الفصل الثامن

قصائد أخرى

(ويتضمن القصائد التي نشرها الشاعر في الصحف والمجلات بعد عام ١٩١٩ ولم تُجْمَع من قبل في ديوان خاص.)

الطفل

من عالم الروحِ وهْو الخلدُ والقِدَمُ
وكان بالأمس يطوي جسمه العَدَمُ
سرُّ الحياةِ وسر الموت ما برحت
تطويه عن فِكرٍ هَمت به الظُّلمُ
يُطلُّ من عينه معنًى يزاوله
معنى التفهُّم لم ترصَدْ له كَلمُ
وحيرةٌ هي بعض اللبِّ يبرزها
صفوٌ من العين لا خبٌّ فتَنْكتِمُ
صفو الغرارة أبهى ما رأى بَشَرٌ
ما رنَّق العين لا شر ولا ندمُ
ولم تَشِبْهُ تجاريبُ الحياة بما
يدجو له اللحظ والأفكار والشِّيمُ
ضعف الوليد وهل في القلب مبتعِثٌ
نَبْعَ الحنان كضعف ليس يُتَّهمُ
لأيِّ أمر بدا يفْترُّ مبسمه
وما حباه بزعم الأشْيب الفَهَمُ
وكلَّما بَدَرَت للشرِّ بادرة
قلب المسنِّ لها حيران يضطرمُ
يودُّ كل رجيح العقل مكتهل
أن لو يعود وليدًا أمره أمَمُ
وليس يبصر أن الشَّر مُقْتَبَلٌ
يعود منه إِليه الهمُّ والهرمُ
لكنها مهلةٌ للقلب ينْشُدُها
حيث الصفاء وعْيشٌ ماؤه شبمُ
فلا عداءٌ ولا مكر ولا حِيَلٌ
ولا حقودٌ ولا غدرٌ ولا جُرُمُ
حيث الحياة كبيت الله طاهرةٌ
لدى الطفولة وهْي المعبد الحَرَمُ
أو جنَّة الخلد لا إِثم لساكنها
وما تجاوز ذو عجز ومُجتَرَمُ
إِنَّ الأزاهر والأطفال ما اجتمعا
صنوان والحسن فيها طُهْره عَمَمُ
مرأًى يُطهِّر ما بالنفس من دنسٍ
حتى يعود بها والخير مُغْتنَمُ
كم ناقمٍ سلَّ منه الطفل عادية
من الضغائن إِذ يرنو ويبتسمُ
قد يحزن الزهر إِذ يَذْوي أمن شبهٍ
بمصرع الطفلِ رائيه له يجِمُ
ما أعظمَ الفقدَ لو أن الورى خُلِقُوا
خلق الرجال وكالأطفال ما وسموا
لما تَملَّى أناسٌ طُهْرَ ما فقدوا
ولا أحبوا ولا أحنوا ولا رحموا

شهداء الإنسانية

مقدمة

شهداء العلم والإصلاح يزدحمون على باب الحياة ويسألون كل هالك: هل تحقَّق الخير الذي بذلوا حياتهم من أجله؟ فتدركه الحيرة! أيكذب كي يُدْخِل على قلوبهم الاطمئنان، أم يصدق فيفجعهم في آمالهم، أم يغريهم بالصبر الطويل كصبر الأحياء على الشر، أم يُغريهم بالعودة إن استطاعوا إلى كفاح الحياة. وإذا استطاع أن يُعزِّي الشهداء الموتى فماذا يقول للشهداء الأحياء؟

الناظم
على باب الحياة أرى زِحامًا
من الأشباح عجَّ بهم وسالَا
من العهد القديم إِلى زمانٍ
حديث قد مضوا زُمَرًا تَوالى
هُمُ ضَحَّوْا بهذا العيش كيْمَا
يطيبَ العيشُ للأحياءِ حالَا
إذا ما هالِكٌ ألْفوهُ ظلُّوا
على شغفٍ يعيدون السؤالَا

•••

بربِّك هل مضى قدرٌ بِشَرٍّ
وخُبثُ النفس هل أودى وزالَا؟
وهل جَفَّت دموع الناس طُرًّا
وهل بلغوا من العيش الكمالَا؟
وذلُّ الجوعِ هل قد زال عنهم
وكان سوادهم هَمَلًا مذالَا؟
وجَهْلٌ يغتدي بالناس بهْمًا
يُصرِّفها يمينًا أو شِمالَا
وهل غلبوا من الشهوات ما قد
عدا سلطانه فيهم وغالَا؟
أصار العيشُ من مِقَةٍ وأمن
وكان العيش لؤمًا واقتتالَا؟
أعاد العيش عدلًا واعتدالًا
وكان العيشُ مكرًا واغتيالَا؟
بربك لا تقُل إِنا غُبِنَّا
وإِن هزئ الحِمَامُ بنا وصالَا؟

•••

أيفجعهم بآمالٍ عِزَازٍ
وما نال الردى منها منالَا؟
يقول لهم: لقد رُمتم خيالًا
وأسديتم وضحَّيْتم ضلالَا
أيسكت والسكوت له معانٍ
أيخدعهم وما ألفوا احتيالَا؟
أيغريهم بصبر مثل صبر
لدى الأحياء دام لهم وطالَا؟
أيَأْسَى أنَّ مَوْتى لم ينالوا
من العرفان ما يرعى نوالَا؟
أيُغريهمُ ببْخع النفْس يأسًا
إِذا اسْطاعوا عن الأخرى انتقالَا؟
أيسخر أنهم — وهمُ رفات —
أبوْا للعيش سقمًا واعتلالَا؟
فيا عيش الورى ماذا تراه
يقول لهم إِذا ألْفَى مقالَا؟

•••

يقول لهم: إِذا اسْطَعْتم فعُودوا
دفاعًا للنوائب أو صيالَا
إِذا الأحياءُ لم يَرْعَوْا عهودًا
لأحياءٍ فلا تشكوا انخذالَا

•••

يقول لمعشر الأحياء منهم
ليقضوا العيش صبرًا أو نزالَا
أيفدح أن تقاسوا العيش نحسًا
ليُسعد بعدكم صحبًا وآلَا
وكم من نعمةٍ لولا شقاء
قديمًا لم تكن إِلا وبالَا
فكم خَبُرَ الأوائلُ من شقاء
فنلنا من شقائهمُ نوالَا؟

العصر الذهبي

مقدمة

أُولِعَ الناس من قديم الزمن بالتفكير في عصر الإنسانية السعيد؛ عصر الخير العميم الشامل، فبعضهم كان ينشده في الزمن القديم ويبكي انقضاءه، وبعضهم ينشده في المقبل من العصور يُدنيه رقي الإنسان. وكثيرًا ما استخدم شعاره أهل الحرص لنيل أطماعهم واقتياد الناس لاستثمارهم واستذلالهم. وكثيرًا ما علق الأذلَّاء بكماله حتى إذا تحكموا ساروا على نهج الطغاة، وهو مثل عالٍ، ولا تحلو حياة الإنسان إلا به. ولئن صَدَقَ ما يقوله بعض المفكرين الذين يزعمون تحقُّقه نذير الفناء، فمرحبًا بالفناء يكون نذيره الخير والسعادة الشاملة والمثل العالي، وقد لا يَصْدُقُ تشاؤمهم.

الناظم
عصرَ السلام تحيةٌ وسلامُ
خلعَتْ عليك رجاءها الأقوامُ
من كل عصرٍ في نسيجك لُحمة
اَلأجْل صنعك تدلِف الأعوامُ؟
إِمَّا دنوت وما عهدتك دانيًا
عَفَّى على نقص الأنام تمامُ
نستقبل الأيام وهْي كوالحٌ
مستبشرين إِذ التَّمام إِمام
خالوك في الماضي — ولم تك ماضيًا —
إِذْ زان منهُ البُعد والأوهامُ
ويرَوْن في غدهم سرابًا نائيًا
فيطول نحس العيش والإِجرامُ
تتغير المُثُل التي شاقتْهمُ
تتبدَّلُ الآمالُ والأحلامُ
حسب الورى من حُسْنِ عهدك قدوة
علياء ما إِن شانها استِبْهَامُ
ما فاتهم طبُّ الطبيب وإِنما
تتباين الأرواح والأفهامُ
ولَأَنْتَ في سير النفوس إِذا صَفَتْ
يدنى إِليك البرُّ والإكرامُ
عطف النفوس على النفوس ولن تُرى
أبدًا، ونفسٌ في الأنام تضامُ
هيهات يُكْرِمُ فاضلًا ذو خسَّة
أو يغفر الجاني شآه كرامُ
اسْتَبْطأوك وأنت بين جنوبهمْ
وتنظَّروك ودأبُك الإِلمامُ
ورأوك في الدهر البعيد ولَوْ دروا
أنْ لو أرادوا كان منك لِمَامُ
لرأوا مشيئتهم تُشاء ولا تُشا
هاموا وتحسب أنهم ما هاموا
ومن المشيئة ما يجيء فجاءة
ليستْ تُجزِّئ أمره الأيامُ
ونأى بهم عن وِرد خيرك أنهم
للحرص حادٍ بينهم وزمامُ
أمباغتًا بالخير بَعد تمنُّعٍ
حبُّ الأنام لعهدك استقدامُ
ولقد يَنُوب أخو المجانة بغتة
من بعد عيشٍ كلُّه آثامُ
ويتُوب هذا الخلق من شرٍّ ومِنْ
إِثمٍ فتحمد خيرك الأيامُ
كم فتنة أجَّجْتَ نار جحيمها
شوقًا لعهدك والأنامُ حُطامُ
وشعار حقٍّ كم غدا أحبولة
أثْرى بحقك في الأنام لئامُ
وإِذا العبيد تحكَّموا في فتنة
سارُوا على نهج الظلوم وضاموا
أتَرَى العَبيد ببابل وبطيبةٍ
أغرتْهمُ بكمالك الآلامُ
لو أنهم ملكوا لعافوا مسلكًا
يُدنى إِليك وطاشت الأحلامُ
ولطالما حنَّ اليهود لشرعه
ودعا المسيح لهُ وريم سلامُ
وتنظَّر المهديُّ قومٌ أَمَّلوا
ركْبًا له يحدُو به الإِسلامُ
ثار الفرنسُ وخيرهم يبغي له
عهدًا تَدين لشرعه الأحكامُ
يبكي ويعتنق الغريب مبشِّرًا
بالشَّر زال وبالكمال يشامُ
ما زال شرٌّ لا ولم يمهدْ به
نهجَ السلام الحكمُ والحُكَّامُ
أنَّى تكون وفي الأنام تفاوتٌ
أُسْدٌ لها في الصَّاغرين سوامُ
غرٌّ وذو مكر فلست بكائنٍ
حتى تَسَاوى في الأنام الْهَامُ
فمتى يدينُ لسنة لك جمعُهمْ
ويراك خيرًا شرُّهم فترامُ
لا يصدقُ الكهان إِنْ هم أنبَئُوا
بدوام ما لم يُلْفَ فيه دوامُ
كم من عهودٍ كان يحسب أهلها
أنْ زلَّ عنها النقضُ والإِبرامُ
نسِيَ الأنامُ عهودهم فعُهوده
أقصى وأدنى منهمُ الأوهامُ
فَقَدَ الأنامُ صفات أجدادٍ لهم
وتحولتْ وتبدلتْ أجسامُ
والطبعُ في غدد الجسُوم فعلَّها
يومًا تصحُّ فلا يكون أثَامُ
وتعود من فرط الصفاء حياتهم
ذهبيةً أيامُها والعَامُ
خيرٌ مَرَى الحرصُ الخسيسُ أقلُّ من
خير لدَيْك تروده الأحلامُ
والنحس عدوى ليس يُقْصِي شرَّها
إِلَّا التضافر شادَه الأقوامُ
كذبوا فما أبقى التقاتُلُ بينهم
إِلَّا الضعيف وقد قضى المقدامُ
خلفت في سير النفوس مباهجًا
وتجمَّلَتْ بجمالك الأيامُ
كَغِنَاءِ حَادي الركب رفَّهَ عنهمُ
نِعْمَ النشيدُ ونعمت الأنغامُ
حلم هو المثل الأجلُّ، وإِنَّهم
لولا مثالُ كمالِكَ، الأنعامُ
ولعلَّ عمرَ الشرِّ ليس بدائمٍ
ينمُو سناك فينْمحي الإِظلامُ
قالوا: إِذا ما جاء خيرًا كلُّهُ
لم يَبْقَ خيرٌ في الحياة يشامُ
لولا جهادٌ في الشرور تعطلَتْ
سبُل المكارم واستنام أنامُ
إِنْ لم يكن نقصٌ ففيمَ رجاحة
وبضدِّها تتميَّزُ الأقوامُ
لا يطعم السعدَ الشهيَّ وشهده
مَنْ لا ترودُ فؤادَه الآلامُ
والوَهن يسعى للفناء دبيبه
إن لم يَكُنْ حذرٌ وعمَّ سلامُ
لغز الحياة وليس يفهم لغزها
بين الأنام مُفَهَّمٌ علَّامُ
والشرُّ أَهْوَنُ بعضه من بعضه
فاطلب كمالًا كيْ يقلَّ الذَّامُ
أهلًا بغائلة الفناء نذيرها
عهد يشوق سلامُه وتمامُ
إِنْ لم يصحَّ العيش إِلا أن ترى
شَرْعَ التنافس في الأنام يقامُ
فعسى التنافس في المحامد ينثني
طبعًا وإن قيل الأنام لئامُ
يدنو إِذا بطلت ضرورة كائدٍ
يُزْجَى بهْا رزقٌ له وحطامُ
إِن نال كلٌّ مطمئنًّا رزقَه
فعلام لؤمٌ للورى وخصامُ؟
دِين التنافس في المكارم ربَّما
أنماه نصح فيهمُ وحسامُ
فترى الورى دِينَ الورى وصلاحهُم
فرضٌ يدين لشرعه الأقوامُ

الشباب

مقدمة

مستقبَل الإنسانية رهنٌ بطموح الشباب إلى المثل العليا، وعزوفه عن حقيرات الأمور، وإبائه الضيم للنَّاس ولنفسه، وبألا يقنع من الحياة بما يرى، وبأن يحاول أن يَبْلُغَ من جليلات أمورها البعيد الداني إلى قلبه ونفسه وبأن يحاول أن يقهر طاغوت الأمور وجبروتها، وأن يستنقذ الدهر من عبث العابثين الذين جعلوا الحياة مهزلة رخيصة ومأساة وضيعة.

