الفصل السابع

ديـوان أزهار الخريف

الإهداء

أهدي هذا الديوان إلى إخواني القليلين في أنحاء القطر المصري، الذين أَيَّدُوني بثقتهم ورسائلهم، وأعانوني بها في الحياة على بعد الشقة، ومن غير سابق لقاء، وبالرغم من عداوة السفهاء، وسباب الأخساء، الذين يقول فيهم المتنبي:

وانْهَ المشير عليك فيَّ بِضلَّةٍ
فالحرُّ ممتحَنٌ بأولاد الزنى!

والذين يقول فيهم أيضًا:

أَتُنْكِرُ موتَهم وأنا سهيلٌ
طَلَعْتُ بموت أولاد الزناء؟

مقدمة

لقد ذَكَرْنَا في مقدمة الديوان الرابع أن الشاعر لا يهمه الناس إِلا لأنَّهم باعث من بواعث الشعر، ولم أَعْنِ بذلك — كما زعم بعضهم — أن القصيدة الواحدة يبعث إليها إنسان خاصٌّ، يكون موضوعًا لها ويستثير في الشاعر جميع الخواطر التي دفعت إليها. فإن الشاعر ليس بالراسم. ولو كان راسمًا لاستفاد أيضًا من أفراد كثيرين في عمل رَسْمٍ فنيٍّ خيالي كبير.

ولقد رأى القارئ في بعض هذه الدواوين قصائد في شرح أخلاق السوء كالحسد أو البغض، فحسب بعض الناس أنه المعنيُّ بها. ولعمري لو كان غير ذكي لقلت إنه يريد أن يَشْرُفَ بهذا الادعاء؛ ولكنه أجلُّ من هذه المرتبة. فلم يَبْقَ إلا أن يكون ذلك منه وسيلة لإظهار كيده وشافعًا له، وكما أني لا أعني أحدًا بقصائد الهجاء، كذلك لا أعني أحدًا بقصائد النسيب. ولا أنكر أن الأفراد من الناس هم الذين يستثيرون خواطر الشعر، ولكن هذا القول لا يستدعي أن تكون كل قصيدة في فرْد مُعَيَّن. نعم، الأمر يستدعي ذلك عند المداحين والهجائين ومن جرى مجراهم، ممن لم يضع لنفسه سننًا عامة في فنه، يجري في نهجها. أما القول في أفراد، فهذا أول مذهب وأول عصر من مذاهب الشعر وعصوره. وأما المذهب الحديث فهو أن تكون الطبيعة البشرية ماثلة أمام الشاعر، يأخذ منها لقصيدته ما يقتضيه الفن. ومثل ذلك أن قصيدة «صرصور الشعر» في الجزء الخامس بعث إلى كتابتها صرصور من صراصير الحقيقة لا صراصير الخيال ولا صراصير البشر. وقصيدة «سم الخسة» مأخوذة من مسودات كنت قد ألَّفْتُها في كتاب اسمه «مجالَي الأخلاق»، لم يُنْشَر؛ وكثيرًا من قصائد الغزل في هذا الديوان خواطر كانت تخطر لي فأقيدها في رسائل سميتها: «رسائل الحب» لم تُنْشَرْ. ولذلك أرى من العبث والجهل بفروض الشعر، قول قائل إني أعني أحدًا بما أقول في أي باب من أبواب الشعر.

ولي كلمة أريد ذِكْرَها في العقيدة، ومن يُذِيعُ بين الناس أني على غير هدًى! وأكثر أمثال هذا إما من الجهلاء الأغبياء وإما أهل الحقد والحسد. فليس التساؤلُ والامتعاضُ من مظاهر الشر قلةً في الإيمان، بل إن ذلك غاية الإيمان. وإن الذي يتهرب من الله إلى نفسه، وينكر آياته في والوجود، يجد الله في نفسه في خير نزعاتها. وإن في الله حاجة من حوائج النفس البشرية، وكلما خفيت عنا أدلة وجود الله لعظم الشر والإِثم، كان ذلك الخفاء أدعى إلى تطلُّبه ونشدانه والإيمان به على الوجه الصحيح.

فالإيمان بالله والخير ضرورة وحاجة، لعظم الشر والشقاء. إذ إن الزيغ وقلة الإيمان لا تعين على الشر والشقاء. بل تزيد الحياة اختلالًا؛ كما ذَكَرْتُ في قصيدة «صوت الله أو نجوى المؤمن» في الديوان الرابع. وقد أساء بعض الناس فَهْمَ قصيدة «ليتني كنت إلهًا» في الديوان الثاني، ولا أعراف كيف فات مَنْ صَفَتْ نفسُه من سوء النية من القراء أنَّ نِسْبَتِي سوء الفعل إلى ذلك المتطلب مرتبة إله، خرافة من خرافات الوثنيين، والذي يريد أن يصلح نظام الحياة والكون، هي غاية الإيمان لبيان أن المرء ينتقد ويتسخط الشر والإثم، حتى إذا حكم أتى الشر الذي نقمه. ولو أني جعلت أفعاله في القصيدة حميدةً، لكان ذلك اعترافًا مني بأنه مصيب في نقده وأنه رشيد عادل!

هذه قصيدة «الملك الثائر»، لقد حاوَلَ غبيٌّ أن يقرأها مرة، فقرأ منها أبياتًا، ورأى عصيان الملك، فأخذ منه الغضبُ كُلَّ مأخذٍ، ولم يتم قراءة القصيدة، فلما قرأت له ما لاقاه الملك الثائر من العقاب لعصاينه انشرح صدره وقال: «إنَّه جدير بهذا العقاب!»

وهذه الحادثة تَشْرَحُ السبب في سوء الفهم الذي يعتور بعض الناس في قراءة القصائد التي تشرح أمثال هذه الخواطر والعواطف النفسية التي لها علاقة بالحياة والخلق. فإنه لا يحاول تفهُّم مغزى القصيدة الذي لا يُسْتَخْلَص من أبياتٍ مفردة من القصيدة، بل يستخلصه بأن يفهم وحدة القصيدة الفنية وما تقضيه المقابلة الفنية من اختلاف جوانب الرأي فيها واختلاف حالات النفس التي ضمنتها القصيدة.

آية الحسن

يا قلبُ قصْرك لا تولَعْ بإِنسانِ
لقد كلفتَ بساجي الطرفِ وسنانِ
قد صار لي أَلْفُ عينٍ بعد رؤيتكم
من بعد ما كان لي كالناس عينانِ
مذ صار حسنُك في الإمكان منشأة
فكلُّ مُعْجِزِ أمْر رَهْن إِمكانِ
ومعجز الحسن في خلق خُصِصْتَ به
كمعجز الحبِّ في شِعري وتحناني
وصار لي ألف قلب أرتجيك بها
يا ليتني زدت في روحٍ وأشجانِ
كي لا يضيع جمالٌ منكَ أُبصرُهُ
ورقَّةُ اللفظِ في سحْرٍ وتبيانِ
بل ليتني الكون طرًّا ليس يبصرُكُمْ
سواي في الخلق من وحشٍ وإِنسانِ
هل نافعي أنني في الحبِّ منفرد
فليس في الخلقِ تحنانٌ كتحناني
بل ذاك ضائرُ قلبٍ لست راحمه
وكيف يرحمُ نضوًا قلبُ غفلانِ
ما كان مثلك في الأكوان منشأة
إِلا بخبرة أزمانٍ وأزمانِ
استخلصَتْكَ دهاريرٌ كما خَلُصَ الْـ
ـعطرُ الزكيُّ فيا عطرًا لأكوانِ
مجاهلُ الزمن الماضي وحاضرُه
لصنع حسنك في بدْعٍ وإِتقانِ
فجئتَ آيتَه الكبرى التي خشعَتْ
لها القلوب ولم تدحَض بكفرانِ
ليت الكواكبَ تعنو لي فأنظمها
لآلئًا لك تحكي عقْد أشجاني
إِخالها ما بدت إِلا لتبصرها
مرأة حسنِك لا يمنى بنكرانِ
والطيرُ ما نطقتْ إِلا لحسنكمُ
فأنت للكون طرًّا خيرُ عنوانِ
يا سالبَ الكونِ أشهى ما يراد له
مذا تركتَ لأحقابٍ وأزمانِ
عميتُ عن كلِّ حُسنٍ غير حسنكمُ
كأنني غير صاحي الطرفِ يقظانِ
أعشَيْتَ طرفي بشمسٍ منك طالعة
من بعد ما كان عيشي رهْنَ إِدجانِ
لا أكثرنَّ من الألحاظ أرسلها
إِنَّ البلاءَ لطرفِ العاشق الراني
وهل أخافُ وقد سقَّى الفؤادَ هوًى
العيش والموت في صرْفٍ وحدثانِ؟
أو القضاء وما يخشى الورى أبدًا
من قسمة الدهرِ في ربحٍ وخسرانِ
كلَّا لعمرك إِنَّ الحبَّ يرفعني
عن الحياة وعن عيشٍ لها فاني
إِنِّي أهابك من حسنٍ تجور به
حتى لأقلاك في أثناء أحيانِ
ماذا يضيرك من حبٍّ تزان به؟
فالحبُّ للحسن نشرٌ حول أفنانِ
هبْه المقادر من يأبى المقادرَ لا
يرى الحياةَ بعينِ الناعمِ الهاني
فاضحكْ فضحْكُكَ أنغامٌ مرتلة
أوتارها قلبُ صبٍّ منك ولهانِ
لم يَبْقَ في الكون من شدوٍ نسرُّ به
إِلا جمعت بحسنٍ منك مرنانِ
في كل نظرة عين ذكرةٌ لكمُ
وكل نبضة قلبٍ جدُّ حرَّانِ
حبِّيك لا شكَّ يعروه ولا جدل
كأنما هو من أرباب أديانِ
في منزل الله مكلوءٌ بهيبته
سرُّ الإِله وسرُّ الحبِّ سيِّانِ
ولن يضيعَ رجاءٌ في الحياة إِذَا
ما ظلَّ حبيَ مكلوءًا بإِيماني
أخلفْتَ وعدَ لحاظٍ أنت مرسلها
تقول لي اعشق فإِنِّي جدُّ فتانِ
لا تنكرنَّ مقالَ اللحظِ من خجلٍ
كم حجةٍ لك في تبيانِ وَسْنَانِ
الحبُّ أقوى من الأغلال تُحْكِمُها
عاد الحياة لقلب العاشق العاني
قد بعتُ راحة أيامي وصحتها
بنظرة بدَّلَتْ سرِّي وإِعلاني
احمل جناية حسْنٍ لست خالقه
كما تحمَّل مقدورًا له الجاني
ولا يكفِّر عن لحظٍ تصول به
إِلا ترفُّق عطْفٍ منك يرعاني
لو فرَّق الدهرُ حبِّي في مجاهله
لعادَ منه بمثل الخلدِ ملآنِ
ولو خَبُرْتَ بحبي العيش أجمعه
إذن لباءَ بسرٍّ منه ضحيانِ
ما مسَّ حُبِّيك أمرًا خسَّ معدنه
إِلا أضاءَ كماسٍ عند دهقانِ
ما أضْأَلَ العيش لولا ما يتاح بكم
من الهوى وطماح ليسى بالواني
خيرٌ لنفسك إِن لم تَدْرِ ما ضمنت
من فتنة الخلقِ في حسنٍ وإِحسانِ
إِذن لأفرطتَ من سكْرٍ ومن خبلٍ
ورحتَ تنعم في ظلمٍ وعدوانِ
وكيف ترحمني إِن لم تجد أربًا
في أن تكونَ حبيبًا جدَّ فَنًّانِ؟
يا هل تراني إِذا ما جاء يسعدني
طيفٌ لحسنك ألقاه ويلقاني
حتى ليوشك أن تكسي مراسمه
جسمًا فيا من رأى طيفًا بجثمانِ
أكاد أنشق أنفاسًا يردِّدُها
وأحتسي منه من كاسات نُدْمانِ
يا ليت أني أناجيه ويسمعني
على النوى ورجاءٍ ليس بالداني
حولي خيالات حسْن أنت صُورَتُها
طوبى فإِنك جيراني وأقراني
لا بل شقائيَ أوهام أُغَرُّ بها
مثل السراب إِذا أودى بظمآنِ
أنسى فناءَ جمالٍ أنت لابسه
حتى كأنْ لم يكن حالٌ له ثاني
يروع حسنُك في حبٍّ أعالجه
كروعة الحسن في نيران بركانِ
لو قسَّم الدهرُ بين الناس قاطبة
لذائذًا ليَ في قُرْبٍ ولقيانِ
وفرحة ليَ إِما لحتَ عن عرض
تجلو همومي وتأسو كلم أحزاني
غاض الشقاءُ وغاض النحس أجمعه
وعطَّل الدهُر من منعٍ وحرمانِ
لو صوَّر الخلدَ كانت منك صورته
شكلًا بشكلٍ وعنوانًا كعنوانِ
قد قلت للحبِّ في قلبٍ أَضَرَّ به
برح الهوى وطلاب المعوز الداني
لئن أضاعك وسْنانٌ بغرته
كم في الزواخر من درٍّ ومرجانِ
لم يُحْلَ بالغيد في بادي ترائبها
ولم يُحَدَّ بميزانٍ وأثمانِ
وأنت في لجةٍ للقلب منغمر
ما أمَّك الرائحُ الغادي بنُشْدانِ
ما أنت أول حبٍّ عزَّ مطلبه
ولا بأول قلبٍ غير جذلانِ
فأين أخبأ طرفي عن محاسنكم
وأين أخبأ قلبًا جدَّ ظمآنِ؟
وإِنَّما الحبُّ كالمقدارِ مدخله
رغم الأواخيِّ من عزمٍ وإيقانِ
لو كانت البيدُ تُنْجِي منك ما رَضِيَتْ
نفسي قيودك في أهلي وأوطاني
بل ليت أنَّيَ حُلمٌ في الكرى بهجٌ
يأتي إِليك بأزهارٍ وريحانِ
أقول للناصح المغرَى بتعزية
انظر أفي الكون ما يُغري بسلوانِ؟
والكونُ كالميت لا ماءٌ ولا شجر
ولا جمالٌ تراءى حول أفنانِ
وإِن لم يُبِلَّ ظميُّ الحبِّ غلَّته
ولا تصافى بصفو الحبِّ روحانِ
ولا أُتِيحَ لقلبٍ قلبُ ذي مقةٍ
ولا تدانى بنجوى الحبِّ صنوانِ
كأنما الكون لم يُخْلَقْ له سبب
أو أنه حُلْمُ بادي الهمِّ أسوانِ!
فاهبِطْ مع اليأس في قلبي فإِنَّ له
في القلبِ منزلَ صدقٍ غير بهتانِ
وما أَلِمْتُ ليأسٍ مثلما حزنتْ
نفسي على أملٍ كالآل حليانِ
استنفد الكذب آيات الكمال فما
أرضى لحبيَ منها أي تبيانِ
فليت لي لغةً ما شابها كذب
ترضي الملائكَ لم تُخْلَقْ لإنسان
وما لحبيَ في الأكوان من مثل
ولا رموزٍ ولا شَبَهٍ ولا داني
فكيف يشفع لي لفظٌ يُغَرُّ به
مِنَ الخليقِةِ شيطانٌ بشيطانِ؟
ولستُ ألحاك إِن لم تُلْفَ ذا عوزٍ
إِن الودادَ لقلب الناقص الفاني
كأنَّ حسنَك من إِبداع ما ضَمِنَتْ
منك الخوالجُ من صدقٍ وإِحسانِ
يا من به قد نسيتُ الشرَّ أجمعه
لا يُجْتَلَى الحسنُ والأرزاء في آنِ
ما خلتُ أنَّ مكانًا ضمَّ حسنكمُ
يحوي من الشرِّ ما يودي بثهلانِ
دنياك دنيا رخاءٍ لا شقاء بها
كأنما الشرُّ لم ينزل بإِنسانِ
أبَعْدَ معرفتي الأيام يا عجبًا
وأوجه الدهر من طلقٍ وطخيانِ
أبغي الحياة وأبغي منكمُ مقةً
إِنَّ الحياة حياةُ الناعم الهاني!
نزلتَ يا قلْبُ عن غالي نفائسها
لمَّا عرفتَ الليالي أيَّ عرفانِ
حتى فرحتُ بصبرٍ منك عن خُدَعٍ
من الحياةِ وعن إِلفٍ وخلصانِ
وقلتَ لي الآنَ لا شجوٌ ولا جزعٌ
على الحياة ولا إِعياءُ وجدانِ
فعدتَ لا صبْرَ تبديه ولا جلدًا
حتى كأَنك لم تسكن لسُلوانِ
يا دوحةَ الحبِّ لا شمسٌ ولا مطرٌ
من اللقاء ولا وافٍ ولا حاني
فكيف أيْنَعْتِ في قلبٍ أَضرَّ به
جدبُ الزمانِ وإِلْفٌ غير معوانِ؟
أتى الربيعُ فهبْ لي منك مكرمةً
يومًا نقضِّيه بين السرو والبانِ
ونسمع الطيرَ تبدي سرَّ أنفسنا
حيث الهوى ورواء الزهر سيَّانِ
ذخرٌ لمقبل أيامي إِذا بردَتْ
نارُ الحياةِ ونارُ الحبِّ في آنِ
لا تَنْسَ حبِّي إِذا ما الموتُ عاجلني
لعلَّ ذكرك دون القبرِ سلواني
وسائِلِ الليلَ عن روحي فإِنَّ لها
في الليل خطرةَ حيِّ الهمِّ أسوانِ
لا بل دَعِ الذكرَ لي إِني به قَمِنٌ
وانْعَمْ بحسنك في غدرٍ ونسيانِ
ولا تُعنِّي بذكرى منك خاطرةً
حسبي حبوري بقلبٍ منك جذلانِ
عذِّبْ فؤاديَ بالآلام قاطبةً
الحبُّ ذُخْرُ مُنًى يُشْرَى بأثمانِ
وارحمْ أو اقْسُ ولا تحرجْكَ معتبةٌ
ماذا تضيرك آلامي وأشجاني؟
وليس في الحبِّ خُسرانٌ ولا فشلٌ
وإن منيتَ ببعدٍ أو بهجرانِ
أَلم أَعِشْ غير عيش الناس قاطبة
وأقطع الدهرَ في فرحات نشوانِ؟

