الفصل الرابع

زهر الربيع

إنما الشعرُ نغْمةٌ
كحنينِ المزامرِ
يرفع النفسَ سحرُهُ
عن وهادِ الحقائرِ
يُبلغ النفس أُفْقها
كجناحٍ لطائرِ
يفتح النفسَ ضوءُه
مثل ضوءِ التباشرِ
مثلما يفتحُ الصَّبَا
حُ زَهِيَّ الأزاهرِ
من قصيدة «أغاريد شاعر» لصاحب الديوان

مقدمة فى الشعر لصاحب الديوان

إن وظيفة الشعر في الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود ومظاهره. والشعر يرجع إلى طبيعة التأليف بين الحقائق. ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الشاعر بعيد النظرة، غير آخِذٍ رواء المظاهر، مأخذه نور الحق. فيميز بين معاني الحياة التي تعرفها العامة وأهل الغفلة. وبين معاني الحياة التي يوحي إليه بها الأبد. وكل شاعر عبقري، خليق بأن يُدْعَى متنبئًا، أليس هو الذي يرمي مجاهِلَ الأبد بعين الصقر، فيكشف عنها غطاء الظلام، ويرينا من الأسرار الجليلة ما يهابها الناس، فتغرى به أهل القسوة والجهل؟

كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله. والشاعر أبلغ قصائده.

الشاعر هو الذي لا يعيش مثل أكثر الناس، مقبورًا في الأحوال التي تحوطه، هو الذي إذا عاش، كان له من شاعريته وقاء من عداء قتلى المظاهر. فإذا مات كانت الشهرة زهرة على قبره. فإذا لم تسعده الشهرة، هبطت روح الطبيعة على قبره، تظلِّلُه بجناحها، وتفرِّخ فوقه أبناءها الشعراء. تلك الأرواح التي تستمد الوحى من عظامه، وتسقيه من دموع الرحمة والحب والحنان.

وليس الشاعر الكبير من يُعْنَى بصغيرات الأمور. ولكنه الذي يُحَلِّق، فوق ذلك اليوم الذي يعيش فيه، ثم ينظر في أعماق الزمن أخذًا بأطراف ما مضى وما يُسْتَقْبَل. فيجيء شعره أبديًّا مثل نظرته. وهو الذي يلج إلى صميم النفس فينزع عنها غطاءها. وهو الذي إذا قذف بأشعاره في حلْق الأبد ساغها. فعَيْب شعرائنا جهْلهم جلالة وظيفة الشاعر. لقد كان بالأمس نديم الملوك، وحلية في بيوت الأمراء. ولكنه اليوم رسول الطبيعة ترسله مزودًا بالنغمات العِذاب، كي يصقل بها النفوس ويحركها، ويزيدها نورًا ونارًا، فعِظَم الشاعر في عِظَم إحساسه بالحياة، وفي صدق السريرة الذي هو سبب إحساسه بالحياة. وإذا رأيت شاعرًا يأخذ الحقير مأخذ الجليل من الأمور، ويحسب الحوادث الصغيرة من الحوادث الكبيرة، فاعلم أنه ضئيل الشعر. فإن ضئيل الشعر يغتر بضجة الحوادث، ولا يعلم أن حوادث النفس على صمتها أجلُّ الحوادث.

سُئل وردزورث الشاعر الإنكليزي عن شِعْر شاعر، فقال: إنه ليس من الحتم في شيء. فكأنه يقول: إن أَجَلَّ الشعر ما يخاله المرء قطعة من القضاء، لا بد من حدوثها. فإذا أردْتَ أنْ تميِّزَ بين جلالة الشعر وحقارته، فخذ ديوانًا واقرأه. فإذا رأيت أن شعره جزء من الطبيعة، مثل النجم أو السماء أو البحر، فاعلم أنه خير الشعر. وأما إذا رأيتَه وأكثره صنعة كاذبة. فاعلم أنه شر الشعر، فالشعر هو ما اتفق على نسجه الخيال والفكر إيضاحًا لكلمات النفس وتفسيرًا لها.

فالشعر هو كلمات العواطف والخيال والذوق السليم. فأصوله ثلاثة متزاوجة، فمن كان ضئيلَ الخيال أتى شعره ضئيل الشأن. ومن كان ضعيف العواطف أتى شعره ميتًا لا حياة له. فإن حياة الشعر في الإبانة عن حركات تلك العواطف. وقوَّته مستخرَجة من قوَّتها، وجلاله من جلالها. ومن كان سقيم الذوق، أتى شعره كالجنين ناقص الخلقة. غير أن بعض الناس يحسب أن سلامة الذوق في رصف الكلمات؛ كأنما الشعر عنده جَلَبَة وقَعْقَعَة بلا طائلِ معنًى. أو كأنما هو طنين الذباب. ولا يكون الشعر سائرًا إلا إذا كان عند الشاعر مقدرة على التأليف بين اللفظ والمعنى. ولست أعجب من أحدٍ عجبي من الأدباء الذين ينظمون الشعر في مواضيع تَطْلُب منهم الكتابة فيها. فينظمون من أجل إرضاء من سألهم ذلك. كأنما الشاعر آلة وزْنٍ. ولكن الشاعر هو الذي لا ينظم حتى تنوبه تلك النوبة التي تدفعه إلى قول الشعر، بالرغم منه، في الأمر الذي تتهيأ له نفسه.

قد أصبح الشعر عندنا كلمات ميتة، ليس تحتها طائل معنًى. يحسب الناس أنه إذا أخذ من النحو والصرف والعروض كفاية، وأصاب من طرف الشعر غاية؛ فقد أجاده. وإنما الشعر كلمات تخرج من النفس بيضاء مشبوبة. وكما أن العاطفة تُنْطِق الشاعر، كذلك قد تُخْسِرُه شِدَّتُها. ومن أجل ذلك كانت ذكرى العاطفة والتفكير فيها شعرًا. وإنما نعني الذكرى التي تعيد العاطفة، والتفكير الذي يحييها. وليس شعر العاطفة بابًا جديدًا من أبواب الشعر، كما ظن بعض الناس، فإنه يشمل كل أبواب الشعر. وبعض الناس يُقَسِّم الشعر إلى أبواب منفردة. فيقول: باب الحكم، وباب الغزل، وباب الوصف … إلخ. ولكن النفس إذا فاضَتْ بالشعر أخرَجَتْ ما تُكِنُّه من الصفات والعواطف المختلفة في القصيدة الواحدة. فإن منزلة أقسام الشعر في النفس كمنزلة المعاني من العقل. فليس لكل معنًى منها حُجْرة من العقل منفردة، بل تتزاوج وتتوالد فيه. فلا رأيَ لمن يريد أن يجعل كلَّ عاطفة من عواطف النفس في قفص وحْدها.

ومن القراء فئة كأنها تريد أن تشم من شعر الشاعر رائحة الدسم، وأن يملأ شعره بطون أفرادها لا عقولهم. كأن النفوس تقاس بالدرهم والدينار. وكأن الشعر لا يوزن إلا بالرطل والأقة! وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي، ويعني شعر الحوادث اليومية، مثل: افتتاح خزان، أو بناء مدرسة، أو حملة جراد، أو حريق، أو زيارة مَلِك، أو حفلة في نادي الألعاب، أو مجيء طيار؛ فإذا ترفَّع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية، قالوا: ما له؟ هل نضب ذهنه، أم خَبَتْ عاطفتُهُ، أم دجا خياله؟ ويجعلون منزلة الشاعر على قدْر عدد قصائده في تلك الحوادث! فإذا نظم أحدهم قصيدتين في الجراد، كان عندهم أعلى منزلةً ممن نظم قصيدة واحدة، وليس أدل على فوضى الأدب وفساد ذوق الجمهور من هذا الهراء. كأنما الشعر جريدة منظومة، أو كأنما الشاعر مصنع لصنع الأوزان. وإنما الشاعر هو الذي يحاول أن يبلغ إلى أعماق النفْس، وأن يضرب على كلِّ وتر من أوتارها، والذي تسمو معه النفس عن تلك الحوادث إلى سماء الشعر فينشقها نسيمه وينعشها بنفحاته، ويسمعها من ألحانه، ويريق عليها من ضيائه ما يرفعها عن منزلة البهم إلى منزلة الآلهة.

وهناك فئة تريد من الشاعر أن يكون أكثرُ شعْرِه تكلُّفًا للحكمة. فيأتي بأمثال من بطون الكتب، وأفواه العامة، نصفها حق ونصفها باطل. ثم يصوغها شعرًا من غير أن يكون قد أحس لذْعها في ذهنه، ولا شعر بقيمتها. وشرُّ الحكمة التي يتكلفها الوزانون. وإنما حكمة الشاعر تبدو في كل قسم من أقسام شعره سواء الغزل والوصف والرثاء … إلخ فإن شعر الشاعر مهما اختلفت أبوابه ينبئ عن نصيبه من التفكير. وحكمة الشاعر تجاربه وخواطره في الحياة. تلك الخواطر التي ينضجها الشعور والتفكير. والشاعر لا يسير على رأيٍ واحد لا يتعداه. فإن المذاهب الفلسفية أزياء تأتي وتروح مثل أزياء باريس. والنفس أعظم من أزيائها. ولكل حالة زيٌّ والشاعر لا يعبر عن عاطفة واحدة، أو نفسٍ واحدة، بل يعبر عن عواطف متغايرة، ونفوس متباينة. فلا رأيَ لمن يريد أن يقيِّده بمذهب من مذاهب الفلاسفة يذود عنه ويتعصب له. فإن الشاعر يرى جانب الصواب من كل مذهب، ويعبر عن كل نفس.

ولقد رأيت بعض القراء لا يفهم منزلة الغزل في الشعر. إن مزية الغزل سببها أن حبَّ الجمال حبُّ الحياة. وكلما كان نصيب المرء من حب الجمال أوفر، كان نصيبه من حب الحياة أعظم. وحب الحياة والجمال من العوامل الاجتماعية القوية التي تزجي الأمم إلى التفوق والاستعلاء. ولا أعني بالغزل غزل الشهوان، بل الغزل الروحاني الذي تَرَفَّعَ عن أوصاف الجسم. إلا ما بدا للروح أثر فيه. والحب أعلق العواطف بالنفس. ومنه تنشأ عواطف كثيرة، مثل البغض أو الود أو الرجاء أو اليأس، أو الحسد أو الندم، أو الشجاعة أو حب العلاء، أو الجود أو البخل. ومن أجل ذلك كان للغزل منزلة كبيرة في الشعر، من حيث هو جماع العواطف، ومظهر دروسها. فالغزل يعبِّر عن جميع العواطف النفسية. ومن حيث إنَّ حب الجمال حب للحياة ترى فيه آراء الشاعر، وكل ما يعتوره في الحياة من الخواطر، ويصيبه من التجارب. وكل ما يسمو إليه فِكْرُه أو يحنُّ إليه قلبه، وكل ما يعالجه من أساليب الحياة، وهذا الغزل الذي هو واسطة القلادة، وسلك العقد، وروح الشعر، ليس من شروطه تعليق العاطفة بفرد من أفراد الناس، وقصرها عليه. وإن كان ذلك أدعى إلى ظهروها. فإن الغزل الذي نعنيه سببه العاطفة التي تجعل المرء يحس الجمال إحساسًا شديدًا في جميع مظاهره، سواء جمال الوجوه والأجسام، أو جمال الأزهار والأنهار، أو جمال البرق في السحاب، أو جمال الليل ونجومه، أو الصباح ونسيمه، أو جمال النفوس والأخلاق، أو جمال الصفات، أو الحوادث والوقائع، أو جمال الخيالات التي يخلقها الذهن. وليست محبة الفرد للفرد إلا مظهرًا من مظاهر هذه العاطفة الواسعة التي تحنو على كل جمال يُسْتَجْلَى في الحياة. وهذه العاطفة الشعرية تُفِيضُ ضياءها على كل شيء، حتى على جوانب الحياة المظلمة الكريهة. فتحبوها جمالًا فنيًّا؛ مثل جمال الصورة البديعة التي يُعْجِبُ المرءَ جمالُها الفني، حتى ولو كانت صورة مذبحة، أو جمال الأنغام الحزينة التي تذيب القلب. والشاعر الناسب مثل المصوِّر. إنما يستملي من صور الملاحة التي في ذهنه، ولقد سئل جيدو ربني المصور الإيطالي: من أين لك هذه الخلق المليحة التي تُودِعُها صورك؟ فقال لسائله: انظر! ثم أتى بشيخ قبيح وأجلسه أمامه نموذجًا، ورسم صورة فتاة مليحة، كأنما قد جمعت بين جمال الملائكة وجمال الحور. ثم قال: «أترى في هذا الشيخ الدميم مثل هذا الجمال؟ نحن أصحاب الفنون نحمل في نفوسنا دنيا أجمل من هذه الدنيا.» وما يُدْرِينَا لعل قيسًا بن الملوح كان يشبب بليلى التي في الدنيا التي في نفسه، لا بليلى العامرية.

كان جيتي الشاعر يقدِّر الأشياء والناس، بقدر ما يستفيد من رؤيتهم ولقائهم من صفات الشعر ومواضيعه، وعواطفه وقصصه وبواعثه. فإذا رأى عجوزًا تسعى، أو شيخًا هرمًا أو فتاة أو طفلًا أو فقيرًا أو غنيًّا … إلخ. عدهم كلهم بواعث من بواعث الشعر، مهما اختلفت صفاتهم. وكان يخزن من رؤيتهم ما اكتسبه لساعة الشعر والإلهام. فإن رؤيتهم تبعث على التفكير وتُوقِظ الملكة الفنية؛ أو كأنما رؤيتهم رِيحٌ تهيج أمواج نفس الشاعر فيعلوها درُّها وأصدافها، وكذلك يهيج الشاعر إلى الشعر لذاته وآلامه. فيصوغ الشعر من لذَّاته وآلامه وآماله، كما يصوغه من لذَّات الناس وآلامهم وآمالهم.

الباحث الأزلي

مقدمة

قد صَوَّرَ كثيرٌ من المفكرين والشعراء حياة الإنسان عصرًا بعد عصر، كأنها حياة إنسان واحد، أو كأنها بحثٌ مُتَّصِل دهرًا بعد دَهْر. وهذا البحث هو ما يزكون به حياة الإنسان، وما يعذرون به شقاءها وآلامها، ويأملون آمالًا كبارًا من وراء تقلُّب الإنسانية في بحث الحياة. ومن هذه الآمال رجاؤهم أن يعم الشعور بوحدة الإنسانية على اختلاف الأجناس والشعوب، والمطامع والضرورات والمطالب والنزعات النفسية، ويأملون إذا عم هذا الشعور بوحدة الإنسانية أن يقلل الإحساس العام بوحدتها، من البغضاء والشرور والحروب، والآلام والجشع، وأن يؤدي إلى التعاون على الحياة، بدل التقاتل عليها. وهذا البحث الإنساني المستفيض دهرًا بعد دهر للحياة، وما يدعو إليه من الإحساس بكل شعور وكل حالة من الحالات، كي يعم مبدأ وحدة الإنسانية، هو الذي دعا إلى تخيل إنسان يعيش دهرًا بعد دهر في كل حال وفي كل مكان، حتى يملأ العطف قلبه ويرى أن نشدان الحق غاية الحياة. وعلى فرض أن هذا الأمل الكبير في أن يعم، فإن بقاءه كَمَثَلٍ أعلى مما يخالط مرارة الحياة بحلاوة منه.

وعلى فرض أن المثل الأعلى لا يكون في تحقيق وحدة الإنسانية، ففي القصيدة مثل آخر وهو أن نشدان الحق هو الشعلة المقدسة التي ينبغي أن يرعاها الفرد، وأن ترعاها الإنسانية عامة.