الناظم
إِنَّ الشباب حديقة الأزمانِ
عَطِرُ الروائح ناصع الألوانِ
مثلُ الربيع إِذا جَلَوْتَ بسحره
نَوْرَ الربى وأطايب البستانِ
روحٌ من الفردوس يُثمل نَشْرُه
تغدو الحياةُ به رياضَ جنانِ
ما راعه حُكْمُ الحِمام وصَوْلُه
إِنَّ الشبابَ من الخلود لَدَاني!
لا اليأسُ يضنيه ولا جزعٌ إِذا
كَثُر العِثار وزلَّت القَدَمَانِ
ينسى الذي يمضي لينشد مقبلًا
مستأنفًا للعيش بالنسيانِ
ولوَ انَّ رفضًا للقضاء يذيقه
كأسًا تذيب القلب من ذيفانِ
والشَّيْبُ بالتسليم يكسر سمَّها
حيث الشباب لِغرَّةِ الأسوانِ
وهو المغَامِرُ في الحياة بنفسه
نشوان لا من خمرة النشوانِ
نشوان من خمر الحياة وكأسها
تغنيه عن نشوات بنت الحانِ
فكأَنما فكَّ الزمانُ قيودَه
عنه وما للدَّهر من سلطانِ
ويَصُوغ من أحزانه نغمًا له
فكأنَّه خِلْوٌ من الأحزانِ
يسمو إِلى الغرض البعيد طموحُه
ويردُّ خطْبَ الدهرِ بالإِيمانِ
مُتحصِّنٌ منه بأمنع معقلٍ
متكفِّل إِيمانُه بأمانِ
ويَكَاد من فَرْطِ النهاءةِ والهوى
يَدَعُ الثَّرى ويهمُّ بالطيرانِ
والشيبُ يرسب في الحضيضِ تخلفًا
وترى الشباب كذروة الأكوانِ
ما أرَّقتهُ ذكرة من أشيب
جمِّ التردد خطوهُ متداني
وله على إِدبار دهْرٍ عزةٌ
تنأى به عن ذلةٍ وهوانِ
كِبْرُ الشباب ولا اعتداد مُسَوَّدٍ
بالجاه والأجناد والأعوانِ
إِنْ كان صعلوكًا فليس بخانع
فكأنَّه ذو التاج والإِيوانِ
إِنَّ العزيز هو العزيزُ على الصِّبا
والشيب مهما عزَّ ذلَّ جَنانِ
ذلَّ الجَنَان لوهن جثمان ولا
ذلٌّ كذلِّ الوهن في الأبدانِ
ورث المراح ذخيرةً لمبذِّرٍ
خالَ الحياةَ رخيصةَ الأثمانِ
لذَّاتُه دَيْنٌ يؤديه إِذا
حلَّ المشيب وهدَّ من جثمانِ
تتعادل اللذَّات في ريعانه
ولواعجٌ للشَّيب في ميزانِ
عهدُ الصراحة والمروءة والندى
وتألَّف الخلَّان بالخلَّانِ
عهدُ المحبةِ والإِخاء وربما
تُلفيهما في القلب يمتزجانِ
عهدٌ إِذا طلبَ الكرى لم يُعيِه
وكرى المشيبِ مؤرَّق الأحزانِ
عهد الصِّبا عهدُ المنى فإِذا مضى
لم يَبْقَ إِلا مُرُّ سُؤْرِ دنانِ
وتكادُ ذكراه إِذا فات الصِّبا
تحْيي الصِّبا وتردُّ غرب زمانِ
أطماعُه علويَّةٌ أحلامُه
ذهبيةُ الآمال كالعقيانِ
عهد الصيال ولا صيال لأشيب
هابَ الحياةَ وصولة العدوانِ
والخطبُ أن يهوي المشيب بصائلٍ
ما كان يخشى جولة الحدثانِ
حتى تراهُ بالحياة مُروَّعًا
قَلِقَ الضلوع مؤرَّق الأجفانِ
والخوفُ طبعٌ في المشيب وقلَّما
تلقى الشباب على غرارِ جبانِ
ولربما جمحَ الشبابُ بسادرٍ
عَبَد الحياةَ عِبادةَ الشيطانِ
ولربما عَبَدَ الحياة أخو النهى
كعبادةٍ لله والأوطانِ
قالَ المشيبُ ورُبَّ قولةِ صامتٍ
تعظ المصيخ له بغير لسانِ
ما سَرَّني أني فطنت وإِنني
والحلم والتبيان في أكفانِ
ونسيت ما نشْرُ الجنان وخلدُها
وذكرتُ أن العيش مهلة فاني
ولقد علمتُ الآن ما عهد الصبا
من بعدِ جَهْلي فيه والنسيانِ
والآن عالجتُ الحياةَ كما أرى
لا ما أريد من البعيد الداني
وعددت من سُنَنِ الحياةِ وحكمها
ما يفعلُ الإِنسانُ بالإِنسانِ
في حِرْصه أو قَسْوهِ أوْ رِقِّه
من فتكه بالروح والأبدانِ
وفزعت من ظُلْمِ الحياة وطالما
ذَلَّلْتُ منها أيَّما طغيانِ
وتلوْتُ في التاريخ آياتِ الأسى
مسطورةً بمدامع الأحزانِ
فعسى الشباب بمقبلٍ من دهره
يبلو الحياة بعزمةٍ وأماني
ويسنُّ للدنيا الوسيعة سنَّة
لا سنةً للحرص والحرمانِ
يستنقذ الأزمان من عبث الورى
ويطهِّر الأحشاءَ من أضغانِ
ويذلُّ طاغوت الأمور فيحتذي
شرعُ الحياة شريعةَ الرحمنِ
ويُحيلُ ظلم العيش عدلًا سائغًا
يُنْسَى به ما كان من عدوانِ

نحو الفجر

مقدمة

إن الذي يأمل للإنسان فجرًا تنجاب فيه ظلمة الضيم والشر، يرى في فجر كل نهار رمزًا له ووعدًا به، فيتعلل بهذا الرمز، وينتظر إنجاز الوعد، آملًا أن النومة التي يحدث فيها للإنسانية كابوس من الأضغان والأذى، والتنابذ والكيد، والاستهتار في العبث بالحق، يكون فيها أيضًا نسيانٌ لخصالها الوضيعة يدركها من طريق سنة النوم، فتستيقظ في خلق الحق والخير.

الناظم
أرقتُ فطال الليلُ أمْ طالَ بي عمري
كأَنَّ انجياب الليل في موعد الحشرِ
كأَنَّيَ في لجٍّ من الليل غارق
سوى هدأةٍ لم تُلْفَ في لجج البحرِ
كأَنِّي غريبٌ من حراك لواعجي
بعالِم صمت غاله الصمت من سحرِ
كأَنَّ غصون الدوح في حندس الدجى
رءوس ثكالى أرسلت أسود الشَّعْرِ
كأَنَّ النجومَ الغانيات تَرهَّبَتْ
تبيت طوال الليل تعبد في ديرِ
أو الفلُّ مزروعًا بحقل بنفسج
وكاللازورْدِ الأفقُ رُصِّعَ بالدرِّ
أوَ انَّ ثقوبًا في جدار زَبرجدٍ
تطلَّع منها الغيدُ يُشْرِفْنَ من خدْرِ
أقلِّب طرفي بينها مُتَفهِّمًا
تَفَهُّمَ معْنى اللفظ في صفحة السِّفرِ
كأَن الدجى دَيْر به البدر راهب
جميل المحيَّا حوله هالةُ الحبرِ
كأنَّ صقيعًا قد كسا الأرض نوره
أوَ انَّ عليها أبيض الطهر ما يمْرِي
كأَنَّ فراشًا أبيضًا قدَّ نورُه
مهادًا لروح أو شباكًا من السحرِ
أَمَا يذهل الراءون من سحر ضوئه
وقد تحسب الأحلام تسري وما تسري؟
وإِن تك أحلام فأوهام خاشعٍ
عراه جلال الحسن في الليل والبدرِ
أيحلم هذا الدوح في سحر ضوئه؟
فقد خِلته من هدأة النوم في أسرِ
كأن حفيف الدوح أضغاث حالمٍ
أوَ انَّ حديثًا بيْنَه خافت السرِّ
أدورُ بعيني لا أرى غير ساكنٍ
فأين احتيال الناس بالغدر والمكرِ؟
وأين نشاط القوم للهو والهوى
وأين مَساعي الناس في الخير والشرِّ؟
ألا ليت نسيانًا كذا النوم ساقيًا
يدير لهم كأسًا ألذَّ من الخمرِ
لتذهلهم عن كلِّ شرٍّ وفتنةٍ
فيستيقظ النُّوَّامُ في خلق الطهرِ
خواطر آمال أسلِّي بها الدجى
وتمضي مُضيَّ الليل أو طيرة الطيرِ
فلما تقضَّى الليل وانجاب جنحه
رأيت صباحًا يصبغ النَّبْت بالتبرِ
تشوبُ اخضرارَ الروض صفرةُ ساطع
من الضوء مثل الغيد في حُللٍ خُضرِ
كما تينع الأثمار شاب اخضرارَها
لدى النُّضج لونٌ في غلائلها الصُّفرِ
كأَنَّ نبات الروض من نبت جنةٍ
رمى مَلَكٌ من أفقها الأرضَ بالبذرِ
أظلُّ وطرفي في مدى الأفْق ذاهل
أحاكَ عليه الفجرُ وشيًا من السحرِ؟
ويرنو إِليَّ الفجرُ من خلف ظلمةٍ
بنور كما شفَّ الرمادُ عن الجمرِ
كأَن مماتًا في الدجى أهلك الدُّنا
فتبعث فيها الروح في وضح الفجرِ
كأَن كيان الكون يُخْلَق ثانيًا
فإِن انفجار الفجر كالخَلْق والنشرِ
تخالُ تباشير الصباح أزاهرًا
إِذا ما بدت فوق الشجيرات كالنَّوْرِ
فيختلط الزهران حسنًا ومنظرًا
ويزدادُ نِظْرُ الحسن من مشهد النِّظرِ
تحدَّثُ أنباء السماء بمشرقٍ
من الضوء مثل الرُّسْل تُبْعَثُ بالخيرِ
تُبادهُنا منها محاسنُ جمَّةٌ
كما باداهَ الأذهان من حَسَن الفكرِ
تفضُّ ختام النفس عن كلِّ ذكرة
وكم ذِكَرٍ في الضوءِ والزهر والعطرِ
تُذَكِّرنا الآمالَ والحب والصِّبا
كأَن رُواء الصبح ضرب من الشعرِ
كذلك يغدو منظر الحسن ذكرةً
وخاطرةً في النفس تُسعِد في الضُّرِّ
وتستيقظ الأرضُ النئوم إِذا حنا الصَّـ
ـبَاح عليها، يلمسُ الثغر بالثغرِ
كما استيقظ الطرف المغمَّضُ بعد ما
أُريقَ عليه ساطعٌ من سنا البدرِ
تحنُّ إِليه النفسُ من بعد ظلمةٍ
فتحكي حنين الطير تهفو إِلى الوكرِ
ترى الصبح يجلو النهر كالقيْن سيفه
ويُذكي النَّدى فوق الشجيرات كالدرِّ
أُطلُّ بأفكاري على النهر مثلما
لَدُنْ هدأة يحنو النبات على النهرِ
تصبُّ عليه الشمس رقراق مسجد
فيعلو لُجَيْنَ النهر نهرٌ من التبرِ
ترى تارة في متنه الماءَ راجفًا
كما ارْتعدَتْ أبْشَارُ غيدٍ من القُرِّ
وتحسب أن النهر يشعر بالذي
يعالج من حَاليْهِ في القرِّ والحرِّ
ترى النهر مثل العين سحرًا وبهجة
ويملأُ مثل العين بالصور الكُثْرِ
يبوح بسرِّ الحسن لونٌ مجدد
ولولاهُ ما ألفَيتَ في الكون ما يغري
وأورعُه ما كان منه فُجاءةً
فجاءة صبغ النهر من سُحُبٍ حمرِ
وليس رُواء الكون في الصيف وحدَه
فربَّ شتاءٍ ناثر أيَّما ذُخرِ
جلالٌ يريح النفس من بعد رونق
نَصيبك من سحريْن في الحرِّ والقرِّ
على أن ذكرى الصيف فيه جلية
ففي النهر من ذِكرٍ وفي الروض من ذكرِ
وقد يحلم المحروم باليسر واللَّهى
كذلك حلم الأرض بالصَّيْف واليسرِ
فلما تقضَّى الليل يحدو لواعجي
وذكرى طيور الصيف تهزج في صدرى
أخذتُ نصيبًا من جَدَى الفجر وافرًا
فنهنهْتُ آلامي وأرخيت من صبري
وأمَّلْت للدنيا صباحًا مؤجلًا
سيكشف عنها ظلمة الضيم والشرِّ
فكلُّ صباحٍ رمزه ومثالُهُ
ووعدٌ به يحدو إِلى الزمن النضرِ
نسرُّ بنعماه وإِن لم تكن لنا
وننشده فيما يكون من الدهرِ

مناجاة الأمل

ألا عِدْ وأَخْلِفْ أنتَ بالوعد مانحُ
فمطْلك مغفور وخيرُك راجحُ
ولم تكُ مثلَ الآلِ فالآلُ مهلكٌ
ووحيك أسْخى ما تضم الجوانحُ
وكم ناقمٍ من خُلف وعْدِك لا غنًى
له عنك أو تغني المنايا اللوافحُ؟
وأعشق مَنْ يهواكَ مَنْ هو ناقم
وأمدحُ مَنْ يرجوكَ مَنْ هو قادحُ
نَشاوَى هموم قد تدير عليهمُ
كئوسًا فتفترُّ الثغورُ الكوالحُ
سلامٌ على الدنيا ورضوان راحمٍ
إِذا ضاء نَجمٌ منك في الأفْق لائحُ
عفاءٌ على الدُّنيا وهلكٌ ونقمةٌ
إِذا لم تكنْ والمرءُ بالعيش رازحُ
وكم في ثنايا اليأس منك كوامنٌ
إِذا فنيَتْ فالعيش فانٍ وطائحُ
أيا بهجة العمران لولاك لم يكن
فلا شيَّد الباني ولا كدَّ كادحُ
إِذا اشتدت اللأواءُ زدتَ تألُّقًا
كذاك سوادُ الليل للنجم قادحُ
وليس بعيبٍ أنْ تُراد لمِحنةٍ
فَمن ذَا يريد النجمَ والصبحُ واضحُ؟!
أيا بلسمَ الأحزان لَولاك لم يَعشْ
على عَنت الدنيا لهيفٌ ونائحُ
مُعينٌ على البلوى، مُعينٌ على الضنى
إِذا لم يكن فيه معينٌ وناصحُ
ويا حاديَ الرُّكبان في العيش مثلما
حدا الركبَ في الصحراء حادٍ وصادحُ
ويا رحمةَ الله التي عَمَّت الورى
وَلَمْ يَخْلُ منها جارم النفس جامحُ
عَلَى صَاحِب الكُوخ المهدَّم مشرق
ببُشرى ورَبُّ القصر راجٍ وطَامِحُ
وأسعدُ ما تُلفى إِذا كنتَ ماطلًا
فكلُّ طليبٍ شائقٌ وهْو نازحُ
رَسَتْ بك في لجِّ الحياة نفوسُنا
فَلَمْ تتقاذَفْها الهموم السَّوارحُ
لشيَّدْت للإِيمان في قلب آملٍ
معابدَ قد ضُمَّت عليها الجوانحُ
ثباتٌ وصبر، واعتزامٌ وهمة
فضائلُ نفسٍ كلها أنت مانحُ
ولولا مساعٍ أنت عاقدُ أمْرها
لآثَرَ عقرَ الدار غادٍ ورائحُ
تكادُ تُنِيرُ الليلَ إِمَّا توقَدت
أمانيُّ تذكو حينَ تخبوُ المصابحُ
تأرَّجَ من ذكراك نفحة خاطر
أأنت أريجٌ من شذا الزهر فائحُ؟
وإِن غنيَّ الناس مَنْ أنتَ ذخره
وأيُّ غِنًى تَغْنَى وضوءُك نازحُ
وسائلُ من جدْواك أنت استثرْتَها
وتفتق إِنْ لحتَ النُّهى والقَرائحُ
وَكَمْ لكَ دونَ النَّفس وحيٌ وهمةٌ
إِذا نطقَت تعيا اللغاتُ الفصائحُ
وَكَمْ مِن غريق أسقط الجهدُ كفَّه
فما لُحتَ إِلَّا وهْو في اليمِّ سابحُ
منحت حياةً مرةً بعد مرةٍ
وتبخلُ بالعيش النفوس الشحائحُ
وَرُبَّ حبيسٍ أنزل السجنَ ظلمة
عليه ونورٌ منك في السجن لائحُ
أيا طائرًا يشدو وفي النفس أيكهُ
فيخفتُ فيها يأسُها المتناوحُ
ويا آسيَ الأحزان والظلم والضنى
ولولاك أعيا الطبَّ مودٍ وطائحُ
تخلَّل أنات الشقاء ونوْحه
فتعذب في الأسماع حتى المنائحُ
خلعْتَ على الأيام أحسن خلعةٍ
فيخفى بعيش شرُّه والمقابحُ
سقيتَ فأنسيت المؤجل من ضنًى
ومن وخْط شيبٍ في غدٍ وهْو اضحُ
وأنسيتَ أن الشر حتمٌ مقدَّرٌ
وأن المنايا غادياتٌ روائحُ
تضاحك في يأس ونحسٍ وكربة
كأن الرزايا عابثات موازحُ
بها مؤنسٌ من طيب عهدك عامرٌ
بشائرُ في لأوائها ومفارحُ
وتخلق منك النفس دنيا سنية
وفي أفق منها النُّجوم اللوائحُ
مباديك شتَّى كالأزاهر جمةٌ
ففي كل حالٍ موطِنٌ منك صالحُ
أيا سحرُ إِن لمُ تغنِ فالسحر كاذبٌ
مغاليقه فيما تريد مفاتحُ
تُعَلِّلنا بالسعد من بعد ميتةٍ
فتحسن في مرآك حتى الضرائحُ

فن الحياة

مقدمة

إن للإنسان في الحياة نشوة كنشوة الفنان عند الصنع، أو كنشوة المطلع على الفن عند الاطلاع عليه، فإذا عدُمِ َهذه النشوة صَعُبَ عليه أن يسوغ الحياة، وأن يلتذها. ولا يمنع عدة الحياة فنًّا جميلًا من نقدها أو الرغبة في إصلاحها، كما ينقد المطلع على الفن ما يشاهده من الفن وكذلك لا تمنع الرغبة في إصلاح الحياة من النظر إليها كأنها ممثلة حسناء تمثل الخير والشر، فلا يكرهها من أجل تمثيلها الشر، وهذا خيرٌ من أن يظل يبكي ويندب؛ لأن نَمِرَ الشرِّ الذي في كل نفس لم يتحول إلى هرَّة وديعة كالتي نراها في المنازل، وهو لو تحول ما تجاوَزَ أصله ولا فصيلته، إذ النمر والهرة من فصيلة واحدة!