الشلال

فلعلَّ الحياة كالماء تجري
بين هذا الثرى وبين السماءِ
من القصيدة
يا أخا الصَّمْت في الجلالة والروْ
ع وصنو النكباءِ والهوجاءِ
إِنَّ في القلب لوعةً ما تقضَّى
أنت حاكيتَ همَّتي ورجائي
أحسبُ الخلد مثل مائك ينها
رُ ونفسي في مائه كالهباءِ
أنت فجَّرْتَ في ضلوعيَ ينبو
عًا من الشجو مُسرعًا في دمائي
ليت أنَّ الحياة مثلك تعدو
لا تُراخي مثل الجياد البِطاءِ
إِن للعيش كدرةً تَذَرُ النفْـ
ـس ركودًا كآسنٍ في نِهاءِ
فأعنِّي على الأواسن من نفْـ
ـسي بفَيضٍ ينهارُ مثل البناءِ
يا ابنَ ماء السماءِ هل تذكر الرعْـ
ـدَ تحاكي إِرزامه في الغناءِ؟
وهَلِ البرق لا يزال خفيًّا
في ثنايا صدرٍ كصدر الغماءِ
أنت ريح الأمواه أم أنت روح الْـ
ـماءِ يمضي في مائه كالهواءِ؟
قد هددْتَ الصخور تنشد خِصبًا
أم لذخرٍ تبغيه في الدَّقعاءِ
إِنما أنت ناقمٌ ينصف السَّهْـ
ـلَ بفضل الشواهق الشَّمَّاءِ
تجعل السهلَ والحزونَ سواءً
ليس نجْدٌ ووهدةٌ بسواءِ
مَرِحٌ أنت أم كما يُسرع الفا
رسُ في نجدةٍ إِلى الهيجاءِ
لك بالشُّم مولدٌ وعلى صدْ
رِ أبيك المحيط وقْعُ الفناءِ
غير أنَّ الميلاد في قمم الشُّمِّ
حِمامٌ لهاطلِ الأنواءِ
فلعلَّ الحياةَ كالماءِ تجري
بين هذا الثرى وبين السماءِ
لكَ في النفس نشوةٌ مثلما استشْـ
ـرف راءٍ من شاهقات العلاءِ
ويفيض النفوسَ مرأى جلالٍ
لك حتى تطير كالأنداءِ
فكأني في مائك الغمر أمضي
وكأني في كل دانٍ ونائي
أنت أيقظْتَني وقد كنتُ وَسْنَا
نَ فخلتُ الأكوان طرًّا ردائي
هاتفٌ في خرير مائك قد أَذْ
كَرَنِي عزْمتي وماضي مضائي
أنت أصفى من الوداد وأنقى
من حبور النعيم والسَّرَّاءِ
أنت أرجوحة لنفسي وصوتٌ
منك كالظئر هاتف بالغناءِ
أنت مثل الشباب عزمًا وبطشًا
ووَضاءً أَحْبِبْ به من وضاءِ
لك وَقْعُ الأقدار حتى لقد خِلْـ
ـتُكَ رمْزًا رُمِزْتَه للقضاءِ
أنت كالدهرِ تأخذ التُّرْبَ والعسْـ
ـجَدَ حتى تعيده بالحباءِ
لم تَهَبْ كرَّة الدهور ولم تجْـ
ـزَعْ لذكر الشقاءِ والأرزاءِ
يا سليلَ السماء حدِّثْ طويلًا
بحديث العُلى وصِدْق السناءِ
تبعث الصخر من صخورك يزهو
فوق صدر العشيقة الحسناءِ
سوف تغدو كالشيخ في أُخْرَيَاتِ الـ
ـنَّهر تسعى بهمةٍ شمطاءِ
فاغتبط بالمضاءِ وامرح طويلًا
كل شيءٍ لطيَّةٍ وفناءِ

يا وضيء البسمات

يا وضيءَ البسماتِ
وحييَّ الوجناتِ
ليت لي منك ائتلافًا
كائتلاف النغماتِ
أنت في الدهر ابتسامٌ
كابتسام الزهراتِ
كل حُسْن آمِلٌ فيـ
ـكَ وبشرى للعفاةِ
فإِذا الشمس تعلَّتْ
قلتُ حُبِّي سيؤاتي
صفْ لنا حُسْنَ الْفَرَادِيـ
ـس بحسن القسماتِ
عَذَرُوا صَدَّكَ مَنْ سَمَّـ
ـوك بدرًا في السِّماتِ
أنت عنوانٌ لما أُنْـ
ـشِدُهُ في الخُطُوَاتِ
كلُّ كَوْنٍ كان أو لم
يك من ماضٍ وآتِ
فيكَ لي منه أمانِيُّ
النفوس السامياتِ
أنتشي منك بلفظٍ
مثل طيبِ النفحاتِ
هو موصولٌ بقلبي
في وجيب الخفقاتِ
خلتُ أنْ قد كنْتُ أَحْبَبْـ
تُكَ من قبل الحياةِ
هاتِ لي خُلْدًا على خُلْـ
ـدٍ لأرضي صبواتي
إِنَّما الخلد كقيدٍ
للأماني الرائعاتِ
أنت كالضوءِ وهل يُرْ
ضي الأَكُفَّ الناشداتِ؟
إِن تخل دمعي نجومًا
في ليالي الجفوات
فاسْرِ في ضوءِ نجومي
وائتِنِي في الفلتاتِ
أو تخلْ دمعيَ درًّا
فادَّخِرْ من عبراتي
أوَجِيب القلب ما قُدِّ
رَ لي في النبضاتِ
لسوى عدِّ الرزايا
والهموم الطارقاتِ
سألوا: في أيِّ حالٍ
هو أحلى في الصفاتِ
قلتُ: أحلى ما تراه
فى حديث اللحظاتِ
فإِذا أرخى لحاظًا
كان أحلى في السُّباتِ
وهْو أحلى منه إِن فا
هَ وأحلى في الصماتِ
وهْو أحلى ما تراه
عاطيًا باللفتاتِ
وإِذا صدَّ فما أحْـ
ـلاه جهْم النظراتِ
فإِذا لان فما أحْـ
ـلاه طلْق اللمحاتِ
كلُّ حالٍ منه أشهى
حالة في الحسناتِ
إِنَّ حبي درةٌ تَجْـ
ـلو دياجي الجَفَواتِ
إِن حبي مثل حبِّ الله
غفرانًا لعاتي
كيف تلحاني على حبٍّ
به تبلو أنَاتي؟
إِنما الحبُّ ضياء
من صبيح الصفحاتِ
تبعث الحبَّ إِلينا
كابتعاث اللحظاتِ
يعذر الحسن وإِن قطَّـ
بَ نضوَ اللهفاتِ
راحمًا يقسو اتقاءً
لهناةِ الرحماتِ
إِن يكنْ حبِّيَ خُلْدًا
أعطني خُلْدَ المماتِ
وأرِحْني من خلود الـ
ـشَّجْو موفور الأذاةِ!
إِنما الخلد نجاءُ الـ
ـنَّفْس من وخزِ الشكاةِ
لا تُرِدْ لي سلوةً تشْـ
ـعل نارَ الحرقاتِ
إِنما السلوان هاما
تُ الشجون الهالكاتِ
آهِ لو يرشقُ قلبًا
لك سهمُ اللحظاتِ
لحظاتٌ لكَ تمضي
بالسهامِ المصمياتِ
أه لو تَأْلَمُ أخْذَ الـ
ـدَّهر من زاهي الشياتِ
وترى حسنك نهبًا
للخطوب المقبلاتِ
وترى آثارَ أقدا
مِ الصروف الدالفاتِ
وترى الأرضَ كأنَّا
في العصور الخالياتِ
وترى الأرض كأنَّا
في العصور القادمات
لا ترى للحسن إِلا الْـ
ـحبَّ فرْض الفرصاتِ
فتؤاتيني بعطفٍ
منك يجلو حسراتي
لا يرى القسوة دينًا
غير قنِّ الغفلاتِ
والذي يبصرُ كرَّ الـ
ـدَّهرِ جمَّ العدوات
لَخَلِيقٌ أن رآه
باختلاج الرحماتِ
ولئن خاتَلَنا العيْـ
ـشُ بآل الطيِّباتِ
ولئن خاتَلَنا الحبُّ
بغضِّ القسماتِ
فلعلَّ المَوتَ مكذو
بٌ كتلك الخدعاتِ
ولعلَّ الحبَّ يُجْزَى
صالحًا بعد الحياةِ!

وسائل الحب

إِنَّ الذين وددْتَهُم ورضِيتَهُم
نالوا رضاك بآيةٍ لك تذخرُ
نالوا رضاك بمنحةٍ أم خدعة
أم بالرُّقَى ترقى النفوسَ وتسحرُ
أَتَقَرَّبوا بالبغضِ إِنَّ محبةً
أقصتَ فؤادًا وافيًا لا يغدرُ
مُرْني لِأَفعلَ ما تشاء فإِنَّما
لك من هوى نفسي المكانُ الأكبرُ
إِنْ شئتَ أنْ أردَ السماءَ وردتُها
ليلًا ليقنص دبُّها والأنسرُ
أو شئتَ أنْ أهذي بكلِّ فكاهةٍ
كالآل لا حقَّ يصوب ويغمرُ
لقرأتُ واستظهرتُ كلَّ فكاهة
وذكرتُ من عبث النُهى ما يذكرُ
وسمعتُ ما أعيا السميع سماعه
من صامتٍ، ورأيتُ ما لا يُبْصَرُ
أو شئتَ مدحي للئام مدحتُهم
وحسبتُ أنَّ الفضلَ غرٌّ يزمزُ
أو شئتَ أنْ أردَ الرياءَ فإِنني
لكما تشاء إِلى رضاك مسيَّر
أو شئتَ أنْ أهوى الكلابَ عَشِقْتُها
ولقلتُ كلبٌ ترتضيه غضنفرُ!
هيهات لو أنَّ المحالَ فعلته
لوددتَ ما بعد المحال وتعذَرُ
فعلان يربح واحد ولربما
يمضي أخوه على السواء فيخسرُ
ذاك القضاء فإِنْ أصيب بجنةٍ
كم ماقَ سلطانٌ وجُنَّ مؤمَّرُ
والعطفُ مقمورٌ بغير كفايةٍ
ونبالة، والحبُّ ذاك الميْسرُ!