بينما كنتُ سائرًا لاح شيخٌ
ذو سكونٍ ونظرةٍ هوجاءِ
ويكاد الضياءُ ينفذ مِنْهُ
فهْو بين الأنام صِنوُ الهواءِ
باحثٌ في السماء يطلب شيئًا
غاب عن عين غيره في السماءِ
وهْو فينا جزء من الزمن الأوَّ
ل ذكرى لسالف الآباءِ
وجهه رائعٌ كوجه أبي الهَوْ
ل رأى ما مضى على الغبراءِ
قلتُ: يا شيخ ما دهاك وما شأ
نُك بين الأموات والأحياءِ؟
قال: مَنْ يدرس الحياةَ طويلًا
لَخليقٌ بضحْكة الجهلاءِ
كنت والكونُ في الطفولة أغدو
وشَبابُ الأيامِ في الغُلواءِ
وصرعتُ المنونَ حتى لأَنسا
نِيَ طولَ الحياة حُكْمُ الفناءِ
دُوَلٌ قد أتتْ وأخرى تقَضَّتْ
وبقائي بين الأنام بقائي
وشهدتُ الصروفَ مِن قبل عادٍ
والمنايا تَجرُّ ذيْل العَفَاءِ
أنْشُدُ الحقَّ لست أَلْوِي إِلى البا
طل فالحق يُطَّبى بالرجاءِ
عشتُ دهري بالبحث والأمل الحُلْـ
ـوِ ولولاه لم أَفُزْ بالنجاءِ
من سهام المنون إِن سهام الْـ
ـموت فينا كثيرة الإِصماءِ
هِمْتُ يومًا من قريتي أنشد الحقَّ
لعلي أراه في الدهماءِ
عِفْتُ بيتي وبلدتي وهجرت الْـ
أهل أبغي ريَّ النفوس الظماءِ
ظمأُ النفس مثلُه ظمأ الجسـ
ـم وداءُ النفوس كالأدواءِ
زعمَ الناس بي الجنونَ وخالوا
طالبَ الحق أَخرقَ الأحياءِ
كلما لاح شامخٌ قلت إِن الْـ
ـحقَّ يغدو مِنْ خَلْفِه بإِزائي
وَرَعَيْت الظماء عَلِّي أراه
خارجًا من سائر الظلماءِ
وجزعتُ الصحراءَ أرجو لقاءً
منه يُرجى في وحدة الصحراءِ
ولكم غُصْتُ في العُبَابِ عليه
إِنما الدرُّ منه في الأحشاءِ
وَأَثرتُ الأصداء أبغي جوابًا
لسؤالي في منطق الأصداءِ
وسألتُ الرياح فصُمَّت
عن دعائي فلا تُجِيبُ دعائي
وسألتُ السماء تبرز وجهًا
منه يَبْهَى في الأفْق جَمَّ الضياءِ
وأعارتْنيَ الطيورُ جناحًا
أرتجي منه لُقيةً في الفضاءِ
طالما خاب ناشد الحق لكنَّ
رجائي كما عهدتُ رجائي
قد يجيء الصباح منه بوجهٍ
طالما كان مُضْمرًا في الخفاءِ
أو تُبينُ الأحلام منه ضياءً
في سماءِ الأحلام مثل ذُكاءِ
قد صحبت الأنام طرًّا كأنِّي
بينهم في تلوُّن الحرباءِ
كان لي نوح في السفينة خِدْنًا
فنَجَوْنَا من مُهلِكِ الأَنْواءِ
وحباني أشورُ في نَيْنَوى العُظْـ
ـمى بِسَيْبٍ من جوده وثناءِ
ورآني فرعون أُقدم في الجيـ
ـش مُشِيحًا ورافعًا للواءِ
وتجلَّى آمون في معبد الأقـ
ـصر يقضي في شَعْبِهِ بالقضاءِ
ولَكَمْ جُلْتُ في أثينا وأفلَا
طون يتلو فصاحةَ الحكماء
ورأيتُ الرومان في رومة العُظْـ
ـمى عظام الأعمالِ والأهواءِ
وصحبتُ المسيح في القُدْس دهرًا
وحباني من روُحهِ بالصفاءِ
وعبدت النيران قِدمًا ولكنْ
قد سما بي الإيمان للسمحاءِ
وَحمدت النعيم والترف الْوَا
فر قدمًا في صحبة الخلفاءِ
وَحسوتُ النعيم والبؤس حتى
لم أَدَعْ كأسَ لذةٍ أو شقاءِ
وصحبتُ العبيد في ظُلُمات الْـ
ـعَيْشِ حتى جُنِنْتُ بالضَّرَّاءِ
وألِمْتُ الآلام طرًّا وَلُقِّيـ
ـتُ عذابًا أُتيح للتعساءِ
وصحبتُ الوحوشَ في البيدِ حتى
أَنِسَتْ بي الوحوش في البيداءِ
وأرقت الدماء في الحرب حتى
جُنَّ قلبى من نشوة الهيجاءِ
لم أَدَعْ خطرةً أتيحتْ ولا معـ
ـنًى ولا فكرة من الآراءِ
أو شعورًا أو هاجسًا أو طموحًا
لا ولا مشهدًا تَرَكْتُ لرائي
أنشد الحق بالتقلُّب في العيْـ
ـشِ وأبغي سريرة الأشياءِ
أنت أيضًا شهدت هذا جميعا
غير أن لا تُعَدَّ في الفطناءِ
قال ما قال ثم غاب عن العَيْـ
ـنِ كما يخفت الصدى في الهواءِ!

سمو النفس

أهبتُ بحزمي فلم تسمعي
وعفتُ الطماحَ فلم تردعي
فيا نفس حتَّامَ هذا الطموح
وخيرُ المكاسب أن تقنعي
فإِن عزاءً يريح النفو
سَ خيرٌ من الأملِ المطمعِ
يعفُّ الأبيُّ وليست تعفُّ
ذواتُ المخالبِ والأربعِ
ولو قد زهدت طلاب الحطام
لأشقاك حبُّ العلا الأرفعِ
هممتِ بكسبٍ فلم تبلُغِي
ورُمْتِ الكمالَ فلم ينْفَعِ
وخفتِ المقادير في ظلمها
وأشقاكِ يا نفسُ أن تخضعي
وأشقاك أن قيودَ المقابِـ
ـحِ غُلَّتْ عليك فلم تُصدعِ
فأصبحتِ فيها كطير الحبائـ
ـل رمت الخلاصَ فلم تُرفعي
وحرٍّ أوام لورد الفضائـ
ـلِ باقٍ على الدهرِ لم ينقعِ
رِدي العيشَ يا نفسُ لا تأنفي
وجوبي المقاديرَ لا تخشعي
فكلُّ حياةٍ إِلى منتهًى
وكلُّ شقاءٍ إِلى منزعِ

حديقة الصيف

هي برءٌ من العشَى
وشفاء من الكبرْ
وهي للشيخِ مبعثٌ
للأمانيِّ والذكرْ
وهْي للطفل ملعبٌ
فيه ملهًى على غَرَرْ
وهْي للبائس الحزيـ
ـنِ ملاذٌ من الفكرْ
وهْي للعاشقين ظِـ
ـلٌّ ظليلٌ ومُستترْ
في رياضٍ من المنى
وأمانٍ من الزَهرْ
حيثُ تلهو العيونُ في
نزهة النفس والبصرْ
قم بنا ننثر الزهو
ر على صفحة الغُدُرْ
هذه الغيد في الغديـ
ـر جلت صفحة القمرْ
غرَّدَ الطيرُ قائلًا:
فازَ بالحسنِ مَنْ نَظَرْ
وثمارٌ قطوفُها
تتدلى من الشجرْ
والغواني حديقةٌ
ملؤُها الزهر والثمرْ
وهجيرٌ كأنه
لهبُ النارِ يَسْتَعِرْ
يدعُ المرءَ ناعسًا
فاتِرَ النُّطْقِ والنَّظَرْ
يدعُ المرءَ ناعمًا
نائم الهمِّ والفكرْ
إِنما الصيف زينةٌ
غضَّةُ الحسنِ والأثرْ
تلبس الأرض حسنها
بعد ما غاب واستتر
وتراءى لعاشقٍ
عَبَدَ الحسن ما ظهرْ
ينتشي المرءُ كُلَّما
نال من نشرها العطرْ

مصارع النجباء

لو كنتَ ذا روح عظيمٍ همُّهُ
لَعَذَرْتَني في لوعتي وبكائي
تغدو وهمك في الحياةِ حطامها
إِنَّ النفوسَ قرارةُ الأدواءِ
ليس السعادةُ كنزَ كلِّ فضيلةٍ
فاذهب لشأنك لا يصبك شقائي
للمالِ والجاه العريضِ عصابةٌ
وعصابة لمصارع النجباءِ
ففتًى وحيد لا أنيس لنفسِهِ
فرْد من الخلصان والقرناءِ
وفتًى له عيشُ الغريبِ وحالُهُ
وأخو الذكاءِ يُعَدُّ في الغرباءِ
وفتًى يجود بماله وبنفسه
وفتًى تذوب حشاه في الظلماءِ
شوقًا إِلى المجد العزيز منالُه
مجد النفوسِ أحق بالبرحاءِ
يقضي الغبي حياته في غفلةٍ
عن نفسه ويُعَدُّ في الأحياء
إِن الحياةَ جمالُها وبهاؤها
هبةٌ من النجباء والشهداءِ
لولا طماحُ الحالمين وهمهم
بقي الورى كالتربةِ الغبراءِ
الحالمون بكل مجْدٍ خالدٍ
سامي المنالِ كمنزل الجوزاءِ
الغاضبون الناقمون على الورى
هَبُّوا هبوبَ الصَرصر الهوجاءِ
الشائدون الهادمون ذوو النُّهى
والعقلُ أعظمُ هادم بنَّاءِ
الخالقون المهلكون الشارعو
ن المرسلون بآيةٍ غرَّاءِ
آي الجلالةِ والذكاءِ جميعها
فيهم على السرَّاء والضراءِ
فلئن أصابهُمُ الزمان بمهلكٍ
قبل ابتناء منازل العلياء
فحياتهم وفعالهم ودماؤُهم
مثل الهدى وكواكب الإِسراءِ

المجاهد الجريح

هو العيش حربٌ والحياةُ جهادُ
وإِنَّ حياةَ العالمين سهادُ
ولا أشتكي أنِّي جرعتُ مريرها
فيا ليتَ عُمرًا في الحياة يعادُ
فأجرع منه الحلو والمرَّ إِنما
مشارب من يهوى الحياة بِرادُ
وليست نفوسُ الناسِ إِلا أسنَّةٌ
لها كل يومٍ مطعن وجلادُ
وليست نفوسُ الناسِ إِلا سيوفهم
سيوف ولكن ما لهن غمادُ
ويصدأ وجهُ السيفِ والسيفُ قاطعٌ
إِذا كان سيفًا ليس فيه مذادُ
وليست حياةُ المرءِ إِلا كشعلةٍ
وآخر ذيَّاك الضرام رمادُ
وفي العيشِ مسعًى للبيب ومطلبٌ
هل العيشُ إِلا مطمح ومرادُ
وهَبْ أن ما يأتي الفتى غير مقنعٍ
أليست لَذَاذَاتُ الطرادِ ترادُ؟
ويحصدُ سعْي المرءِ ما شاء عزمه
وللمرءِ يوْمٌ ليس فيه حَصَادُ
وما ينفع المرءَ الحزينَ بكاؤه
إِذا ظلَّ ورد المرءِ وهْو ثمادُ
ولولا خضوعُ النفسِ للجسم ما بكى
جريحٌ ولم يعزز عليه تلادُ
فلا تعذلوني إِن أَلِمْتُ فإِنني
جريحٌ من الأحداث وهْي صعادُ
ولا تعذلوني إِن حزنت فطالما
أصبْتُ ولي بين الكماةِ فؤادُ
ويا طالما خضتُ الخطوبَ وصهوتي
رجاءً أَلَا إِنَّ الرجاءَ جوادُ
فإِن متُّ فاسْعَوْا فوق قبري وباشروا
جلادَكُمُ إِنَّ الحياةَ جلادُ
ولا تحسبوا أني جبنت لميتتي
ولي عزمات كلهن صِلادُ
وقلتُ لنفسي إِنما الموتُ سنةٌ
هُمُ الناس ركبٌ والمطامع زادُ
وقِدْمًا مَضَتْ تلك العصور وأهلُها
وبادت بلادٌ بعدها وبلادُ
جهلنا فما ندري على العيشِ ما الذي
يراد بعيشٍ نحن فيه نقادُ
سوى أنَّ عيش المرءِ بالشك فاسدٌ
وأنَّ يقينًا في الحياة رشادُ
يقينًا بأن العيش نشوة صائل
له عزماتٌ في الحياةِ حِدادُ!

عبث الشكوى

يا صاحبَ العقل يقضي العيشَ في حَزَنٍ
يشقى بك الناس أم تشقى من الناسِ؟
وتحسب الناسَ بُهْمًا لا عقولَ لها
وأنت فيهم كمصباحٍ ونبراسِ
وأنت في الناس قُطْرٌ ضاع قاطره
في لُجَّةِ اليمِّ لا راوٍ ولا حاسي
وما أحَسُّوا بِهِمْ من حاجةٍ لهمُ
إِليك، كلا، ولا جاءوا بمقياسِ
ملائكُ الله إِن أرْضَوْكَ بينَهُمُ
وإِن غضبت فهم من نسل نسناسِ!
للنفس أفْقٌ مضيءٌ نورُه عَمَمٌ
وأرضها النتن من رجسٍ وأدناسِ
وراعك اليأسُ حتى خِلْتَ من جزعٍ
أنَّ الفضائلَ من أحلام وسواسِ
وكِدْتَ تنسى حياةً أنت صاحبها
بين الأنام فأنت الذاكر الناسي
حتى إِذا بلغت شكواك غايتها
علمت كيف تداوي اليأسَ بالياسِ
وما ضرارك نفسًا بعدما علمت
أن الرخاءَ قنوعُ الطاعمِ الكاسي
وكم تريد حياةً كلها جذلٌ
غيرَ الحياةِ وناسًا غير ذا الناسِ
الناسُ والبُهْم تدري أن ذا عنتٍ
يُعَطِّل العيشَ من بشرٍ وإيناسِ!

الطائر الحبيس

(وهي قصة جرت للشاعر، وهو غلام صغير، مع عصفور في قفص اتخذه لعبة له.)

أَذْكُرُ فيما مضى من العمُرِ
وكنتُ ألهو في غفلةِ الصِّغَرِ
وكنتُ ألهو بطائرٍ غَرِدٍ
مرتجل للغناءِ مبتدرِ
في حيثُ لا روضة له أُنُف
والشدوُ شعرٌ لعاشق الزهرِ
بل كان يشدو الحبيسُ في قفصٍ
شدْوَ حزينِ الفؤادِ منفطرِ
وكنت غفلانَ عن لواعجه
وكيف يرثي الجذلانُ للكدرِ؟
قد كنت كالطائر الطليق فلا
شجْو يروع الفؤادَ بالفكرِ
قَدْ كانَ قلبي لقلبه حجرًا
وكيف يجدي الغناءُ للحجرِ؟
قَدْ كانَ لي لعبة أعابثها
ما كان سرُّ الغناءِ من وطري
قَدْ قمتُ ألهو بجانب القفصِ
في صخبٍ رائع بلا حَذَرِ
وأقرع الأرض صارخًا جذلًا
وضجة الصوتِ شيمةُ الصغرِ
والطيرُ مِنْ رعْب قلبه حَذِرٌ
يهتز مثل المقرورِ من خصرِ
حتى إِذا ما سكتُّ من كللٍ
قعدْتُ ألهو عنه على غررِ
إِذا به صادحًا ينوح من الْـ
ـرعبِ بلحنٍ يقد في المررِ
قد جمعَ اللحنَ من لواعجه
لم يُبْقِ من نغمةٍ ولم يَذَرِ
لا ما لشدْو من بعده أثرٌ
في القلب باقٍ كذلك الأثرِ
ناحَ على نفسه وما فقدَتْ
بين ثمارِ الرياضِ من وَطَرِ
لم أكُ أدري ما هاجَ لوعتَه
والقلبُ من شدوه على كدرِ
حتى رأيتُ العصفورَ منجدلًا
قد مات من لوعةٍ ومن حذرِ
نسيته والسنونُ منسيةٌ
وكلُّ ما فات ميِّتُ الخبرِ
حتى عرتني الخطوبُ في عمري
وروَّعَتْني الحياةُ بالغيرِ
ذكرته والخطوبُ مُذْكِرَةٌ
وصاحبُ الهمِّ حاضرُ الذكَرِ
نفسيَ كالطائر الحبيسِ فلا
مفرَّ من جور سطوةِ القدرِ
قد شقَّ صدري نابُ الحياة فأمْـ
ـسَيْتُ بقلبٍ خفَّاق منذعرِ
يا طيرُ لو كنتَ حاضري أَلِفَتْ
نفسك نفسي من رحمة الخورِ
وأي خَلقٍ يُلَامُ في خورٍ
والمرءُ فينا فريسةُ الخطرِ
لا يعرفُ الحزنَ غيرُ ذائقه
فليس حزنُ العيان كالخبرِ
اقتصَّ مني لك الزمانُ وقَدْ
أصْبَحْتَ مني في السمع والبصرِ!