الناظم
أيا حُسن هذا العيش لو كان قصَّةً
يُسرُّ بها ساري الورى وهْو يسمرُ
على ما بها من ضجَّةٍ بين شقوة
وكم عاشقٍ للنقص يهوى وينكرُ
فليت الفتى يبدو له صرفُ عَيْشِه
كعيش غريبٍ قصةً تتدبَّرُ
ويا رُبَّ مأساة إِذا ما بدت له
تُمَثلُ إِنْ يحزن لها فهْو يصبرُ
وفي فنِّها ملهًى وحسنٌ وسلوة
ولولا فنون العيش ما كانَ يعذرُ
وإِن كان ربُّ الناس يقضي اقتتالهم
فما شأن مثلي، وهْو أعلى وأقدرُ؟
وما قصَّرَتْ بي رغبة عن محاسن
أريدُ لها عيشًا سوى العيش يُقْدرُ
حياةٌ كحسناء المسارح شرُّها
إِذا ما حكَتْهُ عاد بالفن يبهرُ
ممثلة حسناء كم مثَّلَت أذًى
وغدرًا أجادتْ فنَّها وهْي تغدرُ
فما زادها إِلَّا بهاءً وحظوة
لدى عاشقيها وهْي بالفنِّ تأسرُ
تَملَّيْتَها لما ولعتَ بفنِّها
ولولاهُ تزري بالحياة فتكدُرُ
حنانيك إِنَّ العيشَ فنٌّ فلا تُرَعْ
وإِن ناب خطبٌ فهْو مَحْكَى ومخبرُ
تُعانُ بهذا الرأي إِن كنتَ قادرًا
وإِن أمكن الإِصلاح لمَ تكُ تُقصُرُ
يمثِّل كلٌّ دوره في حياته
فإِنْ راقَ فنٌّ فهْو شأوٌ ومظهرُ
أَإِنْ نَمرٌ في النفس لمْ يُمْسِ هِرَّةً
تظلُّ على الأسقام تبكي وتسخرُ
وما نمرٌ عن هِرَّةٍ بُمبَاعدٍ
ويطغى وديع حين يبغِي ويقدرُ

سر الحياة

عبء لُغز الحياة يا قلبُ ما أفْـ
ـدح عبئًا يُحثَى عليك وثقلَا
لُعْزُ عيشٍ ولُغز عقلٍ وما أعْـ
ـجبَ لُغْزًا يروم للُّغز حلَّا
كلما رمتَ بالمجاهل خُبْرًا
زادكَ العيشُ بالمعالم جهلَا
عبثُ العيش كلَّما قال لا سِرًّا
أعَدْتَ السُّؤالَ جدًّا وهزلَا
قد خبرتَ الأنامَ يا قلبُ هلْ تنْـ
ـشد سرًّا من بَعْد ذاك وسؤْلَا؟
وحياةٌ بالسِّر أحجى حياة
هيَ أحلى ممَّا تراه وأعلى
خدعةُ العيش أن يُلَوَّح بالسر
إِذا عاف عائشوه وملَّا
فتزيد الحياةُ حسنًا ومأمو
لًا وتغوي الحياةُ نشأً وكهلَا
مثلما حُجِّبَتْ فتاة ليُرجى
سرُّ حسن لها استَسرَّ وقلَّا
لو بدتْ عاطلًا لما خَلبت لُبًّا
ولا استعبدتْ عشيقًا وخِلَّا
كم سعيد يلهو ويعمل لا ينْـ
ـقضُ فعلًا وليس يُنْكِر قولَا
وعلى غدرها أحبَّ حياةً
وحباها في الحب أهلًا ونسلَا
عاشقًا للحياة بعضًا وكلًّا
راضيًا بالحياة فرعًا وأصلَا
فإِذا شاكه من العيش هَمٌّ
قَال قولًا ورام للُّغْز حلَّا
عبءُ لغز الحياة يا قلب ما أفْـ
ـدحَ عبئًا يُحثى عليك وثقلَا
سرُّها أنك السعيدُ إِذا لم
تَدْرِ أنْ لا سرًّا لديها فَتُجْلى
ضَلَّةٌ ما أقول كم لاح من كَشْـ
ـفٍ وقد كان خافِيَ السرِّ قبلَا
ولعلَّ الحياة أكبر لولا
مُعْظِمٌ للحياة غالى وأغلى
فهْي من فرطِ رفعةٍ في انخفاض
تلك عليا إِنْ يُعلِها فهْي سُفلى
باءَ باليأس من عُلاها وقد غا
لى فقالَ الحياة بالحطِّ أولى
ويعيد الحياة فرضًا وحسنًا
ومتاعًا مَنْ يأخذ العيش سهلَا

بعد الإخاء والعداء

حنوتُ على الودِّ الذي كان بيْننا
وإِن صدَّ عنهُ ما جنيْنا على الودِّ
حنوتُ ولو أني حنوتُ وما حنا
ولو أنه يبغي هلاكي من الحقدِ
ولا أكذَبنَّ الناسَ قلبي كقلبه
له آنة ميلٌ عن النِّصف والقصدِ
كِلانا جنى شرًّا فعاد إِخاؤنا
مُحالًا حكى ذكرى الشباب على بُعْدِ
فيا طيبَ ذكراه وَيا بُعْدَ عهده
وأينَ قديمُ الودِّ من حاضر الصَّدِّ
مَضَى حيثُ يمضي عابرٌ بعدَ عابرٍ
من الأهل والأصحاب والذخر والولْدِ
مضى حيث يمضي كلُّ رأيٍ ومذهب
له أجلٌ كالناسِ ظعنٌ بلا عوْدِ
إِذا أنا أُنسيتُ الإِساءة من أخٍ
ذكرتُ له منِّي إِساءة ذي عمْدِ
وأيقنتُ لا ينسى عدائي وما جنى
عدائي عليه من عناءٍ ومن جهدِ
أيلتئمُ الصَّخران في اليمِّ بعد ما
تردَّدَ موجُ اليمِّ بالصدْع والهدِّ؟
ويتفق الخِلَّانِ من بعد ما بَدَتْ
به بغضة من مينِ قولٍ ومن نقدِ؟
وكنا على ما كانَ من قُرْبِ أنفسٍ
كنهرين في وادي الغضارة والوردِ
قد اقتربا مجرًى وماءً وعسجدًا
من الشمس لألاءً كلألأة الودِّ
حياة شباب عسجدٌ أيُّ عسجدٍ
وعهدُ إِخاءٍ لا يغيض ولا يكدي
إِلى أن دعا داعي الحياة وإِفنها
فمال بنا قصدُ السبيل عن القصدِ
وغيَّر منا القلبَ والنفسَ والمنى
وزاد طماحُ النفس بُعْدًا على بُعْدِ
هو البُغض مثلُ الحبِّ لحظٌ فمنطق
فنارٌ لها بين الأضالع كالوقد
وإِن كنتَ تدري الحبَّ كيف طروقه
ولم تدره أيْقَنْتَ ما جاء بالحقدِ
فيا ليتَ أنِّي قد غفرتُ جَفَاءه
وَنَبْوته حتى يصدَّ عن الصدِّ
ويذكر لي صَبْري على الضَّيْم والأذى
فيأسى على ما كان منه من الكيدِ
وتكسبني منهُ الندامةُ ألفةً
وإِنْ كان لي من قبل كالحجر الصلدِ
أعيشُ بصفوٍ منه يومًا فإِن جنى
على إِثرِهِ غَدْرًا ذخرتُ له ودِّي
وأُذْكِرُ نفسي منه عند انصرافها
شمائل تستدعي المغيِظَ إِلى الحمدِ
أبعد بلائي العيش أبغي مُبَرَّأً
وكيف ونفسي لي كما الضدُّ للضدِّ
يروقك حسن الفجر والنجم في الدجى
ومرأى رياض من عرار ومن وردِ
وأحسنُ منها البشر في وجْه صاحب
حليفك منه ما استسرَّ ولم يُبْدِ
فيا ليتَ لي دُنيا أبيعُ حطامها
بودِّ أخٍ لو يُشترى الود بالنقدِ
إِذا الحبُّ لم يَخْلُصْ من البغض والأذى
فكيف خلاص الود من عنت الحقدِ؟
وخِلَّاننا مثلُ الجوارح أيُّهُمْ
فقدنا، فبعضُ النفس في ذلك الفقدِ
أحقٌّ طِلاب الودِّ من نقص طالب
إِذن قَمنٌ نشدانك الودَّ بالحمدِ
لتكمل بالخِلِّ الذي أنت ناشدٌ
كما كَملَ النصفان تجمع في العدِّ
ويا طيب قلب غرَّه الودُّ حقبةً
كما عظم المخدوع بالفضل والمجدِ
وإِنك لا تدري أقَلْب مراوغٍ
أسرُّ أم القلبُ المغرَّرُ بالودِّ
وإِنَّ ودادَ المرءِ من بعضِ غُنْمِه
ولو أن مخلوف الوفا غاضَ لم يُجْدِ
تعيش بمخلوف الرجاءِ وكذبه
فَطامِنْ فإِنَّ الودَّ يا قلبُ لم يُرْدِ
رحيق الحياة الودُّ، لوْ دام صفوه
وكالخمر أصفاه المعتَّق ذو العهدِ
وأحسنه ما كان من عصره الصِّبا
ولم يَحْلُ بعد الشَّيب مُسْتَحدثُ الودِّ
فمَنْ لي بعود الدهر للودِّ والصِّبا
أليفَيْن ما كانا كما الندِّ للندِّ
يخال الصِّبا ودًّا وودُّ الصِّبا صبًا
كيانهما الممزوجُ كالجوهر الفردِ
وإِنَّ فقير الناس مَنْ خان خِلَّه
وإِن نالَ حظًّا من طريفٍ ومن تلْدِ
أأبغي إِخاءً لم تُشِبْهُ عداوة
وأنقم عفو الغدر أو غدرة العَمْدِ؟
كأَنِّيَ لم أدرِ الأنام وخلقه
ولم أَدْرِ أن الضِّدَّ يولع بالضدِّ
أبعد فراغي من جنازة ودِّنا
أروم خلود الودِّ من عادم الخلدِ؟
متى أرتضي الخلان صحوًا وغيمة
فأمنحهم غيثي وأمنعهم رعدي
أُغالط نفسي فيهمُ وأغرها
وإِن لاح منهم غدر أعدائيَ اللدِّ
وأكتم من آلام نفسيَ عزَّةً
إِذا لم يُتَحْ لي ما أُزيل به وجدي
فيا ساقيَ النسيان عَاطِ صحابتي
وهات لِيَ النسيان رفدًا على رفدِ
وهيهاتَ ما أمرٌ إِذا جدَّ جده
ليُنْسَى ولو وارُوه في مُشبه اللحدِ
إِذا انفلَّت السهم الطَّليق فما له
ولو أنَّه سهم النَّميريِّ من ردِّ
ويعجز هذا الدهر عن نقض فعله
ألا وهو الدَّهْر المصرَّفُ ذو الأَيْدِ

وفي وصف الطباع

ما ازدريتُ الأنام إِلَّا وهان الْـ
ـكيد منهم وهانَ منهم عداءُ
وتفرَّدْتُ لا أَصُولُ بكيدٍ
وتزهدْتُ واستقام العزاءُ
ومِن الناس مَنْ إِذا ما ازدراهم
كان منه الإِجرام والإعتداءُ
ولوَ انِّي أكبرتُهم لم يروني
غافرًا واحتوتْنيَ البغضاءُ
ولوَ انِّي أكبرتُهم لم ترَ الرحْـ
ـمة ديني وما بهم رُحماءُ
وُدُّهُمْ مثل بَغْضِهِمْ فيه عدوى
مثل عدوى تسعى بها الثؤباءُ
وَيَرى المرءُ أنَّه كلُّ شيءٍ
هو تبرٌ وما عداه هباءُ
مركزُ الكونِ حوله دارة الأفْـ
ـق وبهوٌ من فوقه وسماءُ
ولقد تحْمَد الخليل طويلًا
ثم يَبْدُو ما كان منه انطواءُ
فإِذا الغدرُ شيمةٌ وطِباعٌ
وإِذا الودُّ والوفاء رياءُ
وإِذا النفسُ جانبٌ مُدْلَهِمٌّ
بالدنايا وجانبٌ وَضَّاءُ
وإذا المرءُ يحمد الصحب منه
جانبًا والكريهُ منه خفاءُ
ومع الخُبْرِ بالأنام فقد يعْـ
ـرو الفتى عند غدرهم إِعياءُ
كلُّ يومٍ يَخال منه جديدًا
وهْو رثٌّ وما طواه العفاءُ
قلبُه الآمل المضلَّل بالودِّ
يقود الأسى إِليه الرجاءُ
ومعَ اليأس منهم كرمُ الصفْـ
ـح إِذ الحتْمُ ما جنوا والقضاءُ
كلُّهم يَشْتَكي ويشمت بالشا
كي وكلٌّ كما يسيء يساءُ
كلُّهم يندبُ الوفاءَ وكلٌّ
يتأذَّى وطَبْعُهُ الإِيذاءُ
كلُّهم قانصٌ يرى في وفاءِ الْـ
ـخلِّ صَيْدًا وليْسَ منه وفاءُ
كلهم لا يودُّ للناس ما يرْ
غب فيه لنفسه ويشاءُ
ويُسَرُّ الفتى ويبْدِي اكتئابًا
إِن ألمَّتْ بصاحب بأساءُ
صادق العطف كان أو كاذب العطْـ
ـف ففي نحْسِ خلِّهِ سراءُ
وارتياح أن لَمْ يُصَبْ مثل خلٍّ
نزل الحزن دَارَه والشقاءُ
وسواءٌ خِبٌّ وغِرٌّ ولا غرْ
وَ فللغرِّ صولة وعداءُ
كلُّهم إِن يرقْكَ منه ذكاءٌ
بعد حين يرعْكَ منه غباءُ
فكأنَّ الذكاءَ منه وميضُ الْـ
ـبرقِ، والعقل كله ظَلْماءُ
كلُّهم يبغض النقيصة حقًّا
حذرَ الناس بغضه إِخفاءُ
واكتسابًا للحمد والربح يقلَا
ها ولولاهما لعيف الرياءُ
كلُّهم يُلْبِسُ النقيصة منه
حلة الخير وهْو منه بَراءُ
يغضب المرء للفضيلة كيما
يحسب الناس أنَّ ذاك نقاءُ
وسواء نقصٌ وفضلٌ لديه
إِن تدانت من كسبه النعماءُ
ومن الناس مَنْ يَبوح بنقصٍ
وكثيرٌ من قوله إِطراءُ
كالذي قال إِنما أفْقَدَتْه الْـ
ـحلمَ منه صراحةٌ وإِباءُ
يمدح الحلم مغريًا وهْو يَسْطُو
مغنم الخبِّ في الورى الحُلَماءُ
حذرًا للشرور يمدح خيرًا
ذاك جبنٌ في طبعه واتقاءُ
قسم النقصَ والمحامد بين الـ
ـنَّاس منه الأحقادُ والأهواءُ
فلئيم من كان منه جفاء
وكريمٌ من كان منه إِخاءُ
ذاك ميزانه وما الحقُّ إِلا
ما رأى الحق يأسه والرجاءُ
ويرى الأخرَق الذي يرحم النا
س وإِن ودَّ أنهم رحماءُ
كي يمدُّوه بالذي ضنَّ عنهم
بِجَدَاهُ وهكذا الأحياءُ
كلُّ حيٍّ يصون منه حياة
ولئن غال ما عداه العفاءُ
حاطها بالصِّيال والمكر والقسْـ
ـو ولو عمَّ ما سواه الشقاءُ
وبإِنكار كيده وأذاه
وبدعوى الكمال وهْو طلاءُ
يتدنَّى يبغي العلاء ولا يُثْـ
ـنيه عمَّا يحطُّ منه إِباءُ
غير من آثروا على أنفس منْـ
ـهم نفوسَ الورى وقَدْ قِيلَ داءُ
وعجيبٌ أن كان أطْهَرُ ما في الـ
ـنَّفس داءً والحرص منه الشفاءُ
وأشَدُّ القُسَاةِ ينكر لؤم الـ
ـنَّاسِ كيما يكون منه مضاءُ
وهْو يُطْرِي الحياة بُقْيَا على الكيْـ
ـد وذعرًا يكونُ منه الثناءُ
بين أمريْن يدرجُ النَّاس طرًّا
جوع بطن أو أن يكون امتلاءُ
ومن الجوع أو حَذارا له أو
خَشْية الموت كم قسا الأحياءُ
وامتلاء يصير شهوة جسمٍ
يهتك الطهرَ حفزها والمضاءُ
هَيِّنٌ بعدها إذا ما الضحايا
نال منها نحسٌ ونال شقاءُ
خمصُ بطنٍ، ونهمةٌ وحذارٌ
واحتيال، وقسوة ورياءُ
ذلك العيش ثم ما كان من خيْـ
ـرٍ بكيٍّ لولاه عِيفَ البقاءُ
وقتالٌ على الحياة دَعاه الْـ
ـحيُّ فضلًا يبغي به ما يشاءُ
ذاك فَضلٌ إِذا أساء ولكن
وهْو نقصٌ في الناس حين يُساءُ
ولوَ انَّ السبيل للموت سهلٌ
لم تكن عنه نجوة أو عزاءُ
فاحمد العيشَ إِنَّ حبَّك للْعَيْـ
ـش مُلحٌّ مَهْمَا تمادى العناءُ
إِن أقوى الرجاء ما تعرف النفْـ
ـس وإِنْ قبَّحَ الحياةَ الذكاءُ
لم يعفها وإِنما شاء أن يُبْـ
ـصِرَ قدمًا من حسنها ما يشاءُ
دائبٌ بَصَّر الأنام بما جَمَّـ
ـلَ عيشًا ووصفُه إِغراءُ
والذي يَكْلَأُ الحياة على العِلْـ
ـم بها لا تروعه الأشياءُ
يمدح المرء مثلَ ما حاز من فضْـ
ـلٍ فإِن زاد كان منه هجاءُ
فقليلٌ ما نصدق النفس قولًا
وكثيرٌ من أجل ذاك المراءُ
مُهجةُ الحاسدين من سورة الأحْـ
ـقادِ والبُغْض مهجة هوجاءُ
ساء فعلٌ منهم فساءت ظنونٌ
والورى في طباعهم شركاءُ
سوءُ ظنِّ الأنام طبعٌ ولكنْ
مقلة الظن مقلة حولاءُ
كلُّ حيٍّ أمامه ما جنى الخصْـ
ـمُ يراه وما جناه وراءُ
وعجيب أن يحسد المرء حتى
بعد أن لم تَدُم له النعماءُ
أيُّ نفس من أنفس الناس عافَتْ
حسدًا للقلوب منه اكتواءُ
لا بلِ الفضل إِن تضاءلَ ما في الـ
ـنَّفس منه ولم يكن إِيذاءُ
كلهم ذلك الحسود ولكن
هَيِّنٌ ما بدت به الفضلاءُ
لو ينال الأنام ما حسدوه
حسدوا ضدَّه ولِيمَ القضاءُ
حسبوا اللؤم من ذكاءٍ وعقل
فادَّعاه الطغام والأعلياءُ
وتباهَوا بقدرة اللؤم فيهم
واستشاطوا إِن قيل هم لؤماءُ
وقليل ما يندم المرء إِن لم
يك جرْم من بعده الازدراءُ
فإِذا الناسُ زَيَّنوا منه جرمًا
شملته من مدحهم خيلاءُ
ومضى سادرًا يرود من الآ
ثام مرعًى ودأبه الكبرياءُ
يبتغي المرء أن يرى الناس طُرًّا
حيث يرضى، وخلقهم ما يشاءُ
وهْو لا يستطيع تغيير ما في
نفسه كي يكوَن منهم رضاءُ
وحقيقٌ بالشك من رأيه يتْـ
ـبع ما خولِجَتْ به الحوَبْاءُ
رأيه مثل خلقه وهواه
حاكم فيه جوُّه والغذاءُ
في قنوطٍ ومطمع، وانقباض
وارتياحٍ، تناكرت آراءُ
لو بدا الشر في النفوس تعادَتْ
رحم الله فاحتواه كساءُ
وإِذا الشر أعوز المرء عجزًا
ادَّعى أن عجزه استعلاءُ
ومُقِرُّ بالشرِّ كي يُغفر الشرُّ
وكيما يعود منه اعتداءُ
واعتداءٌ بالجود حرصٌ وكسبٌ
وهْو منه استزادة لا وفاءُ
ولقد يحقدُ العشيرُ إِذا خلَّا
كَ رزء وكان منه رثاءُ
يجرؤ الفرد بالجميع على الشرِّ
ولولاه غاله استخذاءُ
شدَّ من أزر سافلٍ أنَّ شرًّا
جُمِعَتْ في مناله الجبناءُ
فجبانٌ يشدُّ أزرَ جبانٍ
وعداءٌ يكونُ منهُ عداءُ
ولقد يفعلون خيرًا ليخف الشـ
ـرُّ منهم وذاك منهم رياءُ
والشقيُّ الجَزوعُ من شر قومٍ
جرَّ نفعم منه إِليهم رجاءُ
مستنيمٌ إِلى الولاء ويكوي
قلبَه أن يفيض منهم ولاءُ
جاهل بالأنام يخدعه المطْـ
ـري نفوسًا لهم وحَقَّ الهجاءُ
لقَّنوهُ أنَّ المروءةَ أنْ يغْـ
ـتَرَّ بالنَّاس وهْو منه غباءُ
لا بل الفضلُ خيره وهْو يدري
إِنْ بلاهم أنْ قد يعز الجزاءُ
مطمئنًّا بعدَ اصطناعٍ جَميلٍ
عندهم إِن دهاه منهم بلاءُ
كلهم ظالم وإِن كان مظلو
مًا رأى أن قَسْوَهُ استشفاءُ
يشتفي من لواعج الغيظ والذلِّ
بظلم الأذلِّ، بئس الدواءُ
يظلم الصاغر الضعيف كما يظْـ
ـلمه من له عليه اعتلاءُ
طبقاتٌ مقدَّرات من الطغْـ
ـيان ما إِن يُخال فيها انتهاءُ
ومعَ الشرِّ والأباطيل في نفْـ
ـسٍ فللخير آنة سيماءُ