حجة النائي

إِيه يا قلبُ هل أَمِنْتَ من النا
س حبيبًا يُرعَى وحبًا جديدَا
قلْ لمنْ قد هَوَيْتَهُ أيُّ حالَيْـ
ـكَ يعيد المشوقَ نضوًا عميدَا
ولوَ انَّ الحياةَ خلدٌ مديدٌ
لأسغنا في الحب نأيًا مديدَا
غير أنَّ الحياةَ كالحلم تمضي
إِنما العمر طائرٌ لن يعودَا
أنت لو كنت في الشغاف من القلْـ
ـب رجونا من اقترابٍ مزيدَا
رحمة بي بَعُدْتَ أم لحياءٍ
خِفْتَ لي في الجمال منك وعيدَا
يا شفيقًا عليَّ بالبُعد كم إِشْـ
ـفاق ناءٍ قد جرَّ خطبًا شديدَا
أم لإِغراءِ ظامئ رعْتَ بالنأْ
يِ وخلَّفْتَ بعدكَ التصريدَا
خُطُوات النفوس فيك عباديـ
ـدُ فسيَّانَ دانيًا وبعيدَا
ولأنت الحياة في القرب تظمى
وظماءُ المودي أحرُّ وقودَا
إِن تكنْ مشفقًا فلا تُبْدِ طرفًا
منك يسجو لحظًا وثغرًا بَرُودَا
وابتعدْ إِنْ لقيتني، إِنَّ مرًّا
منك يوحي في القلب نبضًا وئيدَا
أو تكنْ مغريًا بنأْيِكَ فارحم
ليت لي في هواك قلبًا جليدَا
ليت قلبي تحنو عليه ضلوعٌ
منك حتى تخشى عليه الزنودَا
خلتَ نارًا أججتها زينة فيـ
ـه كضوءِ المصباحِ حَليًا وعيدَا
يا شبيهَ الثمارِ والزهرِ والفَجْـ
ـر تملُّ العيش الرخيَّ الرغيدَا
إِنَّ مَنْ جمَّل الحياةَ محيَّا
هُ خليقٌ بأنْ يكون سعيدَا
أنت أشهى من الخلود وهل تلْـ
ـفِي لنفسٍ فوق الخلودِ مزيدَا؟
فادَّكرْ في الرخاءِ نضوًا طليحًا
بات يُدْنِيكَ ذكرة وسهودَا
إِنْ يَمُتْ تُبْكِهِ اللواعج والهمُّ
فقد كان للشقاءِ عقيدَا
وسَلِ الليلَ والكواكب هل كا
ن دعائي إِلَّا القريبَ البعيدَا؟

فطنة الحسن

يا ذكيَّ الفؤادِ هذا فؤادي
انْتَجِعْ فيه من هوًى مكتومِ
وأشدُّ الهوى هوًى كَتَمَ الصدْ
رُ فأضحى كالمرجلِ المختومِ
ما ترى فرحتي إِذا ما تراءى
منك طرف يوحي لقلبي الكليمِ
ما ترى الدمعَ حائرًا في جفوني
حيرتي في سوادِ حظِّي البهيمِ
ما ترى لحظةً يَرِقُّ لها الصخْـ
ـرُ كسهمٍ بَرَاهُ وقعُ الهمومِ
لحظاتٌ في إِثرها لحظاتٌ
هائماتٌ يحكين لحْظَ السقيمِ
خان عهدي الخلَّانُ حتى لقد أصْـ
ـبحتُ لا أرتجي إِخاءَ كريمِ
كم رجوتُ الإِخاءَ دهرًا وكم أحْـ
ـبَبْتُ، آهٍ لقلبيَ المكلومِ
فإذا الحبُّ والإِخاءُ سواءٌ
خدعاتٌ يقتلن لبَّ الحكيمِ
ومن العدلِ أنْ يُحَبَّ صبيحٌ
حُسْنُه كي يكون جدَّ رحيمِ
ولوَ انَّ القلوبَ تألمُ للأحْـ
ـياءِ طرًّا من أجنبٍ وحميمِ
لرأيْنَ الحياةَ جنات عدنٍ
رافلاتٍ في نضرةٍ ونعيمِ
يا ذكيَّ الفواد لبُّك طبٌّ
بسوى لوعتي وحبي القديمِ
فلعلِّي أبهمت منه كلغز الْـ
ـعيشٍ واستعجمتْ حصاةُ الفهيمِ
أم شقائي لذاذةٌ لك فانْعَمْ
ببكائي ولوعتي يا ظَلُومي
وسَلِ الشعر والأصالة عن صَبٍّ
مصيخٍ لحسنك المنغومِ
مَتَّ من شِعْرِهِ إِليك بأسبا
بٍ ومن قلبه بدامي الكلومِ
لك لحظٌ يأسو ويكْلَمُ يا لهـ
ـفي لآسٍ يزيد سقم السقيمِ!
كم طوى الدهرُ من غرامٍ وَمِنْ حُسْـ
ـن ومِنْ مغرم وحِبٍّ نديمِ
ومن الخطب أن يزولَ جمالٌ
كان ريًّا وغلةً للحلومِ
ما عذابي بخالد فيك حتى
أشتكي منه قاتلي وغريمي
فلئن متُّ كان منك فكاكي
من حياة كحرقةِ المظلومِ
نعمةٌ موتِيَ الذي ليس يؤسيـ
ـكَ وما أنت كالحِمامِ حميمي
ولئن عشتُ فالحياةُ همومٌ
لستُ فيها بزائدٍ من همومي
ما شقائي بخالدٍ يا حبيبي
لا ولا حُسن وجهك الموسومِ
ولئن غضَّ من جمالك دهرٌ
لم يَبُخْ حرُّ غَلَّةِ المحرومِ
يا ذكي الفؤادِ تفديك نفسي
من طروق الردَى ووقْع الغمومِ!

الأماني والذكر

الذكرُ يشجوه والآمال تَخْدَعُهُ
قلب تلوَّى إِلى مغناك أخدعهُ؟
يسائِلُ الذكر عن عهدٍ لنا خضلٍ
لعلَّ مقبل هذا الدهر يُرْجِعُهُ
فقال سائِلْ به الآمال إِنَّ لها
في مقبل العيش حكمًا لست أدفعهُ
وما انتفاعي بآمالي التي حَرُمَتْ
على فؤاديَ إِذ لا عطف ينفعهُ
جعلتُ بعدك آمالي محرَّمةً
إِنِّي لأُبْغِضُ وردًا لست تُنبعهُ
نأيتَ من بعد عهدٍ جفَّ يانعُهُ
كالعود في الصمت لا شدوٌ فنسمعه
غير ادكارِ ترانيمٍ إِذا تُلِيَتْ
مِنْ ذِكْرِ عطفك أعشى الطرفَ مدمعُهُ
والحسن شدوٌ لمن أصغت جوانحه
له صدًى تتهاوى منه أضلُعُهُ
قد أصبح الذكرُ قبرَ الحبِّ وانتثرَتْ
عليه منِّي المُنَى كالزهر تمرعُهُ
وعزةُ الغابرِ المذكور مؤذنةٌ
بذلَّة الحالِ إِذ لا ريَّ ينقعُهُ
فهل تغضَّنَ وجهُ المرء مبتسمًا
كي يجد الدمع مجرًى منه يتبعُهُ
فيا سمائيَ إِنْ غامت فإِن لها
في نهر عيشيَ غيم أنت تطبعُهُ
قد نمَّق القلبُ حسنًا أنت طلْعَتُهُ
أغرتَ حتى بصدٍّ منك تصدعُهُ
القلب مرآةُ ما أبديْتَ من مُلَحٍ
فاصقله بالقرب علَّ القلب يبدعه
تذوي الزهورُ فلا عهدٌ يعود بها
لكنَّ للوصل روحًا منه يرجعُهُ
أصبحتَ في البعد مثل الروح محتجبًا
وأمره الأمر مغداه ومَرْجِعُهُ
أو كالقضاء إِذا ما صالَ صائلُهُ
في خفيةٍ ونفوسُ الخلق مرتعُهُ
والحبُّ كالموت يأتي في فجاءته
من غير إِذنٍ ولا ساعٍ يشفِّعُهُ
إِني أحبُّكَ حُبًّا لست أفهمُهُ
أيُفهم الكون منشاه ومنزعُهُ
يا راصدَ النجمِ مزهوًّا بخبرته
ارصدْ هلالًا بأفْقِ السعد مطلعُهُ
وارصدْ لحاظًا لمن أهواه ماضيةً
بقسمة السعد تعطيه وتمنعُهُ
الحبُّ روحٌ من الفردوس هبَّتُه
ليوقظ النَّفْسَ شدوٌ لا يوقَّعُهُ
والحبُّ كالخلدِ لا يلقاه ذو عدمٍ
إِلا فواقًا لعيشٍ حانَ مصرعُهُ
خمرُ الخلود فنادمني على مهَلٍ
سيَحْبِسُ الدَّنَّ عنَّا من يشعشعُهُ
لو قُسِّمَتْ فرحتي إِمَّا أراك على
هذا الأنام لغاضَ النحسُ أجمعُهُ
فما حنين هزارٍ للربيع بأوْ
فى من حنينِ فؤادٍ أنت مربعُهُ
وأنت شمسي وقطري والنسيم معًا
بل الحياة وما أبغي وأُمْنَعُهُ!

الحب والشفاعة

لما رفعْتُك عن ذا الخلق قاطبةً
كأنما أنت لم تُخْلَقْ من البشرِ
نأيْتَ عني كما ينأى المؤمر إِذ
يبغي المهابةَ في ستْرٍ وفي صعَرِ
أخفْتَ في القرب ما يردى بتكرمةٍ
تنفي العيان وليس الخُبر كالخَبرِ
لو كنتَ إبليس لم تَعْد الكمال ولم
نسمعْ بذمِّك في الأمثال والسورِ
إِن أستغِثْ بخصال الحمدِ أَعْوَزَنِي
منك الوفاء وفاءٌ غير مقتسرِ
لعلَّ بعض خصال السوءِ يسعدني
بشافعٍ غير مردودٍ ومنزجرِ
بما بخلقك من عيبٍ ومنقصةٍ
من كلِّ مكتتم منه ومشتهرِ
وما يعيش به الأحياءُ قاطبة
من النفاق ومن كذبٍ ومن نكرِ
أدعوك دعوة ذي خُبْرٍ وذي مقةٍ
ما إِنْ رأى لك ذنبًا غير مغتفرِ
فإِن غضبْتَ فلا عتْبٌ ولا عذَلٌ
أدعوك بالفضلِ والإِحسان والغُررِ
لا بالحميدِ ولا المرذول أنشدكم
فهل شفيعيَ خلق الغادر المكرِ
أم هل شفيعيَ أن أسلوك منصرفًا
عن حرقةِ الحبِّ كي تقفو على أثري
إِن كان ذاك فما قلبي بمنأطرٍ
إِلى اللقاء ولا روحي بمدكرِ
فاغضب لحسنك وارْمِ القلبَ عن كثَبٍ
واقربْ وأشعِلْ فؤادًا غير منصهرِ
فما يزينك قلبٌ غير مدَّكرٍ
من العبادِ وخدٌّ غير منعفرِ
فاحلف بحسنك أنْ تدنو لترجعني
إِلى اللواعجِ والأسقام والذكرِ
ولا تقل رحمة تنأى فلي كبدٌ
لم تخشَ منك صيال اللفظ والبصرِ
أَغْرِ الجمالَ بنا كيما نكفِّرَ عن
وزْرِ الجحودِ جحودِ الحسنِ والغررِ
فإِن فشلتَ فبئستْ تلك منقصة
تنفي الجمال وبئس العجز في العُرَرِ
وإِنْ ظفرتَ فقد دانيتَ منعطفًا
فاثأر لحسنك واعرفْ لذةَ الظَّفَرِ!
لا تحسب الحبَّ أعمى ضلَّ رائده
الحبُّ أبصر بالأخلاقِ والسِّيَرِ!

نجوى المحتجب

حجبوكَ من حذرٍ عليك صيانةً
يا ليتهم في مهجتي حجبوكَا
ولئن حُجِبْتَ ففي الرحيقِ مُشَابِهٌ
في الدنِّ أو ما يحتويه فُوكَا
أو في اللآلئ وهْي أَنْفَسُ ما يُرَى
عِيفَتْ لها الأصداف واختَصُّوكَا
لولا ظنون السوءِ وهْي كثيرة
يُغْرى بها من خشيةٍ أهلوكَا
لحججتُ معتمرًا ببيتك طائفًا
أبغي إِليك من الطواف سلوكَا
يا ويْح أهل الدار لو علموا الذي
تحوي إِذا سجدت لديك ذووكَا
هم يحسبونك واحدًا في أمةٍ
ولأنت دنيا الحسن لو عرفوكَا
لو يعلمون مخاوفي ومحاذري
حرسوك في عينيَّ إِذ حرسوكَا
ولقد وقَفْتُ على ديارك بعد ما
هَجَعَ الخليقةُ سُوقة وملوكَا
نجوى وثقْت بدينها وبربِّها
رَبَّ المحاسنِ خاب من يدعوكَا
إِذ أمَّ قلبي شطر قلبك حاسبًا
نجوى المحبةِ منهجًا مسلوكَا
كيما تجيء على الوفاق وما نأى
ناءٍ إِذا سلك الدعاءُ سلوكَا
يا قلبُ ما لك لا تبوء بسلوةٍ
علَّ الحبيبَ بهجره يبلوكَا
يا ساحرًا خابت وسائلُ سحرِهِ
أوْ ما عرفْت على اليقين شكوكَا
لا تبلغ النجوى أغضَّ مرفَّهًا
غفلان يجهل دَمْعَكَ المسفوكَا
يا ليت أن الوحيَ كنت مَلَكْته
حتى تناجى غافلًا يجفوكَا
إِني اتَهَمْتُ محبتي لما نأتْ
بك عنِّيَ النجوى فلا تدعوكَا
يا مَن به افتتن القضاءُ كأَنما
صرْف القضاء بحسنه يرشوكَا
ويْلي من الآمال فيك فإِنها
زَفَّتْ إِليَّ حديثها المأفوكَا
يا أين منك وداداة للقلب لا
تألوه مصطفيًا ولا يألوكَا

الحب والحذر

كيف لا أُغْرِي بك الحذرَا
إِنْ تكن تُغْرِي بيَ الحذرَا
تبتُ من ودٍّ ومن مقة
فأقِلْ من تاب واعتذرَا
صِرْتُ أخشى منك طارقةً
مشمتًا بي كل من أمرَا
رُبَّ مأمون بغرَّته
حيَّر الألباب إِذ غدرَا
كم وَسِعْتُ النفس معرفةً
أتقصى الفعل والسِّيرَا
فأتت ما لست أعرفه
وكأَني لم أصبْ خبرَا
ما عجيب أنْ صبرت فكم
جازعٍ من كارثٍ صبرَا
إِنَّ قلبًا لم يَدِن بهوًى
قط شرٌّ من جوٍ خسرَا
إِن مخدوعًا على ثقة
زيْن خبٍّ لم يثق حذرَا
إِنَّ مَنْ صحَّت طويَّته
لم يكتِّم حبَّه ذعرَا
عجَبٌ أن لستَ تأمنني
قد أمنتَ البدوَ والحضرَا
آمنًا من ليس يأمنه
سابرٌ يدري الذي سبرَا
أنت ممن عاشَ في كلم الـ
ـنَّاس يقفو فيهمُ أثرَا
إِنَّ حبَّ السوءِ مكتتمًا
بزَّ حبَّ الطهر مشتهرَا
خِلْتُ أنَّ الناسَ لو كشروا
شاحذين النابَ والظُّفرَا
كنتَ لي خدنًا ألوذ به
تدَّري الآلام والكدرَا
حببوا لي العيشَ إِذ قذعوا
كي أنال الفضلَ مقتسرَا
كنت أرضى حسنَ رأيك لو
لم أعالج قبلك الغِيرَا
كم صديقٍ بتُّ أكلؤُه
من عدًى أغرى بيَ الحجرَا
أوَّل الرامين معتذرًا
من صفاءٍ كان لي ذخرَا
لم أَلُمْ خُلقًا نأيْتُ به
بل ألومُ الدهر والقدرَا
قد أمنتُ الدهرَ أرقبُه
فدجا بالسوءِ واعتكرَا
وأمنتُ الصيتَ أنشدُهُ
فشآني الغرُّ وابتدرَا
خلته شهدًا لمقتطفٍ
فسقاني الصاب والصبرَا
وأمنتُ الحقَّ أعبده
فحماني الورد والصدَرَا
ثم ألقاني إِلى نفرٍ
يعبدون الكِذْبَ والنُّكُرَا
فامضِ مثل الدهر لا وطرًا
مالئ قلبي ولا خطرَا
وامضِ مثل الصيت إِنَّ به
في الورى عن هامنا قصرَا
وامضِ مثل الحقِّ لا شَجَنًا
بعده أُلْفِي ولا ذُعرَا
وامضِ مثل العيش إِنَّ لنا
بعده في راحةٍ وطرَا

