الفصل الرابع

الاقتصاد السياسي وقواعد الأخلاق

لما جاء عصر الإصلاح وبدأ عهد التفكير الحر في أوروبا، وأصبح لمن سوى رجال الكهنوت حق النظر والبحث في الأمور، قام عدد كبير من العلماء يضعون قواعد العلوم المختلفة وفروع تلك العلوم، فانقطع جماعة للفلسفة النظرية، وألَّف آخرون في مسائل الأخلاق، وكتب غيرهم في السياسة، ووضع جماعةٌ القواعد لعلم الاقتصاد السياسي، ومع تقارب هذه العلوم واتصالها فقد أطلق كل كاتب لنفسه العِنان في السبيل الذي اختط طريقه غير مهتم بما يقال في العلوم الأخرى، ولا يتعارض نظرياتها مع النظريات التي يضعها هو في علمه أو فنه، وأصبح كل منهم معتمدًا على دقته في المنطق الاعتماد كله، مؤمنًا بالنتائج التي يصل إليها، معتبرًا إياها القواعد والقوانين التي لا سبيل لنقضها والتي تعبر عن حقيقة الواقع في الحياة، فإذا اُعترِضت سبيله بنظرية أخرى في علم غير الذي يبحثه قال لك إن الوجود العام لا يستحيل معه التناقض، بل هو بعض مشتملاته، وإنه لذلك لا يعبأ باعتراضك، ويطلب منك إذا أردت مناقشته أن تأخذ نظريته كلها بناءً واحدًا، فإذا وجدت فيما بين أجزائها تناقضًا كان لك أن تؤاخذه به، وكان ذلك الشأن يتبع أيضًا فيما بين علماء الاقتصاد السياسي وعلماء الأخلاق، فالأولون يقولون إن نظريات علمهم ترمي لغرض خاص هو استفادة الإنسان بالحظ الأكبر من المال، أو بعبارتهم الخاصة أن علمهم هو العلم الذي يستظهر القوانين التي تضبط حاجات الإنسان في علاقاته بالمادة المقومة التي هي المال، وسواء لديهم أكانت هذه القوانين متفقة مع قواعد الخلق أو متعارضة معها؛ فإنهم لا يحجمون عن تقريرها، والعالم الأخلاقي بعد ذلك وشأنه في علمه الخاص ببيان أكمل الروابط التي تضمن بقاء الاجتماع الإنساني سعيدًا بالخير والحق، وكان ذلك الشأن أيضًا شأن علماء الأخلاق الذين كانوا يهتمون ببحث الصورة الأخلاقية الكاملة للإنسانية، ولو أدى وجودها على هذه الصورة لأن تكون مفلسة اقتصاديًّا تمام الإفلاس.

وقد وجه الاقتصاديون الأولون أكبر همهم إلى إقامة البناء الاقتصادي على أساس من فكرة المصلحة الذاتية التي يجب تركها وشأنها، تتكون وتنمو وتنتج كل ثمرها من غير أن يقف في وجهها مانع من قانون أو عائق من أي نوع كان، فتَحَكُّم المصلحة الذاتية في الأعمال والعلاقات الإنسانية هو، عند آدم سمث ومن تقدمه ومن سار على سنته، الضمان الوحيد لوصول الأفراد والأمم إلى الأوج من الحياة الاقتصادية، وكل شيء يقف في وجه هذه المصلحة الذاتية وحركتها لا يمكن أن يكون خيرًا اقتصاديًّا، ولو استطاعت الجماعات والأمم أن تصل لتلغي كل القوانين وتعيش مضمونة السلم من غير حكومة، لكان إلغاء القوانين وانهيار الحكومات أكبر تقدم اقتصادي في نظر الفرديين يمكن للإنسانية تحقيقه.