الصحراء

أَرحْبُك أم صمتٌ على الأرض غالبُ
غدا مُصْحرٌ من روعه وهْو هائبُ؟
كَصمتِ الخشوع المطرقين نزوعهم
مقابرُ صرعى للرَّدى وخرائبُ
وصمت لذي المحراب في بيت ربِّه
يقاربه في صمته ويخاطبُ
تَوقَّعَ مَنْ قد غَاله الصمتُ هاتفًا
يكلِّمه من فرط ما الصمتُ راعبُ
كمخترقِ الظلماء لاحَ لعينه
إِذا جَال فيها اللحظ ما هو غائبُ
حدٍ أن يُناجي النفس فيك أخو الحجى
ويخشع صمتًا راكب فيك ذاهبُ
ويخشع من رَحْبٍ كأن لا مدًى له
حكى أبدًا ما حدَّه الدهرَ حاسبُ
ويخشع أن لا شيءَ إِلا مُجانِسٌ
فلمْ يلفَ إِلا مُشبهٌ أو مُناسبُ
وكم راع رأي العين إِن كان لا يُرى
سوى الشِّبه يتلوه الشَّبيه المصاقبُ
حكى خدعة الآمال آلُكَ رافعًا
على الأفق بُشرى كذَّبَتْها العواقبُ
سرابُ الأماني في الحياة خديعةٌ
وقد تهلك المرءَ المُنى والرغائبُ
وَمَنْ ضلَّ في خَرْقٍ من العيش لبُّهُ
كمن خذلتْه في الفيافي المذاهبُ
تَفتَّحُ أبواب الجحيم عن اللظى
كأنَّ شُوَاظَ القيظِ يسْفيه دائبُ
سموم كدفَّاع البراكين أو لظى الْـ
ـحرائق يصلاه الحصا والنجائبُ
ويصلاه ركْب خال دنيا تقلَّصتْ
عن النار لو يسعى جحيم مقاربُ
ويسودُّ وجه الأفق حتى كأنما
ذُكاءُ دجت أو يكسف الشمس حاجبُ
وكم حَار ركْب من فجاءة صحوة
كما راع مرأى الحسن والعُرْي سالبُ
إِذ الجو كالبلَّوْر أخلص لونه
وصبَّ عليه من سنا الشمس ساكبُ
كذلك غبَّ الغيث ريعان بهجة
كأن طلاءً قطره وهْو صائبُ
كأنَّ ضياءً في سواد سحابةٍ
تكاثر حتى ثَقَّب الدجن ثاقبُ
تفجَّر ينبوع من النور غامرٌ
كما غمر الأرضَ المياهُ السواربُ
ضياءٌ ترى المألوف من كلِّ منظر
به فإِذا المألوف منه الغرائبُ
وما فرحةُ الولهانِ عاد حبيبه
بأصدق منها فرحة وهْو آيبُ
نهارك أم ليلُ الدَّراريِّ نائلٌ
من اللبِّ نيلًا لم تنله الكواعبُ
أديم سماءٍ يُبْرِزُ الشهبَ صفْوهُ
فأحسبها تدنو به وتقاربُ
أما يخشع السُّمَّارُ من كثرة الدنى
ويذهل من رحب الفضاء المراقبُ؟
يَبيتُ يُناجِي النجم والنجم سامرٌ
فتفضي إِليه بالحوار الكواكبُ
كأَنَّ لحاظ النجم من لحظ عاقلٍ
وأنَّ رقيبًا في السماء يراقبُ
يُسائِلُهُ عن عيشه أيْن سرُّهُ
كأنَّ وراء النجم ما هو طالبُ
إِذا خطَّ فيك الدهر سطرًا محوْتَهُ
كذا اليمُّ لا يقوى على اليمِّ كاتبُ
وترقل فيك اليعملات وإِنما
سفائن لجَّ البيد تلك الركائبُ
وللبحر أمواجٌ؛ وللبيد مثلها
إِذا هبَّ إِعصارٌ على الركب كاربُ
فيغرق في لجٍّ من الترب حائنٌ
كما احتشدَتْ فوق السفين السواربُ
ورحبك رَحْب البحر يطويك هائب
ويركبه ذو مطلب وهْو هائبُ
بأفقكما للشهب رهْب وروعة
جَلَا لكما شِبْهٌ وشِبْهٌ مقاربُ
وذي دولة في اليمِّ قد دال أمره
وآخر أردتْه لديك المطالبُ
ويَصغر عيشُ المرء في اليمِّ مثلما
تضاءل فيك عيشه والرغائبُ
لمحْلك يلقى مكرم الضيف ضيفه
بخيرٍ وأما خصمه فهْو سالبُ
وتشحذُهُ الأخطارُ حتى كأنما
بَنُوك سيوف ينتضيها المحاربُ
لقد صقلَتْها نار قينٍ وصيقل
كما صقلَتْهم في الحياة النوائبُ
تنسَّكْت في بُردِ التقشف لم يكنْ
معاش ولا ترجى لديك الأطايبُ

الشاعر البابلي المجهول

يا غريبَ الدارِ عن وطني
ناظرًا في غابر الزمنِ
هل سمعت اسمي وما نقل الـ
ـرَّكْب عن شعري وعن فِطني؟
انكت الأطلال علَّ بها
أثرًا قد خُطَّ في الدمنِ
قد وصفتُ الحسن أجمعه
لم أدعْ في الكون من حسنِ
وبحثتُ النفس قاطبةً
لم يفتْني أيما شَجَنِ
ولَكَمْ ألجمتُ مضطغنًا
عائبًا قولي من الإِحنِ
سَهرَ الأقوامُ واختصموا
فيَّ من راضٍ ومضطغنِ
كلُّ ما قد صاغه عرَبٌ
أو من الإفرنج ذو لَسَنِ
صُغْتُه من قبلهم فعفَا
وكأنَّ الأمرَ لم يكنِ
لم يعشْ بالصيت شاعرهم
عمرَ صيتٍ كان لي وفني
دُوَلٌ أودتْ بها غِيَرٌ
وَرَدَى اسمي بعدُ لم يَحِنِ
لم أدعْ معنًى لذي أدب
عالقٍ بالشعر مرتهنِ
فاستباح الدهر من أدبي
ما استباح الدهر من وطني
بابلُ الأملاك ما عمرتْ
مثلها في سائر المدنِ
درستْ من بعد ما لبثتْ
حِقَبًا مشهورة السننِ
بعد ما كانت خمائلُها
فتنةً تربو على الفتنِ
بعد ما دان الزمان لها
فكأَنَّ الدهر لم يدنِ
واستوى في التُرْب ذو لسنٍ
وذوو الإِعياءِ واللكنِ
نَمْ طويلًا يا أخا الزمنِ
وادعًا في اللحد والكفنِ
بعد آلافٍ من الحقب
قم وسلْ عن صولة المحنِ
لا ترى اسما كنت تُكْبِرُهُ
سلْ عن الأوطان والسكنِ
سلْ عن المشهور من قدمٍ
وعن المعبود كالوثنِ
عن عظيمٍ كنت تحسبه
خالدًا كالدهر والزمنِ
فإِذا أنتم وشأنكمُ
حُلُم قد كان في الوسنِ
يا غريبَ الدارِ عن وطنٍ
باحثًا في دارس المدنِ
هل سمعت اسمي وما نقل الـ
ـرَّكْب عن شعري وعن فطني؟

النشوء والارتقاء

أراكَ فريسة الجُوعَيْـ
ـنِ سغْبانًا وشهوانَا
بربِّك أيها الإنسا
نُ لِمْ أصبحتَ إِنسانَا؟
بعقلٍ يبلغ الشمسَ
وأقصى الكون عرفانَا
وجدتَ لكلِّ ما كان
من الأكوانِ ميزانَا
كأَنك خالق الخلْقَيْـ
ـنِ أكوانًا وأزمانَا
وسخَّرْتَ الرياحَ مطيَّـ
ـةً والبرق فرسانَا
وقد أعليْتَ عُمرانًا
وقد قدَّسْتَ أديانَا
وردْتَ العيشَ عُريانًا
وترجع عنه عريانَا
وملء حياتك الأحزا
ن والآلام ألْوانَا
وتُبليكَ الحياةُ كما
يفتُّ الجوُّ صوَّانَا
وتصرعك الجراثيمُ
كما لو كُنتَ ديدانَا
وقد تهلك غرثانًا
وقد تهلك مبطانَا
وقد تغدو إِلى اللذا
تِ فتَّاكًا وخَزْيانَا
فبينَ الجوع والشهوَ
ةِ قد أُجريتَ ميدانا
وللتَحْلِيلِ والتحريـ
ـمِ قد أعددْتَ تبيانَا
فما أصلحتَ حاليْكَ
ولا طهَّرْتَ أدْرانَا
وفُقْتَ الطير والحيوا
ن آثامًا وأشجانَا
وزنتَ الذَّرة الصغرى
وما أعددتَ ميزانَا
لعيشك كي يكون العيـ
ـش إِسعادًا وإِحسانَا
بربك أيها الإنسا
نُ لِمْ أصبحتَ إِنسانَا؟!