موارد الحب

يا رائدَ القلبِ يحدو بي إِلى حَسَنٍ
انزل بقلبيَ في خصب من الدمَنِ
الأرضُ تهدي بأعلام وأودية
والأفقُ يبعثُ بالأضواءِ للسُفُنِ
وفي السماءِ رياحٌ جدُّ معملة
تحدو الطيورَ إِلى الأوكار في الفَنَنِ
فما الضلال بحسن لا دليل به
إِلَّا مصارع قوم لسْنَ بالسَنَنِ
لا بالحنين ولا بالصدق أُدْرِكُهُ
وكيف أدرك آلًا غير ذي مِنَنِ
وأنت كالحقِّ مخبوءٌ ومطَّلبٌ
والحقُّ ذو صلبٍ يجتن بالجننِ
لا موتَ يظمي إِلى حسن وإِن صبرَتْ
عن شرعة الحق نفسُ الهالك الضمِنِ
لئن نأَيتَ كنأي الشمسِ عن دنفٍ
يرنو إِليك رنُوَّ المرءِ للوطنِ
لم يُخْرِس الطيرَ أنَ الشمس نائيةٌ
إِذا بدا الصبحُ تتلو آية اللسنِ
لا تحسب الحسنَ مثل الشمسِ يسعدنا
في البعدِ بالضوءِ إِذ يؤذي على قرنِ
فالحسنُ يحرق في هجرٍ وفي بُعُدٍ
ويبهج القلبَ في قربٍ من السكنِ
يا ليت للشعر آلامًا فتبصرها
كيما ترقَّ لما يحكيه من حَزَني
أوْ ليت لي مسلكًا كالفكر أسلكه
يخفى عن الناس في حِلٍّ وفي ظَعنِ
أوْ ليت أني قضاء لا مردَّ له
آتي إِليك بنعماءٍ من الزمنِ
أوْ ليت أني شجون منك قد نزلتْ
في صدرك الغضِّ قلبًا ضاق عن شَجَنى
وما صبرتُ على صدٍّ قسوتَ به
كلا لعمرك إِن اليأسَ صبَّرني
إِنْ عذَّبَ السُّهْدُ عينًا غير مغفية
إِفكٌ مقاليَ إِنَّ الطيفَ يؤنسني
يا باخلًا بلقاءٍ ليس يحربه
ما كنت أحسبُ أنَّ الحبَّ يبعدني
ما كنتُ أشقى بآمالٍ أعالجها
لو أنني عاكف أحنو على وثنِ
وإِن نأيتَ فقد أرخيتَ لي طِوَلًا
لكنَّ قلبيَ مشدودٌ على الرسنِ
لو كنتُ أسطيع سلوانًا عَذَرْتُكُمُ
وكيف أسلو وأنت الروح في البدنِ؟
وكيف تمنعني وجهًا تلوح به
للناس طرًّا بلا مَنٍّ ولا ثمنِ؟
أنت المقادير كالعشواءِ خابطة
بالسعد والنحس من نُعْمى ومن مِحَنِ
فأنت توحشني من غير ما سببٍ
وأنت تؤنسهم بالمنظر الحسنِ
نام الخليُّون ممن قد رأوكَ وما
نامَ الشجيُّ وقد باعدْتَ يا سكني!

الصبر والجزع

يا لابسًا حللَ الربيعِ مخايلًا
في خلعة الفردوس من لَأْلَائِهِ
من لي بصبر عنك ليس بكائنٍ
صبرًا يداوي القلبَ من بُرَحائِهِ
صبر القتيل عن الحياة وطيبها
وعن اقتسار الثأر من أعدائِهِ
من لي بصبْر الدهر مِنْ أزل الدُّنَى
صبرًا على المقدور من عدوائِهِ!
من لي بصبر الغصن أجَّجَ عوده
صبر النجوم على السُّرَى وعنائِهِ!
صبرَ النيامِ عن الضياءِ وحسنِهِ
وعن الرجاء ونجحه ورخائِهِ
صبْر السماءِ عن الطيور تصوَّبَتْ
صبر العيون عن الغماءِ ومائِهِ
أوَّاه أعوزني اصطبارٌ لَاتَني
تفنيه نار الحسن في إِعيائِهِ
مثل الذبالة نورها بفنائها
قمنٌ وصبرُ المرء عقب شقائِهِ
ولئن أصابك في حياتك مثلما
فزع الجريح إِلى نقيع سقائِهِ
لرثيتَ للصديان من حُرق الجوى
ورحمتَ هيمانًا لفرط بكائِهِ
إِني لِبُعْدِكَ كاليتيم تباعدَتْ
أنصاره فبكى على آبائِهِ
ولكَمْ جزعت لجفوةٍ لكَ أفرطَتْ
جَزَعَ الجبان يفرُّ من هيجائِهِ
لعرفتَ ما جزعي لوَ انك خابرٌ
جزع المريض من الرَّدَى وقضائِهِ
جزع الثكالى غالَ أوحدها الرَّدَى
فوددْنَ طعن الموتِ في أحشائِهِ
جزعٌ لباغي العدل روَّع جأشه
طاغٍ يخال العدلَ من إِجرائِهِ
لا بل جزعْتُ وليس يعرف جازعٌ
جَزَعِي لبُعْد شيبهة وعنائِهِ
غلآن في جيدي لحبِّك واحدٌ
ولصولةٍ المقدور في غلوائِهِ
إِنْ غبتَ عني ظلْتُ ناشدَ حاجة
مجهولةٍ لم يَدْرِ وجه دعائِهِ
متلفتًا حولي كأني مُشعرٌ
روحًا يُحَسُّ وإِنْ نأى بخفائِهِ
وأرى الفضاءَ بلحظةٍ هوجاء لا
تبغيه بل تبغي ضمير هوائِهِ
فكأنما أبغي عوالمَ خلفه
سترَتْ بغيبِ غطائه وكفائِهِ
لحظات عين لا تراك كطائش
من نبل أخرقَ حادَ في إِجرائِهِ
إِنْ لاحَ إِنسان حسبتك طالعًا
أوْ لم تكنْه فأنت من قربائِهِ
حتى أُحِبَّ الخلقَ إِنكَ مِنْهُمُ
وأقيل جرم الدهر في عدوائِهِ
فإِذا استبان علمت أنيَ مبصرٌ
من لا أُسَرُّ بوده ولقائِهِ
إِن غبتَ عني خلتُ أن عوالمًا
خسفت خسوفَ البدر في ليلائه
كالسيف إِنْ صدئ الغرار وطالَمَا
راق العيونَ بطبعه وروائِهِ
وأكاد أهتف في النديِّ بذكركم
قهرًا أُذَلُّ لأمره وقضائِهِ
لولا مغالبة اللسانِ وصونه
بانَ اختبالُ اللبِّ من بُرحائِهِ
وأودُّ لو تدنو إِليَّ بزلةٍ
أهلًا بجرمٍ نلتقي بعدائِهِ!
بل ليت لي منك ائتلافٌ مسعدٌ
إِلْف القصيد لعوده وغنائِهِ
إِلْف الأزاهر والمياهِ تصافَيَا
وجرى الربيع عليهما بجلائِهِ
فلَطرفةٌ تمضي ولست بشاهدٍ
خلدُ الجحيم بنحسه وشقائِهِ

زورة المباعد

يا زائري أعبقتَ منك محاسنًا
كالزهرِ يترك نفحةَ المرتادِ
أخصبت تربة أنفسٍ ظمآنةٍ
شامت سناك فكان خيرَ عهادِ
وأفضْتَ شؤبوب المحاسن والنهى
طيبًا على المهجات والأكبادِ
يا زورةً كالعيد إِلَّا أنها
جَلَّتْ عن الفرحات والأعيادِ
يا ليت أنَّ الدهرَ أوقف سيرَهُ
حتى تحين قيامةٌ وتنادِي
لهفي عليك أعائد بك ما مضى
أم كلُّ عهدٍ فات غيرُ مُعادِ
عجبًا أما صابَت لحاظُك مهجتي
صوبًا يبل به أوامَ الصادي
كتقاطُر الرحماتِ عقب سوابقٍ
من نقمةٍ والحادث المرعادِ
طرفٌ تألق منك حتى خلْتُهُ
قَبَس المجوسِ يُضيء للعبَّادِ
لوددتُ أن أرعاه رعيةَ عابدٍ
يبغي الخلودَ له على الآبادِ
يا ليت أنَّ النفسَ دُرَّةُ غائصٍ
أهديك من نفسي أعزَّ عتادِ
النفسُ مرآةٌ فقارِبْ وجهها
يخلصْ ضمير النفس من أضدادِ
كوذيلَتَيْن تحاذتَا وتصافتَا
ما إِن ترى غير الشكول بوادي
أترى ظلالَ الموتِ تسحب ذيلها
وتظلُّ رهن قطيعةٍ وبعادِ؟
سأسوم قلبي عنك سلوةَ صابرٍ
القلبُ أحجى منك بالإِسعادِ
قد يلهم القلب الشجي عزاءه
هجر أطلت لسلوةٍ ورشادِ
هَا رحمت القلب رحمةَ مبْصِرٍ
لمَّا نأيتَ بريِّه والزادِ
أم لست تعرف أن حسنَك مهلكٌ
بزَّ المهالك في رَدًى وعوادي؟
أم أنت متَّهِم هواي فلم تَخَفْ
منه عليَّ لواعجي وصفادي؟
وحسبتَ أنيَ عابث بدعابةٍ
فلهوتَ بالتقريب والإبعادِ
اجْحَدْ حياتك ما استطعْتَ جحودها
فلئن قدرْتَ فلوعتي وودادي
لو كنت شاهد عبرتي وصبابتي
لمَّا برمت بصدِّك المتمادي
وصدعت أبواب السماءِ بدعوةٍ
كادت تهدُّ شواهقَ الأطوادِ
لعلمت أنك بالسلوِّ وبالقِلَى
أحجى ولكن لا يطيع فؤادي
لو قلت أنت قتلتني لضحكت إِذْ
كارًا وإِن أهلكْت بالإِبعادِ
ولربَّ باغٍ سعْدَ خلٍّ هالك
منه بخلق غير ما إِسعادِ
فاعْطِ الصبا فرضَ المراحِ ولا تصلْ
حذرًا عليَّ من الشقاءِ العادي
واهْنأ بأترابٍ حنوت عليهمُ
وتركتني خلوًا من الأودادِ
فغصونهم كغصونك الفيحاء مُو
رِقة وغصني عاد شوك قتادِ
لو كنت لم أَبْلُ الحياة وصرفها
لَقَصَدْتُهُمْ بالغلِّ والأحقادِ
أمَّا وقبري بالوصيدِ موطَّأ
أُلْفِي لديه راحتي ووسادي
سفهٌ بمثلي أن يلومَ على الجفا
إِلْف الهوى بقوامه المنآدِ
لو كنت تجهل ما أعاني من جوًى
إِن غبتَ عني آخذًا بفؤادي
لرجوت منك مودةً لم أَلْقَهَا
وصبرت للبلوى كصبرِ إِبادِ
لكنْ علمت فلم تَعُدْ لي حيلةٌ
لولا سراب رجائيَ الميَّادِ
أدنوتَ كي تنأى وِلنْتَ مخادعًا
لِأُسَامَ خفضًا بعد عزِّ قيادي
رُحماك يا غضَّ المحاسنِ لم تكن
عندي بأهلِ خديعةٍ وعنادِ
ماذا اجترمتُ فكدتني بخديعة
تبغي عذابَ فؤاديَ المنقادِ
إِنَّ المروءةَ والشهامةَ غير ما
يأتي المصادق من أذى الأودادِ
قد كنتُ أحسبُ كلَّ حُسْنٍ فطنة
تودي بقسوة وحشة الأضدادِ
فمُنِيتُ منك بغير ما أمَّلْتُهُ
أسفًا لقلبٍ منك غير جَوَادِ
يا ليت أنك صخرة مهجورة
ليست تغرُّ بفطنةٍ وفؤادِ
أدعوك بالآلام وهْي مضيفة
مما خبرتَ لفرقةِ الأندادِ
أدعوك بالعبرات إِنْ رقرقْتَها
من مقلةٍ حرَّى بغير رقادِ
وبكل ما عانيت من حُرَق الجوى
وبروعة الأحلامِ والتسهادِ
أدعوك بالزفرات إِنْ صعَّدْتَها
من غدْر أحبابٍ وغلِّ أعادي
وبوقعِ خفقةِ قلبك القاسي إِذا
حذر الرَدَى ومراكب الأعوادِ
وبما ألمتَ من الشقاوة والأذى
والخوف يقدح في الحشا بزنادِ
وبما يتاح من المهود إِلى الرَّدَى
من لوعةِ الإِصدارِ والإِيرادِ
أدعوك كي تدري حنينَ جوانحي
بحنينِ قلبٍ منك غير جمادِ
وبكلِّ ما عالجتَ من صرف النوى
والمرءُ رهنُ روائحٍ وغوادي
كيما ترقَّ للوعتي ولواعجي
وتزيل دولة صدِّك المتمادي
يا قلبُ بعض الحبِّ ليس بفطنةٍ
فاجنب هواك لفطنةٍ وسدادِ
لو أنَّ شجوَ القلب يبعث مثله
في صنوه لبلغت كلَّ مرادِ
أيقنت أنك مولعٌ بمباعدٍ
هانت عليه حرارة الأكبادِ
فاقرن يقينك بالعزاءِ ولا تقفْ
بالشكِّ موقفَ حيرةٍ وتمادي
وارجع إِلى يأسٍ سكنت لجنحِهِ
زمنًا، فكان أبرَّ بالأندادِ!