ولا يحسبن أحد أن في تحكيم المصلحة الذاتية للأفراد ما يضر بحال الجماعة الاقتصادية؛ لأن المصالح الفردية تتقابل آخر الأمر وتكون مصلحة الأمة، وما دام الفرديون قد جعلوا المصلحة الذاتية أساسًا فهم بذلك قد حرضوا كل فرد على أن يعمل أكثر ما يمكن، وبذلك تجني الجماعة أكبر مجموع ممكن من الجهود.

لكن تحكيم المصلحة الفردية يضعف الحال الأخلاقية حيث يجعل المبدأ السائد مبدأ تبرير الغاية للواسطة، وما دمتم يا سادتنا الفرديين تريدون تحديد القانون والحكومة وجعلهما مجرد شرطة لمنع الاعتداء الظاهر؛ فإنكم ستجعلون الغلبة في الحياة للماكرين والمخادعين والسفلة والمنافقين، كما أن ما يترتب على نظريتكم من مناصرة الملكية الفردية إلى أقصى الحدود سيحقق ظلم طائفة المُلَّاك والرأسماليين لطائفة العمال والمفكرين ظلمًا فادحًا، وستدسون بذلك في الروح العامة معنى الانقسام والنضال بدل تحقيق فكرة التعاون والتضامن، وستجنون بذلك على الإنسانية وأنتم لا تشعرون.

قال الانفراديون أول ما وجِّهت لهم هذه الاعتراضات: ما تلك إلا أوهام أخلاقيٍّ ينظر للنجوم ولا يقدر للقوانين الطبيعية حسابها، إنِّا يا سيدي الأخلاقي علماء نستنبط قوانين الطبيعة ونطبقها، ولا يهمنا ما تقول لأنه ليس من شأننا، وهذه القوانين تدلنا على أن المصلحة الذاتية هي الدافع الأول والأخير للعمل في الحياة، وكل منَّا مسوق للتقاعس فلا ينفق إلا أقل مجهود تستلزمه أحوال المعيشة، وما لم يكن هناك دافع داخلي يحرض على العمل هو دافع المنافسة قلَّت المجهودات التي تُنفَق وتدهورت أحوال الأمة الاقتصادية، وكل مداخلة خارجية يمكنها أن تحدد المجهود الفردي هي لذلك ضرر يجب استئصاله ومقاومته.

وما دمنا قد سلمنا بهذا الأساس فيجب أن نرتب عليه جميع نتائجه: الملكية الخاصة، وربح رأس المال، وإيجار الأرض، وكذلك أجرة العامل، وحرية التعاقد الفردي بشأن ذلك كله، والميراث عند عدم الوصية.

المـال

كل ما في الوجود من تعس وشقوة، وكل ما يُرتكب من جرائم وفظائع، وكل ما تتلوث به النفوس من رذائل ودناءات سببه المال، ليس ذلك لأن المال شر لذاته، لكنه وسيلة الخير والشر معًا، فلما اختص به قوم دون آخرين سوَّلَت لهم نفوسهم أن يرتفعوا به عن مصافِّ مَن حُرموا منه، فكان النضال وكان التنافس على أتعس صوره وأدناها.

ولو أن المال كان كالهواء والماء يتمتع الناس به جميعًا كل حسب حاجته، وإلى مدى هذه الحاجة فقط؛ إذن لرأيتهم يُعْنَوْنَ بطهارة المال عنايتهم بنقاوة الهواء، ثم يعود ذلك عليهم بالخير والبركة، ولكان لهم جميعًا من بحبوحة العيش متسع.

