ما بين ربوع لبنان، وشعر اللبنانيون بأن ما حبت به الطبيعة بلادهم الجبلية يجعل الاصطياف ثروتهم الأساسية، وتيسر الطريق فأصبح الوصول إلى لبنان من كل الدول المجاورة لا يحتاج لأكثر من أربع وعشرين ساعة، فقد قصد المصطافون هذه الربوع الجميلة فكثرت الفنادق فيها، وفكر الأهالي في الاستعداد لمقابلتهم، ورأت الحكومة من جانبها تيسير الوسائل لزيادة الإيراد وزيادة الضرائب.

المقام بالفنادق حتم على كل مصطاف، فأنت بها قبل اختيار المنزل الذي تريده لمصيفك، وتنزل بها إذا لم تكن تريد المقام في بلد واحد، والمصطاف يطلب في الفنادق حظًّا من الراحة والمتاع، ويطمع في غذاء جيد وفرش نظيف والأدوات الصحية للراحة والنظافة، وهو يجد في أكثر الفنادق الكبيرة فرشًا نظيفًا ومقابلة حسنة، أما الغذاء فكان موضع شكوى النازلين بأكثر الفنادق هذا الصيف، ولعل ذلك يرجع إلى الفرق في الذوق بين تصور المصري والسوري نفس الطعام، ولعله يرجع أيضًا إلى حرص كثيرين من أصحاب الفنادق على أن يكون لديهم أكبر حظ من الربح في هذا الصيف.

على أن من الناس من لا يُكْبِرُ شأن الطعام، فما أكثر الممعودين، وما أكثر من تمتلئ غرفهم بألوان الحلوى وأصناف الفاكهة! ومنهم من أظهروا الرضى عن طعام الفنادق التي نزلوا فيها، لكنهم جميعًا سخطوا على ما هو عام في فنادق لبنان ومنازلها من عدم وجود الأدوات الصحية بها، فقلَّ أن تجد بفندق أو بمنزل حمامًا منتظمًا كامل الآلة، وقل أن تجد الماء الجاري في المنازل سواء للشرب أو (للقضيان) كما يقول اللبنانيون، وهم يعزون ذلك إلى قلة الماء في الجبل، ولست أرى صحة قولهم وهذه العيون والينابيع تجري طول العام وقليل من عناية الحكومة ومن تضامن الأهالي وتضافرهم كفيل بتوفير الماء لكل الغايات.

واللبنانيون أنفسهم يقدرون الحاجة إلى الماء وإلى الأدوات الصحية ويعملون لسدادها، فقد حضرت حينما كنت في بلدة اهدن اجتماعًا أقامه الأهالي للنظر في إجراء الماء للمنازل من نبع سركيس أو من نبع غيره، وأهالي لبنان إذا تضامنوا نفذوا، وإنك لتعجب إذ ترى في كثير من قراهم التي لا يزيد عدد سكانها على الألفين أو على الثلاثة آلاف نور الكهرباء أجرته بلدية القرية في شوارعها وأدخلته إلى منازلها، وترى عربات الرش تسير في هذه القرى الصغيرة تخفِّف مما تثيره الأوتومبيلات من الغبار، وهي تقوم بالإنارة وبالرش وبما إليهما من وسائل الراحة بأقل ما يمكن من النفقات لأنها لا تريد أن يضيع مال الأهالي إلا فيما يجر عليهم أكبر حظ من الفائدة.