النجاح

أنت ربُّ الأوشاب والأعلياءِ
وجماعُ الجهود والأهواءِ
تلبس المرء منك حلة فضل
يلهج الناسُ حولها بالثناءِ
أيُّ فضلٍ للمرء إِن لم تَحُكهُ
وذكاءٍ إِن لم تكن في الذكاءِ
فُرَص العيش كلُّها لك جنْدٌ
والعطايا موائلٌ كالإِماءِ
وصروف الأقدار طرًّا عبيدٌ
للذي تصطفيه للآلاءِ
لا يضيرُ الذي اصطفيتَ عداءٌ
لا ولا يُزْدَرى لفرط الغباءِ
ويودُّ الذكيُّ لو كان غِرًّا
ثم تكسوه حلَّة الأذكياءِ
أنت سحرٌ يكسو القبيح جمالًا
ويُنيلُ الوضيع أفقَ العلاءِ
وينيل القَميءَ أجنحة النسْـ
ـر فيغدو لقومه كسَماءِ
يرتجي الناس غيثها وعلاها
بخشوعٍ وذلَّةٍ ورياءِ
إِيهِ يا مالك القلوب قلوبُ الـ
ـنَّاس طرًّا طوع اللُّها والعطاءِ
رُبَّ قلبٍ مُماكسٍ لك في البيْـ
ـع وذاكَ المِكاسُ غير الإِباءِ
تنثر التبر مثلما تبعث الشمْـ
ـس بأضوائها على الأرجاءِ
فوق وغْدٍ أو فوق غِرٍّ حَظِيٍّ
أوْ على ظافرٍ من الفُضَلَاءِ
لك ثوبٌ يخْفي العيوبَ ويحبو الْـ
ـفَضْل فضلًا من روقة الآلاءِ
قَدَرٌ حاكه وليسَ صَناعٌ
كصناع يدعونَه بالقضاءِ
معدنُ الخير والفضيلة والحكْـ
ـمة من يرتدي بذاك الرداءِ
أيُّ فضل تعطى القويَّ قواه
إِن عداه النجاحُ في الأحياءِ؟
أيُّ صيت يجُدي الذكيَّ بيانٌ
لم يُصبْ نهزةً من الإصغاءِ
أيُّ فضل تحبو الحكيمَ نُهاهُ
وهْو لولا الأنصار كالأغبياءِ؟
سَرَفٌ أن أضاعه الدهر لا يفْـ
ـقر دهرًا أضاعه من ثراءِ
أترى التِّبر لو يظل دفينًا
كان يُجبي أطايب الأشياءِ؟
أترى الحسن كان يعتد حسنًا
وهْو في خفيةٍ عن البُصَراءِ؟
يغنمُ الظافر السعيدُ وإِن كذَّ
ب منه النُّقادُ بُطْلَ الطلاءِ
وهْو في أعين الأنام نضارٌ
وسواه في الخلق كالدقعاءِ
يغفِر الناس شرَّه وأذاه
ويمدُّونه بمحض الولاءِ
إِنما الحقُّ ما رأى النَّاسُ حقًّا
ثَابتًا في عقيدة الأهواءِ
والشريف الذي يرون شريفًا
نال أو لم يَنَلْ مدى الشرفاءِ
والكريم الذي يرون كريمًا
حاز أو لمن يَحُزْ هوى الخبراءِ
صاح لو يُنْبَذُ المزيَّفُ طُرًّا
حَرَبَ الناسَ كلُّ هذا الإِباءِ
ثم باءوا بحيرةٍ وضلالٍ
في دعاوى العقول والآراءِ
وإِذا النجح لم يكنْ منه ميزَا
نٌ فكلٌّ مزيف الأنباءِ
كنْ جديرًا به وإِن لم تَنَلْهُ
إِنما الحقدُ آلة الأدْنياءِ
وَيَضيرُ الأنامَ كيدُ حَقودٍ
صدَّ عن خيْر مطمح وعلاءِ
فدعِ النَّاسَ يكلفون بما شا
ءوا وعشْ في حقيقة الأشياءِ
إِن تجدْها أو لم تجدْها فللعيِّ
وللجدِّ نشوة الصهباءِ
نشوة النجْح نشوة السعي والخا
سِرُ منْ لم يَفُزْ له بطلاءِ
ولعلَّ الأحقاد ما صفَّر النجْـ
ـح وانحنى عليه بالأزراءِ
ورجاءٌ للنجح خيرٌ من النجْـ
ـح فعِشْ من طلابه في رخاءِ
إِنَّ بعدَ الرجاء أن تبلغ القصْـ
ـدَ ولا قصْدَ بعد نَيْل الرجاءِ
ولقد يَنْكُبُ النجاحُ أناسًا
بالذي فاق نكبةً للشقاءِ
والسعيدُ المحرومُ من أسْلَمَ الأطْـ
ـماعَ طرًّا لصرف حكم القضاءِ
ويودُّ الذي تودُّ له الأقْـ
ـدار يبغي فيها رخاء الرضاءِ
ذاك خُبْر يغْري الحكيم وإِن شقَّ
فَيُلْفِي رخاءَه في العزاءِ
ولقد يُحْبَطُ الطموحُ إِذا زَحْـ
ـزحَه الهمُّ عنه بالإِعياءِ
وفروضُ الحياة أَخْلَقُ بالسَّعْـ
ـي وأحجى من اقتعاد السماءِ
إِن أعلى من العلاء خليقًا
بعلاء لا حائزًا للعلاءِ
والسعيد الحظيُّ من رُزِقَ الجدَّ
وفي الجدِّ مصرع الثؤباءِ
هو طبُّ الملال إِنْ أعنتَ العيْـ
ـشُ وغالتْ غوائلُ البأساءِ
وسواء نجحٌ وَفَوتٌ إِذا أحْـ
ـمَدْتَ ما في مسعاته من دواءِ
والشقيُّ المحروم من لا يَرى في الْـ
ـعَيْش فرضًا ينأى به عن شقاءِ
ذاك من مات قلبه وهْوَ حيٌّ
وغدتْ نفسه كقفرٍ خلاءِ
خاصمتْه النعماء في كلِّ أمرٍ
وبَدَتْ فيه وحْشَةُ البيداءِ
خيبة المرءِ أن يَمَلَّ مُناهُ
لا تمادِي الحرمان والإِبطاءِ
ولعلَّ الإِبطاء في النجح أهنَا
وقصارى المبذول للأزراءِ
ويُملُّ العطاء بعد أوانٍ
كعزوف من بعد طول الغذاءِ
والذي لا يَمَلُّ فرضًا معادًا
كلَّ يوم مُوَفَّقُ السعداءِ
لا ينال البعيدَ من لا يرى الأدْ
نى سبيلًا يُدني إِلى البعداءِ
خطوةٌ إِثرَ خطوةٍ هكذا سُنَّـ
ـةُ عيشٍ وسُنَّة في الجِراءِ
وامتناع الطليب أهونُ من أنْ
يندب المرء خيبةَ الأهواءِ
هو خطبٌ أدهى من الفَوْتِ وقعًا
وهْو داء أشدُّ من ذا الداءِ
كالذي يستطب بالخطب من خطْـ
ـبٍ وَيُقْصِي الأدواءَ بالأدواءِ
ليس يُدْعى الرضاء يأسًا فكم را
ضٍ وفي سعْيه دبيبُ الرجاءِ
والذي يستدرُّ نجْحًا من الخيْـ
ـبة أحجى برفعةٍ وعلاءِ
فإِذا ما نَكَصْتَ في العيش فاعْلَمْ
ليسَ في العيش موطنٌ للنجاءِ
يُدخِلُ المرءُ نفسَه في الرزايا
كيْ يداوى من رعدة الجبناءِ
مثلما أَسْمَعُوا الجيادَ صليلًا
كي يَهونَ الصليلُ في الهيجاءِ
صاحِ، ما العيشُ بالمخلَّدِ في الدهْـ
ـر فترتدَّ ناكصًا للوراءِ
وإِذا ما ارتخصْتَ ما هو مبذو
ل ويا رُبَّ مُرخَصٍ من سخاءِ
فالهواءُ الحياةُ وهْو مُذَالٌ
لو نأى كان مُنْيَةَ الأحياءِ
لا تقلْ خيبة الرجاء سمومٌ
فالشقيُّ الشقيُّ بالأسماءِ
إِنَّ بَعْضَ السمومِ منه دواءٌ
كدواء الرَّمداء بالظلماءِ
وإِذا ما هَمَمْتَ بالخير لا تُو
لعْ بكسبِ الإِجلال والإطراءِ
ليْس بين الإطراء والذمِّ إِلا
كانطباق الجفون في الإِغفاءِ
واللبيبُ العليم بالناس لا يغْـ
ـترُّ بالمدح منهمُ والهجاءِ
غايظوا الراجحَ السعيد بمن خا
ب ولو فاز كان في البغضاءِ
يزعمون الخُيَّابَ أحجى بفوزٍ
قد لواه القضاء ذو الأخطاءِ
زعموا الدهر يظلم الندبَ إِذ يسْـ
ـمو بشأو اللئام والأدنياءِ
فإِذا الندب نال شأوًا أعدُّوا
ما أعدُّوا له من الإِيذاءِ
ولعمري لو بُيِّن النقصُ والفضْـ
ـلُ لكانوا في النقصِ كالشركاءِ
باتفاقٍ أو باقتدارِ نجاحٍ
كان أو لم يكن لدى الفضلاءِ
ولوَ انَّ المفضولَ لم يُلفِ نُجْحًا
ضاعف الفَوتُ غَبن صرْف القضاءِ
نابَهُ النقصُ من قضاءٍ فإِن خا
بَ فَغبنٌ مضاعفٌ في الجزاءِ
ليسَ فوزُ الأباة قدْرَ شقاءٍ
هزم الذلُّ نخوةَ الأحياءِ
لا بل الفوزُ صحةٌ واقتدارٌ
وببذلٍ للذُّخْر أو للحياءِ
وبأن تطَّبي رضاء ذوي الجا
هِ وأهلِ الجدود والأقوياءِ
وبإِحباطِ مَنْ يكيدُ بكيدٍ
رُبَّ فوز مستجلَبٍ بالدهاءِ
وبإِطراء من ترى منه نفعًا
وبإِرضاء كلِّ دانٍ ونائي
واحتذاءِ الحياة ترضى الذي تر
ضاه من شيمةٍ ومن سيماءِ
وبأنْ لا تعاف كسبًا ولا خُلْـ
ـقًا يُداني من مطلبٍ ورجاءِ
فإِذا عِفْتَ كان سعْدُكَ في الخيْـ
ـبة والنجح من صنوف الشقاءِ
رُبَّ قُوتٍ للمرء منه سقامٌ
وهْو في جسم آخرٍ كالدواءِ
وكذا النجحُ منه عزٌّ ونَعْمَا
ءُ ونجحٌ يُلمُّ بالبُرحاءِ

الجبل

ذكرى

جلالُك أهدى من ضياءِ المنائر
ومنبرُك الأعلى أجلُّ المنابرِ
لقد كنتَ عرشَ المجْد في الأرضِ عزَّةً
ومسكن أربابِ الدهور الغوابرِ
فيا معبدًا سقفُ السماءِ غطاؤهُ
وعمْدانُه الدوحات ملءُ النواظرِ
جلالُك يُلهي المرءَ عن كلِّ زائلٍ
فيخشع مسحور النهيِّ الضمائرِ
توحَّدْتَ كالرهبان يا رُبَّ راهب
رأى عصمة الأطوار طهر السرائر
تطلُّ على السهل الفسيح كأنما
تفكِّر في عيش القرى والعمائرِ
ألا إِنَّ للأهرام مجدًا وروعة
ولكنَّها إِن لُحْتَ لَهْوُ الأصاغرِ
فأنت بناء الله لم يَبْنِ مثلَهُ
قديرٌ ولم تعبث به يَدُ جائرِ
ومعتصمٍ في معقل منك مانع
كما اعتصم الملاحُ بين الجزائرِ
علوْتَ برأس في السماء مباعدٍ
أكيْمَا تُناجي السحْبَ أم كبر قادرِ؟
وينساب فيك الماء جذلان لاهيًا
وآنًا له روعٌ كروعة هادرِ
عليك اعتراكٌ للعواصف رائعٌ
وبرقٌ ورعدٌ طيُّ سُحْب مواطرِ
وأنت وقورٌ لم تُرعْ من رعودها
ولم تتهيَّبْ دورةً للدوائرِ
يغيِّر مَرُّ الدهر حيًّا وهامدًا
سواك فهل أوقفتَ خطو المقادرِ
فيا مَلِكًا بُرْدُ الجليد كساؤه
ومن فوقه تاجُ النجوم الزواهرِ
تشاهَدُ جيلًا بعد جيلٍ كأنما
تمرُّ بك الأجيالُ مرَّ العساكرِ
ترى مولدَ الدولات ثم مماتها
وتبصر مجْد اليوم بعد الغوابرِ
خلطتُ بك النفس الطموح إِلى العلا
ومرأى جلال منك ملء الخواطرِ

المستقبل

كهانة

خطراتُ الأحلامِ
ستُرى في الأيامِ
أقوالٌ وفعالٌ
هي رهْن الأوهامِ
الآن
ويكونُ الممنوعُ
هو حقٌّ مسموعُ
ويكونُ المنبوذُ
هو عرفٌ متبوعُ
الآن
وجهودٌ مشكورهْ
ستغادي منكورهْ
آراءٌ ومعانٍ
حباتٌ مبذورهْ
الآن
وترى في الأجيالِ
من حالٍ ومآلِ
وسبيلًا مطروقًا
كخيالٍ ومحالِ
الآن
وأمورٌ مجهولهْ
ستغادي مملولهْ
من فرطِ العرفانِ
وتراها مأمولهْ
الآن
خطراتُ الأذهانِ
وضروبُ العرفانِ
تهدي إِن لم تُصْمِ
فتكات الإنسانِ
الآن
وولوعٌ ببقاءِ
ككفيلٍ بنجاءِ
مهما صال الموتُ
في حرْب وعداءِ

حالتان للنفس

طلب السكينة

يا ليت قلبي غدا خلاءً
كعالمٍ كلُّه بِحارْ
على انتفاءِ الحياة منها
في خضرم ما له قرارْ
فلا مهودٌ ولا قبورٌ
ولا سفينٌ ولا منارْ
ولا حَبيبٌ ولا عدوٌّ
ولا نموٌّ ولا احتضارْ
ولا رخاءٌ ولا شقاءٌ
ولا رجاءٌ ولا ادِّكارْ
أو كان كالنجم في سُراه
الوادع السائر المدارْ
أو كان كالليل في هدوءٍ
يُخال في صمته حوارْ

طلب القوة

يا ليتَ قلبي على أساهُ
أقوى من الشرِّ والشقاءْ
وليت نفسي على هواها
أقوى من الحبِّ والرجاءْ
وليت لُبِّي على حجاه
أجلد من غفلة الغباءِ
لا يَضْطَنِيه عداءُ عادٍ
وليس يغترُّ بالإِخاءْ
يأخذ صفو الزمان عفوًا
ولا يُعنَّى من القضاءِ
وليت صبري على بلاءٍ
أشدُّ من أروع البلاءِ
فداوِ داءَ الحياة فينَا
لو تُسْعَد النفس بالدواءْ
بالصبر والسعي والأماني
والحلم والعزم والوفاءْ

عجز التجارب

مَا زادَ مرُّ حياتي غير أشجاني
فَزَوَّدَتْنيَ رُجحانًا كنقصانِ
يَا دهر لا تُنْسِني في ضيق عادية
محاسِنَ العين من صبرٍ وغفرانِ
وَقوِّني بتجاريبٍ أزاولها
فإِنها لم تزدني غير عرفانِ
وكيف يُلْهِم خُبْرٌ صَبْرَ مصطبرٍ
يَمْرِي له الخبر عرفانًا بإِيهانِ
يزيدهُ العمر من وَهْيٍ ومِن كبَرٍ
ما زاده العمر مِن خُبْرٍ بحِدْثانِ
فكيف ينفع تجريبٌ ومانِحُه
يُوهي جلادة أعصاب وجثمانِ
بعض التجارب ينسى ليذكر زمنًا
إِذا تعاورَ لبُّ المرءِ ضِدَّانِ
فإِن تيقظ في تجريب طارقةٍ
فإِنما هو يقظانٌ كوسنانِ
ضرورةُ العيش أن ينسى ليَذْكُر ما
يغدو يعالج من أمرٍ له ثانِ
فالمرء ما عاش من حال لثانية
مُنَقَّلٌ بين نسيانٍ ونسيانِ
فإِن تذكَّر أمرًا واحدًا أبدًا
قضى الحياة غريرًا جد غفلانِ
وإِن تناسَ فلا نفعٌ لخبرتِهِ
وكيف يجديه منسيٌّ بِغُنْيانِ
فإِن تذكَّر منسيًّا تبادهه
منه فجاءة ما يقضي الجديدانِ
كأنه مسْتَجدٌّ لم يلمَّ به
ولم يحوَّل إِلى طبعٍ وديْدَانِ
ورُبَّ طبع بلا خُبرٍ وتجربةٍ
أسْخى على المرءِ من خُبْرٍ وعرفانِ
ذُخر التجاربِ ذخرٌ لا رواج له
ولم يُخَصَّ بأرباح وأثمانِ
ذخر الأقاصيص مسحورًا ومختزنًا
فليس للعين منه غير ريعانِ
إِلَّا تجاربُ علمٍ يستجدُّ بها
ما يملأ العيش من حسنٍ وإِحسانِ
لولا انتفاعُك من عادٍ مُفَضَّلةٍ
قد تجتبيها مع التجريب في آنِ
لما خُدِعْتَ بأشباهٍ إِذا اختلطَتْ
فعادةُ المرء والتجريبُ أمْرانِ
والخُبْرُ ليس بنافٍ عادةً شَنَأتْ
ولا يداوى به مِنْ وَهْي أبدانِ
يزيدك الخُبر علمًا بالحياة وما
تغرى به الناس من شرٍّ وطغيانِ
حتى تسير على مجرَى سجيَّتِهم
فلا يزيدك فيها غير إِمعانِ
فإِن أبيْتَ سجايا الناس من شممٍ
قضيْتَ عيشك في همٍّ وأحزانِ
إِلا إِذا ما لبسْتَ الدهر عافيةً
فهيَّأتْ لك من صبرٍ وغفرانِ

ليلة حوراء

رقَّ الظلامُ بليلةٍ
حوراء كالطَّرف الكحيلْ
سِحْرُ العيون كسحرها
بين الشواهد والشكولْ
هي فتنة الحَدَق الملا
ح ونعمة الطرف العليلْ
رقَّ الظلامُ كأنَّه
متفيَّأُ الظلِّ الظليلْ
في روضةٍ فينانَةٍ
هجرَ الهجيرُ بها المقيلْ
وصفا الدجا فكأنما
مزج النهار به الأصيلْ
فتمازَجَا كتمازُجِ الْـ
ـمَاء المصفَّى والشَّمولْ
في جنحها وصفائها
قُرِنَ الجليل إِلى الجميلْ
وتصالَحَا من بعد ما افْـ
ـترقَ السبيل عن السبيلْ
تحنو علينا مثلما
يحنو الخليل على الخليلْ
وتخالها حُلْمًا بِسعْـ
ـدٍ جلَّ عن قيْد العقولِ
ولرُبَّ ليلٍ فاحمٍ
فيكادُ يُقْطَعُ أو يسيلْ
لا مثلَ لَيْلتِيَ التي
تندى على الوجدِ الدخيلْ
في سحرِها وصفائِها
ونجومِها بُرْءُ الغليلْ
عمَّ السكونُ كأنَّه
ملَكٌ على الدُنيا نَزيلْ
فكأنَّها رسمٌ بَدَا
وكأنَّها حُلْمٌ مخِيلْ
في مثلها من هَدْأَةٍ
سَكَن القضاءُ فَلا يَصولْ
وكهدأةٍ في معبدٍ
للخَاشِعين به مُثُولْ
وكأنَّما أَغْفَى الهوا
ءُ كغضَّة الطرف الكليلْ
والبَدْرُ طَيْفٌ في المنا
م يُطيف كالحِبِّ الوَصولْ
في مثلها من ليلة
عبَدَ الدُّنا أهلُ الحلولْ
ورأوا تجلِّي الله في
كونٍ عراه له ذهولْ
والزَّهْرُ كالمسحور وسْـ
ـنان المحاسن في ذبولْ
والنهر غافٍ راكدٌ
نسيَ التَرَقْرُقَ والمسيلْ
وسْنانَ يحلم بالريا
ض وظلُّها فيه الظليلْ
في مثلها من ليلةٍ
يَقِفُ الزمانُ فلا يحولْ
يُصْغِي إِلى نجوى القلو
بِ وذِكْرِها العهدَ المحيلْ
كوقوف نجْمِ سمائها
يثنيه من سحرٍ ذهولْ
كذهول مسحورٍ بما
تجلو من الحُلم الجميلْ
يا ليلُ بلْ يا سحرُ بلْ
يا حُلْمُ ليتك لا تزولْ

الشتاء في إنجلترا

مقدمة

يسقط الثلج في إنجلترا شتاءً على شكل حبات الدقيق. فيعلو الأرض والمنازل والأشجار، فيخيَّل للرائي كأَنما قد كُسيَت الدنيا كساء من القطن. وكأن النهار ليلة مقمرة، وكأنما بياض الثلج من أثر بياض أشعة القمر. وتُذْكى النار في المواقد في البيوت، فَكأَن ألوان النار ألوان الأزهار الزاهية في جنَّة الربيع، وتُذْكِي نار المواقد وَجَنَات الوجوه فكأَن في المواقد جمرًا وفي الوجوه جمرًا! وتبحث في القلوب فترى نار الحياة وشرتها، وترى الحب والآمال لم يُغَضَّ منها برد الشتاء وثلجه!