يا ضوء

تضيء ما يستر الظلامُ من الْـ
ـقُبْح وتكسوه حُلَّة البِدَرِ
وأُمُّك النارُ وهْي صائلةٌ
للخير والشرِّ صولةَ الغيَرِ
كسوتَ وجهي وخاطري حُللًا
وكنت للعين علَّة النظرِ
لولاك لم يَرْحَم الذي حَمِدَ الْـ
ـحُسْن أخاه ذا الآفة الكدِرِ
تلوح للهالك السقيم فيعْـ
ـتدُّك خير اللذات والذخُرِ
تلوح للجارم الحبيس كما
يلوح ماضي النعيم في الصُّوَرِ
تغذوه أمٌّ في عينها أبدًا
سحرُ حنانٍ يضيء في البصرِ
وهْو وليد قد أولعت يدُهُ
بخطفة الضوءِ حلية الحجرِ
وكلُّنا ذلك الوليد إِذا
لاح سراب الرجاءِ والوطرِ!
وأنت في المعبد المَشِيد كضَوْ
ءِ الله في صالح من الخبرِ
أو مثل ضوءِ الضمير محتبسٌ
في النفس أو كالصفاءِ في السيرِ
تبعدك الطيرُ في الصباح بما
تتلوه من آيةٍ ومن سورِ
تهبط فوق الغدير في مرحٍ
مثل هبوط الطيور في الشجرِ
أم أنت روح الحبور قد برزتْ
تنير وجه الحياةِ في خَفَرِ
كأنَّ في الأرض قلْبَ وَالِهةٍ
تسبي عشيقًا بحلة الزهرِ
سنابلُ النبتِ أنت صغْتَ لها
من عسجدٍ حلَّةً من الحَبَرِ
ترقصُ رقصَ الحسناءِ إِنَّ لها
رقْصًا كرقْصِ الضياء في النَّهَرِ
يا عَلمًا للحياة ينشره الْـ
ـكون فيقصي القلوب عن خوَرِ
ورُبَّ فجرٍ بثقْتَهُ بَهِجٍ
كفجر حُبٍّ في القلب منفجرِ
أو مثل فجر الآمال إِنَّ لها
فَجرًا وليلًا يضاء بالذِّكَرِ
فظرَّزَ السُّحْبَ مثلما حسُن الـ
ـنَّحس بضوء الرجاءِ في الكَدَرِ
كأنما أنت سلَّمٌ لِعَلَا
ءِ النفسِ تَسْموُ لآية العُمرِ
أو أنت حُسن الجنان نُبْصِرُهُ
منبعثًا خارجًا من الثُّغُرِ
تُرمد طرفَ الحزين إِن أخاك
الليل برَّ بالخاطر الكدرِ
تُليح بالسعد والمُنَى أبدًا
لذي طموح بالترب منعفرِ
وأنت كاليمِّ، دُرُّهُ الفلَكُ الـ
ـدَّوَّارُ أو فاقع من الزهرِ
ويا بشيرًا بما نخال من الْـ
آلاءِ في مقبل من الغيَرِ
حكيت ذخرَ الآمالِ تبعثها
للوهْم يزهو كالتِّبْر في الذخرِ
تخال من رقَّة المراسم معْـ
ـنًى لا يراه البصير بالبصرِ
أشهى ضياءٍ يكسو الحبيب خِمَا
رًا نعم ذاك الكساء في الخُمُرِ
تستبق الطير في أشعَّتِكَ الْـ
ـغرَّاء فعل الحسان في الغُدرِ
وَضَاءةُ الماسِ منك قد قُبِسَتْ
وأنت في الروض خمرة الزهرِ
والضوء في المنزل الخراب كقَلْـ
ـبِ الندب يشقى بالجسم في الكبرِ
خواطر الخير كالملائك أو
كالضوءِ يزهو في قمة الشجرِ
كلُّ جليلٍ مشبَّهٌ بك في الْـ
ـمدحِ، وليس التُّراب كالدررِ
فالحقُّ والحسن والمطامع أشْـ
ـباهك في قول ناعت الغُررِ
أضِئْ إِنِ اسطعت ما يخال من الْـ
ـغيوب والطارقات والقدرِ
كم ذا رأيت الأنامَ في عنت الْـ
ـعيش نشاوى من غير ما سُكُرِ
فلم تُقطِّبْ على الشقاء ولم
تَبْدُ كوجهٍ لليل معتكرِ
كالشيخ شام الخطوب قاطبةً
يذخر غفرًا لزلَّة البشرِ
خبِّرْ وما ينفع الورى أبدًا
طُلَّابَ ذاك الطليب في الخبرِ
أثغرة ذا الحمام نبصر منْـ
ـها الضوءَ، أم حفرة من الحفرِ؟

الصديق المنشود

إِليك يا من قضيتُ العمر أنشده
في الناسِ، لو أنَّ فيهم من يصافيني
هُمُ مثالُ سرابٍ لاحَ عن عرضٍ
وأنت أنت سرابُ الحسنِ تظميني
وأي شيءٍ إِذا جدَّ الطلاب به
لم أُلفِ آلًا من الأهواءِ يرديني
أو كالأجاج إِذا أظمى بجرعته
وطالما خلت كأسًا منه ترويني
يأسي من الخَلق يحدو بي إِلى أملٍ
في ذي جفاءٍ إِذا دانيْتَ يقصيني
عرفت أنيَ لن أهنا بِلُقْيَتِهِ
فلم أُصِبْ بُرْءَ أحلام تناجيني
يا بؤسَ نفسيَ لا صبرٌ ولا صلةٌ
ولا عزاءٌ يؤاسيني ويأسوني
يا لائمي أنني لم أُلْف ذا مقةٍ
أُفْضِي إِليه بأمر منه يشجوني
احْمَدْ زمانك في جدٍّ حَبَاك به
لقد حباني بجدٍ منه مدجونِ
ما إِن أبيت حباءَ الدهر لو صَدَقَتْ
آلاؤه، وحباني بالميامينِ
يا مغريًا لي بخلقٍ لا أشاكله
أبغيك في كل نابي الطبعِ مأفونِ
وكيف أنقم إِفكًا منهمُ، ولَكَمْ
كَذَّبْتَنِي بحديثٍ منك يغريني؟
أقول علَّ بعيدًا لست أعرفُهُ
يومًا يجيءُ بخلق لا ينافيني
لم يُغْنِ قلبيَ فيكم ما يعالجه
هل تعلمون بديلًا منه يغنيني؟
لو كان للعيشِ عَودٌ كان لي أملٌ
في أن أصيبك في عيشٍ يصافيني
لكنَّه مرَّةٌ في الدهر واحدةٌ
ثم العفاء على آمالِ محزونِ!

الملك الثائر

مقدمة

هذه الأقصوصة تحتوي نزعتين: النزعة الأولى سخط النفس من شرور الحياة وآلامها، والنزعة الثانية تهوين أمرها على النفس؛ لأن رَفْض الألم رَفْضٌ للسعادة؛ إذ الإحساس الذي يُحِسَّ السعادة لا بد أن يُحِسَّ الألم. ورفض الشر في الحياة رَفْض للخير؛ إذ الخير في محاربة الشر؛ ولأن الرحمة نفسها التي تدعو إلى هذا السخط ما كانت تكون لولا الشر. والقصة هى قصة مَلَك عصى ربه وهبط إلى الأرض، كي يدعو الناس إلى محو الشر فآذوه وألحقوا به كل شر؛ وخسر رضوان الله كما خسر رحمة الناس وعدلهم ومحبتهم. والمراد العظة وتحبيب الحياة والثقة بالله.

نُبِّئتُ أن ملاكًا ثار من حزَنٍ
يسائل الله في خلق الرزيئاتِ

قول الملك الثائر يناجي الله

تَكَلَّمَ الشرُّ فابعث منك هاتفة
من الجوامع تُرضي في المناجاةِ
الأرض مبنره وهْو الخطيب بها
يدعو النفسو إِلى هُوج المطيَّاتِ
فارحَمْ مسامع لم تَسْمَعْ نجِيَّكَ أوْ
نفسًا لضوئك ترنو في الخصاصاتِ
وارحم عيونًا إِلى مرآك ظامئة
آبت من النحس في شكٍّ كليلاتِ
إِذن أعِرْها لحاظًا منك صادقة
تدحو لها العيش محمود الصحيفاتِ
وابعث لنا حكمة مما خُصصْت به
فحكمة لك تُطفي حرَّ غلَّاتِ
ندري الوجودَ كما تدري الوجود بها
ونرتضيه بأرواحٍ أبيَّاتِ
فما الخلود ولا الفردوس مِن أَرَبي
ولا كمالٌ لمعصوم السجياتِ
حتى أرى الناس لا دمع ولا حزَنٌ
ولا شقاءٌ بإِجرامٍ وغمَّاتِ
سأبلغ الأرض آسَى مثلما حزنوا
وأُبرئ الناس من جرح البليات
إِن الجهاد على النقص الذي طبعوا
عليه أفضل من عصم السجياتِ
فالسيف أفضل مشهورًا وإِن صدئتْ
بالصون ما درنت منه بإِصْلاتِ

صوت من السماء

اهبط إِلى الناس واندبهم إِلى خلُقٍ
كما تشاءُ على تقوى وإِخباتِ
وارغب بهم عن شرورٍ أنت ناقمها
وداوِ ما اسْطَعْتَ كلْمَ المصمئِلَّاتِ
أورِدْهُمُ الخُلُقَ الأعلى لعلَّ لهم
إِلى الدنيَّات طبعًا غير منصاتِ
فإِن فشلت فلا غَرْوٌ فإِن لنا
في الخلق حكمة مخبوء العلاماتِ

مسعى الملك الثائر واضطهاد الناس إِياه وفشله

سعى إِلى الناس ساعٍ نحو خيرهمُ
يدرُّ للخير أرواحًا بكِيَّاتِ
فيا لسعدهمُ لو أنَّهم جَنَبوا
ما يجنب السعدَ من حرص المباراة
عزيز عاداتهم للشرِّ رائدهم
كم قدسوا العادَ تقديس الديانات
تبغي المحالَ فتبغي الخير أجمعه
هيهات لو عُزِّيَتْ نفسٌ بهيهاتِ
كشَّفتَ عيب نفوس أنت ناصحها
فاحمل عن الخلق آلام الشقاواتِ
ثارت به الناس كالأغوال يقدمهم
إِليه كل عريق في الجهالاتِ
وحمَّلوا خُلقَه من سوء خلقهمُ
وكم رَمَوْهُ بأدناس الرماياتِ
ومزَّقوه بأظفارٍ كما خُضبتْ
فواتك الوحش من دامي الفريساتِ
وعلَّقوهُ على جزْعٍ وقيلَ له
اصعَدْ كما رمْتَ في مرقى السجياتِ
ما راعه أن رأى الأشرار ترجمه
وإِن توجَّع من وقع النكاياتِ
حتى إِذا ما رأى الأبرار تَظْلِمُهُ
غرارةً وانصياعًا للسِّعاياتِ
بكى لبُغْض ذوي خيرٍ وما مُنِيَتْ
نفس بأوجع منه في العداواتِ
من كل لحظ بضوء الخير مُنبعثٍ
يدجو عليه بتقطيب السخيماتِ
تلك النفوس التي عافَ السماء لها
وثار يُغضب جبارَ السماواتِ
يُكفِّرُ الناس بالآلام قاطبةً
عن الخطايا وعن شر الدَّنيَّاتِ
وعن رضاءٍ بعيش جلُّه نقمٌ
وعن ولوع بنعماء ولذاتِ
هم يعذرون بمدح الخير شرَّهمُ
تكفير من لم يُطِقْ هجر الخطيئاتِ
لسان بَرٍّ بئلب الشر منطلق
مثل الأفاعي وما قلب بعزْهاةِ
ما أنكر الناس شرًّا غير ضائرهم
أينكرون شهياتِ الغريزاتِ؟

صوت من الجحيم: إِبليس يتكلم

ناداه في النار إِبليسٌ فقال له
هوِّن عليك ولا تُولَع بإِعْناتِ
قد شاء ربك إِن الشرَّ عدته
في صيغة الخير في قَدْرٍ وميقاتِ
أنا الشقيُّ بما لم أَجْنِه أبدًا
من خلق نفسي ومن آثام زلاتي

قول الثائر الساخط

فقال ذو شقوةٍ بالجزع منتصب
يكلمُ الله في نجوى السريراتِ
أَنزلْ عليَّ شقاء الخلقِ قاطبة
وطهِّر الناس من ضَير الجريراتِ
إِن يظلموني فمن بالشر يجبلهم
أو يصلبوني فمن باري الجناياتِ؟
هل يَعذرُ الشَّرَّ أنَّ الخير غايته
أم هل تهوَّن آثامٌ بغاياتِ؟

مصير الثائر

فخُلِّفتْ روحه كالطير سابحة
في الجو تنشد مخضرَّ النباتاتِ
طارت إِلى الملأ الأعلى فما لَقِيَتْ
لها قرارًا ولم تظفر بمهْواةِ
لا في الجحيم ولا الفردوس مسكنها
حيرى المسالك من فَقْد القراراتِ
ترى الملائك حول العرش آسيةً
تأسى الملائك من إِثم وزلاتِ

صوت من السماء

يا ناقم الشر هلَّا كنت مُضْطلعًا
بالجزع والصلب قبل الكارث الآتي
عصيت ربك في كبْر وفي جهل
لمَّا بَرمْت بإِيلام الملماتِ
الخلْق للخلق ربح لو فطنت له
كمغنم الحيِّ من أسلاب أمواتِ
والشر والخير لا يُرْجى افتراقهما
فارفض إِذا اسطعْتَ نعمائي ولذاتي
حتى العقول وحتى الفضل أجمعه
ولذة النفس في بذل المروءاتِ
ومُرتضي الخير لو يسعى إِلى دنسٍ
لَباءَ منه بإِخلافِ العلالاتِ
ومرتضي الزهد مسعود بعفته
ولذة المنع إِنماء الخيالاتِ
برحمةٍ قد نماها الشر تنقمه
ورحمة المرء من وخز المصيباتِ
إِن كان سخطك خيرًا في مراحمه
أجزت خلْقى بأرواحٍ رحيماتِ
فالشر للخير مردود وإِن أَسيتْ
منه النفوس بأنَّاتٍ وآهاتِ
وباحث سِرَّ عيش غير مُدركه
كالطفل ينشد أفلاك السماواتِ