بعض إصلاحات ٢٢ إبريل سنة ١٩١٩

يجب السعي وراء استئصال داء بدأ يستفحل هو سوء تقسيم الملكية؛ فقد أصبحنا نرى في كل جهات القطر صاحب آلاف الأفدنة من ناحية والعمال البسطاء جدًّا من ناحية أخرى، والعهد الماضي الذي وجَّه عناية كبرى إلى ما يسمى تحسين الحال المادية، والذي خلق أسلحة شتى لأرباب الأموال لم يُعْنَ مطلقًا لا بتربية الروح العامة ولا بمعرفة الأعمال النافعة من الوجهة الفعلية أو الأدبية ولا بتربية الفلاح، ولما كانت البلاد لا تحتمل تغييرًا فاحشًا في نظامها بسبب الجمود الذي أوصلها إليه العهد الماضي وجب إجراء بعض تغييرات للإسراع بالسير في سبيل الإصلاح، من هذه التغييرات ما يأتي:
  • أولًا: حل جميع الأوقاف الأهلية وجعلها مملوكة لمستحقيها حالًا، كل على نسبة الاستحقاق الذي له، عدا إبقاء الخمس منها ينصرف ريعه حالًا إلى جهة البر المحددة في حجة الوقف، مع مراعاة الضوابط الآتية فيما يتعلق بذلك.
  • ثانيا: ينظر في جهة البر الموجهة إليها الأوقاف الخيرية، فإذا كانت خارج القطر وجب تحويلها إلى جهة في داخل القطر عدا أوقاف الحرمين، أما إن كانت داخل القطر فينظر في فائدة الجهة ومقدار مصلحتها، فإن تبين أن هناك فائدة منها ومصلحة عامة فيها بقي الريع موجهًا لها، وإن تبين أن لا فائدة منها يعين من الوقف ما يفي بحاجتها، ثم يحول الباقي إلى جهة ذات فائدة ومهمة للمصلحة العامة، مثال ذلك الأوقاف الموجهة إلى بعض المساجد؛ فإن هذه يعين منها على مقدار حاجة المسجد، والباقي يوجه ريعه إلى جهة أخرى كالأزهر أو كالجامعة المصرية أو كتعميم التعليم الابتدائي أو كأن تخلق حلقات علم في هذا المسجد نفسه.
  • ثالثًا: تتبع في الضريبة العقارية الطريقة النسبية، فالعشرون فدانًا الأولى يؤخذ عنها عشرة في المائة من الريع، وما زاد على ذلك إلى مائة فدان يؤخذ منه خمسة عشر في المائة، وما زاد إلى ثلاثمائة عشرون في الماية، وما زاد إلى ستمائة خمس وعشرون في المائة، وما زاد إلى ألف ثلاثون في المائة، وإلى ألف وسبعمائة وخمسين أربعون في المائة، وإلى ثلاثة آلاف خمسين في المائة، وإلى خمسة آلاف خمس وستون في المائة، وما زاد عن ذلك خمس وسبعون في المائة.
  • رابعًا: تؤخذ الضريبة العقارية على المنازل في المدن على النسبة المقومة بالنسبة لقيمة المنزل على اعتبار أن كل مائة جنيه توازي فدانًا.
  • خامسًا: تؤخذ ضرائب على الإيرادات بالنسبة للمشتغلين بالمهن وللمحلات التجارية أيًّا كان نوعها على اعتبار إيراد الفدان عشرة جنيهات.
  • سادسًا: يسار في طريقة الضرائب الجمركية على مبدأ المساواة بين جميع الأمم وحماية المصنوعات المصرية.
  • سابعًا: التعليم الأولي مجاني إجباري إلا لمن أثبت أن أبناءه ذكورًا أو إناثًا يتعلمون بمصاريف في إحدى المدارس، ومدة التعليم ست سنوات ابتداء من السادسة إلى الثانية عشرة: السنتين الأوليين يكون التعليم فيهما أربع ساعات كل يوم وساعتين رياضة، والسنين الباقية يكون التعليم فيها أربع ساعات وأربع ساعات عمل يدرس في الزراعة أو في أجدر الصنائع.
  • ثامنًا: تسري الضرائب على الأجانب إذا كان لها مثيل في الأمة التي ينتمون إليها بمجرد صدور قانون على الأهالي بها، أما إن لم يكن لها مثيل فتمر بالهيئة التشريعية الخاصة بنفاذ القوانين المصرية على الأجانب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