الإنسان والكون

سلامٌ على عهد الشبابِ سلامُ
سلامٌ وهل يدني البعيدَ سلامُ؟
تعاودني ذكرى الربيع الذي مضى
كأَنَّ حبيبًا قد طواه حمامُ
وأحسبُ أنَّ الزهر يزهو لكي أرى
محاسنَ منه في الرياضِ تُرَامُ
وأحسبُ أنَّ الماءَ كالخمر سلسلًا
لأجرعَ منه والنمير جِمامُ
وأحسبُ أنَّ الشمسَ ترنو بلحظها
إِليَّ وأنَّ الليل منه خيامُ
وأحسبُ أنَّ النجمَ حليٌ لناظري
وبرق الغوادي للضياءِ يشامُ
وأحسبُ أنَّ الكونَ بيتي وأنني
أميرٌ على عليائه وإِمامُ
وأعلم أني هالكٌ غير خالدٍ
وأني رفاتٌ للثرى وعظامُ
وأنيَ لا طيرٌ ينوح لميتتي
ولا الزهو شجوًا إِن هلكت يسامُ
ولا النور يدجو لا ولا الماء غائضٌ
وليس على وجه الهلالِ سقامُ
كذلك لا يبكي على الحبِّ طائرٌ
وليس على نقض العهودِ يُلَامُ
ولا الزهرُ يأسى للفؤاد وشَجْوِهِ
وليس بكاء ما يريق غمامُ
لقد جفَّ قلبي والزهور نضيرةٌ
وقد شاب قلبي والزمانُ غلام!

الإنسان والكون

سلامٌ على عهد الشبابِ سلامُ
سلامٌ وهل يدني البعيدَ سلامُ؟
تعاودني ذكرى الربيع الذي مضى
كأَنَّ حبيبًا قد طواه حمامُ
وأحسبُ أنَّ الزهر يزهو لكي أرى
محاسنَ منه في الرياضِ تُرَامُ
وأحسبُ أنَّ الماءَ كالخمر سلسلًا
لأجرعَ منه والنمير جِمامُ
وأحسبُ أنَّ الشمسَ ترنو بلحظها
إِليَّ وأنَّ الليل منه خيامُ
وأحسبُ أنَّ النجمَ حليٌ لناظري
وبرق الغوادي للضياءِ يشامُ
وأحسبُ أنَّ الكونَ بيتي وأنني
أميرٌ على عليائه وإِمامُ
وأعلم أني هالكٌ غير خالدٍ
وأني رفاتٌ للثرى وعظامُ
وأنيَ لا طيرٌ ينوح لميتتي
ولا الزهو شجوًا إِن هلكت يسامُ
ولا النور يدجو لا ولا الماء غائضٌ
وليس على وجه الهلالِ سقامُ
كذلك لا يبكي على الحبِّ طائرٌ
وليس على نقض العهودِ يُلَامُ
ولا الزهرُ يأسى للفؤاد وشَجْوِهِ
وليس بكاء ما يريق غمامُ
لقد جفَّ قلبي والزهور نضيرةٌ
وقد شاب قلبي والزمانُ غلام!

وعظ الموت

تذكر شجيَّ القلب أنَّا جميعنا
نئول إِلى وِرد الردى ونصيرُ
هل العيشُ إِلا ساعة ثم تنقضي
هل الدهرُ إِلا أشهر وعصورُ؟
نرى حولنا الهُلَّاك في كل منزلٍ
كأَنَّ بيوتَ العالمين قبورُ
ونعلمُ علمًا ليس بالظنِّ أننا
سنمضي على آثارهم فنحورُ
وهوَّنَ عندي الموتُ ما الدهرُ صانعٌ
فلست من الخطب العظيمِ أخورُ
وليست مساعي المرءِ إِلا جنازةٌ
تخبُّ به نحو الردى وتسيرُ
وما عرف الأيامَ إِلا مجربٌ
لبيبٌ بأحداث الزمانِ خبيرُ
ونبكي لموتانا لأن حياتهم
منافع تُغْنِي في الخطوبِ وخِيرُ
يخلفنا الأحباب كالدوح هزه
شتاءٌ يعرِّي غصنه ودبورُ
أنشقى بفقدِ الميْتِ والميْتُ ناعمٌ
سعيدٌ بما جرَّ الحمام قرير؟
وما الموتُ إِلا الأمنُ والخلدُ صنوهُ
ألا إِن فقدانَ الحياةِ حبورُ
خليقٌ بنا أن نغبطَ الميتَ حاله
فإِن حياة العالمين غرور

أبناء الشمال (الآريون)

إِنَّ أبناءَ الشمال
عمَّروا الأرض وصالوا
ورثوا الملكَ جميعًا
كلُّ مَنْ يسعى ينالُ
إِنَّ للملك اعتزازًا
ليس يدنيه اتكالُ
فلهم فيه فلاحٌ
ولهم فيه مجالُ
عمَّروا الأرضَ ونِمْنَا
داؤنا الداءُ العضالُ
ولهم في الكونِ عرشٌ
قيمةُ العرشِ الرجالُ
كلُّ شيءٍ لَهُمُ في الْـ
ـعَيْشِ مبذولٌ حلالُ
حُرِّمَ الأمرُ على العا
جزِ لا يخدعْك آلُ
إِنما القدرة إِيما
نٌ وآمالٌ ومالُ
إِن أبناءَ الشمالِ
عمَّروا الأرض وصالوا
ورثوا العزمَ جميعًا
ما عرا القوم ملالُ
هم لداعي السعي والآ
مال عمالٌ عجالُ
تعرفُ البيداءُ مسعا
هم وتُنْبِيكَ الجبالُ
وببطن الأرض مسعًى
ولدى الجو منالُ
سَلْ أقاصي الأرض تُخْبِرْ
عُظِّمَتْ تلك الفعالُ
هي تنبي عن جلالِ الـ
ـنَّفْسِ للنفس جلالُ
بيديهم لجُمُ الأقْـ
ـدارِ يُجْريها الصيالُ
يركضُ الدهرُ لديهم
مثلما شاءَ الرجالُ
من ثمار القدرةِ العِلْـ
ـم وفي العجزِ الضلالُ
عيشهم كالنهرِ يجري
فهْو حالٌ ثم حالُ
كلُّ يومٍ في جديدٍ
كشفت عنه الفعالُ
وجديدُ المرءِ يُبليـ
ـه ويفنيه ابتذالُ
ويكادُ الغيبُ يبدو
لهمُ منه المآلُ
عرفوا العيشَ ففازوا
إِنما العيشُ قتالُ
إِنما العيشُ طموحٌ
واعتزامٌ واحتيالُ
بَيْنَ عجزٍ واقتدارٍ
ضاقَ بالعجزِ المجالُ
إِنما العجزُ هو الذلُّ
إِذا اشتد النضالُ
قيمة المرءِ مساعيـ
ـه إِذا عزَّ المنالُ
إِنَّ أبناءَ الشمالِ
عمَّروا الأرض وصالوا
لم يَرُعْهُمْ فشلٌ إِن
ثبَّطَ الغرَّ المطالُ
بذلوا النفسَ ليحْظَوْا
إِنما البذلُ نوالُ
قد بروا أهل الجمودِ
مثلما تُبرى النعالُ
ويل أبناء الجنوب اعْـ
ـتز بالملكِ الشمالُ

توأم النفس

(الفكرة الأساسية التي بُنِيَتْ عليها هذه القصيدة، هي أنك قد ترى أحد الناس أول رؤية، فيُخَيَّلُ لك كأنك رأيتَهُ وصحبته في حياة قبل هذه الحياة. فتكاد تصدق قول من يقول: إن الروح لا تُخْلَقُ منفردة ولكن يُخْلَق معها توأم لها!)

أُخيَّ وكلُّ الناسِ صحب وإِخوةٌ
وكل امرئٍ تلقاه فهْو قريبُ
أتذكرني بل لا أخالك ذاكرًا
أيُذكرُ مجهولٌ لديك غريبُ؟
جلستُ على قربٍ ولم يَكُ بيننا
إِخاءٌ ولا عهدٌ إِليه نئوبُ
تحدثني نفسي بأنك خِدْنُها
وللنفس من ودِّ النفوس نصيبُ
وأحسبُ أني قد صحبتك حقبةً
من الدهر ذكراها لدي تَطِيبُ
حياةٌ لنا قبلَ الحياةِ رغيدة
إِذ العيشُ صفوٌ والزمان أريبُ
فنفسُ الفتى في مسلك العيشِ توأمٌ
لها في الأداني توأمٌ وحبيبُ
وكل امرئٍ في العيش يبغي قرينَه
وكلُّ ضريبٍ ينتحيه ضريبُ
فويحٌ لنفس لم تَجِدْ من يحبُّها
وللقلبِ لم تَعْطِفْ عليه قلوبُ
جلسنا ومنا مُرْسِلٌ لحظَ عينه
وآخر محمود اللحاظِ هيوبُ
نظرتُ وكم من نظرةٍ لك سرُّها
جليٌّ وفي لحظِ العيون خطيبُ
جلوتَ ليَ النفسَ التي أنت ربها
فإِني بأسرار اللحاظِ لبيبُ
ولحظُ الفتى من نفسه وخصاله
إِذا طاب نفسًا فاللحاظ تطيبُ
وفي لحظِ أهلِ اللؤم لؤمٌ وقسوةٌ
وفي لحظ أهلِ المكرمات طبيبُ
وفي لحظ أهلِ الودِّ أنسٌ ورقةٌ
وعطفٌ وفي لحظ العدوِّ قطوبُ
فقلتُ لعلَّ القربَ يُدني نفوسنا
وكلُّ جليس للجليس طروبُ
وما هي إِلا لفتةٌ وبشاشةٌ
تروح رسولًا بيننا وتئوبُ
فينشأ عطفٌ بيننا وتعارفٌ
ويورق غصنٌ للوداد رطيبُ
وكلُّ وداد لو فطنت تجاربٌ
فمنها مضيءٌ مغدقٌ وخلوبُ
وما هي إِلا لُقْيةٌ بعد لقيةٍ
يظل لها القلبُ الطروبُ يذوبُ
فنحيا ودوح الودِّ سامٍ وظلُّهُ
ظليلٌ وروضُ المكرمات قشيبُ
يقرُّ بعيني أن أرى الضوءَ والدجى
إِذا نظرت عيني وأنت قريبُ
وهيهاتَ حالَتْ دون ذلك وحشةٌ
فقمنا وكلٌّ عن أخيه غريبُ
فوا حسرتا من نُهْزةٍ ما انتهزتها
ورحتُ وعيشي من هواك جديبُ
أسائلُ عنك الدهرَ في كل ذكرةٍ
يكادُ لها عهدُ اللقاء يثوبُ
أعلل نفسي أنَّ قلبَك ذاكري
فيكذب ظني والرجاءُ كذوبُ
وأنت بعيدٌ لست تعرف ذُكرتي
ولا أن قلبي من نواك كئيبُ
وأعجب من هذا اللقاءِ وأَمْرِهِ
وكلُّ لقاءٍ في الحياةِ عجيبُ
فيا ويحَ هذا الخلق من كل وحشةٍ
ومن فرصات في الحياة تخيبُ
يعيشون كالأشباح في العيشِ حقبةً
لهم كلَّ يوم إِحنةٌ وحروبُ
وكلٌّ لكلٍّ لو يفيقون جُنةٌ
وكلٌّ لكلٍّ منهلٌ وقليبُ
فيا توأمَ النفس الذي أنا ناشدٌ
دعوتُ فهل من سامعٍ فيجيبُ؟
يقنتُ خلودَ النفسِ من بعد ميتةٍ
لعل لقاءً يا حبيب يئوبُ
فيرجى لنا في عيشةٍ بعد هذه
من الحبِّ والودِّ المكينِ نصيبُ!

حلم النفس

ألا يا طللَ القلبِ
وقبرَ الودِّ والحبِّ
لججتُ بحب خوانٍ
وفي الوافين من يصبي
ذكيُّ الحسنِ فتَّانٌ
فتون الوجهِ واللُّبِّ
هو الحلمُ الذي تبغي
فما بالعيشِ من عتْبِ
فدع حلمًا مضى أبدًا
أيُروى القلبُ بالكِذْبِ؟
سرابٌ كان فانقشعت
خلابة نبته الجدبِ
فهذا الطير صداحٌ
شدا في الغُصُنِ الرطبِ
ألا يا طائرًا يهوى
نضير الروض والعشب
لِقَلْبِي فيك تحنانٌ
يُنير القلبَ أو يُخبي
فجدِّد دارِسَ العهدِ
وجُدْ لي منكَ بالقربِ
وأطربني بألحانٍ
كفَيض الطاهر العذبِ
وداوِ غُلَّةَ النفسِ
بما في الحُسن من طِبِّ
لكي يصبح قلبي منْـ
ـك روضَ الودِّ والحبِّ
فما بالقلب من كلمٍ
ولا في القلبِ من ندبِ
وأغدو بك جذلانًا
خصيبَ الروض والتربِ
وأنسى حُلم الجدبِ
بما في حلم الخصبِ
فإِن الحب أحلام
وخيرُ الحلم ما يُصبي
وبعضُ الحلم جلاَّبٌ
مريرُ الهمِّ والكرب
ألا يا حلُم النفسِ
أتروي غلةَ الصبِّ؟
فما في الحبِّ من عيبٍ
ولا بالقلب من ريب
ألا يا طائرَ الحسن
أليفَ الروض والعشبِ
فؤادي لك فردوس
فطرْ في جوهِ الرطبِ
وصنُ لي حسنك الباهِـ
ـر من شَيْنٍ ومن عيبِ
وكن لي خَيْرَ مصحوبٍ
أكن من خيرة الصحبِ!