الناظم
نَشرَ الضَّريب على البسيطة حلةً
بيضاء تمحو غبرة الغبراءِ
يسعى على وضح النهار كأَنما
يسري الفتى في ليلةٍ قمراءِ
فكأَنَّ نور البدر ما حلَّى الثرى
برواء تلك الحلَّة البيضاءِ
غلب البياض على اصفرار أشعة
تَهَبُ النهار من اصفرار ذُكاءِ
وعلى المساكن كسوةٌ منه كما
تعلو المفارقَ شيبة الشمطاءِ
فإِذا مشابهة المشيب كدعوةٍ
للنفس أن تنأى عن الأهواءِ
وإِذا استراح لمُقْمرٍ في لونه
راءٍ ترى الأحلامَ عينُ الرائي
وكأَنما في عالم الأرواح يسْـ
ـعى مَنْ سعى لا عالم الدقعاءِ
وكأَنَّ زهرًا أبيضًا غطى الثرى
برواء ثوب الروضة الغنَّاءِ
ولكلِّ لون حسنه كالليلة الـ
ـلَّيْلَاء أو كالقبَّة الزرقاءِ
ولربما اختلف الجمال، وفِعْلُه
متشابهٌ في أخْذة الصهباءِ
وإِذا المواقد في البيوت تضاحكَتْ
من شدة الإيقاد والإِذكاءِ
خِلْتَ الربيعَ سعى إِليك بحفله
والنارَ زهرَ الجنة الفيحاءِ
يُذْكِي الوجوه لهيبها فتراهما
جمرَيْن يشتعلان في الظلماءِ
ما غضَّ من دفْء الحياة ونارها
ثلج الشتاءِ على ثرى الغبراءِ
الحبُّ والآمالُ فوق متونه
كالحبِّ والآمال في الصحراءِ
والقلبُ قلب حيث كان إِذا ذكت
نارُ الشباب وشِرَّةُ الأحياءِ

بحر الحسد

مقدمة

الحياة هي بحر الحسد. ويسعى الناس في الحياة لأرزاقهم وجاههم بالكيد والمكر، كأَنما يسبحون في بحر من الحسد. وقد يدفع بعضهم بعضًا كي يظهر الدافع على متون أمواجه. وقد يعين بعضهم بعضًا في الأحايين. أما المجاملة في الحياة والتحيات، فقد تكون أشبه بلألاء الشمس على سطح الماء يخفي بجماله ما في البحر من قبحٍ وبلاء!

الناظم
يسبح الأحياء في بحر الحسدْ
فاعتصم بالصبر فيه والجلَدْ
واقتعد صهوته مستبشرًا
سابحًا في الموج منهُ والزَّبدْ
ضاحكًا من عنت الأمواج، لا
يُدْفَعُ الغائلُ منها بالكمدْ
انظر الأمواج في الشط، تَجدْ
لُجَّها منهزم الأمر بَدَدْ
إِن علَت موجة حقْد فاصطبِرْ
أيُّ موجٍ في ذرى اليمِّ خَلَدْ؟
وإِذا ما رمَّةٌ لاحتْ فلا
تحسب الرِّمة فيه كالسَّندْ
وإِذا لألأتِ الشمس على الْـ
ـيمِّ أخفتْ قبح ما دون الزبدْ
كمقالِ الخبِّ يخفي كيدَه
إِن سطا في العيش في لُؤمٍ وحِقدْ
وإِذا غارَ بك الماءُ فقُلْ
كم حسام في قراب قد غُمِدْ!
رُبَّ درٍّ فيه لا تأمله
إِنَّ مَن غاص على الدرِّ وجَدْ
درةٌ مخبوءة أنتَ إِذا
ما طفَا باللؤم إِن أُغرِقْتَ وغدْ
أَنجدِ السَّابحَ إِن حار وكنْ
للذي أشفَى على الهُلْك عَضُدْ
ليس مجد الغدر أحجى بالفتى
أيُّ مجدٍ ناله الأوغاد مجدْ؟
أحمقُ الناس جهولٌ خائفٌ
كلَّما لاحَ لهُ برقٌ رَعَدْ
ليس في العيش ولا الموت أذًى
إِنَّ من سار على الدرب وردْ
لا يَلَذُّ الموتَ إِلَّا مُتعَبٌ
سهر العيش وفي الموت رقدْ
رقدة يا طيبها من رقدةٍ
بعد أن عانى وأبلى وسهدْ!

الصدى

أمازحٌ أم ساخرٌ يا صدى
تُرَدِّدُ الصوتَ ولفْظ المقالْ؟
الصدى: مقال! مقال! مقال!
أم قائلٌ ذو خبلٍ لا يعي
أغْراه بالترديد مسُّ الخبالْ؟
الصدى: خبال! خبال! خبال!
أم أنت طفلٌ عابثٌ لا يني
يلهو ويحكي ما يرى من فعالْ؟
الصدى: فعال! فعال! فعال!
أم ببغاء ما لها فطنة
كم ردَّدَتْ من حكمةٍ أو مثالْ؟
الصدى: مثال! مثال! مثال!
أم أنت روحٌ لا تُرى تبتغي
أمرًا لدى الأحياءِ صعب المنالْ؟
الصدى: منال! منال! منال!
أم أنت بعض الجنِّ في خدعةٍ
تسكن في الأطلال أو في الجبالْ
الصدى: جبال! جبال! جبال!
أم أنت شيخٌ أَفِنٌ إِن سها
ردَّد ما قيل له من مقالْ؟
الصدى: مقال! مقال! مقال!
أم كأصمٍّ رامَ إخفاءَ ما
به فلا يطلب رجعَ السؤالْ؟
الصدى: سؤال! سؤال! سؤال!
أم أنتَ مثل الناسِ في غيِّهم
كم ردَّد الجهال قولًا يقالْ؟
الصدى: يقال! يقال! يقال!
يخشون إِن شذوا بإِنكار ما
قد ألفوا من ترهات الضلالْ!
الصدى: ضلال! ضلال! ضلال!
فردَّدوا بغْيًا على ألفةٍ
بينهم، أو رددوا من كلالْ!
الصدى: كلال! كلال! كلال!
فقولهم مثل الصدى رجعةً
وعيشهم ما بين قيل وقالْ!
الصدى: وقال! وقال! وقال!
حكَيْتَهم في عيشهم ساخرًا
أذلك العيش وعقبى المآلْ!
الصدى: مآل! مآل! مآل!

صمت الشك (علم أم ضعف؟)

ألا لا أبيحُ العْيش مدحًا ولا ذمَّا
سكتُّ فلا عذرًا نطقت ولا لَوْمَا
ولا يستقيم القولُ إِلا لُمنْتشٍ
من العيش والآمال لا من صَحا غمَّا
مللتُ أساطير الحياة فإِن أُفِقْ
فمن لي بحلْمٍ قد حلمت به قِدْمَا؟
حلمتُ بحسن العيش والصدقِ والنهى
أمانيَّ لا صُمًّا تبدَّت ولا بُكْمَا
وإِن لم يكن عيشُ الفتى حلم حالمٍ
فما عُذرُ قولي إِن حَسِبْتُ الدنى حلْمَا
فإِنْ شئت كان الشكُّ ضعفًا وخَيْبةً
وإِنْ شئت كان الشك منطقه علمَا
وإِن كان أصلُ الوحش والناس واحدًا
فَلِمْ فَقَدْوا ظلفًا وقد كسبوا لؤْمَا
وكيف أرى مستقبل الدهر للورى
علاءً ومحْيًا يجمع الخلق والفهمَا؟
إِذا كان صِدْق الناس كِذْبًا وفَضْلُهم
رياء، وودٌّ منهمُ الغدرَ والسُّمَّا
صحوت كصحو الموت من نوم عيشه
أترجعني للعيش ألْعَقه رغمَا؟
كما يلعق الآسي العليلُ دواءَه
وإِن مجَّ منه علقمًا قد نبا طعمَا
وهل ثقةٌ بالعيش والناس تشترى
لأَنثرها نثرًا وأنظمها نظْمَا؟
وإِن كان مدح المرءِ للعيش خَشْيَةً
من اليأس كان المدحُ من وَجَلٍ ذمَّا
يسوغ بيان السخط إِن كان من هوى الْـ
ـحياة وإِن أغرى بك الأمل الجمَّا
وإِلا فإِنَّ الصمت أولى بقائلٍ
إِذا قال قَولًا جدَّد اليأس والهمَّا
على تافهٍ لا ينقع الدهرَ غلة
ولم يك بين الناس ربحًا ولا غنْمَا
رأيت زوال الكائنات فلا أسًى
إِذا لم أُخَلِّدْ لي مقالًا ولا نظْمَا
سيحدث بعد القول قول يُدِيلُه
وإِن زال أقوام تجدْ بعدهم قومَا
وما الخلد إِلا عِزَّةٌ وطماعة
وأنبل كذْبٍ يخدع اللبَّ والفهمَا
يكون الفتى في اليأس دهرًا وفي المنى
كأَرجوحةٍ بين الشقاوة والنعمى
وقد حلَّ بي دهر إِذا ما مدحته
أظل كحاسي المُرِّ يفتعل البَسْمَا
وإِن لم يُنِلْك القولُ إِلَّا مذمةً
فمِنْ برِّ نَفْسي أن ترى تركه حزْمَا
فمن شاء فلينطق ومن شاء فليكنْ
صموتًا فحسْبي أن أرى الحمق والحلمَا
مللتُ نضالَ الناس في غير طائلٍ
وإِن كان شرًّا يصقل الذهن والفهمَا
وكم شبَّهوا فهْمًا بسهم ومورد
وَيَا طالما أشْوَى الصواب وكم أظمَا
فيا ليت هذا العيش يبدو كصورةٍ
لعينيَّ أو خطًّا على الطرس أو رسْمَا
كما تهدأ الهيجاء في رسْم راسمٍ
تراها فلا قتْلًا تراها ولا كَلْمَا
ترى حسن إِحسانٍ وتجويد صانعٍ
وقدرة فنَّان وجهدًا له تمَّا

سحر الطبيعة

كئوسٌ من النور هذي الزهو
ر أم هي أخيلة الشاعرِ؟
وليست بحُلم ولكنها
أجلُّ من الحُلُم البَاهِرِ
وما خلَّفت لفنون الخيا
ل فتنة حسنٍ لدى الخابرِ
وماءُ الحياة ونبْع الخلو
د في مائها السلسل المائرِ
وعشب قشيب وظلٌّ ظليل
أدنْيَا أرى أم مُنى الساحرِ؟
ومما يزيد رواء الزهور
أذى العيش والقدر الجائرِ
لقد خِفْتُ أن تنطوي مثلما
يزول الخيال عن الناظرِ
فأسلمْتُ نفسي لسحر الخيال
لأخلد في حُسنها الزاهرِ
وغبتُ عن الحسنِ حسن الوجود
كأنيَ روح لدى العابرِ
كأني نُقِلْتُ إِلى عالم
سَيُنشأ في الدهر أو غابرِ
كأني نُقِلْتُ إِلى جنة
نأتْ عن سطا القدر الدائرِ
ومما يزيد رواء الزهور
أذى العيش والقدر الحائرِ

الغابة

قد حيكتِ الآباد كالبحر والصحْـ
ـراء من طول أرضك الشجراءِ
وحجبتِ الأفْق البعيد عن الطرْ
ف فأنسيت منتهى الأشياءِ
فكأَنْ لا مدًى لدوحك يُرجى
حين تُدْحَى مطارحُ الغْبراءِ
ورياح تشدو على ورق الدَّوْ
ح بألحانِ شدة أو رخاءِ
منطق لم يدع لنفس شجونًا
لا يُحاكي صفاتها في الغِناءِ
ثم تبدو الغصون في هدأة الريـ
ـح كَنَايٍ معلَّق بالهواءِ
وكأني أصغي إِلى غابر الدهْـ
ـرِ وما كان فيك من أزراءِ
وكأنَّ المساءَ ظلَّلَ دَوْحًا
يتسامى ولات حين مساءِ
وكأن الظلامَ دسَّ كمينًا
رابضًا في آجامك الدَّكْناءِ
خطرتْ في ظلام دوحك أرْوا
حٌ وناجت مسامع القدماءِ
لبث القوم فيك دهرًا فَنَاجَا
هُمْ سرارُ الفنون بالإِيحاءِ
عُمُدًا شيَّدوا وَسْقفًا لبَهْوٍ
واستمدُّوا من غابةٍ وسماءِ
حين شادوا للدِّين بيعةَ إِيما
نٍ تبدَّتْ كالغابة اللفَّاءِ
صِرْتِ ملهًى وكنت غيلًا مخوفًا
وملاذَ اللصوص والطرداءِ
وارتضيت الأمان من بعد ذُعرٍ
لم يزل في المدينة الشماءِ
غابة شادها ابن آدم نزلًا
دَوْحها من قصورها الزهراءِ
ربما عرَّشَتْ وضاقتْ فلا شمْـ
ـسٌ لديها ولا مراحُ الهواءِ
ومَخُوفٍ من الفجاءة فيها
كمَخُوف في الغابة القتماءِ
واحتيال ليُقْنَص الرزق والصَّيْـ
ـدُ سواء في مكرةٍ كسواءِ
كم وحيد لا يعرف الأنس فيها
أصْبَحَتْ نفسه كقفرٍ خلاءِ
ضاقَ ذرْعًا بنفسه فغدا ينْـ
ـشُدُ طيًّا في معرض الأحياءِ
عذَّبَتْه لواحظ الشمس حتى
أخذتْه لواعج الظلماءِ
وأفاعٍ في دُورها وقرودٌ
ووحوشٌ من ناسها بالعَراءِ
وغريب ومُعدم وطريد
قد عداه حتى خداع الرجاءِ
فكأنَّ الأقوام لم يخرجوا منْـ
ـك ولا زال عهْدُك المتنائي
سُنَّةٌ قد سننتها في نفوسٍ
إن دَعتها كانت جواب النداءِ

الحق والحسن

عصيت الحسنَ من همٍّ ونحْسٍ
ينيخ على الورى في الطارقاتِ
وقلتُ الحق خير منه عقبى
وأولى بالنفوس السامياتِ
وقلتُ أيا رُواء الزهو بُعْدًا
ويا سحر العيون الساحراتِ
ويا مُلح الخمائل لا تكوني
حبائل قانصات آخذاتِ
ويا شمسُ اخبئي ضوءًا صبيحًا
يغازل حسْنُه حُسْنَ النباتِ
أليس الناس في عنَتٍ وشرٍّ
سلي الأيتام والمترمِّلاتِ
سلي أهل الشقاء وما دهاهم
وهل طابت لهم خدع الحياةِ
رمى بالنسل للآفات طُرًّا
نشاوى لذَّة لا الواجباتِ
وقالوا النسل فرضٌ أيُّ فرضٍ
جديرٌ بالنفوس المؤمناتِ؟
ديار النحس كالجنات حُسنًا
لدى العشاق فيها والهُواةِ
ورنَّق من مناقعِ آسناتٍ
ألذُّ مع الغرام من الفراتِ
وحيث ترى نعيم الحسن داء
ترى فقْد النفوس الآبياتِ
وهل ترجوه لاستصلاح أمْرٍ
صريعِ عقارِ حُسْنِ الفاتناتِ
فإِن الحسن يلهي المرء عما
يحاول من صلاح الحادثاتِ
ولولا سلوة للحسن عِيفَتْ
حياةٌ في حضيض الهاوياتِ
فقال الحسن هل أنا غير سلوى
تعين على كفاح النائباتِ
أنا الأمل الذي لولاه كانَتْ
حياة المرء شرًّا من مماتِ
أنا الحقُّ الذي تبغي جداه
وتنشد كونه في الكائناتِ
أنا المثل الأجلُّ، إِليَّ مَرْقى
خُطا الراقين من ماضٍ وآتِ
أنا الحادي الذي يحدو نفوسًا
فتطرب طِرْبة المستوقراتِ
أنا الصبر الذي يودي بنحسٍ
ويسعد في الهموم المضنياتِ
أنا الحبُّ الذي لولاه كانت
وجوه الكون أشبه بالرفاتِ
فلمَّا أن تبدَّى منه سِحْرٌ
أضاء بنوره وجْه الحياةِ
ولمَّا أن تبدى منه سِحْرٌ
أعاد النفس في مثل السُّباتِ
خشعْتُ وما ملكْتُ قياد نفسي
وقلت: الحق حُسنٌ لو يؤاتي
وإِن لم يَزْوِ نفس المرء عما
يحاول من صلاح الحادثاتِ