الموت

أيا معبدًا قُرْباننا فيه عَيْشُنا
نضحي به لذاتنا والأمانيَا
ويا منصفَ المظلومِ من كل ظالمٍ
ويا مهربَ الملهوف يخشى الأعاديَا
ويا مبرئًا كلم الحياةٍ بطبِّه
جلالك أنْ قد راق ما كنت شافيَا
ويا سترُ لم يصدعك هَمٌّ ولوعة
ويا حصن عطلت الدروع الأواقيَا
فيا موت يا أمًّا أطالت تصاممًا
أما لك قلب يرأم الولد حانيَا؟
ألا أرضيعني منك يا أمُّ درة
لأذكر ما قد كنت في العيش ناسيَا
فيا موت أَقْبِل باسِطَ الوجه طلقه
فإِن حميم الصحب ما كنت لاقيَا
تُقَارِب مَنْ أمسى لطيفك قاليًا
وتُبْعِد مَنْ يرجوك في النحس راضيَا
أتجمع بين الصحبِ أم أنت فرقة
تقول لها الآباد أن لا تلاقيَا؟
وكلُّ لهيفٍ يبتغي فيك نجوة
وكل لديغٍ يبتغي منك راقيَا
فما الْتاح من ألفى من الموتِ موردًا
ولا اعْتَلَّ من لاقى من الموت شافيَا
أتسمع صوتَ الرعدِ كي أستعيره
لأوقظ طرْفًا منك وسنان ساجيَا
أحبُّك حبَّ الصبِّ وجْه عشيقه
لينقع ثغرا منك صديان ظاميَا
وكم طربت أذْني لِلَحْن أجدْتَه
أعد منك لحنًا يترك السمعَ واعيَا
وأنت شبيهُ الله في خيرِ نعته
فإِنك رحمن وإن كنتَ قاسيَا
لأعززت من قد كان في الناس صاغرًا
وأرخصت من قد كان في العيش عاتيَا
وليس بعزِّ المرء مثل افتقاده
وإِن كان معشوقًا لدى النفس غاليَا
جوارُك مأمونٌ وملكك رحمة
لمن كان قد أعيا الطبيب المداويَا
لخلفت قلبَ الخوف يخشى حِمامه
فجارك لا يخشى من الخوف ساريَا
وأين دموعُ النحسِ من عهد آدمٍ
محاها من الأحيان ما كان ماحيَا
وكم حرس الموت الودائع بعد ما
أحالت صروفُ العيش إِلفًا معاديَا
إِذا لم يكن للميت شجوٌ وحسرة
ولم يك للفقد الذي ناب واعيَا
فأين وعيد منك يا موت نتقي
ونزوي إِذا ما لحت منه النواصيَا؟
وللخفض أيامٌ وللنحس مثلها
ودهرك مثل الخلد أروع ناميَا
توالت فصولُ الحولِ عن قدر موعدٍ
فهل منذر ينبي عن الموت آتيَا؟
وليست حياةُ المرءِ إِلا كنفحةٍ
سَلِ الموت عنها والسنين السوافيَا
وما بي خوف الموت بل حرُّ حسرةٍ
لفقد حياة فيه لم أَدْرِ ما هيَا
رزقنا فلم لا يرزق الدود بعدنا
أليست فضول العيش خلقًا دواليَا؟
نسرُّ على قبر العصورِ التي خَلَتْ
كما يضحك المجنونُ أخطا الملاهيَا
هو الحيُّ عبد الموت يسعى لطعمه
فيغذى دماه والمُنى والمساعيَا
وما العيش إِلا طائرًا في دُجُنَّةٍ
توهَّمَه برقًا على الأفق نائيَا
كفى شرفًا بالموت أن كان عائش
يصولُ لنيل الرزقِ باللؤم شاكيَا
حمدنا مهودَ النوم أن شابه الرَّدَى
وإن لم يرع بالحلم من كان كاريَا
فكيف نعافُ النومَ لا نوم مثله؟
سل القبرَ عنه والعظامَ البواليَا
وما العيشُ إِلَّا عادة غالَ قَيدها
وأي امرئٍ يُلْفِي لدى العاد عاصيَا؟
ولو فهم الحيُّ الحمامَ وطهره
لما أوْجَرَ الحقدُ الكمينُ الأعاديَا
غدًا يستوي الجاني ومن ذاق شره
كأنْ لم يكونا مستكينًا وجانيَا
حبَتْكَ صروفُ الدهرِ بالحسن والهوى
سلِ الموت أن يحبوك ما كان حابيَا
ألم ترَ أنَّ المرءَ في عظم سعده
كما في أساه، يرتجي منه آتيَا؟
سواحر لذَّاتٍ يرى العيش بعدها
خلاءً، فيرجو لو رأى الموتَ باديَا
يخاف عليها من عقيبٍ يمرُّها
فيكره من سوءِ العقيب اللياليَا
كما ائتلف الإِلفان في صفْو طرفةٍ
يخالان أن لم يُبْقَ في العيش باقيَا
فودَّا لوَ ان الموتَ نسمةُ عاطر
تطيرُ بروحٍ منهما كان هافيَا
وهل يَعْدِل الأحياءُ خيْر الأُلَى مضوا
تنادوا لحينٍ واستجابوا المناديَا؟
فأهوِنْ بهذا العيش قد جاز داره
ذوو اللب شتى يدلفون تواليَا
سل الملكَ الجبارَ ينقع غلَّه
من الموت لو ألفى على الموت عاديَا
وما العيش إِلا مِيتة بعد مِيتة
وما الخير واللذات إِلا عواريَا
وما العيش إِلا الظئر تؤذي وليدها
إِذا لم يكن في النحس جذلان لاهيَا
فأهوِنْ بأحلام الحياة وطيبها
فإِن عناءً سؤر كأسِ رجائيَا
فيا ليتني كالزهرِ صيفٌ حياته
فأفنى ولم يعنف عليَّ شتائيَا
على العيش واللذات مني تحيةٌ
وألفٌ على موتٍ يريح جَنَانيَا
أرى ظلمةً في العيش أخشى غيوبَها
وربَّ وليدٍ خافَ ما كان خافيَا
أنخشى ظلامَ الموتِ والعيش مثله؟
إِذا ضاءَ سرُّ العيشِ فاعدده داجيَا
وما يضحك المسرور إِلَّا لخوفِهِ
وكم ضحكة في ثغر من كان خاشيَا
تُقَطَّعُ أوتار المودَّات والهوى
تَقَطُّعَ خيط العودِ أشجى الأواليَا
أيعجب ذاك الميت من حزن والهٍ
أم الميت لم يسمع من الناس داعيَا
تدرَّعَ بالصمت الذي ليس مثله
مقال، أليس اللبُّ للصمت واعيَا؟
وصمت على الأموات يُدْنَى كأنما
يسقِّي الندى زهرًا على الترب ناديَا
سواءٌ مقال الإِلف أو جَرْس سبةٍ
فقد أمنوا منه الأذَى والمخازيَا
فمَنْ مبلغ الأموات عني تحيةً
سلامٌ عليهم، بل عليَّ سلاميَا!
فما أعوزتْهم رحمةٌ في قبورهم
كما أعوزتْني رحمة في حياتيَا
لعادوا وفي الأوراح منهم بقية
وفي الماءِ مورودًا وفي الزهر زاهيَا
وقد أصبحوا رزقَ الحياةِ وطعمها
أيدعى قوام الحيِّ ميْتًا وفانيَا؟
سواءٌ لديهم صبحُنا ومساؤنا
وسيَّان ما يُسْمِي الأذى والأمانيَا
وسيَّان لمحُ الطرف مرًّا وحقبة
ويبطي لنا النحس السنين البواقيَا
خليليَّ خُطَّا لي من الأرض حفرةً
أريح بها قلبًا عن الناس ساليَا
ولا تُسْمِعَاني الطير تشدو بنغمة
فآسى على العيش الذي كنتُ قاليَا
ولا تمهدا للغيد فوقيَ موطئًا
فأحنو لحسنٍ لم أَزَلْ منه صاديَا!
عزائيَ أنَّ الزهرَ تسقيه حفرتي
دمي ويروح الحسن بالزهر حاليَا
حبيبي، أرِحْ منك الجنَان فإِنني
تبدَّلْتُ منك الموت حبًّا مؤاخيَا
وهيهاتَ لا يسلو عن العيش جارعٌ
من العيش حتى يصبح العيشُ ماضيَا
وحتى يموت الحبُّ والذِّكر والمُنى
وتتلو نواعي الشائقات المناعيَا
وحتى يموتَ الموتُ لولاه ما بكى
حريصٌ على دنياه يخشى المرازيَا
فيا ليت أنَّ العيشَ يخلف ميتة
دراكًا كما يطوي النهار اللياليَا

ذعر المحب

تعزَّلَ قلبي كلَّ شجوٍ وفرحة
فقرَّ كما قرَّت رفاتُ المقابرِ
وما كنتُ أدري أنَّ للحبِّ عودةً
إِلى القلب حتى خِفتُ صرف المقادرِ
أخاف عليك الضرَّ حتى كأنني
أخاف على قلبي وسمعي وناظري
كتمتُ الهوى في القلب حتى أذاعه
وجيبٌ وإشِفاق لأنباءِ ذاعرِ
فوا حسرتا ما لي وللحبِّ بعد ما
وَهَى منه قلبي بين جانٍ ونافرِ!
أُحَيِّيك في رغدِ السلامة لم يَخَفْ
عليك شفيقٌ من صروف الدوائرِ
ولم أدرِ ما ذعر المحب ولم أَبِتْ
أباعد عن قلبي مخوف الخواطرِ
ويسعدني من شدَّة النحس أنها
نذيرٌ بإِقبال الحِمام المغامرِ
أعالج آلامَ الدهور التي خَلَتْ
كأني مناكيد الدهور الغوابرِ
فليتك تدري ما لقيتُ ولو دَرَى
جَنانُك ما ألقاه ما كنتَ هاجري
ويا عجبًا لو كنت تجهل أنني
لأجلك أقضي الليل رطب المحاجرِ
ويا عجبًا لو كنت تجهل أنني
أبيتُ وقلبي في مخالب كاسرِ
أما خبَّرَتْ عيناي عينيْك أنني
أحبك حبَّ النحسِ خصب المصادرِ
فقد خبرت عيناك عينيَّ أنما
تراءت لتشفي عاشقًا جد عاثرِ
شهيديَ ليلٌ سامرتني نجومُهُ
كم التحْتُ من بَرْح الهيامِ المخامرِ
وكم بتُّ أبكي أسأل الله راحةً
من الموت لو ألفى لدى الموت ناصرى
أبِنْ ليَ ألفاظًا من النار علَّها
تؤديك ما يلقاه قلبي وناظري
وكلُّ بيانٍ عاجزُ اللفظِ كاذبٌ
فليتك تُلقي خاطرًا طيَّ خاطري
وليتك روحٌ طيُّ روحي خابرٌ
وليتك ربٌّ عالمٌ بالسرائرِ
وما إِن كتمت الحبَّ إِلا مخافةً
لفقدك من مسعاة لاحٍ وغادرِ
فيا ويح قلبي لا صديقٌ مُصادقٌ
ولا حبُّ إِلا عادَ عون المقادرِ
أمن أَرَبٍ أحيا لآسى كأَنني
غذاءٌ لأفواه الشجونِ الجوائرِ
فيا نائيًا أغدِقْ على القلب رحمةً
بِعَيْنَيْن نجلاوَيْن مِنْ صُنْع ساحرِ
وعطفُك عندي نهزةٌ ليس بعدها
إِلى أبد الآباد إِسعاد خاسرِ
فيا دهر كفِّر عن همومي كلِّها
بمرأى حنان الحسنِ من طرف هاجرى
أليس قليلًا نهزة لو ينالها
أخو الموت من خلدِ اللهى والذخائرِ
فيا لِبَلائي لا عزاء أصيبه
عن الحب والخِلِّ الحبيب المؤازرِ
وإِن كنت أدري أن عيشيَ خدعةٌ
وحُلم تقضَّى أو أكاذيب سامرِ
أرى الزهرَ غَضًّا يانعًا طلَّه الندى
مليًّا بأن يشجو ظماءَ النواظرِ
فأحسبه دمعًا لذكرى غرامنا
وأنفاس أيام اللقاءِ الغوابرِ
أتذكر وعدًا باللقاءِ بذلْتُهُ
بمجتمع الأطيارِ بين الأزاهرِ
وليلًا طرقناه سميريْن في الدُّجىَ
كما جال سرُّ الوحي بين السرائرِ
طرقتكَ يا ليلَ اللقاءِ فرُقْتني
بلذات حبٍّ كالنجوم الزواهرِ
فهل من معيدٍ لي لقاءً مضى لنا
وعهدًا تقضَّى بين إِلفٍ وناصرِ؟
ولا تتركنِّي ذاكرًا عهْدَ ما مضى
كعادٍ يرجِّي الذخرَ بين المقابرِ

طيرة الفرخ

جناحُك واهنٌ فإِلامَ تبغي
بذاك الوهن مطَّلب النسورِ
أقم في وكْر غصنك مستريحًا
من الأحداث والقدر المغيرِ
ألا طِرْ حيث شئت فغير بِدْعٍ
إِذا غالتك عاديةُ الصقورِ
لَطيرة من يؤمُّ الشمس أجدى
على الزَّلات والجدِّ العثورِ
لقد جُعل الطموحُ لكلِّ ندب
كما جُعل القوادمُ للطيورِ
وقد يبكي الجبانُ على جريءٍ
كما يبكي الجزوعُ على الصبورِ
أرى الآلام محملها خفيفٌ
على الضعفاءِ والبطلِ القديرِ
أنفرق من ديونٍ هُنَّ حتم
على النَّفْساءِ والطفل الصغيرِ
ووقعُ النحس في الأجسام وخز
كوخز اللذِّ من وقع السرورِ
فسلْ قلبَ الشهيد عن البلايَا
يخبِّرك الشهيدُ عن الحبورِ
وما من مهجةٍ هانت وذلَّتْ
بغير مخافة الألم الذعورِ

حب العزوف

ليس الوجودُ وأنت بعضُ كيانه
أسرًا لقلبِ العاشق الغطريفِ
والندبُ يحمل بين جنبيه الدنى
روع الغريب وراحة المألوفِ
إِنَّ الذي دَرَسَ الزمانَ وفعله
لأجلُّ من حَدَث الزمان المُوفِي
ويشيم أسرارَ الحياة بحكمةٍ
تعدي على المجهول والمعروفِ
هبْ حسنك الأقدار تطرق بالأسى
ما إِن يعاب أخو الأسى بصروفِ
أوَمَا نما الأمر الصغير فأصبحَتْ
تتلى قروفُ قراعه بقروفِ
هبْه الخطوب حقيرها وجليلها
عبثٌ صيال جمالك الموصوفِ
عبثٌ ومن عبث مقالي إِنه
عبث ملامة ذي قلى وصُدُوفِ
عَبث عداء الحاسدين ومثله
نعتي لخلة جارمٍ وعزوفِ
عَبثٌ نعيمي والشقاء ولوعةٌ
تفضي إِليَّ بعلَّةٍ وحتوفِ
عَبثٌ جمالك في الصدود وفي الرضى
عبثٌ هيام فؤادي المقروفِ
أوَبَعْد ذا حال أخاف صيالها
ولقد برمتُ برائقٍ ومخوفِ
لن تعرفَ الغيدَ الحسان إِذا قضتْ
أنَّ الهيامَ أشده لعفيفِ
ومن العجائب أن جهلت وطالما
ذخر العزوف هيامه لحصيفِ
كم مدَّعٍ خَبَلًا لتحسب أنه
خبلُ الهوى واعجُ الملهوفِ
يلقاك بالدمع الغزير ولم يكن
دمعي بخدعة ماذقٍ مطروفِ
إِني أجلُّك عن سوافحِ عبرةٍ
عبئت لمغرور الحصاة سخيف
يخشى على الباكين وقْع جماله
فيبيت نهزة خادعٍ ومروفِ
ولأنت أعظم في الفؤاد محلةً
من أن تُغَرَّ بمدمعٍ مرصوفِ
يا رُبَّ مضطغن يحبك إِنَّ لي
شوقًا إِليك ألحَّ غيرَ طفيفِ
الآن لما خِلتُ صفوك بالغي
يسعى إِليك بمدمع المشغوفِ
كيما أبيت علي جفائك حيث لا
يخشى الحسودُ على الصفاءِ وقوفي
كيما يقال حبوتَه بمودةٍ
وتركْتَني للعذْلِ والتعنيفِ
أسفًا له لم يَلْقَ حيلةَ سابق
بالمجد يسبقني بغير طريف
حتَّام أبلو كلَّ يومٍ خلَّةً
للناس تغري عنهمُ بوجيفِ
أوَكلما قلت الحضيض بلغته
من ذي النفوس عدوته لألوفِ
حسبي اغترارك بالمناقب ملهمًا
صبرًا فتثلج حرقةَ الملهوفِ