زهر الهوى ونبت الفيافي

بين زهر الهوى ونَبْتِ الفيافي
وزهورٍ من النجوم رواني
جاء نجوى بمن أعز وأهوى
ملكٌ من ملائك الرحمنِ
واقفًا بين من أحب وبيني
بيدينا يداه معقودتانِ
بين زهر الهوى ونبت الفيافي
ثم خلَّى بيني وبين حبيبي
فاقتربنا اقتراب غير مريبِ
وعقدنا من العناق نطاقًا
ما دُهينا باللومِ والتشريبِ
وروينا بالدمعِ غُلَّة نفسٍ
كيف يُروى الجوى بدمْعٍ صبيبِ
بين زهر الهوى ونبت الفيافي
قال لي الناصحُ الكريمُ مقالًا
في خفوت ورقةٍ وسكونِ
كن أمينًا عَلى الفؤاد الأمينِ
إِنما الحسنُ نهزةٌ للخئونِ
هل جزاءُ الحبيب إِلا وفاءٌ
خالص من شوائبٍ أو ظنونِ
بين زهر الهوى ونبت الفيافي
ثم ألقى إِلى الحبيب مقالًا
إِن خير المقال نصحُ القلوبِ
كن رءوفًا ووافيًا ومنيلًا
وطروبًا إِلى المحب الطروب
إِنما المرءُ ساعة ثم يمضي
فاجعلَنْها في خلوةٍ بحبيبِ!
بين زهر الهوى ونبت الفيافي

جنون الأماني

أيا روضةَ الريحانِ مَنْ لي بنفحةٍ
تخفِّفُ من همِّي وتشفي فؤاديَا؟
ويا نفحةَ الريحان هبي مع الصبا
فإِن بقلبي لوعةً هي ما هيَا
وإِن بقلبي لوعةً أنت هجتها
فقد كنت دائي في الهوى ودوائيَا
وما ظمئي للماءِ والقيظ لافحٌ
بأوجع من شوقي وحرِّ غراميَا
فيا ظَمأ القلب الجريحِ وريه
أما جرعة تطفي لهيبَ أواميَا
ويا منهلَ الحسن الذي أنا حائمٌ
عليه ولم أَرْوِ الغليل الذي بِيَا
ويا واحةَ العيش الجديبِ أحبُّه
على جدبه لو أنَّ فيك مقاميَا
لقد جبتُ هذا العيشَ والعيشُ بلقعٌ
وأُبتُ وما أعقبتُ إِلا كلالِيَا
وأبصرتُ فيك الماءَ كالخمرِ سلسَلًا
وأبصرتُ فيك الغصنَ فينان زاهيَا
وأبصرتُ أثمارًا هناك وموردًا
لذيذًا فلم أملك عليه طماحِيَا
فقلتُ لقلبي: إِنما العيشُ في الهوى
ولا عيشَ إِلَّا أن تنَالَ الأمانِيَا
وقلتُ لقلبي: إِنما العيشُ خلسةٌ
من الموت لا تبلغْه يا قلبُ صادِيَا
لئن خانني العيشُ الذي كنتُ أرتجي
فيا بؤس آمالي وطول بلائِيَا
وما أحسبُ النفسَ اللجوجَ شفاؤها
من العيش ما يدنو وإِن كان شافِيَا
فمن لي بماء الخلدِ أروي به الصدى
فما الخلدُ إِلا نجعتي وشفائيَا
وما العيشُ إِلا مطلبٌ بعد مطلبٍ
فكيف أُرى في العيش جذلانَ راضيَا
وما العيشُ إِلا عزةٌ واستطالة
ترى الموتَ أن تحيا ذليلًا مداجيَا
ولو كنتُ ربًّا نافذَ الأمرِ قادرًا
لأعطيتُ نفسي سُؤْلَها وعِباديَا
وأفسحتُ في الآبادِ للنفس منزلًا
وأَثملت بالآلاءِ منها الأمانيَا
فمن لي بها أمنية ما أجلُّها
تجيء بأحلامي وترضي خيالِيَا!
حبيبيَ، لا والله ما الكفر شائقي
ولكنَّ قولَ النفسِ: يا لَيْتَ ذا لِيَا
ولو أنني ربٌّ لما نالك الردى
ولا قلتُ يومًا: أين مني جمالِيَا
جمالُك مكلوءٌ بعين رعايتي
فلست عليه الدهرَ والموتَ خاشِيَا
أزيدكَ من زهرِ الصبا وثمارِه
فتزهي بحسنٍ فيك كالخلد ناميَا
جنون الأماني فيك أحلى من الحِجى
ألذُّ الأماني ما يجن فؤاديَا!

هذا الحبيب

هذا الحبيبُ الذي قد لُمْتَنِي فيه
يردد اللحظَ بين الدلِّ والتيهِ
فانظر محاسنَه واحذر لواحظَه
واحبس فؤادَك لا تجري أمانيهِ
وارفق بلبِّك لا تودي اللحاظُ به
واستبق دمعَك لا تهمي هواميهِ
هذا الذي يدرك الأعمى محاسنَه
ويلمس الهالك المودي فيحييهِ
هذا الذي إِن رآه الشيخُ عاوده
شرخُ الشبابِ الذي قد راق ماضيهِ
هذا الذي ضحكات في مباسمِه
أحلا لدى القلبِ من دهري وما فيهِ
تكاد طلعتُه من نورِ بهجتِه
إِذا رآها مشوقُ الطرفِ تُعشيهِ
ونعمةُ الحسنِ تهفو في معاطفه
وقسوةُ الحسنِ تبدو في مآقيهِ
وطلعةُ الحسن فيها قسوةٌ جللٌ
تلوح للعاشق العاني فترديهِ
هذا الذي جمَّل الله الحياةَ به
وعلَّمَ الروحَ ما تحوي مراقيهِ
هذا الذي نبضاتُ القلب تتبعه
ومهجةُ المرءِ تسعى في مساعيهِ
هذا الذي خطرات القلبِ صادحة
مثل الطيور إِذا غنَّت تناجيهِ
فانظرْ لعلَّكَ أن تحظى بنظرتهِ
فربما نظرةٌ للمرءٍ تشفيهِ
وربما نظرة للمرءِ تسعدهُ
وربما نظرة للمرءِ تشقيهِ
هل الحياةُ سوى مسعًى تعانيه
ومطمحُ النفسِ تبغيه وتدنيهِ

أحلام الصيف

إِذا ما دعتني النفسُ يومًا لريبةٍ
تراودني حتى تلجَّ وتستشري
ذكرتُك كيما تحدث النفس عفَّةً
فذكرُك يثني النفسَ مني عن الشرِّ
وذكرك يثني ناظريَّ عن الخنا
ويسعد نفسي بالفضيلة والطهرِ
فأنت سميري في صحابي وخلوتي
وأنت هُدَى نفسي على السرِّ والجهرِ
فلا تبتعد عني فبعدك فتنةٌ
وقربك قربٌ للمكارم والخيرِ
فأنت جميلٌ كالنهار وضاءةً
وأنت جميلٌ كالكواكب والبدرِ
وأنت جميل كالزهور نضارةً
وفيك جمالُ الأفقِ في وَضَحِ الفجرِ
فيا آيةَ الكونِ الذي أنت عطرهُ
كذاك جمالُ الروضِ يُحْمَدُ في العطرِ
أظن نجومَ الليل تزهو لكي ترى
محاسنَ من مرآك في الأنجم الزهرِ
وعذبتَ قلبي في يديك ضلالةً
كما يلعبُ الطفلُ المدلَّلُ بالطيرِ
فجدْ لي بيومٍ من لقائك صالح
فقد ضاعَ عمري في القطيعةِ والهجرِ
تعالَ أعلمك الهوى ما فعاله
لكيما ترى السرَّ الجليلَ من الأمرِ
ولكنني أخشى عليك من الهوى
إِذا ما ثوى بين الجوانح كالجمرِ
فإِن الهوى مثلُ المدامة مُسْكرٌ
وإِن الهوى كأسٌ أمرُّ من الصبرِ
وأخشى عليك العيشَ فالعيشُ فتنةٌ
وأخشى عليك الشرَّ يطرق بالضرِّ
فما أنت معصومًا من الشرِّ والأذى
ولا أنت معصومًا من السوءِ والمكرِ
وكل امرئٍ في العيش لا بد فاعلٌ
من الشرِّ أمرًا كان منه على قدرِ
لقد خلتُ أنَّ الحبَّ طيرٌ مغرِّدٌ
فإِني سمعتُ الحبَّ يخفق في صدري
إِذا زال عنك الحسنُ والحسنُ دولةٌ
تزول ويبقى منه حسنُك في شِعري
ندمت على الهجران في غير علةٍ
وما كنت تبديه من الصدِّ والغدرِ
وهيهات أن تسري لحاظك بالهوى
إِذا صرتَ منسيًّا كأَمْسِكَ في العمرِ
كأنَّ على الآفاق بعدك وحشةً
أراها على وجه الخليفةِ كالسترِ
أبيتُ أنادي الجنَّ في مستقرها
لتجمعَ ما بيني وبينك في السرِّ
دعاءُ الفتى سحرٌ وأبلغُ دعوةٍ
دعاءُ لهيفٍ ذي لواعج مضطرِّ
دعاءُ الذي ما من نزوع لقلبه
فينساك إِلا أن يغيَّبَ في القبرِ
فلا تَنْسَ ذكري مثلما أنا ذاكر
عسى تلتقي روحي وروحك بالذكرِ
أحبُّ من الأشياءِ ما كان مشبهًا
لوجهك إِن الزهرَ يُعْرَفُ بالزهرِ
فأرسل إِليَّ الزهرَ منك علامةً
فوجهك مثلُ الزهرِ يضحك من بشرِ
ولا تفخرنْ إِنِّي جُنِنْتُ محبةً
فكل ضئيلِ النفس يفخر بالشرِّ
ودعني أُمنِّ النفسَ عطفً ورحمةً
وأُخْفِ جنوني فيك بالصبر والكبرِ
فليْتَكَ حلم الصيف يحلو لحالم
ولكنما الذكرى أمرُّ من الصبرِ
أعلِّلُ نفسي أن شوقيَ نافعي
لديك فإِنَّ الشوقَ ضربٌ من السحرِ
وهيهات لا تجدي لديك شفاعة
فإِنك مقدود الفؤادِ من الصخرِ
حسوتُ كُئوسَ الحبِّ طرًّا وإِنني
أرقت كئوسَ العمر من طرب السكرِ
فلا تعذلا قلبي لإِسراف نشوة
سواسية ما يأكل الدود في القبرِ
سيذكر هذا الدهر أمري وأمركم
فقد خُطَّ شِعري في الصميم من الدهرِ
لقد كان قبلي عاطلًا فحبوته
عقود معانٍ لا تطوَّقُ بالنشرِ
وقد كان قبلي أخرَسَ الفم أبكما
فأصبح يشدو بالجليل من الشعرِ
فمن لي بأسماع تعي ما يقوله
فحولي أناس كالجماد من الوقرِ!
ألا إِن هذا الدهرَ أوتارُ شاعرٍ
وشعريَ أحلى للنفوس من الخمرِ
ألا إِن قلبي روضة الشعر والهوى
ومنك نسيم الحبِّ يعبث في صدري
يحرِّك أغصان الخميلة مَرةً
فيوقظ أنغامي ويحمل من نشري!

فتنة الطهر

يا غلةَ القلب المشوق الصادي
كم ذا البعاد فقد أطلْتَ بعادي
سل عنيَ الليل البهيمَ وطوله
وسل الوسادَ فما قربت وسادي
أتخال أنك قد كشفتَ سرائري
وتظن أنك قد سبرت فؤادي
أو ما علمت بأن طهرك باعثٌ
شوقي ومُورٍ من هواك زنادي
يومٌ يخال الظنُ فيك نقيصةً
يوم يجيء براحتي ورقادي
لا بل يجىءُ بحسرةٍ وندامةٍ
ويزيد من غصص الزمانِ العادي
لستَ الخليق بأن تُنَال محبتي
إِن لم تُنَلْ من عفةٍ ورشادِ
النفس أعظم أن تحبَّ ذوي الخنا
أو أن تجلَّ مظنة لفسادِ
إِني أريدك كعبةً لا حانةً
إِن الدنايا جمَّةُ الورَّادِ
طهرُ الحبيبِ يزيلُ همَّ محبِّه
فكأنه القمر المنير الهادي
السعد أطهر أن ينال بخسةٍ
شوهاء رهن حوائج الأجسادِ
خيرُ الهوى حبُّ الفضائل والنهى
ومودة الأمثالِ والأندادِ
ظنُّ الفتى كفعاله ومقاله
وخصاله من مضمر أو بادي
لا ترمِيَنِّي بالدنيَّة باطلًا
فتكون أنت مظنةَ الحسَّادِ
حبُّ النقيصة إِثرةٌ مذمومةٌ
يغدو لها الخلانُ كالأضداد
وهي المحاسن ألفةٌ ومودةٌ
وتناصرٌ كتناصر الأجنادِ
انظر لنفسي في خصالك صادقًا
فإِذا وجدْت مغامزًا لأعادي
فاذهب كما ذهب الوباءُ مُبغَّضًا
نكب الأنامَ وفتَّ في الأعضادِ
وإِذا وجدت محامدًا ومحاسنًا
خلصت من الأدناس والأحقادِ
أقْبِلْ كإِقبال الربيعِ محببًا
تثني عليه ألسنُ الحصَّادِ
الطيرُ تشدو في الرياض محبةً
تدعوك بالتغريدِ والإِنشاد
والغصنُ كالنشوان مِنْ ولهٍ بِكُمْ
هزَّ الزهورَ بقدِّه الميَّادِ
والريحُ تبكي شجوها بأنينها
حتى الرياح عليك من حسادي
والنجمُ يومض عاشقًا لجمالكم
نظر المحبِّ إِلى الحبيب البادي
وكواكبُ الفلك المدار رواقصٌ
طربًا فحبُّك زادُها والحادي
والشمسُ صفراءُ الجبين مريضة
والبدر شيب بياضه بسوادِ
أنت الذي فتن الوجودَ جمالُه
يا غلَة القلب المشوق الصادي!

في الفردوس

شريد اللبِّ هامي الدمع عاني
نَبَتْ عيناه عن زهرِ الجنانِ
تُرَتِّلُ حوله الأملاكُ آيًا
وطيرُ الأيك تصدح بالأغاني
ونورُ الخلدِ وضَّاءٌ عليه
ينير الزهر من حدق الحسانِ
تظلُّ النفسُ منه في ربيعٍ
مذاع العطر محمود الزمانِ
تظلُّ النفسُ تمرحُ في رباه
وتبصرُ حولها حلمَ الأماني
تجلله ثمارٌ في غصونٍ
قطوف بين قاصيه وداني
بأية شقوةٍ قد رُعْتَ حتى
فؤادك ليس ينعمُ بالأمانِ
يظلُّ الناسُ حولك في نعيمٍ
وقلبُك كالكليمِ من الطعانِ
نفوسُ الناس في دعةٍ وأمنٍ
ونفسُكَ بين حلقك واللسانِ
فيا بؤسًا ويا تعسًا لصبٍّ
شقيٍّ في الفرادس والجِنانِ
دماؤك في العروق لها لهيبٌ
كأنَّ دماك ريقة أفعوانِ!
وأنفاسٌ تصعدها طوال
ووجهُك شاحبٌ والدمع قاني
تمدُّ إِلى وجوه القومِ لحظًا
وتنشد صنوَ نفسك والجَنانِ
وليس الحب إلا حب صب
يحن على القطيعة والليانِ
وليس الخلدُ إِلا قرب خلٍّ
جميل النفسِ محمود العيان
ستصبر منه في الفردوس وجهًا
عميمًا حُسْنُه جمَّ المعاني
يسلُّ الضغن لا واشٍ فيخشى
ولا صبٌّ يروَّع بالشنانِ
فطرفٌ منك معقود بلحظٍ
وطرف منه معهود البيان
يدٌ بيد وقلبٌ قرب قلبٍ
وسرُّ النفس ما توحي اليدانِ
تحييك الملائكُ بابتسامٍ
وتطربك المثالث والمثاني
فقلْ للطير تصدح في رباها
فطِيبُ اللحن في طيب الزمانِ!