ما وراء الأمن

ولكن ما وراءك يا عصام؟ (شاعر قديم)
أما فكَّر هذا النا
سُ كم من قاتلٍ عاتي
لوَ ان لكلِّ ذي حقدٍ
مُناه في الرماياتِ
لوَ انَّ الأمرَ فوضى لا
حسيبَ على الجريراتِ
لكان الأمر ما كان
قديمًا في البداواتِ
إِذ الأشره في الأرحُـ
ـمِ مقضيُّ المشيئاتِ
ودامي النابِ من لحمِ
أخيه أوِ السخيماتِ
وغرُّ الناسِ ما يخدَ
عُ من بذلِ المروءاتِ
وغرُّ الأمنِ والسلم
وآيات السماواتِ
ومن يصغي لآيات
وأرواحٍ رحيماتِ
وخلْف الأمن والسلمِ
كحرب الذئب والشاةِ
قتال بالنكاياتِ
وآخر بالسعاياتِ
وبالكذب وباللؤمِ
وأرجاس الغريزاتِ
سلاح كل ما أسعَـ
ـف في حرب المباراةِ
ولو تقتل ألحاظ
نَمَتْ قتلى العداواتِ
أسهمٌ ما بدا في اللحْـ
ـظ أم سهم الحزازاتِ
وقوم الزمن الماضي
كقوم الزمن الآتي

•••

سألت الله أن يُخْلِـ
ـفَ ظني عند ميقاتِ
بأن يخلف أقوامًا
كرامًا في السجياتِ
فمِنْ فُجَّار مهواة
إِلى أطهار مرقاةِ
ومن رجسِ المباراة
إِلى طُهْر المؤاخاةِ

نذالة التعاسة

كدتُ أنْسى دواعيَ الرِّفْق مما
قد أرتْني نذالة التُّعَسَاءِ
يقضمونَ اليد التي تَنْتَحيِهمْ
بسخاءٍ ونجدة وإِخاءِ
ويكيدون في الخفاء أو الجهْـ
ـرة أَلْئِم بِجَهرهم والخَفَاءِ
عشَّشَ اللؤمُ حيثما عشَّشَ البؤْ
س سوى في القليل من كرماءِ
ليس بدعًا، أليس ما نغَّص العيْـ
ـش من البؤس باعث الشحْنَاءِ
كل قلبٍ تبيت من حَسَكِ البؤْ
س مليئًا بخسَّة الأدنياءِ
يتلظَّى شرًّا ويرشح غدرًا
ويُداجي خوفًا بثوب رياءِ
يلؤم المرءُ وهْو غير شقيٍّ
كيف ينأى عن لؤمه في الشقاءِ
ليزيدَنَّهُ اغتيالًا وحِقْدًا
وافتراسًا على حُطَامِ الرَّخاءِ
وسُعَارًا لَو انَّه نال من أرْ
ضٍ لَجنَّتْ زلازل الغَبْراءِ
وهْو غلٌّ لو حاقَ بالشمس أمسَى
مثل ذرِّ الرماد وجهُ ذُكاءِ
ليس شر البأساء قصرًا على النحْـ
ـس ولكنْ كم أشعَلَت من عَدَاءِ
وحُقودٍ وخسَّةٍ وسعارٍ
واغتيال ومكرة ورياءِ
تَفْسُدُ الأنفُسُ الكرائمُ حتى
تَغتدي مثلَ أنفس اللؤماءِ
ضَاع عطف الرحيم إِذ ضاع حُسْنُ الْـ
ـخُلْقِ في خِيم أنْفُسِ التُّعساءِ
وعظيمٌ ما أفسد النحسُ من خلْـ
ـق هضيم ورحمة الرحماءِ
كم شقاءٍ يَمْضِي وفي النفس منه
أثَرٌ واضح لغير فناءِ
من عوادي سخائم لست تدري
هي بالمرءِ علة الأدواءِ
أم هيَ النفسُ سقمُها مثلُ سقم الْـ
ـجِسْم من إِحنةٍ ومن شحناءِ
مثل ذل الشعوب خلَّف لؤمًا
بعْدَ فوْتٍ من عهده وانتهاءِ
وصفات الشعب الضعيف لَتُلْفى
في جسومٍ صحيحةٍ أقوياءِ
من رياء وإِحنة واحْتيال
وتعادِي تخاذلٍ وافتراءِ
شيمٌ يدرأ الذليل بها مِنْ
عَجْزِه سطوةً من الأعداءِ
أصبحت شيمة النفوس وإِن لم
يكُ ذُلٌّ ولم يكن من عداءِ
فمتى يلبس الخلائق طرًّا
طِيبَ نفْسٍ في شملة النعماءِ؟
ليس إِلا بها نجاء نفوس الـ
ـنَّاس طُرًّا من خسَّة الغبْراءِ
فاطْلُبَنْهُ فيها وإِلا فدَعْ نشْـ
ـدَان أمرٍ بَغير داعِي الرَّجاءِ

بين الثريا والثرى

الحمل الجدى والسرطان؛ هي الأبراج المعروفة بهذه الأسماء، والمعنى هو أن الشباب لا يهتم بما يخبئ له القدر؛ كما يهتم من يرصد الأفلاك والأبراج ليعرف منها ما يُخبِّئهُ له القدر.

الناظم

الشباب

تُذكرني الشبابَ وقد عَلَوْنَا
به فوق المجرَّة والنجومِ
ونحن الخالدون وكان حقًّا
خلوُّ الخالدين من الهمومِ
سوى الحزن الذي عُقْباه ضِحْكٌ
يرنُّ صداه في ضحك الهزيمِ
وطِئْنا فوق أطلال الدراري
وأشرفنا على بيد السديمِ
فلا حَمَلٌ ولا جدْيٌ رقينا
ولا السرطان ذو البرج العَظيمِ
وما مِنْ صَوْلَةِ الأقدار خفْنَا
ولا لاحَتْ لنا مثل الغيومِ
بأرواحٍ لها في الأفْق مسعًى
وتحليقٌ على العيش البهيمِ
ركَضْنا في السماء لكل نجمٍ
حُنُوَّ الطير للزهرِ العميمِ
وحوَّلْنا وجوهَ الكون كأسًا
حسوْناها ولم تَكُ من كرومِ
ولم نعْبأ بما تُخفِي الليالي
ولم نخْشَ المنيَّة في الهجومِ
وأسْلَفَنا الزمانُ نعيم عيْشٍ
ولم نحذر مقاضاة الغريمِ
وكنَّا في ائتلاف الشمل نحكي
نظام الشهب والدرِّ النظيمِ

المشيب

سكَنَّا الأرض بعد الأفْق دارًا
وأُنْزِلْنَا إِلى بطنِ الأديمِ
وأُفْهمْنا القضاء وما فهمنا
وقُلْ ما شئت في لغْوِ العليمِ
وكُسِّرَت القوادمُ والخوافي
وهِيضَ العَظْمُ في الجسم الكليمِ
صحونا للحياة وما تراه
من الخلق المقبَّح والذميمِ
فمِنْ حَذَرٍ إِلى بخل وذُلٍّ
وسوء الظن بالخِلِّ الحميمِ
أطلَّ الموتُ من كثب علينا
وظِلُّ الموت أصبح كالنديمِ
تُروِّعنا الصروف بكل خطبٍ
وخطْب الموت أهْوَن للفهيمِ
وضاعت جدَّة الدنيا وصارَتْ
كأطمارٍ على جسم العديمِ
يحاربنا التذكُّر والتمني
كلا الأمرين يُفْضي للهمومِ
وقِدْمًا قد نعمنا بالتمني
وأمَّلْنا الخلود على النعيمِ
وليت الذكر، وهْو نذير شَجْوٍ
يدوم برقةِ العهد القديمِ
سننسى أننا كنا قديمًا
على هَام الثريا والنجومِ

بيان ماض وحاضر (أنشودة)

عهدي بالعيش على رَغدِ
عذبًا كالماءِ حَسَاهُ صدِي
نغمٌ والدهر يُوَقِّعُةُ
يَسْرِي كالنَّشْوَةِ في الجسَدِ
يا ليت الدهر كمن يشدو
بأغانٍ إن يُطربْ يَزِدِ
إِن قلتُ أعدْ نعمى عادتْ
كترنُّمِ ذي النَغَم الفَردِ
حسنات كنت بها ثملًا
ذهبتْ في الدهر فلم تَعُدِ
آمالٌ كنت بها شغفًا
نظرَ الولهان إِلى الخُرُدِ
أحلامٌ كنت بها جذلًا
قد شحَّ النوم ولم تجُدِ
وشباب ذقت به خلدًا
في طرفة عيْن من أَبدِ
لو دام دوام الخلد لما
نقع الظَّمْآن من الصَّفَدِ
لو عاد بذلتْ له ذخري
من مُطَّرَفي أو مُتَّلَدي
بشعاعٍ منه أعيش مدًى
دفءٌ للشمس على بُعدِ
آبَ التذْكارُ له شبحًا
أو قَبرًا شِيد لِمُفْتَقَدِ
ما خَلَّفَ لي دهرٌ ثقةً
بمآلٍ فيه أو أحَدِ
يا نبْع الماضي لو عاد الْـ
ـوُرَّادُ إِليك على جَددِ
لرجعتُ إِليك رجوعَ صدٍ
لم ينْهَلْ قَبلُ ولم يردِ
وغدًا ماذا يا دهرُ ترى
قد قُدِّرَ لي بضمير غدِ؟

صور الصداقة والعداوة

وفيٌّ غادرٌ سمْحٌ حقودٌ
أرى الأضدادَ فيك إِلى لقاءِ
أمَدْحُكَ لي انتقامٌ من عدوٍّ
أساءَ إِليك أم محضُ الثناءِ
وفاؤك كي أُبَادِلَكَ التَّحَايَا
أَذا سَببُ التقرُّب والتنائي؟
وكيما أصْطلي وأشنَّ حربًا
على مَنْ مَدحُه لك كالهجاءِ
أَتخدعُني ولم تلحقْ بسنِّي
ولم تظفرْ بخبرْي أو بلائي؟
وتمذق لي إِخاءك مذْق حقْد
عليَّ وما أصبتُك بالعداءِ
تحاربني وتحسب أن ستخفى،
عداؤُك ليس يظفر بالخفاءِ
كشأن نَعَامةٍ للرأس تخفي
وتحسب ما لها في الناس رائي
ولستَ بأوَّلِ المُخْفِين بُغْضًا
نما بين المحبَّة والإِخاءِ
عرفتُ الناس قبلَك يا خليلي
وذقتُ الغدر من حلو الوفاءِ
فإِنْ كان الولاء كما أراه
فويْلي من وفائك والولاءِ
وبُعْدًا للمديح وإِن تغالى
وسُحقا للمروءة والصفاءِ
سَلِ الخلَّان ما فعلوا بقلبي
وهل أبْقوْا لشدقك من غذاءِ
وهل أبقوا لبطنك منه شِلْوًا
مريرًا لا يساغ على عداءِ؟
أعيذُكَ أن أراك شبيهَ قومٍ
رجولةُ بعضهم فقْدُ الحياءِ
وهُمْ فقدُوه من ذلٍّ وعارٍ
وهُمْ فقدوه من فقدِ الإِباءِ
وكم أخفَوْا رخاوتهم بهُجْرٍ
كمن فَقَدَ الحياء من النساءِ
وهُمْ مثل الهلوك رمت رجالًا
بما قد صحَّ فيها من هجاءِ
على الأواب واقفة تَنزَّى
وترمي القوم من دانٍ ونائي
وتحسبُ أنها نفضت خناها
كجلد الكلب هُزَّ لنَفْضِ ماءِ
فلا يعديك خُلْقُهُمُ فإِني
رأيتُ الخُلْق يُعدي كالوباءِ
صفحتُ ولو أردتُ بلغتُ ثأري
وقد عُرِفَ اقتداري في الرِّماءِ
فإِن يأبَوْا وإِن تأبى سكوتي
فما صمتي بعيِّ الأدعياءِ
ولا يُعليك بين الناس خفْضي
ولم تبعدْ بأفقك عن مسائي
لتنزلني إِلى حيث استقرتْ
بك الدنيا تَفَنَّنُ في العداءِ
تُخَبِّرُني اللحاظ بِغلِّ قوم
على ما نلتُ من فُرص الرخاءِ
وكنتُ أظنُّه حسدًا لقوْلي
فخلت الصمت أقرب للنجاءِ
ولو سمعوا بموتيَ ما استراحوا
ولا يشفي حقودهم فنائي!
أرادوا لي الممات ولو دهاني
لفرط الحقد أُحْسَدُ للفناءِ!
فلا يُرضيهمُ عيشي رخيًّا
ولا يرضيهمُ مني عفائي
وفي الدنيا الدنيئة هانَ سمحٌ
تعالى عنْ سِلاح الأدنياءِ
إِذا ما أحرجوا سمحًا كريمًا
تدرَّع بالقواذع في الرماءِ
دعُوني صامتًا فالصمت أوقى
لكم إِن لم تصولوا بالغباءِ
أُدَاجي الناسَ ما داجوا وإِني
لأزهدُ في الدِّهان وفي الرياءِ
ولكنَّ الحياة لها قضاء
فمن يأباه يزهد في البقاءِ
وما أدْري لدن ألْفى عُدوًّا
أَأَبْلَه أم تبالَهَ بالعداءِ؟
أَخَوَّفَه أذايَ أخو دهاء
أخَوَّفَهُ ذكائي واعتلائي؟
أنمَّقَ وعده بالخير إِمَّا
تمادى مَنْ تمادى في الجفاءِ؟
أسَعْيُ سعاية أم قولُ واشٍ
يحكِّمُه المُحَكِّم في الخفاءِ؟
أرجَّاه مُرَجِّي الخوف مني
ضلالًا نَيْل عوني أو ثنائي؟
أعَدْوى في التثاؤب من كسولٍ
كعدوى في العداوة والإِخاءِ؟
أرَشحُ اللؤم في رهْطٍ وضيعٍ
يفيض بما يشاء من الأداءِ؟
ومَنْ عَرَفَ الأنامَ رأى أمورًا
مُرَعْبَلةً كرعبلة الكساءِ
أراها كلَّها صورًا تنزَّى
تنزِّي الآل في الخرْق الخواءِ
سرابٌ لست أتبعه فأخشى
هلاكًا لا، ولا هوَ منْ رجائي
أنا المرء الذي عَرَفَ البرايا
فلا يردى لعادٍ أو لشائي
ومن خبرَ الأنام لصنع فنٍّ
فكل الخلق من صور الأداءِ
ترامَوْا بالهجاء فإِن أصابوا
فرهْطُهُمُ الملَطَّخُ بالهجاءِ
أليسَ الرهط فَرْدًا ثم فَردًا
وأوصافًا لها عدوى الوباءِ؟
نعتُّم رهطكم لما نعتُّمْ
نفوسكمُ بأوضار الرماءِ
نفوسُكُمُ معرَّةُ كل رهطٍ
ومدرجة الشعوب إِلى الفناءِ
ومهزلة المكارم والمعالي
وهل لؤم يئول إِلى علاءِ؟
لعلكُمُ حسبتمْ كل شرٍّ
إِلى عودٍ بخير وانتحاءِ