ويزيد الأمل في تقدم لبنان ليكون مصيفًا مختارًا ما تبديه الحكومة من العناية في هذا الشأن، فقد فكرت في عقد مؤتمر طبي يحضره عدد كبير من أطباء مصر ولبنان وسوريا وغيرها ليطوفوا البلاد وليبدوا رأيهم في مبلغ صلاح كل جهة من الجهات المعروفة وغير المعروفة للاصطياف، ولوجود الجراح المصري الكبير الدكتور علي بك إبراهيم بمصيفه في برمانا رأت حكومة الجبل الاستعانة برأيه، فأبدى لهم أن عقد المؤتمر من غير وجود المعلومات الكافية لدى الأطباء الذين يحضرونه لا ينتج الفائدة المطلوبة، فليس يستطيع طبيب أن ينصح لمريض بالذهاب إلى جهة معينة إلا إذا عرف على وجه الضبط مبلغ ارتفاع الجهة عن سطح البحر وتفاوت درجة الحرارة فيها خلال فصول السنة المختلفة وتفاوت درجة الرطوبة كذلك، ثم إن بلبنان ينابيع شتَّى يقال إن لمياه بعضها فائدة شفائية خاصة، وليس يمكن الاعتماد على هذا القول إلا إذا حللت مياه الينابيع في معامل كيمائية حائزة تمام الثقة، فلكي يكون للمؤتمر فائدته يجب أن توجد لدى أطبائه مقادير ارتفاع جهات الجبل المختلفة ودرجات الحرارة والرطوبة فيها، كما يجب أن توجد تحاليل المياه لتعرف فائدتها الشفائية معرفة صحيحة، وقد اقتنع أولو الأمر برأي الطبيب المصري الكبير واستبدلوا فكرة المؤتمر في هذا العام بنزهة طبية يقوم بها عدد من الأطباء لمشاهدة أماكن الاصطياف المختلفة مشاهدة أولية، فإذا كان العام القادم وتوفرت المعلومات الكافية على طريقة علمية دقيقة انعقد المؤتمر فكان لديه من نزهة هذا العام ومن المعلومات التي جمعت له ما يجعل نتائج اجتماعه موثوقًا بها، وما يسمح للطبيب أن يرسل بمريضه إلى الجهة التي تناسبه لا لأن هذه الجهة ناسبت شخصًا آخر من قبل، ولكن لأن ارتفاع هذه الجهة ومناخها وهواءها وماءها صالح له صلاحية علمية مقطوعًا بها.

اقتنع أولو الأمر في حكومة لبنان برأي الطبيب المصري الكبير في أمر المؤتمر كما اقتنعوا برأيه فيما يجب على الحكومة لتوفير راحة المصطاف، ولضمان صحة الأهالي، فأصبح متوقعًا أن تقرر مراقبة غذاء الفنادق والأدوات الصحية بها جعل مجاري وآبار الفنادق والمنازل صماء حتى لا تلوث مياه العيون التي يشرب منها الناس والدواب، فإذا توفر ذلك كله وتوفرت للمؤتمر المعلومات الطبية الصحيحة، وأسفر تحليل مياه بعض العيون عن فائدة شفائية كان مصيف الشرق الأدنى بديعًا حقًّا، وكان إقبال الناس عليه كفيلًا بسعي أهله لإخضاع الطبيعة لهم بدل خضوعهم للطبيعة وفي اجتهادهم للاستفادة من القوى الموفورة لديهم والتي يمكن تذليلها واستخدامها لفائدة السكان ولراحة المصيفين جميعًا.

في لبنان قوى موفورة من انحدار المياه، يقدرون بعضها بما يزيد على عشرين ألف حصان، ولو ضمت القوى المختلفة بعضها إلى بعض لزادت على ما يحتاجه لبنان كله للنور ولسير عربات الكهرباء … أخبرني المحترم الخوري أنطونيوس خوري قصبة بشرى وأرز لبنان أن نبع قاديشا الواقع على مقربة من الأرز ينحدر ماؤه بقوة قدرها في أقل أوقات اندفاعها بستة عشر ألف حصان، وأن شركة تألفت لاستغلال هذه القوة وإنارة سلاسل لبنان الشمالية كلها بالكهرباء من أرفع نقطها عند الأرز إلى مرفأ طرابلس، وأن ما توفر بعد ذلك من القوة يوجه إلى أعمال أخرى، فلو تم هذا المشروع في شمال لبنان وتمَّت مشروعات من مثله في سائر جهات الجبل وعاونت الكهرباء الأوتوموبيلات في قطع نواحي الجبل نجمت على أثر ذلك حاجة للكمال، وقامت أعمال التجديد واستطاع أهل الجبل أن ينفقوا ما لديهم من النشاط المحبوس اليوم على صناعات قليلة وزروع نادرة الثمر، فجعلوا من لبنان جنة الشرق، ووجد المصطاف كل حاجاته وكل ما يطمع فيه من كمال المتاع.

بل لو اتجهت العناية أكثر من هذا كله إلى حجز كمية من المياه الغزيرة التي تتدفق إلى الجبل طول الشتاء لتنمية الأشجار على السفوح الجرداء، ولتنويع ما هو موجود ولإدخال أشجار وأزهار جديدة إذن لفاقت سويسرا ولفاقت التيرول هذه النواحي البديعة التي أغدقت عليها الطبيعة من نعمها، والتي ظلت على حال أليمة من الفقر جعلها باقية اليوم كما كانت منذ القدم، وجعل الأكثرين من أهلها يضطرون للنزوح والهجرة إلى مصر، وإلى أمريكا، وإلى أستراليا طلبًا للعيش وسعيًا وراء الثروة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