حلم الفردوس

أيحرم حتى نظرتي وسلامي
وحتى حنيني نحوكم وهيامي!
أقيموا كما شئتم على الصدِّ والجفا
فإِنكمُ لا تصرفون غرامي
أعلِّلُ نفسي باقترابٍ ولُقية
وليس اقترابي منكمو بحرامِ
فإِن طرقتْكَ الريحُ يومًا بأنَّةٍ
فقد سار في ذاك النسيم سلامي
ولو أنني في القبر ميْتٌ وزرتني
لحيَّتْكَ من تحت الرجامِ عظامي
وإِني إِذا ما اعتادني الهمُّ والأسى
وأبغضتُ في هذي الحياةِ مقامي
وأشعرت ذلَّ العيشِ حتى قليته
وقد بان حتى راحتي ومنامي
وأصبحتُ أرجو الموت من سورة الأسى
ولم تُشْفَ من داءِ الهمومِ مدامي
أبين لنفسي صورةً منك غضةً
فأنقع من ذاك الخيال أوامي
ويفرحُ قلبي بعد يأسٍ وحسرة
فقربُك فيه راحتي وجمامي
وفي ذكركم روح الحياةِ وطيبها
ومرآك فيه نهلتي وطعامي
قنعت بذكراكم وبالطيف منكُمُ
إِذا جاد طيفٌ منكُمُ بلمامِ
لقد كنتُ أشكو الحبَّ حتى رأيتُه
دواءَ همومي كلِّها وسقامي
فيا حُلُمَ الفردوس حبُّك ذكرة
لأيام عيشٍ في الجنان وِسامِ
ورثنا ولوعًا بالنعيم وطيبه
وعيش قديم قد مضى بسلامِ
وكلُّ مرامٍ نرتجيه تذكرٌ
لعهد جنانٍ قد مضى ومرامِ
أكاد أرى الفردوسَ خضرًا غصونه
فليت مقامًا في الجنانِ مقامي
وأُبْصِر فيه الضوءَ لا ضوء مثله
له بهجةٌ في زهرها المتسامي
وأسمع فيها الطيرَ تشدو فأنثني
وقلبيَ من ذكرى الفرادس دامي
فآوي إِلى عهدٍ مضى ثم أنثني
إِلى مقبلٍ من دهرنا المترامي
وكلُّ جمالٍ يسحر القلبَ طيبُه
فيا ليت أوراق النعيم خيامي
سراب طماح المرء في غير كنهه
وما هو إِلا مثل حلم نيامِ
فيا ليتني في الريف لا شيء شاغلي
من العيش إِلا غلتي وسوامي
ولو أنني في الريف ما فاتني الأسى
ولا برئت نفسي وطاب منامي
حبيبيَ إِن خُبرتَ أني بحسرة
وأنيَ في أيدي الخطوبِ زمامي
فأرسلْ خيالًا منك يأسو لواعجي
كما لاح صبحٌ من وراءِ ظلامِ
معيني على الأحزان لا مسَّك الأسى
ولا نالك الدهرُ الخئون بذامِ
أريد على الأيام عونًا من الهوى
فأي مرامٍ يا حبيب مرامي
أجلُّ مرامٍ في هواك أرومهُ
وأعظمُ سُكْر العاشقين هيامي
وإِنَّ هيامَ المرءِ فضل وفطنةٌ
إِذا كانت الأخلاقُ غيرَ لئام
فيا حُلُم الأحلام هل لك عطفة
فتروى لحاظٌ من جفاك ظوامي؟
وأحيا حياةً من هواك سعيدةً
وأقضي وهل حبٌّ يردُّ حمامي؟
ولو ردَّ هذا الموت شيء لرده
تصرمُ عامٍ في هواك وعامِ
فحبُّك حلمٌ بالخلودِ لعاشقٍ
فلولا الردى بشَّرْته بدوامِ

الجمال المنشود

رأيتُ في الحلم وجهًا منك أعبدهُ
وفوقه من نجوم الليلِ تيجانُ
توجت نفسك بالأفلاك مكرمةً
كما يُتَوَّج بالأزهار جذلانُ
فإِنَّ وجهك بدرٌ يستضاء به
إِذا بدوت ووجه الأفق غيمان
فقمت أملأ عيني من محاسنكم
وأنهل القلب منكم وهْو صديانُ
إِن راقب الناس في الأفلاك طالعهم
فإِن عينيك لي سحرٌ وتبيانُ
وإِن طرفك نجم الحظ أرقبه
سعدٌ ونحس وإِحسانٌ وحرمانُ
وقمتُ في الحلم أسعى نحو حالية
من الخمائل فيها الغصنُ فينانُ
لنور وجهك فيها بهجة أبدًا
فالنجمُ من حسنكم والزهرُ يزدانُ
يا جنةَ الحلم كم لي فيك من أربٍ
يا طِيبَهُ لو دنا والدهرُ نيسانُ
أصفيت قلبي فلا والله ما سكنَت
بين الأضالع أحقادٌ وأضغانُ
ويا هلالًا أرى في النفسِ طلعته
أَضِئْ حياتي فوجه العيش طخيانُ
وكيف يقبح عيشٌ أنت بهجتُه
وكيف يدجو ولم يدركك نقصانُ
يا بدر إِنَّ أخاك البدر يؤنسني
فالصبُّ والبدر والظلماء خلانُ
البدرُ في أفقه أدنى لناظره
منكم فما لكُمُ عطف ولُقْيانُ
يُلقي إِليَّ بنور من أشعته
حتى أبيت وضوء البدر ندمانُ
وأنت في العيش حلمٌ لست أدركه
لم يدنني منه تطلاب ونشدانُ
وأنتَ للحسن جنِّيٌّ فَتِهْ مرحًا
ما نال شأوك لا إِنس ولا جانُ
يا غايةَ العيشِ والآمالِ قاطبةً
ومطلبًا ليس لي من بعده شانُ
ما كنتُ أحسبُ حسنًا أنت لابسه
يناله بين هذا الخلقِ إِنسانُ
فذاك حسنٌ عزيزٌ معجز أبدًا
صنع المَخِيلة لا يحويه جثمانُ
هل أنت طيفُ خيالٍ زار في سِنةٍ
فإِنما المرءُ في دنياه وسْنانُ؟
أم كنت من جنة الفردوس في وطنٍ
لك الملائك إِخوانٌ وخلصانُ؟
أي الكواكب قِدْمًا كنت ساكنه
قد نابه منك هجران وفقدانُ؟
أم كنت في الأفق نجمًا لا أفول له
إِن السماءَ لزهر النجم بستانُ؟
وكيف أجحد هذا الكون خالقه
وفيك لله آياتٌ وبرهانُ؟
اذْكُرْ حبيبيَ أن الموتَ غايتُنا
وآفةُ الحسن أكفانٌ وديدانُ
لا لقية بعده تُرجى ولا صلةٌ
ولا دلال ولا لطفٌ وتحنانُ
ألم يعلمك وقعُ الخطبِ مرحمة
أم كلُّ عيشِك أزهارٌ وأغصانُ؟
هيهات لا يرحم المسكينَ ذو ترف
منعَّم البالِ لا يؤذيه حِدْثانُ
يا ناعمَ البالِ ما لي راحة أبدًا
وفارغ القلب قلبي منك ملآنُ
وراقد الليلِ ليلي لست أرقده
فالقلبُ من حُبِّكُمْ والطرفُ سهرانُ
اسْتَجْدِ لي رحمةً وانظر إِليَّ بها
أليس في الناس حُسَّان وحُنَّانُ؟
لا تحسبن قلوبَ الناس قاطبةً
أشباهَ قلبك أحجارٌ وصوانُ!
لا عيبَ في الطير لم يأنس بعاشقِه
وأنت كالطير جذلان وغفلانُ
لا عيبَ في الزهر إِن أردى بنكهته
وأنت زهرٌ وبعض الحبِّ ذيفانُ
لا عيب في الماءِ لم يبلغه طالبُهُ
فأنت ريٌّ وقد أخطاك ظمآنُ
لا عيب في الضوءِ أعمى مقلة نظرت
فأنت نورٌ وطرفي منك عشوانُ
لا عيب في النار أنَّ النارَ محرقةٌ
الحسن نارٌ وقلبي منه حرَّانُ
إِني أعلِّمك الأعذار من سفه
يا بؤس نفسيَ إِن أقصاك هجرانُ
بالله لا تتخذ حُبِّيك معذرةً
في الهجر ما لي على الهجران أعوان
النار ليس لها قلبٌ فنعذلها
لكنْ نصيبك وجدان وأشجانُ
لو تشعر النارُ لم تعنف بلامسها
أو تألم النارُ لم تحرقك نيرانُ
لولا المصائب والآلام قاطبة
ما كان في الناس إشفاق وإِحسانُ
وليس نظميَ للأشعار من عبثٍ
فإِن شعريَ قلبٌ منك ولهانُ
وإِن شعريَ نفسٌ فيك هالكة
وإِن شعريَ أشواقٌ وتحنانُ
فارحم شجونَ فؤادٍ طالما صدحت
فالقلبُ طيرٌ له في الحسن أوكانُ
يا نائيَ الروحِ روحي منك دانيةٌ
وصاحيَ القلب قلبي منك نشوانُ

(أرسل حضرة الأستاذ الجليل حسن أفندي فهمي المحامي هذه الأبيات الرائقة إلى صاحب الديوان):

أتظلم أيامي ووجهك شمسها
وتجدب آمالي وأنت تَلِيهَا؟
هجرت فقلبي قلب ثكلى حزينة
أصاب الردى يومًا جميع بنيها
وأظمأت زهرًا للمودة ناضرًا
سأروي بدمعي زهرها وأقيهَا
وحدَّثَنِي عنك الفؤاد بسلوة
فأضحى فؤادي للفؤاد كريهَا
فما سَمِعَتْ أُذْني لشكري بسابق
ولا أبصرَتْ عيناي قطُّ شبيهَا
إِذا قال شعرًا خلته قال آية
هي السحر في ألباب مستمعيها
إِذا أنزل الأشعار فالدهر ساجد
لمنزلها جاثٍ لمتبعيها
لياليك أشهى للنفوس من المنى
ألذ الليالي ما رأيتك فيها

(فبعثَتْ صاحبَ الديوان إلى عمل هذه القصيدة):

منى النفس

مُنى النفس أن تحيا وأنت هواها
فإِنَّ جنوني في هواك هداها
وإِنَّ مماتي في هواكَ حياتها
وإِنَّ سلوِّي عن هواك رداها
فيا مطمحَ القلبِ الطلوب مودة
سلاها فلما أنْ رآك بغاها
كأني إِذا ما غبتَ أضللتُ هاديًا
رشيدًا وعيني ما يزول عماها
فأطلبُ نهج الرشدِ في كل وجهةٍ
وأنْكُتُ في أرض العراءِ ثراها
وإِن لحتَ لاح الرشدُ حتى كأنني
بصيرٌ درى الأشياء حين رآها
لقد عُلِّقَتْ نفسي بكم قبل قربكم
فإِنك من قبل اللقاءِ مناها
فكنتُ كراءٍ في الكرى زهر جنةٍ
فلما تمشَّى في الصباح أتاها
فكان على وعدٍ من الحلم ما أتى
فيا حلم نفسي هل تزيل صداها؟
ويا جنة الأحلامِ طالت فروعها
حبيب لقلبي ماؤها وشذاها
فأنت حبيبي ما حييت وإِنما
مُنَى كل نفسٍ حيث كان هواها
فواهًا على العهدِ القديم الذي مضى
وواهًا على عهْد الأحبةِ واهَا
وخيرُ لياليَّ التي أنت حلمها
وما زان طيف من لدُنْكَ كراهَا
وخيرُ لياليَّ التي أنا ذاكر
وشر الليالي ما أبيت أراها
وخير لياليَّ التي أنت بدرها
وقد شُقَّ عن وجه السماءِ دجاها
وخير لياليَّ القصار بقربكم
أرى بدأها يهدي إليَّ ضحاها
فيا بدر إنَّ الليلَ بعدك مظلمٌ
فهل ليلة لي من سناك حُلاها
فربَّ ليالٍ هُنَّ ذات قرابة
لقلب شجيٍّ إِن عدته بَكَاهَا
بكاها فلما لم يَرَ الدمع نافعًا
تأسى وفي النفس اللجوج شجاها
أريد من الأيام ما لستُ مُدْرِكًا
هَوَى كل نفسٍ أن تنال مداها
فقل لطموح النفس حتَّام نحسها
كفاها من العيش القليلُ كفاها
أحبُّكِ يا دنيا على البعد مثلما
أحبُّ هلوكًا قاربت فقلاها
ألا فاسقني الأيام إِنَّ كئوسَها
تقرِّب من نفس التعيسِ رداها
لعمرك إنَّ العقلَ يُفضي إِلى الأسى
فمن لي بنفس ما يبين حجاها؟
وكيف ترجِّي العدلَ في قول حالمٍ
تطلب دنيا حلمه فشكاها؟
عسى أن يصيبَ النفسَ صبرٌ يحوطها
وتهدأ من نحس الحياةِ عساها
أأخشى طروقَ الحادثات ولبثها
كأن الليالي لا تدور رحاها؟
شقيتُ بنفسي شقوةٌ لا أطيقها
فمن لي بنفس في الحياة سواها؟
سلاها علام الخوف من كل حادثٍ
وحتَّام يضنيها الرجاءُ سلاها

•••

ولولا نميرٌ من ودادك طاهرٌ
مزجت بنفسي ماءَه فشفاها
لمتُّ ولم أطفر بخلٍّ مصادقٍ
يعلل نفسًا قد أطيل صداها
أبا الفهم أن السحرَ ما أنت قائلٌ
فهيِّئ لنفسي من لدنك رقاها
إِذا قيلت النكباءُ كنتَ جلاءها
وان قيلت الجلَّى فأنت فتاها
فيا مِدرها لا مِدره اليوم مثله
أتحتَ لقلبي نهلةً فحساها
خصيميَ دهر ليس يرضى خصيمه
وكم حادثات لا تسوغ قضاها
ولي عند هذا الدهر حق أضاعه
وكم من ديونٍ لي عليه لواها
وكم موقفٍ تفري به كل بُطلة
كأنَّ خميسًا من لدنك غزاها
فقم هاتِ لي حقي من الدهر إنما
حقوقي أمانيٌّ لديه حماها
فإِنك يوم الحشر لو قمت دافعًا
جنايةَ جانٍ ما يخال جناها
فإِن بيانًا منك يقصي جهنمًا
عن المرءِ حتى ما يخاف لظاها
تقارضنا الدنيا حياة بشقوةٍ
وأفحش ما تقلى النفوس رباها
أدنْ هذه الدنيا بما أنت ربه
فأنت خليق أن تزيح خناها
أما إنها لو أُلحقت بمسامع
لأدركها مما تقول هداها!

قريب بعيد

لقد عاود الطيرُ المغردُ روضَه
فهل هو مخضرُّ النباتِ قشيبُ؟
وهل عاده زهوُ الحياة وطيبها
وكلُّ حياةٍ بالحبيب تطيبُ؟
إذا الطير لم يأنس ولم يبدِ عطفةً
فما بين أغصان الرياضِ رطيبُ
ولا خيرَ في نيل الودادِ بشافعٍ
إِذا أنت لم يطرب إِليك حبيبُ
لقد كنتُ أبغي منك أنسًا وألفةً
وكل أديبٍ للأديب طروبُ
وجئتَ فلم تظهر إِخاءً وعطفةً
فإِن بشاشات الوجوه تصوبُ
ولحظُ العيون الفاتنات بشاشةٌ
ولحظ العيونِ العاشقات نسيبُ
وزرتَ فلم تأنس كأنك لم تَزُرْ
ورُبَّ بعيدٍ وهْو منك قريبُ
ولم أرَ في عينيك إِغراءَ عاطفٍ
ويا رُبَّ لحظٍ للمحبِّ طبيبُ
لقد كان في عينيك شكٌّ ووحشة
ألا إِنَّ ألحاظ العيونِ خطيبُ
ولم تتبسط بالمزاح توددًا
وما كل مزحٍ في الوداد يريبُ
فكلُّ مزاحٍ منك أنس أحبُّهُ
وماءٌ طهور لا يعاف شروبُ
فلا أنت مشتاقٌ ولا أنا شائق
وكيف يشوق القلب وهْو كئيبُ
فاين ابتسام كنت أهوى وميضه
وأين ضياء في اللحاظ خلوبُ
تحدثني عيناك أنك مبغضي
فكلُّ ودادٍ بعد ذاك كذوبُ
أحبُّك حبًّا لست أهلًا لمثله
وما كلُّ حبٍّ للجمال يطيبُ
فإِنك لا برٌّ لديك لآملٍ
رضاك ولا ودًّا لديك أصيبُ
فنفسُك مثلُ القبر قبحٌ وظلمة
وحسنُك غصنٌ في القبور جديبُ
فلا تتركَنِّي بين يأس ومطمعٍ
إِذا لم يكن لي من هواك نصيبُ
ودعني أمت أو أَحْيَ دهرًا كميِّتٍ
تعدته عُوَّاد وملَّ طبيبُ
وإني خليق أن أبوءَ بسلوةٍ
إِذا أنا لم يعطف عليَّ ضريبُ

•••

وأهوى رفيقًا ذاكي الروحِ والنهى
وما لي سواكم في الحياةِ طليبُ
فيا خالقَ الألحانِ جدْ لي بمنطقٍ
وجدْ لي بلحنٍ من لدنك يذيبُ
لأطرب قلبًا لا يلين لمطربٍ
ألا كل شادٍ للجماد يخيبُ
أظلُّ إذا ما غبت عني كأنني
يتيمٌ غريب في الحياة سليبُ
شفيعي إِليكم في المحبة أننا
كلانا يتيمٌ في الحياة غريبُ
ولو كنْتَ تدري كنه حسنك كله
عذرْتَ ولم يعنف عليك رقيبُ
وعربدت من سكر الجمالِ وإِنه
لسُكْرٌ إِذا فكَّرْتَ فيه يطيبُ
ولو جُنَّ إِنسانٌ من الحسن كُنْتَه
فأنت فريدٌ في الجمال عجيبُ
ولو كنت تدري سرَّ حبيَ كلَّه
لما خلت أني في هواك مريبُ
وما في الورى مثلي عليمٌ بحسنكم
فإِني بأسرار الجمالِ لبيبُ
أبيتُ أناجيكم على بعد داركم
وأدعو خيالًا منكمُ فيجيبُ
وأطعمه زادي وأسقيه خمرتي
وأبغيه في الظلماءِ وهْو قريبُ
وأجلسه جنبًا لجنبي وإِنني
إِليه وإِن طال البعادُ أءوبُ
وأسأله عن حالهِ كيف حاله
ولي منه إِلفٌ شائقٌ وجنيبُ
نظمتُ معاني الحبِّ فيكم جميعها
فلم يَبْقَ منها شاردٌ وغريبُ
ولم يَبْقَ إلا أَنْ أُجنَّ بحبكم
وتُهلك قلبي زفرةٌ ونحيبُ
كأنكمُ طيفٌ لِطَيْفٍ يزورني
فيا طيفَ طيفٍ هل أراك تئوبُ؟!