العدل والكسب

إِذ كان رزق المرء كيدًا يكيده
فأيُّ يقينٍ في النفوسٍ الكواذبِ؟
فما ينتحي حيٌّ سوى نفْع نفسه
وإن خاضَ منه في خبيثِ المكاسبِ
يذود قلوب الناس عن كل سابقٍ
كما ذيد طيرٌ في الرياض بحاصبِ
أبيتُ على الأسقام نضوًا محسَّدًا
وأحسبُ أنِّي ناعمٌ بالمآربِ
وهل ذاق لؤم الناسِ إِلا أخو ضنًى
تكنَّفه الأعداءُ من كل جانبِ؟
أناسيهمُ أحقادهم غير جاهل
وأسألهمُ من صفوهم غير عاتبِ
وما الناس إِلا ظاهرًا غير باطن
حماة الأفاعي في جلود الأرانب
يخالون خيرَ الناس من رام نفعهم
وإِن كان ذا نقص خسيس المعائب
وإِنَّ أخسَّ الناس من عافَ شرَّهم
وإن كان ذا فضلٍ نبيل المواهبِ
تجارِبُ قد زَهَّدْنَني في إِخائهمْ
وروَّعن لبِّي بالأمور العجائبِ
وخلفني في العيش لا عيش رائقي
وإِن قيل إِنَّ الحزم حمد التجاربِ
فطوبى لمظلومٍ رأى العدلَ معوزًا
قضى أن فوق العدلِ صبر المحاربِ
هل العدلُ إِلا خوف سرٍّ تعافه
حذار العوادي من مهيب العواقبِ؟

سفر اللؤم

حاولت مني بغضة
لما نظرْتَ إِليَّ شزرَا
إِن الحياة أعم شرًّا
من لحاظٍ منك تترَى
فكأَنها باب الجحيـ
ـمِ تبين منه ما استسرَّا
الناسُ سفرى كيف أقـ
ـلى نعته لؤمًا وشرَّا
تُبدي وتنكر بغضةً
ولشد ما أنكرت نكرَا
لو باخ حرُّ البغض لانْـ
ـطفأت حياةٌ منك حرَّى
فكأنما نارُ الحيا
ةِ تشبُّ من غلٍّ وتورى
فلئن بلغت به الحضيـ
ـضَ فميزة لك ما استقرَّا
فافخرْ بأنك ألأم الـ
ـثَّقَلَيْن حسبك ذاك فخرَا!
فضلٌ خصصت به وكلُّ
خصيصةٍ عتد ذخرَا
نفْسٌ بقيء المرء إِن
جُليت فضعْ للنفس سترَا
فكأنما زخرفت إِذ
ألبست نفسَك منه قبرَا
بيرُ العقارب والأسا
ود بئست الأرواح بئرَا
والمرءُ يغفر للظلو
م إِذا تبغَّى منه خيرَا
فلئن أهان خليلَه
لم يُلْف للمظلوم غُفرَا
إِكرامُهُ المظلوم إِقْـ
ـرارٌ بجرمٍ منه أسرى
جرمٌ يحاول سترَه
جعل الشكاة لديه عذرَا!

ويل للشجي من الخلي

هل للجوَى وقعٌ بقلبك رائقٌ
ترضاه لي ببعادِكَ المملولِ؟
أم كنت معروفًا بإِفكي في الوَرى
فوضعت صدقي موضعَ التضليلِ!
أم أنت تكذب في الحديث وفي الهوى
إِمَّا شكوت لوعاجًا لخليلِ؟
فحسبت أن الخلقَ مثلك خادعٌ
يحكي الهوى ببيانه المبذولِ
خلتَ الأنين ترنُّمًا، ولواعجي
إِفك القريضِ ومشتكًى لحمولِ
أني اتهمت فصاحة كَذَّبْتها
مَنْ ذا يعير فهاهة المفضولِ؟
فلعلَّ في بعض الفهاهة شافعًا
يأتي إِليك بحجة ودليلِ
يا ليت أنَّ الشعر ليس يجيده
غيرُ الشقيِّ بلوعة المتبولِ
كذِّب ولوعي بالفضائلِ والنُّهى
وبكل أمرٍ في الحياة جليلِ
وارتبْ بصدقي في المقالِ ولا تدعْ
للشكِّ مسرَى في شكاة غليلِ
أشقى الأنام من استريب بصدْقِهِ
في نحسِه من مشتكًى وعويلِ
أفئن رأيت على الطريق مبضعًا
ترجو له لو راح غير قتيلِ
ولئن رأيتَ أخا السقامِ رحمته
ووددتَ لو يلقاك غير عليلِ
أو ناحت الثكلى رثيت لرزئها
تبغي فداءَ وحيدها ببديلِ
وإِذا اشتكى العافي الضريك بررته
وكشفت ضرَّ المجتدى المخذولِ
وتودُّ لو تنفي الأذى عن أنفسٍ
راحت بجدٍّ في الحياة ذليلِ
رحماتُ نفسك قد وسِعْن منادحًا
للكون غير فؤاديَ المعلولِ
ولأنت أبصر بالفؤاد ودائِهِ
وألطُّ منك بشاكلٍ وقتيلِ
أفكلُّ حيٍّ منك أقربُ شقة
وأحقُّ بالحرماتِ والتأميلِ
من عاشقٍ قد خبَّرتك لحاظُه
ما لم تخبِّر قبل عينُ خليلِ
فاقرن لحاظَ العاشقيك بلحظتي
واظفر لها من لحظهم بمثيلِ
هيهات فاتَ الناظرين لواعجي
ومضوا بسؤر صَبَابتي وغليلي
الحبُّ كونٌ لم تسعه برحمةٍ
يا ويح حبٍّ ظلَّ غير قليلِ
لو كان أمرًا هينًا لوسعته
ورحمت قلبًا منه غيرَ عليل
قد كنت أبغي منك سمعًا واعيًا
فظللتُ بين اليأس والتأميلِ
وبعثت شعري موقظًا لك من كرًى
عن لوعتي ولواعجي وغليلي
تالله لستَ بمسعدٍ لي في الهوى
ولئن دعوتُ ببوقِ إِسرافيلِ
لم يَبْقَ إِلَّا أنْ أُنيم خواطري
كالطفل راحَ بحسرةٍ وعويلِ
تشدو له الظئرُ الرءوم فينثني
طلقَ المحيَّا قانعًا بقليلِ
لهفي لوَ ان القلبَ مثلُ وليدها
نسيَ الأسى وأصاخ للتعليلِ
لا يخدعنَّك أنْ بدوت تجلدي
ما ذاك إِلا حيرتي وذهولي
ولكم ذخرتُ للقية لك قولة
فإِذا بدوتَ نسيتُ كلَّ دليلِ
وأودُّ لو أدعوك إِمَّا لُحْتَ لي
فأُرَدَّ عنك بحيرةِ المخبولِ
لهفًا لصادٍ خِيلَ غيرَ محَوَّم
ولمقبلٍ قد خِيلَ جدَّ ملولِ
وبوده لو كنت أنت جليسه
في ليلةٍ وصبيحة ومقيلِ
ظفر الخليِّ بُنهْزةٍ ما نالها
أحجى رعاة الحسنِ بالتنويل
إِن الخليَّ هو الجريء على المنى
حيث الشجيُّ لخيبة المخذولِ
حُرِمَ الشجيُّ تصافيًا وتدانيًا
ومضى الخليُّ بغاية التأميلِ
والصبُّ مسبوبٌ ببادي حبِّه
حيث الخليُّ لعزة التبجيلُ
ولعلَّ مسعودًا أحقُّ بخيبةٍ
من عاشقٍ عفِّ الغرام نبيلِ
جور القضاءِ وهل يجيرك غافلٌ
عن جوره بفطانةٍ وكفيلِ؟

صحو ولا صحو

لقد أصبحت لا عتبًا
ولا عذرًا فيبتدرُ
وقدمًا كنتُ إِن أذنبْـ
ـتَ مما جئتَ أعتذرُ
لأقرب منك بالغفرا
ن، ذنبُ الحُسْنِ مغتفرُ
وفي الأعتاب لي وِردٌ
وكيف وهمِّيَ الصَّدَرُ
ففي الأعتاب لي عود
وذاك الصابُ والصبرُ
وحسبي منك أنَّ الحبَّ
مخذولٌ ومعتكرُ
رعى الله البعاد لوَ انَّ
صبرًا عنك يقتصرُ
أأحمده وهذا العيْـ
ـش قربٌ منك والذكرُ
وأخشى أن يكون الموْ
تُ فيه منك لي خبرُ
فما في العيش لي منجًى
وما في الموت لي وَزَرُ
وكيف أصيب لي منجًى
وأنت النفسُ والقدرُ؟
نوازع نفسيَ اللاتي
تئوب بها لك الفكرُ
أغرَّك مقول المتبو
لِ: أنت الشمسُ والقمرُ
إِذا ما لجَّ بي وَلَهٌ
فترب بقيعةٍ دررُ
وما نفسٌ بأفطن من
وليدٍ شَاقَه المدَرُ
ألا غفرًا بنفسيَ لا
يماز الشهد والصبرُ
فليس الذنبُ ذنبيَ بلْ
هي الأرزاءُ والغيَرُ
فكنْ في ذروة الأكوا
ن حطَّ بمهجتي قصرُ
وكن حيث الحضيض فليْـ
ـس قولي ساقه الصعرُ
وما أدرى سوى أن لسْـ
ـت مَنْ قد كنتُ أنتظرُ
حبيبٌ وامقٌ جاءتْ
به الآمالُ والذكرُ
بفتْكٍ غير من أبغي
وأنت السمعُ والبصرُ
ولو أني حسبتكمُ
جلاكُمْ حلميَ العطرُ
رضيتُ شقاءَ نفسيَ إِذ
يهون العيشُ والقدرُ
شقائي أنني أهوى
حبيبًا غيره الوطرُ
أتحسبني أغار إِذا
أتتك بآية غررُ؟
وكيف أغار من فضلٍ
لغيري شَامَه النظرُ؟
أذلك سوءُ رأيك فيَّ
أم واشٍ فينزجرُ؟
وهل أَلْفَيْتَنِي غرًّا
بما أحسنت أفتخرُ؟
جفاءُ الحسنِ منجبرٌ
أسوءُ الرأيِ ينجبرُ؟
بودي أن تشيم الفضْـ
ـلَ أجمعه فتبتدرُ
بودِّي أن تشيم النقْـ
ـصَ لا يخفى له أثرُ
لكيما تعرف الواشين
ما أبدوا وما ستروا
وأقبحُ ما يرى حسن
برأي الخبِّ يأتمرُ
فهل عَوَّذْتَ حسنَكَ بِانْـ
ـخداع كلُّه عَررُ
لتدرأَ حاسدًا لِكَمَا
لِ حسنِك لحظه شررُ
وكلًّا إِنه الخورُ
فأين الحزم والحذرُ؟

العظيم

لمعاتُ رأيك مقلةُ العرفان
فاحكم كحكمِ الحقِّ في البرهان
لو كنتَ قد أُعْطِيتَ في الدهر المُنى
أو كان ما قد شئتَ للحدَثانِ
لتعطلت سبلُ الشرور وبرَّدتْ
وقدت قلبٍ للضريك العاني
ومسحتَ بالرحمات آماقَ الورى
حتى تعودَ قريرةَ الأجفانِ
من غير أن يوبي الحياة ركودها
لفناءِ ما دفعت من الحدثانِ
نزعاتُ نفسك رحمةٌ مرجوةٌ
رحمات مقتدر الأناة معانِ
وجلائلٌ تذر الحياةَ كأنها
خلدٌ يعبُّ بزاخرِ الأزمانِ
وعلوْت عن حسدِ الحسود وربما
حسدَ الحسودُ الشمسَ في الأعنانِ
هيهات ما أسر الحسود تكرُّمٌ
إِنَّ التكرمَ وقْدُ غلِّ الشاني
وفضائلٌ ليست لغير مجرب
إِنَّ التجاربَ حجةُ الرجحانِ
وأجلُّ خيرِ النفسِ بعد بلائها
فالعيشُ حربُ فضيلةِ الغفلانِ
وترى الفرائضَ كالحقوقِ حبيبة
أو كالديون رهينةَ الإيمانِ
دَينُ الحياةِ ورُبَّ فرْض غالقٍ
إِلا لَدَيْكَ بمطلةِ الليانِ
وعزائمٌ تمضي الحياة غلبَّة
وخواطرٌ كملائكِ الرحمنِ

الشمطاء الفتية

قد بلوتِ الصروفَ في حالتَيْها
ورَمَتْك السراء والضراءُ
ورأيتِ الأطماع كالطير صرعى
ثم عاد الرجاءُ وهْو غشاءُ
واحتسيْتِ الحياة فيضًا وسؤرًا
فإِذا الذكر والرجاء سواءُ
وإذا المقبل المرجَّى كما فا
ت به الدهرُ والحثيث ضراءُ
وشهدتِ الأنامِ سلمًا وحربًا
فإِذا السلم والحروب عناءُ
وإِذا العيشُ والسنونُ جهادٌ
ليس يدري أسبابَه الأحياءُ
إِيه يا مصِرُ ما تقضَّى جمالٌ
ترتضيه الآمالُ والأهواءُ
الليالي التي عهدتِ حسانٌ
والسماءُ التي عهدت سماءُ
وذُكاءُ التي أطلَّتْ على مجْـ
ـدك دهرًا على القصور سناءُ
وجرى النيلُ في أديمك قدمًا
يتهادى كأنَّه الحسناءُ
فانشرى أهلك الذين تقضَّوْا
إِنَّ عيشَ الباقين منهم فناءُ
فكأَنَّ الأطماعَ والسعي فيهم
عبثٌ غيرُ نافعٍ وعناءُ!
سحرتْك الأيامُ يا مصر أم نَوْ
مك قد طار عنه الرجاءُ!
الغليلُ الذي عهدتِ مقيمٌ
في نفوسٍ كما عهدْتِ تشاءُ
أبغضيني أو أحسني أنتِ أمٌّ
برُّها لو تعقُّ ولدًا قضاءُ
لك مني الغديرُ في نومةٍ من
بعد جهدٍ قضى عليه العفاءُ
نصبٌ خالدٌ وأعظم منه
اعتقادٌ تزيده الأرزاءُ
ورجاءٌ هو العبادة والإيـ
ـمانُ دِرعٌ يرتدُّ عنه الفناءُ
أبغضيني إِذا هززْت منامًا
عطَّرَتْه الأحلامُ وهْي رخاءُ
مثلما يبغض النئوم المسجى
موقظًا إِذ يُماط عنه الرداءُ
مللٌ قد عراكِ مِنْ عَنَتِ العيْـ
ـشِ بلاءٌ أن الطماحَ بلاءُ
قد كرهت الرجاءَ والذكر طرًّا
إِن بالذكر تأرقُ الشمطاءُ
قد سمعتِ الذي نقول قديمًا
وتقضَّى الدعاء أين الدعاءُ؟
دعوة بعد دعوةٍ من صروف الـ
ـدَّهْرِ لبَّيْتها وعادَ النداءُ
إِنْ يكنْ باءَ بالزمانة من أهْـ
ـلِكِ رهط كأنهم أشلاءُ
أو عناكيب عيشها ورداها
يتقاضاهما بلَيْلٍ قضاءُ
أبغضيني فليس ذاك ببِدْعٍ
آه لو جرَّ نفعك الشهداءُ!
غرَّك المرجفون مينًا وحقدًا
وحماني عن قلبك الجهلاءُ
لم أقصِّر في دعوةٍ غير إنِّي
خَذلَتني مسامعٌ صماءُ!
ليس إِلا الأحقاد يبعثها العجْـ
ـزُ وغلُّ يعدو به السفهاءُ