عشيق القمر

(وهي أنشودة من أناشيد الصيف والليل والقمر.)

نشر البدرُ على داركمو
خلعًا والدارُ تزهو بالضياء
في ليالي الصيفِ حيث القلب من
شجوه بين التمني والرجاء
إن بيتًا أنتمُ سكانه
لخليق ببهاءٍ وسناء
لخليق أن يبيت البدر فيه
ساطعًا بين عراص وفناء
أحسن الضوء على داركمُ
ما ديار الحي عندي بسواء
يخشع الطاووس من حسنكمُ
ويبيت البدر مسلوب العزاء
فكأنَّ البدرَ من حُبِّكُمُ
حائرٌ يقطع أرجاءَ السماء
فهْو مثلي هالكٌ من حبِّكُمْ
وهْو مثلي بين يأسٍ ورجاء
ويطلُّ البدرُ من طاقاتكم
ويحيِّيكم بألحاظ بطاء
بَسَطَ البدرُ على فرشِكُمُ
حُلَّهً فضيةً شتى الرُواء
وعلا وجهكم منه ضياءٌ
كضياءِ الطهر محمود الوضاء
وهْو في أحلامكم آفاقه
وجهه في حلمكم جمُّ السناء
وهْو في أحضانكم ذو سِنةٍ
ليس يشقى فيكُمُ بالرقباء
ليتني يا بدر ضوءٌ ساطعٌ
منك في دارٍ ضنين باللقاء
فأراه وهْو عنِّي غافلٌ
ليس يلقاني بعذلٍ أو عداء
أأقضِّي العمرَ في هجركمُ
خائبًا بين صباحٍ ومساء؟
يا دواء القلبِ من أسقامه
كيف ترمي القلبَ بالدَّاءِ العياء!
يا ليالي الصيفِ عودي بالهوى
كم عدتنا عنك أيام الشتاء
يا ليالي السعدِ عودي بالمنى
قد تمادى حكم أيام الشقاء!

الحب والرحمة

لما رأيتم حياتي في اقترابكمُ
وأن بُعْدَكُمُو والموت سيانِ
بِنْتُمْ فلا رحمة فيكم أؤمِّلها
ولا تحسُّون ما بثي وتحناني
فادعُوا ليَ الله أن أنساكمُ أبدًا
وأن أبيتَ على صبرٍ وسلوانِ!
حسبي الذي قد عناني من جفائكمُ
وقسوة كَمنتْ في صخر صوان
والله لو متُّ من شوقٍ ومن كمدٍ
لما بللتم بماءِ الدمعِ أكفاني
ولا عناكم مماتي في محبتكم
بل كان حظي من سخرٍ ونسيانِ
ولو جُنِنْتُ لما اهتاجَتْ لواعجكُم
ورُحتُمُ بين مزهوٍّ وجذلانِ
أبَعْدَ ما قد بدا لي من عداوتكم
تبدون للناس من صحبي وإخواني؟
يا طارقَ الموتِ فيك الأمن أنشدُهُ
فأنت أرحمُ من صحبي وخلاني!

أملح الناس

ألا يا أملحَ الناسِ
وطاق الوردِ والآسِ
لقد حلَّلْتَ إِيحاشي
وقد حرَّمْتَ إِيناسي
ألا يا أملحَ الناسِ
أما لي فيك من آسي؟
وهل تزهد في حبِّي
وما بالحبِّ من باسِ!
أما يقدر أن يرحـ
ـمَ قلبي قلبُك القاسي
أبيتُ الليلَ سهرانًا
على همٍّ ووسواسِ
وأقضي اليوم في همٍّ
أريق الهمَّ في الكاسِ
وقد حبَّبْتَ لي الموتَ
فهل يهنيكمُ ياسي
سينعاني لك الموتُ
وأحسوه مع الحاسي
فهل يهنيكم موتي
وأن تركد أنفاسي؟
وأن أدرج في قبري
قتيل الحب والياسِ؟
فمن يصدح بالشعر
ومن يسخر بالناسِ؟
ولو أني دعوت البدْ
رَ جهرًا غير إِبلاسِ
لحيَّاني ولبَّاني
على العينين والراسِ!
وأدعوك فلا تدنو
وأنت الغافل الناسي
ألا يا أملح الناسِ
وطاق الورد والآسِ
لقد خلفني الحبُّ
صموتًا بين جُلَّاسي
وقد مزقني الحبُّ
بأنيابٍ وأضراسِ!

ذكرى الحبيب الأول

ذكرى الحبيبِ الأولِ
أم لحْن شدْو البلبلِ؟
أورى هيامك يا فؤا
دُ وكنت عنه بمعزلِ
فدع الشجونَ لأهلها
ليس الزمانُ بمقْبِلِ
أصبحت ربعًا دارسًا
بين الصبا والشمألِ
ولقد عهدتك آهلًا
بالحبِّ غيرَ مُعذَّلِ
وعهدتُ فيك الحب بيْـ
ـنَ مُنوَّرٍ ومكلَّلِ
يا قلبُ هل من مرجعٍ
ذاك الزمان المنجلي
هيهات ليس بعائدٍ
عهد الهوى المتحملِ
أصبحت كالقبر الذليـ
ـلِ وكالظلامِ الأليلِ
من بعد ما قد كان حبُّـ
ـك كالرحيقِ السلسلِ
فثملت من شجوٍ ومَنْ
يعشَقْ كعشقك يثملِ
وتقول إِنْ أَمَلٌ بَدَا
يا ليت ذلك كان لي
قد كان يعجبك الدلا
ل وعزة المتدللِ
أصبحتَ لا أملًا تَرَا
ه ولا رضا المتجملِ
كأسُ الحياةِ تمجُّها
كالشهد شِيبَ بحنظلِ
في كل يومٍ لوعةٌ
بين الضلوع كمِرجلِ
حتَّام أنتَ معذَّبٌ
ترضى بعيش مذللِ
ولقد ظمئتَ إِلى السرا
بِ فَعِشْ كقفرٍ ممحلِ
هذا جزاءُ معاندٍ
يرضى بحبِّ مضللِ
ويذوب إِثْر الغادريـ
ـن بلهفةِ المتعجلِ
ويحبُّ سحارَ اللوا
حظ قلبه كالجندل
فاكْتُم حنينَك يا فؤا
د فما السرابُ بمنهلِ
ودَعِ النسيبَ فسحره
أعياك من متغزلِ
إِن الذي أحببتَه
ينأى بقلب معضلِ
يا قلبُ ما لك خافقًا
أشجاك شدوُ البلبلِ؟

(أرسل الأستاذ الجليل عبد الحميد العبادي هذه الأبيات البديعة إلى صاحب الديوان):

يا شاعر القلب رفقًا إِنني وصب
دامي الفؤاد أحانٍ أنت أم جانِ؟
رفقًا فلي مهجة إِن لم تكن فَنِيَتْ
فقد غَدَتْ أشبه الأشياءِ بالفاني
قرأتُ شعرك كي آسو به حزني
والشعر خير دواءِ المدنف العاني
فهاج شعرك ما بي اليوم من كبد
مصدوعة وفؤادٍ جدِّ حرانِ
لله أنت أقوَّال بألسننا
تبدي خفيَّ مَشُوقِ القلب ولهانِ
إِلَّا تكن عارفًا نجوى ضمائرنا
فما لنا قد حننَّا كل تحنانِ!
كم ذا أريد لأنساه فيخذلني
هوى دخيل وقلب غير معوانِ
سأقرأ الشعر يا «شكريَّ» تبعثه
وإِن أثار عليَّ الشعر أشجاني
قد يعشق المرءُ ما يبلى حشاشته
كأنما موتها محيا لها ثانِ!

(فبعثَتْ صاحبَ الديوان إلى عمل هذه القصيدة):

الشعر

طرب الفؤَاد فهاتها
فالخمر في أبياتها!
«عبد الحميد» جلوتها
كالكأسِ في لمعاتها
إِن النفوسَ صحائفٌ
الشعرُ من آياتها
والنفسُ طيرٌ صادحٌ
والسحرُ في نغماتها
لو راعَ كسرَ الدهر شيءٌ
رِيعَ مِنْ نبراتها
فترى الحياةَ قنيصة
في الشعر من عقداتها
والعيشُ نهزةُ شاعرٍ
يقتصُّ من فلتاتها
والشعرُ تاريخُ النفو
س ومعقلٌ لحياتها
والشعرُ كأسٌ للنفو
س حذارِ من نشواتها
والشعرُ ورد يانعٌ
غرسته في جناتها
والنفسُ ريحٌ قد هَفَتْ
بالشعرِ من نفحاتها
والنفسُ طورًا كالسمو
مِ تروع في لفحاتها
والنفس بحر زاخرٌ
والشعرُ من موجاتها
والنفس طيرٌ في الحيا
ةِ يطير في روضاتها
في أرضها وسمائها
غَرد وفي جنباتها
إِن القلوبَ خوافقٌ
والشعرُ من نبضاتها
فترى الحياةَ جميعَها
منشورةً بصفاتها
والشعرُ مرآة الحيا
ةِ تطل في مرآتها
تجلو أساليبَ الحيا
ةِ تلوح في صفحاتها
فتراه في آلامها
وتراه في لذاتها
والشعرُ في عبراتها
والشعرُ في ضحكاتها
وهو المعينُ على الحيا
ةِ يغضُّ من نكباتها
والشعرُ نورٌ ساطعٌ
عادٍ على ظُلُماتها
ويصيغُ من ألم النفو
سِ اللحن في أناتها
ويضيء كلَّ جريمةٍ
فيبين عن غاياتها
فهو الخبيرُ بما يحثُّ
النفسَ في فعلاتها
للنفسِ نشوةُ راقصٍ
والشعرُ من رقصاتها
للنفس همةُ ساحرٍ
والشعرُ من نفثاتها
في كُل نفسٍ منزلٌ
للشعرِ من حركاتها
في الطفل والرجل الكبيـ
ـرِ يجول في حالاتها
وتراه في فتيانها
وتراه في فَتَيَاتِهَا
في حزنها وسرورها
وطموحها وشكاتها
والشعرُ نغمةُ صادح
والنفسُ من آلاتها
أشجانُها أوتارُها
والشعرُ من رناتها
ولكلِّ شيءٍ مبعثٌ
للنفس من رقداتها
والشعرُ كالإِلهام يأ
تي النفس في يقظاتها
والكون آيةُ شاعرٍ
يأتي بمبتكراتها!

بين العذر واللوم

ألا عللوني بالظنونِ الكواذبِ
ولا تتركوا قلبي لنَهْبِ النواهبِ
ولا تسألوني كيف أنت فإِنني
أرى الموتَ في هجر الحبيبِ المجانبِ
بخلتُ به بخلَ الشحيحِ بماله
وكان جوادًا بي على كل عاتبِ
فلا تحسبوا حبي غرورًا وزهوةً
كأني خليقٌ باقتراب الحبائبِ
وإِني لأدري أنني لستُ للهوى
وأنيَ مشنوءٌ كثيرُ المعايبِ
لذاك أذود القلبَ عنكم فينثني
إِليكم فقلبي عندكم غير آيبِ
فلا تعجبوا أني لججت بحبكم
فإِن عزاء النفسِ شرُّ العجائبِ
وكنتُ أظنُّ الحبَّ أمنًا ولذةً
فجار عليَّ الحبُّ بين النوائبِ
وكنتُ أظن الحبَّ في العيشِ بلسمًا
فكان كريشٍ في سهام المصائِبِ
ومن لي بنزع السهمِ والسهمُ قاتلٌ
إِذَا ولغت أطرافه كالمخالبِ
أأحبابنا رفقًا بقلبٍ مولَّهٍ
كثير الجوى عفِّ الهوى والرغائبِ
جعلتُ لكم عذرًا على الصدِّ واسعًا
فإِن فؤادي عاذرٌ غيرُ عائب
وما كان لي في حبِّكم وجهُ حيلةٍ
وكيف وقد سُدَّت وجوهُ المذاهبِ
وخلَّفْتُموني أحسُدُ الناسَ حبَّهم
وأوحشتموني من حبيبٍ وصاحب
وخلفتموني إِن مررتُ برفقةٍ
بكيتُ على فقْد اللدات الأصاحب
وما ليَ حقٌّ عندكم فألومكم
على الهجر إِنْ أدلى مُحِبٌّ بواجبِ
قبلتم غرامي رحمةً وتطولًا
فإِن ارتضاءَ الحبِّ جهدُ المناقب
وحسبيَ في حُبِّيكُمو أن علمتمُ
بأنكمُ في النفس خير الحبائبِ
فيا نشوة الحبِّ الذي أنا شاربٌ
هو الحبُّ مثلُ الخمر مرُّ العواقبِ
ومن لو رآني هالكًا من صبابةٍ
لخال فؤادي نهزةً للَّواعب
أَضِئْ لي وجوهَ العيش منك بعَطْفةٍ
فقد ضلَّ قلبي في سواد الغياهبِ
وأنت جميلٌ كالحياةِ محببٌ
وإِن كنتَ مثلَ العيش مرَّ التجاربِ
أبيت وطرفي بالنجوم مقيدٌ
أُرَدِّدُ لحظي في عيونِ الكواكبِ
فيا نَجْمِيَ النحس الذي أنا ناشد
أراك ضئيلًا آفلًا غيرَ ثاقبِ
فليت حياتي غالها الموتُ غوْلةً
وأصبحت في قبرٍ ذليل الترائبِ
أُدَلَّى بمهواة سحيقٍ قرارها
ويُحْثى عليَّ الترب من كل جانبِ
فإِن متُّ لا تبكوا عليَّ بلهفةٍ
ولا تُسْمِعُوا روحي نواح النوادبِ
فإِن نفاقًا ما يكون بكاؤكم
وخشيةَ لومٍ ما نواح الأقاربِ
ويا قلبُ كم تبغي مصادقًا
وتُبْصِرُ في الأحلام صفوَ المشاربِ
فتغفى قليلًا بين وافٍ وصادقٍ
وتصحو طويلًا بين خبٍّ وكاذبِ
وإِن غرورًا بغية قد بغيتها
فلا تأْسَ إِن أمسيت في عيش خائبِ
أما أنت مثل الناس خبًّا وكاذبًا
صميم الخنى جمُّ الأذى والمثالبِ
وكلُّ امرئٍ في العيش للعيش خادمٌ
يقادُ الفتى في العيش قودَ الجنائبِ

نجوى

أسارقه الألحاظَ والناسُ بيننا
فترجعني عنه العيونُ النواظرُ
وينفر من قلبي وقلبيَ روضُه
ويزهد في حبِّي وحبيَ طاهرُ
وهل أنت إِلا كعبةٌ أنا عابد
وهل أنت إِلا منسك ومشاعرُ!
وإِن كنتَ في الصحراء فهْي خميلةٌ
وإِن كنت بين الزهر فالروض باكرُ
وكيف يكون الروضُ بعدك ناضرًا
إِذا لم يكن في أيكه منك طائرُ!
ألا إِنَّ روضِي صوَّحَتْ شجراته
فلا النبتُ مخضرٌّ ولا الزهرُ زاهِرُ
وغاضت عيونُ الماء فيه وأدرَجَتْ
عليه أكاثيبَ الترابِ الأعاصرُ
وأصبحَ مهجورًا خرابًا تروده
وحوشُ الفيافي والطيورُ الكواسرُ
وقد كان كالفردوسِ حسنًا وبهجةً
فأهلكه صرفٌ من الدهر غادرُ
وأهلكه أن لا حبيبَ يزوره
فلا الطير تهواه ولا الغيث ماطرُ
وكيف يعيشُ النبتُ والغيثُ باخلٌ
وكيف يُسَرُّ القلب والحسنُ هاجرُ؟
وما الحسنُ إِلا روضة النفس، والهوى
علالة نحس الجدِّ، والجدُّ عاثِرُ
وما الحسنُ إِلا حاجة النفس إِن أُصب
فلست أبالي الدهرَ، والدهرُ غادرُ
وحبِّيَ فضلٌ للذي أنا عاشق
وما كلُّ حبٍّ فَخْرُ مَنْ هو فاخِرُ
وأحببتُ من قد كان مثلك بهجة
فشطَّتْ به عني المنايا البواكرُ
يذكِّرُنيه كلُّ قولٍ تقوله
وهيهات لا تجدي الحزينَ الخواطرُ
وكنتُ وإِياه كعينٍ وأختها
وكنَّا كسرٍّ غيَّبَتْه الضمائرُ
وكنا نجوب الليلَ، والليلُ فاتنٌ
وكنا نؤمُّ الفجرَ، والفجرُ حاسِرُ
وكان على رغم الحسودِ ودادنا
هيامًا وتحنانًا تجن السرائرُ
سلامٌ على البدر الذي غيَّب الردى
وليس على البدرِ الذي هو هاجِرُ
فيا بدر إِنَّ العيشَ بعدك مظلمٌ
ويا بدر إِن الطرفَ بعدك ساهِرُ
ويا بدر طهِّر بؤسَ عيشي ونحسَه
بضوئك إِن الضوءَ كالماءِ مائِرُ
ففيك معاني الحسنِ والشعرِ والهوى
وأنت كما تهوى النهى والبصائرُ
فيا بؤس للحيِّ الذي ليس فاتئًا
ينوح على مَنْ غيَّبَتْه المقابر!

عقوق الغدر

محضْتُكَ النصحَ في سرِّي وإِعلاني
كأنما النصحُ من ديني وإِيماني!
قد كان لي حلمٌ في الناس أنشده
يجلو همومي ويأسو كلْمَ أحزاني
حلم من الصدق والإِخلاص تنسجه
أواصرُ الشعرِ من سحرٍ وتبيانِ
وشمتُ فيك خصال النفس زاهيةً
والنفس تُجلى بأوصافٍ وعنوانِ
حسبت نفسك نورًا ما به ظلم
فما اعتذاري إِذا ما طاش حسباني؟
قوارِصٌ عنك تأتيني وأكتمها
بأي وجهيك بين الناسِ تلقاني؟
تذيع أن ودادي فيَّ منقصةٌ
حسيبك الله من عادٍ ومن جاني
حسيبك الله ليس السوءُ من شيمي
ولا الخيانة والإِسفاف من شاني
في أي شرع يجوز الغدرُ عندكمُ
حتى تقابل تحنانًا بعدوانِ؟
تقول بالظن قولًا لست صادقه
يا بُعْدَ ما بين ذي صدقٍ وظنانِ
أحسنتُ ظني وحسنُ الظن تجهله
فسوءُ ظنِّك فيهِ شكُّ حيرانِ
أستودع الله ما قد خلته زمنًا
فيكم وأبرأ من ودٍّ وتحنانِ
ما أنت أول من خانت أواصره
وراح ينقض بين الناس بنياني
أعيا على الناس أمرُ الناسِ كلهمُ
فالخلقُ للخلق شيطانٌ لشيطانِ
ليت الزمان عداني عن لقائكمُ
كي لا أُلام على سخرٍ وأحزانِ
لولا خيانتكم ما خلتُ من شجنٍ
إِن الفضائل من أحلامِ غفلانِ
تغتابني ثم تلقاني وتضحك لي
والقلب ملآن من سوءٍ وأضغانِ
كم ضاحكٍ هو مثلُ الزهرِ مبسمه
وفيه حتفك من سمٍّ وذيفانِ
يا رُبَّ شاكٍ شكاه الناسُ قاطبة
فراحَ يقدح في صحبٍ وخلانِ
بينا أُنوِّهُ في أمن بذكركمُ
إِذ أنت تنقص من قدري ومن شاني
هذا جزاء امرئٍ بالناس منخدعٍ
فالغافل الغرُّ فينا فرصةُ الجاني
أقول علَّ الذي بُلِّغْتَهُ كذبٌ
هيهات ما هو من إِفكٍ وبهْتانِ
فقد أتى بدليل لست تدفعه
وهل يكذَّب من يسعى ببرهانِ؟
يا رُبَّ لا يُرتجى في الأرض ذو ثقةٍ
عفُّ اللسان على صحبٍ وخلصانِ
لأي أمرٍ يعيش الغادرون بها
أما تضيق على خبٍّ وخوانِ
من صح نفسًا فلا يزري به صغر
إِن الكبيرَ كبيرُ النفسِ والشانِ
بعضُ القلوب قلوبٌ قال بارئها
كوني عن الصدقِ والإِخلاص في شانِ
بعضُ النفوس نفوسٌ كلها جيفٌ
فاربأ بنفسك عن نتنٍ وديدانِ
وكن كما خِلْتُ فيكَ الفضل أجمعه
وحسب نفسك من لبٍّ وأذهانِ
اعتدت من أهل دهري كلَّ منقصةٍ
فلا ألومك في مكرٍ وعدوانِ
وما عتابيك في طبعٍ بُلِيتَ به
الطبع أغلبُ من نصحٍ وعرفانِ!

بعد الود

سلامٌ عليكم يا أخلاي أنتمُ
لقد طالَ هجرٌ منكُمُ فنسيتمُ
فأصبحتمُ في العين كالناس كلهم
وقد كان قِدْمًا مطمح العين فيكمُ
وقد كنت قدمًا أبصر الزهر منكمُ
وأسمع شدوَ الطيرِ إِما نطقتمُ
فخلتم ودادي خلةَ العبد ضلةً
فراح بنا عنكم عزاء ورحتُمُ
فما كان من فضلٍ لديكم وددتُكُمْ
ولم تَرَ نفسي الودَّ برًّا لديكُمُ
خلعت عليكم نورَ حبي وخلتُكُمْ
كما يخلع القلبُ المحبُّ عليكُمُ
فكنتم لدى نفسي كما النفسُ تشتهي
يلوحُ لعيني مطمحُ النفس منكمُ
فأصبحتمُ ذكرى كأمس الذي مضى
وغُضَّتْ لحاظُ العينِ والقلبُ عنكمُ
فكونوا كما شئتم جفاةً فإِنني
عرفتُ عزاءَ الصبرِ حين غدرتُمُ
وهَوَّنْتُ من وجدى وكفْكَفْتُ عبرتي
ونامَ على السلوان طرفي ونمْتُمُ
فإِن غبتمُ ما حنَّ قلبي لذكرِكُمْ
ولا أنتمُ منا ولا نحن منكُمُ
لقد هنتمُ إِذ هان حبي لديكمُ
ولو صنتمُ ودي لكنا وكنْتُمُ
وكنتمْ مكان النجمِ عنديَ عزةً
فأطغاكمُ ذاك المكانُ فهنْتُمُ
دعوتكمُ للودِّ حين وددتكُمْ
فكان بكُمْ وقْرٌ إِذا ما دُعيتُمُ
ورتلتُ آيات الإِخاء عليكُمُ
فهل كان ذنبي أنكُمْ ما فهمْتُمُ
وأنتمْ وجدتمْ قسوةَ الغدرِ لذةً
فلما بلونا راحةَ الصبر لمتمُ
قسوتمْ علينا إِذ حننَّا إِليكُمُ
فلما أردنا هجركم ما رحمتُمُ
نزعنا نزوع اليأسِ عنكمْ فلمتمُ
فإِن شئتمُ عدنا إِليكم وعدتُمُ

الحب والطبيعة

رحمَ الله محبًّا والهًا
لم يَجِدْ من حبِّكُمْ وجْهَ المآبِ
إنَّ مما نابه من هجرِكُمْ
كأنين الريحِ في الربع الخرابِ
وهْو كالعصفورِ غرِّيدًا على
غصنِه والغصنُ يزهو كالشبابِ
وترى العاشقَ في لوعاته
أبدًا بين سكونٍ واصخطابِ
وهْو كالبحرِ وللحب جلالٌ
كجلال البحرِ مخشيُّ العبابِ
وقطوبٌ كقطوب الليلِ إِنْ
أقبلَ الليلُ كإِقبال السحابِ
ولَهُ بشر كبشر الفجر إِن
سرَّه وعدُ حبيبٍ باقترابِ
وهجير كهجير القيظِ إِذْ
غلواء الصيف ريعان التصابي
وهْو آنًا عزةٌ مثل السهى
وهْو آنًا ذلةٌ مثل الترابِ
وهْو مثلُ النارِ من أشجانه
أبدًا بين اضطرامٍ والْتِهابِ
يحسب الكونَ إِطارًا دونه
رسْم من يهوى مضيئًا كالشهابِ
أو كتابًا فُصِّلَتْ آياته
وحبيب النفس معنًى للكتابِ
الهوى والمال والجاه سواءٌ
نشوة العيش وغايات الطلابِ
فهْي تُلْهي المرءَ في دنياه عن
عبثٍ للعيش خدَّاع السرابِ
لا تَرُح بالصحو من كاساتها
فترى العيشَ بألحاظٍ غضابِ
اسقني خمرَ المساعي والهوى
فجمالُ العيشِ في ذاك الشرابِ

نرجس

نَرْجَسُ أنتِ الحسن يا نرجسُ
تشتاقكِ الأبصارُ والأنفسُ
ترضعك الشمسُ بأضوائها
واليوم صحو أفقه مُشْمِسُ
تحنو على الغدران مستأنسًا
يا زهرة في روضها تغرسُ
تبصر وجهَ الحسن في مائها
بحسنه كلُّ امرئٍ يأنسُ
حتى إِذا البدر بدا ضوءُه
يزينه في ثوبه الحندسُ
أفقت في جسمٍ كجسم الدمى
يُلْتَذُّ منه الشمُّ والملمسُ
كالدرِّ من أصدافه خارجًا
والدرُّ في أصدافه يُحْرَسُ
عند غديرٍ شَبِم ماؤه
خلعت من ثوبك ما يلبسُ
لكي ترى حسنَك في مائِهِ
تخلس منه العينُ ما تخلسُ
تدلُّ بالحسن على بدره
والبدرُ دانٍ فوقه يلمسُ
فأنت والبدر على مائه
بدران قد حفَّهُما الحندسُ
وتستحمان على مائه
وأنت من بدريكما الأنفسُ
تقوم قرب البدر في مائه
لكي ترى أيكما الأملسُ
تعوم كالنشوان من حُسْنِه
تُسكر من خمرته الأكؤسُ
نرجس أنت الحسن يا نرجسُ
يقبس منك الطرفُ ما يقبسُ
أشهى من الروضة إِذ تنثني
قَدُّك من أغصانها أميسُ
وطرفك الأدعج يا نرجسُ
يشوق فيه الحسن إِذ ينعسُ!

الحطاب والحشرة أو دين الكون

خَرَجَتْ من حُجُرَات الْـ
أَرْض والعينُ تراها
ذات ذُلٍّ وخشوعٍ
تحسب الخير نماها
داسها العابرُ قدْمًا
فهْي لا يُخشى أذاها
فرآها حاطبٌ يسْـ
ـعى لحاجٍ قد بغاها
قال بالظن وقدمًا
كان ما ظنَّ سفاها
قال لا يسعى إِلى الشرِّ
ضعيف قد تناهى
بلغ الإِشفاق منه
مبلغًا حتى حماها
قالت الحيةُ قولًا
حجة فيما عراها
إِنما الحمدُ قيودُ الْـ
ـبُلهِ مفكوك عراها
بُنيَ الكون على الخدْ
عةِ لا دين سواها
كل نفس ذات مكرٍ
حين تستدني مُناها
كم مُداجٍ وجَدَ الشرَّ
مطايا فامتطاها
بلغ القصدَ ولمَّا
يعبد التقوى إِلهَا
بلغ النجح ولمَّا
يبلغ الحسنى رضاها
لذعته لذعة الخِبِّ
فأخطاه أذاها
فرماها تحت رجلَيْـ
ـه هوانًا وقلَاهَا
ليت وطْئًا ما عداها
ليت طرفًا ما رآها
ربَّ خبٍّ دفنوه
تحت أرض قد حشاها
لا تُصب بالخير نفسًا
ليس للخير هواها
قد يُضلُّ السوء حتى
تبلغ النفسُ عماها
فترجِّي كل خير
في الذي فيه رداها
إِنما الرحمة ضعفٌ
إِن تُصِبْ مَنْ لا يراها!

الوتر المفقود

أحْسَسْتُ أنَّ نفسي
من شجوها كعودِ
أوتارها مليةٌ
بالنغم السديدِ
تخلق من ألحانها
روحًا لذي الجمودِ
ألحانها معانٍ
من محكمِ القصيدِ
لكل معنًى وترٌ
في عودها المشدود
فللشقاءِ وترٌ
ووتر المسعودِ
ووتر يشدو لها
بالمطلبِ البعيدِ
كأَن ريحًا إِن شَدَتْ
تُطْلَقُ من ركودِ
ووترُ الحزينِ
ووترُ السعيدِ
ووترٌ مقتبَسٌ
من جنة الخلودِ
قد وقعت عليه الْـ
ألحانُ بالترديدِ
كأَنها مِنْ لَحْنِهِ
في فرحٍ وعيدِ
تسمع في ألحانه
بلابل التغريدِ
يا نَفْسُ ما دهاكِ
من شقوة الجدودِ؟
فوقِّعي عليه
وغَرِّدِي وعودي
واحْسِي الغناءَ وانتشي
من طربِ النشيدِ
هيهات أين مني
ذو الوتر المنشودِ
قد كان في فؤادي
كجنةِ الخلودِ
لشدِّ ما أعاني
للوتر المفقود!