بعد عشرة أعوام (إلى حبيب غاضَ جماله)

يا أليفَ الصبا عليك سلامٌ
أين تلك اللوعات والآلامُ؟
أين وردُ الخدودِ الجمر يذكي
حرقات يشقى بها المستهامُ؟
أين قدٌّ ينقد من دونه القلْـ
ـبُ ويطعى عليه منه الهيامُ؟
وثنايا مفلَّجات عِذَاب
هُنَّ رىٌّ للمستقي وسلامُ
أين مدُّ الشفاه من عَبَث الدلِّ
وثغرٌ يبلُّ منه الأوامُ؟
واختيالُ الطاووسِ يا فتنةَ الطا
ووس يوري الهواء منك ابتسامُ
أين غمزُ اللحاظ والكف واللفْـ
ـظ، وأين العهود أين الذمامُ؟
أين ذاك الضحك المرنُّ الذي حرَّ
كَ قلبي كأنَّهُ الأنغامُ؟
أين سحرُ الحديث واللحظ والدلِّ
وسحرٌ تحوكه الأوهامُ؟
نثرت عنك كالثمار وقد هزَّتْ
ـكَ ريح والغصن منك القوامُ
أين خصرٌ يهتز كالغصن اللدْ
نِ، وقدٌّ يهوي عليه الحَمامُ؟
إِذ ذراعي نطاقه ونطاق الْـ
ـجيدِ منِّي ما تضمر الأكمامُ
ولقاءٌ كأنه رشفة الطيْـ
ـر وهجرٌ كأنَّه الأعوامُ
واختيالي على الزمان بعطفٍ
منك والحاسدون بُلهٌ نيامُ
أين أين الوشاة والوصل والهجْـ
ـرُ وأين الآمالُ والأحلامُ؟
يا أليفَ الشبابِ هل تذكر العهْـ
ـدَ وحولي وحولك اللُّوَّامُ؟
أسيَ القلب منك للغابر الفا
ئتِ من حسنك الذي لا يذامُ
أم نسيت الدلَال والمُلْك والدوْ
لة إِذ أنت آمرٌ وإِمامُ؟
لنقيمن مأتمًا حول حسنٍ
استوى الصمتُ دونه والكلامُ
ثم أكسوه من قريضيَ زهرًا
مثلما حبَّب الزهورَ الرجامُ
مثلما جَمَّل الأزاهر بيتًا
هدمته الأحداث والأيامُ
ذائعٌ حوله من الحبِّ نفْحٌ
كالشذى والجمالِ زهر يشامُ
وكأَنَّ الهيامَ هالةُ بدرٍ
فيه وجه الحبيبِ بدرٌ تمامُ!

سم الخسة وسعار الغرور

لو أنَّ كلبًا عضه في جلدتِهْ
لمات كلبٌ عضَّه من خستِهْ
وثائرٌ لطبعه الخسيس
من كل خلقٍ رائقٍ نفيس
وغافرٌ لنفسه الجريرهْ
ويأخذ الجليس بالصغيرهْ
وقلبُهُ جهنمُ الأحقادِ
وإِن بدا في الصمتِ كالجمادِ
إِن رعْتَه بجانب الهجاءِ
لقيت منه جانبَ الرجاءِ
فإِن تُلِنْ ألفيت جدَّ نابي
أو رمْتَ منه صفوه فآبي
فعيشُهُ ونفسُه بضاعهْ
وخلقُه وودُّه رقاعهْ
إِذا شهدْتَ أمرَهُ فمادحُ
أو غبْتَ عنه طرفة فقادحُ
ولؤمه في طبعه ديانهْ
وعيشه لصحبه خيانهْ
طريد أهل الموتِ والقبورِ
مشرَّدًا من ثقل الغرورِ
مفاخرًا بعَبثِ الكلامِ
كأنما يهذي من الأسقامِ
ويدعي من سفهٍ نجابهْ
وهْو ضئيل الشأن كالذبابهْ
ووجهه من رقعةِ النعالِ
أو قطعة من أخْمَصيْ بلالِ
تخاله مزدردًا ثعبانَا
أو ماضغًا في شدقه أتانَا
وعقلهُ كصررِ الأطفالِ
تجمع بين الترب والنمالِ
يا صافِعِيه صَفْعُهُ مبرورُ
وعملٌ في خيره مشكورُ
إِذا اشتكى ممن شكاه أمرَا
كالهرِّ أو كالكلب إما هرَّا
إِن قطع الغلمان من آذانِهِ
يصمُّ أهل الدار من جيرانِهِ
يثأر من آذانهم لسمعِه
إِذ ذاق مر فقده بقطعِه
جدَ به في أهله الدلالُ
«والقرد عند أمه غزالُ»!

قربان القلب

لا تخجلن إِذا علمت محبةً
تحكي الصلاةَ وتشبه القربانَا!
هل أنت تخجل أنَّ ربك راحمٌ
يهوى الجمالَ ويعشق الإِحسانَا؟
أم من أبٍ يحنو عليك مدافعًا
يهوى لنفسك في الزمان أمانَا؟

أذناب الخسة

يا عائبًا نفسه عندي بلا خجلٍ
ذهبْتَ تقدح في ناءٍ بلا وَزَرِ
كي لا أصدق في قولٍ تعاب به
وإِنْ أتيتُ بمأثور من السورِ
ما زلتُ أرجو لهذا الناس منصلحًا
على استفالك في لؤمٍ وفي نكرِ
فربما فَقَدَ الإِنسان خسَّته
مثل افتقادك للأذناب والوبرِ
يرى الحليم أخسَّ النفس إِذ رفعتْ
عنها الرياء ولم تقصده بالحذرِ

حقوق الفرائض

الحقُّ مثل الشمسِ يشرق نورُها
لتغايُر الألوان طيَّ شروقها
وبلوغ أفْق الفرض يظهر غيره
أقصى سماءٍ تطَّبي لسحيقها
فذر الحقوق إِلى الفرائض إِنها
لذَّات معبود الخصالِ عريقها
لن يبلغَ المرءُ العلا بحقوقه
إِلا إِذا بلغَ العلا بحقوقها!

درسى من الطبيعة (اللينوفر)

زَهَرٌ يعبد الشموس فلا تخْـ
ـدعه لمعة تضيء سواهَا
يتبع الشمس لحظة أين دارت
ويرى الضوءَ حلية وإلهَا
غير أنَّا نرى الرياءَ كمالًا
ونرى الطهر خدعةٌ وسفاهَا
هل رأيت الرياضَ وهي ظماءٌ
ضلةً تحسب السرابَ مياهَا؟

نوح الحفيف

يا حفيفَ الغصونِ هل أنت تحكي الـ
ـنَّوْحَ أم أنت مشبه للغناءِ؟
أنت قلب الأديبِ يشدو ويبكي
كدموع الندى وقطر السماءِ!

محارب الخرافات

نقضْت خرافةً لتشيد أخرى
وخِلتَ الحقَّ أجمعه مشيدَا
كهادم شامخ العرنين سامٍ
ليرفع عنده جبلًا جديدَا

يهوذا

لستَ من عُبَّاد عيسى
لا ولا تعبد بوذَا
أنت فيما جئت من عبَّـ
ـاد ذي الخبِّ يهوذَا!

البطل

ترمي الحوادث بالظلال أمامها
فيرى خُطى الأمر الذي هو آتي
حتى كأَنَّ الدهرَ في آباده
يلقاه بين عشية وغداةِ
كشف الزمانُ لك الخفيَّ وقلما
يعصي المذلَّل نافذ النظراتِ
سحرُ البصيرةِ رائضٌ ومحكم
بلواحظ للرأيِ مقتدراتِ
وخواطرٌ لك في الأنام تجيلها
تجلو الشكوكَ وتبلغ الغاياتِ
يا حكمة فاهَ الزمانُ بسرِّها
من بعد طول تصماممٍ وصماتِ
فاهَ الزمانُ فكنت أصدق منطق
والناس أصداء بجوف فلاةِ
شتَّان بين صدًى يردد ضلة
ومقاولٍ مرضيةِ الأصواتِ
نظر الأنام الدهر في أعقابه
ونظرتمُ الأيام في الجبهاتِ
ورموا مساعي المجد في أقدامها
ورميتمُ المسعاة في الهاماتِ
بعزائمٍ للشر تنقض أمره
وعزائم للخير مبتدراتِ
أفعال من صحَّت سريرة صدره
لا يعقد التدبير بالخدعاتِ
إِنَّ العظيمَ إِلى الصراحة ينتمي
والغمر للتدليس في الغفلاتِ
سيرٌ كما شاء الكمال وضيئة
مثل الهداة وآية الآياتِ
والدهرُ ليلُ المدلجين ومجْدُكُمْ
وفِعَالُكُمْ في الدهرِ كالمشكاةِ
ومعاقل النعماء إِنْ هي أعوزَتْ
كنتم معاقلَ منعة ونجاةِ
لا يُصْلِحُ التدبيرَ إِلا أروعٌ
ينأى به عن ضيعةٍ وشتاتِ
أعبقت في الأيام أزكى نفحة
وخلعت من أردانها عطراتِ
والفضلُ مثل العرفِ يحيا نشره
بنسائم العبقات والنفحاتِ
ترمي إِلى الغرض البعيد بعزمة
تصميه بين تمهُّل وأناةِ
هيهات ما جاد الزمان بمثلها
عقم الزمان بتلكمُ الحسناتِ
فكأنها قد جُمِّعَتْ لموفقٍ
من سالف الآبادِ والحقباتِ
لا تُصْلِحُ التدبيرَ إِلا أَنْفُسٌ
الحق يغلبها على النزعاتِ
إِنَّ المقادرَ تنتحيك لأنها
ريضت لديك بحكمةٍ وحصاةِ
كالخيل تعرف رائضًا ومذللًا
عند اقتعاد السرجِ والصهواتِ
يا راكب الأيامِ تجري تحته
مأمونة الخطوات والعدواتِ
العقل أغلب والحزامة والنهى
بموفق في العدل والرحماتِ!

في فكه

ارفُقْ بنفسٍ لك مزَاحة
لا تفلتن في مزحةٍ شاردهْ!
واطْوِ مزاحًا ليس ذا وقته
فصيفه أيامه عائدهْ!
كانون أم قطب الثرى أم أعا
لي الشمِّ أم أنفاسك الجامدهْ؟
بردت حتى صرْتَ ذا وقدة
يا ثلج تكوي نارك الباردهْ!
والشيءُ إِن أربى على حدِّه
صفاته عن طبعه حائدهْ!

في شاب يدعي الفكاهة والظرف

ثَقُلْتَ على النفوس فكنْتَ سدَّا
وفُقْتَ سوائلَ الأرواح بردَا
فكُلْ نارًا ولا تطعم سواها
لعلَّكَ أن تُحَبَّ وأن تُوَدَّا
وكلَّا لا تذق جمرات نارٍ
فتشعل منك أضغانًا وحقْدَا
كذاك الغاز يخفى منه جِرْم
فإِن أجَّجْتَ نيرانًا تَبدَّى
سيظفر منك إِبليسٌ بنفسٍ
تقاطر من مخازيها وتَنْدَى
ويغسلُ بعدها يده بحمضٍ
ويحرق حولها عودًا وندَّا
وإِن النار تمحو كل نتن
سوى نتنٍ عمدت إِليه عمدَا
لكان القردُ أكبر منك شأنًا
لوَ ان بجلده صلأً وقردَا
ولو قولٌ وجيعُ الذمِّ مُرٌّ
أُرِيقَ على قفاك لعاد جمدَا!
وعقلك مثل قطب الأرض فيها
حكى أقطاره ظلمًا وبردَا!

مر العمر

إِن تباطأ ساعة طرقَتْ
فبما قد أوقرتُ حزنَا
كم عدوتُ العمر منتهبًا
خلت أنِّي أسبق الزمنَا
عدو أحلامٍ أقاربها
أججت من عوديَ الغصنَا
أتبغَّى العمر من أمَم
فكأني هارب جبُنَا
يا بطيء العمر من وسنٍ
قد هنيت السعدَ والوسنَا
لهب الأطماع في كبدي
آضَ وخط الشيب والشجنَا
كم خليل قد وثقتُ به
عابئ في خفةٍ إِحنَا
وحبيب كنت آمله
لم أُصِبْ في خلقه حسنَا
نحن والأيام تنقلنا
ونعيُّ الموت ينذرنَا
كرَهِينِ السجنِ مرتقبًا
قاتلًا يغتالُ من سُجنَا
رقبتي للموت آنَ لذي
لهفة أن يدرك السَكَنَا
لا جديدٌ في الحياةِ ولا
أمل يجلو ليَ المننَا
وأعدُّ العمر إِن دلفتْ
ساعةٌ ألفيتها محنَا
وهْي بشرى الموتِ إِن نفدَتْ
قلت: ليت الدهر زايلنَا
أغريم ذا الحمام فما
باله بالسعد يمطلنَا؟

قصة هز الأنوف

لقد جاء في الأخبار أن مملكًا
حَمَتْه العوالي والسيوف الشواجرُ
رأى في يسير الظلمِ خُبرًا لخابر
فكان قضاءٌ أن تهزَّ المناخرُ
صباحًا إِذا ما الشمس ذرَّ شعاعها
وليلًا وفي وكْر الكرى منه طائرُ
ومن لم يُرِدْ في يومه هزَّ أنفه
مطيعًا تولته السيوفُ البواترُ
فقال جبان القوم في الحزم عصمة
ومَنْ ذمَّ شرًّا أزعجته المقادرُ
وماذا على مَن هزَّ يا قوم أنفَه
مطيعًا إِذا لم يَعْصِ ما سنَّ آمرُ
فلما رأى الطاغي هوادةَ صبرِهم
أطلَّ عليهم جارح منه كاسرُ
فقام إِليه ناقمٌ هزَّ أنفه
وقال وقد مُدَّتْ إِليه النواظرُ
إِذا نحن طامنَّا لكل صغيرةٍ
فلا بد يومًا أن تساغ الكبائرُ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