أغاريد شاعر

نغماتُ البلابلِ
أم أغاريد شاعرِ
لعبت بالسرائرِ
واستبدَّتْ بخاطري
نقعت غلةَ الفؤا
دِ بريِّ الهوامرِ
وغيوث مواطر
من غيوث البصائرِ
أخصب القلب بعدها
من صنوف الأزاهرِ
بعدما كان مجدبًا
من قشيبٍ وناضرِ
إِنما الشعرُ نغمةٌ
كحنينِ المزامرِ
أو رعود الرواعد
أو أنين الأعاصرِ
ومعانٍ خوالدٍ
كالنجوم الزواهرِ
إِنما المرءُ ذرةٌ
في رياحِ المقادرِ
إِنما العيشُ نغمةٌ
في زفير الزوافرِ
نغمةُ الخفضِ والنعيـ
ـم ونحسٍ مخامرِ
إِنما العيش قصة
أو أحاديثُ سامرِ
فأَجِزْ عنيَ الهمو
مَ بألحان شاعرِ
نغماتٌ شجيةٌ
هي خمرُ المشاعرِ
كل أمْرٍ نُحِسُّهُ
فرصات لشاعرِ
إِنما الشعر في الحيا
ةِ كمنظارِ ناظرِ
يصف الناسَ كلهم
من تقيٍّ وفاجرِ
يُشعر المرءَ حالهم
من صروفِ المقادرِ
يرفع النفسَ سحره
عن وهادِ الحقائرِ
لسماءِ العظائم
عن حضيض الصغائرِ
فهْو دينٌ لطامحٍ
من مصيبٍ وعاثرِ
يصف العيشَ في الكما
لِ عديم المحاذرِ
فيحنُّ الورى إِليْـ
ـه حنينَ المسافرِ
فيه إِغراءُ واردٍ
وبه حثُّ صادرِ
يجعل اليأس والطمو
حَ دواء المغامرِ
يدفع النفس بالخيا
لِ لورد المآثرِ
يُبلغ النفس أفْقها
كجناحٍ لطائرِ
لا تُقَاس النفوس بالْـ
ـمالِ في ذُخْر ذاخرِ
وهْو دينُ الضمائرِ
لا مقال المنابرِ
يفتح النفسَ ضوءه
مثل ضوءِ التباشرِ
مثلما يفتح الصَّبَا
حُ زهيَّ الأزاهرِ
يلْقح النفس وقْعه
ربَّ نفس كعاقرِ

صوت الله نجوى المؤمن

أَنْصِتْ ففي الإنصاتِ نَجْوَى النفوس
فإِنَّ صوْتَ الله دانٍ كليمْ
وكُلُّنَا موسى لدى ربِّهِ
وكل روحٍ حين يصفو عظيمْ
وإِنما نفسُ الفتى معبدٌ
يضُيئها الله بنورٍ عميمْ
والنفس بيتُ الله إِن طَهُرَتْ
والنفس إِن لم تَصْفُ مثل الجحيمْ

•••

أَنْصِتْ أَمَا تسمع ذاك الدعاءْ
صداه في الأنفس صوت الضميرْ؟
مَنْ ذا الذي أَوْدَعَ فيك الرجاء
ومطلبَ الخير وكره الشرورْ؟
يا هاتفًا في جُنْحِ ليلٍ بهيم
لبيك فالقلبُ كعبدٍ أسيرْ
أنت رجاءُ النفس في أَسْرِها
تضيءُ في العيش ظلامَ الأمورْ
وأنت صحْو الروح في بحثها
من نشوة الفكر وسُكْر الغرورْ

•••

إِن كَرَثَ الخطبُ وعمَّ البلاءْ
فقُرْبُه للنفس قرب الرجاءْ
ففي الأسى يبدو ضياءُ المنى
وفي الأسى نُبْصِرُ منه الضياءْ
والوقر عن نجواه وهن النفوس
والوهن في الأنفس داءٌ عياءْ
نجواك نجواك دواء الأنام
مِنْ عَنَتِ العيشِ ووقْع الشقاءْ

•••

تسكب منك الضوء في الأنفس
فيرفلُ العيشُ ببردٍ قشيبْ
يَعْبُدُكَ الناسُ بأعمالهم
وما يعانون لوقْعِ الخطوبْ
وبالأسى في عيشهم والندم
عبادة الندب الجليد المصيبْ
طوبى لمن روَّضَ من نفسه
فإِنَّ صَوْتَ اللهِ منه قريبْ

وا رحمة للناس

تُعَلِّمني الأقدارُ أن أرحمَ الورى
فقلبي لكل العالمين رحيمُ
وأَنْظُرُ في نفسي وأعرف عُذْرَهُمْ
على شرِّهم داءُ النفوس قديمُ
وإِنَّ جميعَ الناسِ أهلي وإِخوتي
وإِن كان فيهم جارمٌ وذميمُ
فيا ويْح هذا الخلق مما يصيبهم
مقادير يتلوها أذًى وهمومُ
وليس خصيمي من يريد شقاوتي
فإِنَّا جميعًا للقضاءِ خصومُ
أليس أسير الشرِّ أولى برحمةٍ
وأي امرئٍ مما يُذَمُّ سليمُ
أليس أسيرُ السوءِ يغدو معذَّبًا
به من حزازات النفوسِ كلومُ
وأَحْسَنُ ما فات امرءًا حُسْنُ نَفْسِهِ
وإِن خَفِيَتْ عمن يودُّ وُصُومُ
وليس شقاءُ المرءِ رهنًا بِشَرِّهِ
وليس على قدرِ العقولِ نعيمُ
فوا رحمة للمرءِ حتى حياته
تناهب قوتٍ إِنه لَلَئِيمُ
وإِن أشدَّ اللؤم لؤمُ ابن طعمةٍ
يبيع بها من نفسه ويسومُ
وليس يبالي الناسُ هلْك نفوسِهِمْ
إِذا سلمت طول الحياة جسوم
فنونٌ وآداب وفقهٌ وصنعةٌ
وفضلٌ وجاهٌ واسعٌ وعلومُ
وسائلُ يستدني بها رزقَ يومه
يريم به في عيشه ويقيمُ
فوا رحمة للمرءِ مِنْ سُقْمِ نفسه
وكل الذي يبغي الشرورَ سقيمُ
ووا رحمة للمرءِ من عجْز نفسه
هو العزم إِن حال القضاءُ عقيمُ
ووا رحمة للمرءِ إِن بات عانيًا
يحنُّ إِلى ورْد المنى ويحومُ
ووا رحمة للناس من سخْرِ عيشهم
وسيَّان فيهم واجدٌ وعديمُ
حياةٌ كمستشفى السقام أليمة
فيسقم فيها أشيبٌ وفطيمُ
خليق بنا أن يرحَم المرءُ صنوَه
فكلٌّ لكلٍّ عاذرٌ ورحيمُ

جهاد المصلحين

أسائلُ عن هذا الورى ومآله
فيخرس داعٍ بيننا ومجيبُ
أفي كلِّ يومٍ معرك بعد معركٍ
حروب على آثارهن حروبُ
ولو كان يجدي أن تطيحَ ضحية
فإِن شقاءَ العاملين حبيبُ
خليليَّ هذا الكون من أولياته
أَأَصْلَحَهُ في العاملين طبيبُ؟
وَكَمْ من نفوسٍ سامياتٍ أَذَلَّهَا
فعادت بأدناس الحياة تطيبُ
ترى دَنَسَ الأشياءِ رؤيةَ آلف
يرى أن أحلامَ النفوس لغوبُ
يظن جهاد المرءِ في العيش ضلة
وأن مساعي المصلحين تخيبُ
يرى أن خيرَ الكونِ ما هو كائنٌ
ووحْيُ النفوس السامياتِ مريبُ
ويحسب أن الشرَّ ضربةُ لازبٍ
وأن أساليب الحياةِ ضروبُ
ويصبح في مجرى الحوادثِ ريشةً
تجوب به الأيام حيث تجوبُ
ويطفئ نور النفس حتى كأنما
دواعي النفوس الساميات عيوبُ
ويحسب نشدانَ الكمالِ حماقةً
وأن دعاءَ المصلحين ذنوبُ
لئن فشلت للعاملين أولي النهى
مساعٍ وذلَّتْ أنفسٌ وقلوبُ
فإِن شرورَ العالمين كثيرةٌ
وإِن الخطوبَ العائقات تنوبُ
وهِمَّة باغي الخيرِ كالدهر صَبْرُها
وقلبُ الذي يبغي الكمالَ رحيبُ
وإِن أمانيَّ النفوسِ كثيرةٌ
تُرِيكَ ضياءَ النجحِ وهْو قريبُ
وكيف يرى ساري الحياة سبيلَه
إِذا حان من نجم الرجاءِ غروبُ
ولولا ضحايا العاملين لأرهقت
شرور على إِثْر الشرورِ تصيبُ
فلا تعجبنْ أنَّ الشرورَ كثيرةٌ
ولكنَّ بأسَ العاملين عجيبُ!

الروح السوداء

يا سوأة ما مثلها سوأة
ما بك من حقدٍ وأوغامِ
يا سوأة كالدهر في وسعه
تنمو بمرِّ العامِ والعامِ
تنقص من خيرٍ ومن عفَّةٍ
وعيبك المستنبت النامي
لو أُطْلِقَتْ روحك وسط الضحى
لألبسته ثوب إِظلامِ
كأنما ينسابُ منها الدجى
يزخرُ في ديجوره الطامي
ما خلقَ الرحمنُ من خصلةٍ
يطير فيها لوم لوَّامِ
إِلا على وجهك مكتوبة
كأنها من خطِّ أقلامِ
خاتم إِبليس على جلده
بيِّنةٌ فيه لأفهامِ
روحُك كانت قبل في ناهقٍ
ريض بأسراجٍ وألجامِ
فلسفة لا شك في صدقها
فلم تكن أضغاثَ أحلامِ!
في كلِّ فضلٍ قادح واقع
تنهشه في نابك الدامي
وذاك برهانٌ على صدقها
والصدقُ ذو وقْعٍ وإِحكامِ!

سنة العيش التنافس أم التعاون

إِني لَأُفْكِرُ، والأيام موعظةٌ
في السابقين وفي التالين من أممِ
من عهد آدم كَمْ من أنفسٍ شَقِيَتْ
وكم عيونٍ بكت من شجوها بِدَمِ
في النور قومٌ، ضياءُ العيش خَمْرَتُهُمْ
وكم أناسٍ شقوا بالعيشِ في الظُّلَمِ
ظنُّ السعيدِ شقاءَ النحسِ مُتَّهِمًا
مرأى الشقاءِ لدى المحدود كالتهمِ
فإِنما طعمة المسعودِ يمزجها
عيش المناكيدِ بالأسقامِ والألمِ
ما نالَ طعمة قوت ساغها سغبٌ
إِلا كأنْ مُزِجَتْ في صنعها بدم
لا تسمعنَّ مقالًا قال قائلُهُ
وما أصاب صوابَ الرأي في الكَلِمِ:
اضحك ولَذَّ فإِن العيشَ منتهبٌ
وأَضْيَعُ الأمرِ عيشٌ حِيطَ بالعدمِ
فذلك القول حربٌ للنهى أبدًا
قد صيَّر الناسَ للذاتِ كالخدمِ
ظنوا الحياةَ محالًا أمرها أبدًا
إِلا على الحقد والبغضاءِ والنقمِ
وإِنما ملجأ النفسِ التي كرهت
عزو الأمور إِلى الأقدار والقِسمِ
إِنَّ المحالَ لديها كل ما كرهت
ليس المحالُ محالَ السعي والهممِ
هذي المقابح طرًّا في تنافسهم
إِنَّ التنافسَ داءُ الجائع النهِمِ
طبعٌ قديمٌ سينضو المرء خلعته
مثل الأديم نضته صِمة الصمم
لا بد من فشلٍ من بعده فَشَلٌ
حتى يفيقَ سوادُ الناسِ من صَمم
انظر إِلى الناس ما في عيشهم أربٌ
داء الخماص وداء الهمِّ والتخمِ
ظنوا التقاتلَ فيه سنةً أبدًا
فعل الوحوش على الأدناس والرممِ
انظر إِلى الناسِ هل يبدي تنافُسُهم
غيرَ التباغضِ والأوجالِ والسأمِ
وكلما قام فيهم ناصحٌ وَجِلٌ
قالوا هو الغرُّ يرعى روضةَ الحلمِ
العيشُ حربٌ ولكنْ في عدوهم
حرب الطبيعة حرب الخير والحكمِ
حربُ الطبيعة حربٌ لا انتهاء لها
حسْب العقولِ وحسْب العزمِ والهممِ
إِن كان يُخشى على الأرزاق أن كثروا
فأحسن الداءِ داء العقم في الرحمِ!
أتحمل الزوجُ كي يفنى الأُلَى حملت
بين المصانعِ والأسيافِ والسقمِ!
لا يسعد الناس سن الحرص سنتهم
حتى يُطَهَّرَ داءُ الحرصِ بالندمِ!

الكونان

قلب اليائس

ضاق قلبي بما يجنُّ
ونفسي بما تشا
فهْي كالبيتِ مغلقٌ
نازح الأهل قد خوى
راكدُ الجوِّ قاتمٌ
فاسدُ الماءِ والهوا
يُفزِع المرء من صدا
ه إِذا ردَّد الصدى
يحسب الجنَّ قد ثوى
جمْعها فيه ما ثوى
أغبرُ اللون عابسٌ
مُظْلِمُ الأرض والسما
ضاق صدري بما يجنُّ
ونفسي بما تشا
فهْي كالبيت مفزعٌ
يُفزع الطرف بالدِما
أهْلَكَ النفسَ جارمٌ
فاتِكُ النفسِ ما ارعوى
أصبحَ البيتُ خاليًا
مسكن البوم والدجى
يُسمع العابر المجدَّ
صراخًا إِذا دنا
أسْكَتَ القلب وقعه
روَّع الأمن والكرى
ضاق صدري بما يجنُّ
وروحي بما يشا
فهْو قبرٌ لعالمٍ
قبل ذا الكون قد مضى
كلُّ روحٍ وذيلةٌ
تهب العينَ ما يُرى
فترى العينَ ما يجيء
ويبدو الذي انقضى
كان كالكون واسعًا
لا يُرى بعده مدى
قُضِيَ الأمرُ فانقضى
بَقِيَ السعي والمنى
ضاق قلبي بما يجنُّ
ونفسي بما تشا

قلب الآمل

فمتى يصبحُ الخرا
بُ جنانًا كما مضى؟
ومتى تبلغ النفو
س مَدَاها من الحجى؟
ومتى ينزعُ الورى
قسوةَ السوءِ والخنى؟
ومتى ينجلي الظلا
مُ عن الفجرِ والضحى؟
ومتى تطهر النفو
سُ من الشرِّ والأذى؟
ضاق صدري بما يجنُّ
ونفسي بما تشا
تبتغي عالَمًا جديـ
ـدًا من الكون قد نشا
خارجًا منه مثلما
تُخْرِجُ الليلةُ الضحى
حَدَّثَ الناسُ أنه
حُلمُ النفسِ في الكرى
قَبْرُ ذا الكون مَهْدُ كَوْ
ن جنينٍ ما إِنْ بدا
حدَّث الناس أنه
قوْل غرٍّ قد انتشى
ضاق صدري بما يجنُّ
ونفسي بما تشا
أيظل الورى كذا
بئسَ ما يفعل الورى!
عبثًا يحلم الورى
حلمَ الخيرِ والنهى
أم لأمرٍ مقَدَّرٍ
فهْو للكونِ كالحدا
حلمُ الخيرِ مُبلغ الْـ
ـكونِ ما ينقع الظما
فلئن كان خدعةً
عبثًا ننقل الخطى
ضاق صدري بما يجنُّ
ونفسي بما تشا!

نظرتان في النفس

إِذا جعل الإِنسانُ نصبَ لحاظِه
مآثمه هانت عليه مكارمُهْ
فييأس حتى يحسبَ الخيرَ خدعةً
وينحلُّ عنه صبرُه وعزائمُهْ
ويصبح لا يرجو صلاحًا لنفسِه
كأَن سرابَ الخيرِ ما هو شائمُهْ
ويحسب كلَّ الناسِ خبًّا وماكرًا
يداريه عن آثامِهِ ويكاتمُهْ
ويحسب أن الخيرَ والشر كذبة
وأنَّ خيالَ الحقِّ ما هو حالمُهْ
فيلتذ ما قد كان بالأمسِ كارهًا
فتعدو عواديه وتسري أراقمُهْ
وإِن جعل الإنسانُ نصبَ لحاظِه
مكارمه هانت عليه مآثمُهْ
فيصبح مغرورًا يتيه بخيره
يرى أنَّ كلَّ الخيرِ ما هو عالمُهْ
وإِن صفات السوءِ ما ليس ربها
وإِن فتكت أسيافه ولهاذمُهْ
كأنَّ محالًا أن يجيءَ بريبةٍ
وإِن لامه في الخلق من هو لائمُهْ
وإِنَّ هوان الفضلِ ينأى بلبِّهِ
عن الفضل حتى يغرم الفضل غارمُهْ
وإِنَّ هوانَ الإِثم يسعى بعزمهِ
إِلى الإِثم حتى يأتيَ الجرمَ جارمُهْ
وكم مَغْرَمٍ للمرءِ في بعض غنمِه
وكم مَغْنَمٍ تزجى إِليه مغارمُهْ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