الهاربون من القضاء

أتظلُّ موهونَ الجنان مروَّعًا
قلقًا من الآفات والأقدارِ
تخشى الحياة ولست تخشى ميتة
هبْها نصيب الموت في الإِصْغارِ
قلقًا تطل على الحياة كأنما
منها وقَفْت على الشفير الهاري
تخشى الحياة وكذْبها وسفالها
وصيالها في قسوة الغدَّارِ
والحيُّ يأكل من حياة مثيله
لحْسَ الضواري للدَّم المدرارِ
وتطاوُل المغمور ينحو نابها
كتطاوُل الغرقان في التيارِ
متشبثًا منه بِعِطفَيْ سابحٍ
ليجرَّه لمهالكٍ وبوارِ
كلٌّ يخال الدهر إِن هو عاقه
خطب الجميع بقاصم الأعمارِ
والموتُ يعصف بالدهور وأهلها
فكأنها صور الخيال الساري
فعلامَ تخضع للتناكص والأسى
وتخاف حُكْم الله في المقدارِ
والقلب يلمسه الأسى فيهزُّه
وكأنه وترٌ من الأوتارِ
وعلامَ ترتقبُ الزمان وصرْفَهُ
والغيبَ وهْو مُحجَّبٌ متواري
عمري لوَ انَّ الغيبَ عاجَلَ وانقضى
لقرأته خبرًا من الأخبارِ
فمتى ترى صور الحياة صحائفًا
وكأنها سِفْر من الأسفارِ
لا إِنها أمرٌ تُزاوِل صرْفه
وتظل تعدو منه في مضمارِ
أو تغتدي بين الأنام مغامرًا
تسعى على سننٍ لهم وشعارِ
فإِذا أسيتَ أسيتَ طرفة ناظر
وإِذا نسيتَ نسيتَ كل عثارِ
وكذبتَ ما كَذَبَ الأنام ولم تجِدْ
في قسوَةٍ منْ خِسَّةٍ وشنارِ
ونسيتَ ما جلب الزمان لأهله
من محنةٍ أو مهلك ودمارِ
فتقول للقلب المَرُوع إِذا نزا
حذَر الحياة وصولة الأشرارِ
يا هاربًا من صولة المقدارِ
أتُراك تفلت من يد الأقدارِ!
اهربْ إِذا ما اسطعت في أزلِ الدُّنى
أو في مدَى الآباد والأدهارِ
أو في المماتِ وما تُلاقي خلفه
بين الفناءِ ومعقل الأسرارِ
تعدو ويدركك الذي خلَّفْته
كاللَّيْل ليس يفرُّ منه الساري
كلٌّ من العيش المروِّع هارب
لو فاز خَلْقٌ في الدنى بفرارِ
بالفنِّ أو بالعلم أو بمجانة
أو بالسَّطا والجند والأنصارِ
فإِذا القضاء مآلهم ونفاذه
كحصادِ كل وسائل المختارِ
سَلْ صفحة التاريخ كم قوم به
أجراه مجرى الدهر في مضمارِ
أقوام أدهارٍ مضَتْ بعضٌ لها
ذكرى وبعضٌ ما لها من داري
قد أبدلوا طبع السَّفالِ بأنفسٍ
من طبعها المتصاعد السَّوَّارِ
صاروا إِذا غضبوا وإِن سروا وإِن
درجوا لأمرٍ ثالثٍ بمدارِ
يتمرغون مجانةً فنفوسهم
وجسومُهم كمزابل الأقذارِ
وَصَمُوا الشبابَ ولم يكن من طبعه
خلق اللئيم العاجز الغدَّارِ
إِنَّ الشباب مُروءةٌ وسذاجة
وترفُّعٌ ينبو عن الأوْضارِ
تَخِذُوا السِّفَال مجنَّهم ليصونهم
من صولة الغلاب والمغوارِ
فغدا السِّفَال سعادة ومسرة
عبث الخنا ومجانة الفجارِ
نبذوا الحياء وكيف ترجو أمة
للنائبات مجانة العُهَّارِ
قد خِيلَ في فقدِ الحياة رجولة
فقدُ الحياء رجولةُ الدُّعار
طبعُ المجانة عمَّ حتى خلته
كيدًا يحاك عليهمُ بِسَرارِ
أمْ وُرِّثوه عن الجدود غنيمةً
يطفو الذليل بها على الأقدارِ
ويُذَلُّ من عنت الحياة وضيمها
بسعادة المجَّان والفجارِ
وتكايدوا كيد العبيد ولم يكن
كتنابذٍ بطبائع الأحرارِ
واستْمرَءُوا مرعى الغبَاوة والخنا
إِلْفَ السجون لطول عهد إِسارِ
هزموا الدهور الغازيات بهزلهم
فمَضت وظلُّوا رهن عقر الدارِ
فإِذا الدهور جديدةٌ قهَّارةٌ
وإِذا اللِّئام فريسة الأدهارِ
درجوا علىَ دَرج الحياة إِلى الردى
من بعد جهلٍ راقهم وصغارِ

صديق البلاء

يغدرُ الناس في الشقاء ولكنْ
عذرُه في الرَّخاء لا في الشقاءِ
إِنْ تفدْ نعمةٌ عليَّ تلظَّى
حسدًا لي وكان من أعدائي
فإِذا الدهرُ مال بي كان بكَّا
ءً على مِحنتي وطول بلائي
المُواسي في الحزن حتى إِذا ما
كنت في غبطة سَطا بالعداءِ
في سقامي حلو الحديث شَهيٌّ
وهْو يرجُو أنْ لو يُخلَّدَ دائي
فإِذا ما صَححْتُ عاودَ بُغضي
وَيْله لوْ أُعدُّ في الأقوياءِ
لَدَهاه الأسى وطال عليه الْـ
ـهَمُّ حتى يموتَ بالبُرَحاءِ
إِن هجاني العدوُّ أُحْسِن قولًا
دَافعًا فرْيةَ العِدا بالثناءِ
فإِذا ما مُدِحتُ همَّ بقتلي
ورماني بقذعهِ والهجاءِ
يا صديقَ البلاء عطفُك في النحْـ
ـس رياءٌ أبغِضْ به من رياءِ
إِيه يا قلب ما دهاك من الخِلَّا
نِ أدهى من صولة الأعداءِ
خلتَ أن الصديق مثل نسيمٍ
نافعٍ لازمٍ قليلِ العَناءِ
لا تنال الحياةَ إِن لم تنلْهُ
برُّه كالإِخاء خير غذاءِ
إِن تقدَّمْتَ لا يعوقك منه
عائق في منادح الأرجاءِ
ويعي ما تقوله ثم لا يلْـ
ـبثُ حتَّى يذيع في الأنحاءِ
من مديح تطري به مجدك الأمْـ
ـجد أوْ لبَّكَ السنيَّ الذكاءِ
إِن تُردْهُ تجدْهُ أو لم ترِدْهُ
لم تَخَفْ منه زورة الثقلاءِ
ما اختفى في دخيلةٍ منه إِلا
ما بَدا ظافرًا به كل رائي
ويْك إِن النسيم قد يُرمد الطرْ
ف بسَافي التراب والأقذاءِ
وهْو مثل الصديقِ حَرًّا وبردًا
في اختلاف الحالات والأجواءِ
وله عذرهُ إِذا اعتكر الجوُّ
وأنحى بالصَّرْصر الهوجاءِ
وعلى غِرَّةٍ يبلُّك بالمطْـ
ـرةِ من بعد رونق وصفاءِ
وهْو خدن الممات واسطة العدْ
وى رسول الوباءِ والأدواءِ

عجائب مألوفة

أليس عجيبًا أن أحدَّ بميتةٍ
ورأيي أتيٌّ للخلود نظيرُ؟
وإِنِّي أقضِّي العمر في جدِّ آملٍ
وأعلم أني للفناءِ أسيرُ
وإِن دهورًا بعدنا، ثم بعدها
دهور، توالى بعدهن دهورُ
وإِن على هذا الثرى عاش قبلنا
شقيٌّ بما نسعى له وأسيرُ
ولست ترى من لا يرى أن نفسه
لبابٌ لهذا الكون وهْو قشورُ
فلم يُجْدِهِ إِعزازه النفس إِن دنا
رداه فلم ينجدْ عليه نصيرُ
ويعلم كلُّ الناس هذا ولم يكن
ليردع عن بغي الحياة مغيرُ
وأن أرتضي للطرس ما أنا قائل
وإِن راعني أن الحياة غرورُ
وأغضبُ إِما سبني فمُ هالك
وأعلم ما يؤذي الغداة هريرُ
وأرهب صرف الدهر في كل طارقٍ
وأعلم أن الدائرات تدورُ
وأعلم لا يبقى سرورٌ ولا أسًى
وأحلَّ حبور أم أناخ ثبورُ
أليس عجيبًا أنني اليوم عاجبٌ
وعلَّ حياة ما حكاه سميرُ؟
وأن لا أرى الشرَّ الذي لا يمسني
وأحسب أني عالمٌ وخبيرُ
وإِن كان علمٌ فهْو أني أخاله
دهاني وإِلا فالبعيد يسيرُ
وأُنْكِرُ ما قد كنتُ في السعد مادحًا
به الناس إِلا أن يعود حبورُ
أليس عجيبًا أن نناط بمعجبٍ
من الرأي والمزجي الفعال شعورُ؟
وإِنَّ وجوه الكون فكرة ناظرٍ
سيفنَى، وكُنْه الكائنات ستيرُ
وأبغي صلاحَ الكونِ والناسِ مثلما
مضى في بناءٍ مالكٌ وأجيرُ
كأَني خلقت الكائنات وأنني
على الناس قاضٍ حاكمٌ وأميرُ!

عند بحر مويس شتاء

كمْ خَشَعَ العابرُ من قبلنا
على ضفافِ النهر وقْت الأصيلْ
أوْ في مساءٍ إِذ تُرى ظلمةٌ
قد عشَّشتْ في الدوح دوْحًا كفيلْ
وربما كنَّا الأُلى قد مضوا
وإن نأى الظنُّ وعزَّ الدليلْ
وما الذي ينأى بنا عنهمُ
من منظرٍ أو خاطرٍ أو ميولْ؟
كم منظرٍ تحسَب إِمَّا بدَا
من أخذه الفكر ووهمِ الذهولْ
أنكَ — والقلبُ خبيرٌ به —
أجلْتَ قِدْمًا فيه لَحْظ المجيلْ
الدوحُ كالمفكر في هدأة
إِذْ سكن الجوُّ سكون الكهولْ
أو ثاكلات طَال ثكلٌ بها
فَسكَّنَت من شجوها والعويلْ
أو صمتت من طولِ ما عمِّرت
كصمتة الشيخ الوقور الجليلْ
والنهر كالزئبق في لمعةٍ
ورَكْدَةٍ ما إِن بها من مسيلْ
عهدتهُ في صيفه لؤلؤًا
لو أن للؤلؤ سيلًا يسيلْ
والسحبُ كالأشجار قد عرَّشَتْ
في الأفق تبدو مثل ظلٍّ ظليلْ
أوْ قطع من حُلم غامضٍ
أو كمثار النقع أو كالطلولْ
والجو قد روَّع من قرِّهِ
كأنه قرَّ ممات يصولْ
أنفاس ثغر الموت في قرِّهِ
تخرج من ثغر لجسمٍ محيلْ
والأرض غبراء سوى ما بدا
من عشها منتشرًا كالفلولْ
كأنما الدجن غدا تُربها
وتربها الجَهْمُ كدجنٍ سديلْ
تشابهتْ في اللونِ عهدي بها
في صيفها، واللون غير القليلْ
عهدي بها كالخود في غرسها
زاهية الأصباغ شَتَّى الذُّيولْ
خِيلَ حدادًا إذْ دَجَا لوْنها
وهْو كعقب العرس حتْم البديلْ
خلاعة للصَّيْف خلابة
وفي الشتاء الحُسْنُ جمُّ الفصولْ
تباينَ الحُسْنان في روقة
لكنه زاد جلال الجميلْ
كم متعةٍ جاءت بها رهبَةٌ
كرهبة البرق وعادي السُّيولْ

قرب الموتى

يا رُوحَ إِلفِ أليفِ الموتِ والحُفَرِ
قُومي اسألي عن أليفِ الهمِّ والسهرِ
أوْ فابْعثي هاتفًا بالليل يُؤنسني
لو كانَ للميْت من شوقٍ ومن ذكرِ
وَحَلِّقي فوْق قومٍ كنتِ زينتهم
كالطَّيْر تهبط فوق الوكْر في الشجرِ
فإِنَّ نورك نور النجم يرشدنا
ورحلة العيش تحكي رحلة السفرِ
أو كالملائك تهدي وهْي خافية
وتشعر النفس طهرًا ليس في السِّيَرِ
عجزٌ عن الشرِّ لم أبْصرهُ في نفرٍ
يا شرَّ ما خَلَّفَ الأحباب من نفرِ
غرارَة ربما لو عشت ما بقيَتْ
إِذا عداك الرَّدى عن مهبط البشرِ
هل تلك طبعُ الصبا تودي الحياة به
لا بل غرار فؤادٍ غير ذي نُكرِ
فصانك الله في أمنٍ وفي كنفٍ
وقُدْسِ طهْرٍ كصون المرء للذُّخرِ
كأنما أنتِ ذُخرٌ لا يجود به
على الدُّنى وهْي من ضَيْرٍ ومن أشرِ
ما أقربَ الميْت من حيٍّ وإِن بعُدَتْ
مكانة بين هذا الوِرْدِ والصَّدرِ
إِن الأُلَى خَلَّفُونا بعدهم ومضَوْا
ما خلَّفونا وإِن غابوا عن النظرِ
همْ في الأمانيِّ والأوراح والذِّكْرِ
منَّا وفي القلب والأشجان والفكرِ
فكيف تجزعُ من فقدٍ وما انتقلوا
إِلا إِلى النفسِ حرزًا ريم من غِيرِ
يا قربَ دارِهِمُ من واصل لَهُمُ
بالنفسِ إِن لم يكن بالعين والأثرِ
ووحشة النفس من حيٍّ يُغايرها
أشدُّ من وحشةٍ في السمع والبصرِ
من حاضرينَ وإِن ماتوا وإِن بعدوا
وإِن غَدَوْا كحديث الركب والسَّمَرِ
وربَّ ذكرى تعيد الميْت في شبحٍ
يكادُ يُلْمَس لولا رادِعِ الحذرِ
ماضٍ من الدهر والأقوام يُخبرنا
أن لا مسافة بين المهدِ والحُفرِ

نحن والزمن

مقدمة

الزمن كما يفهمه الإِنسان فكرةٌ من أفكاره، ونسبة ومقياس من صنعه، فهو يقيسه بإحساسه بأمور نفسه، وبالمرئيات والمحسوسات وما يعتريها من تحوُّل، وفكرة الزمن هذه أمر نسبي، شأنها شأن الإِحساس بالحرارة والبرودة، أو بالأبعاد والحجوم والألوان والأشكال، ومن المستطاع أن يتصوَّر العقل مخلوقًا آخر غير الإنسان يختلف في حواسِّه، فتختلف كل هذه الأمور في نظره عنها في نظر الإنسان، وهي أيضا قد تختلف في حواسه، فتختلف في حواسه، فتختلف كل هذه الأمور في نظره عنها في نظر الإنسان، وهي أيضًا قد تختلف في نظر الإِنسان في حالاته المختلفة من شقاء أو سعادة، أو مرض أو صحة، والعجيب أن الإِنسان في خياله يَنْسِب إِلى الدهر مثل هرمه لقدمه، فيصوِّرُه كأنه شيخ مُفْنٍ في يده منجل، يحصد به الناس والخليقة، جيلًا بعد جيل، والدهر خليق أن يُمَثَّل بفتى في ريعان الشباب!

فالإِنسان يهرم، والدول تشيخ وتفنى، والأجيال تنقرض، والدهر هو الدهر. ومن أجل ذلك تصوَّر بعض المفكرين الدهر كأنه زمن حاضر لا ماضي فيه ولا مستقبل، وأما الماضي والمستقبل ففي الناس، والحقيقة أن هذه الفكرة في كنه الزمن لا تختلف عن الأولى ما دام الزمن نسبة يقيسها الإِنسان بإِحساسه.

وإذا كان الزمن كذلك فمعاداة الناس للزمن معاداة لأنفسهم، ونسبتهم الحيف والظلم إِليه هي نسبة الظلم إِلى أنفسهم!

الناظم
ينشد البحر خرير الحقب
أم خُفُوقُ القلب نَبْضُ الزمنِ
أم ترى الأفْلاك في دوراتها
رتَّلتْ منهُ خفيَّ اللَّحَنِ؟
فرش الناسُ له منهم وُجوهًا
خَدَّدَ الدهرُ بها ما خَدَّدَا
أثرٌ في سيره من قدمٍ
جَعَّدَتْ ما كان بَضًّا أمردَا
زعمَ النَّاسُ إِذا أمضاهم الـ
ـدَّهر أنْ أمضوا من الدهر سنينْ
يستطيع البذل مَنْ يقوى على
خَزْنه، هيهاتَ ذا من هالكينْ
كم ملوك وَدَّهُمْ لو تُشْتَرَى
منهُ عند الموت بالذُّخرِ التليدْ
سنَةٌ أو ساعةٌ أو طرفةٌ
فإِذا الدهر قضاءٌ لا يحيدْ
إِيه يا دهرُ لقد شاطرك الْـ
ـحُكمَ في الناس قضاءٌ لا يَحولْ
أَرْدِهِ يا دهرُ واعقدْ غيره
إِنما القِرنُ على القِرنِ يصول
كم شقيٍّ أبطأ الموتُ له
ودَّهُ أنْ لو يكون الأسرعَا
سَلَّمَ الدهر عليه مثقلًا
ثم ما أبطأ حتى هُرِعَا
وسعيد يجتني من عيشه
زهرًا يرْجو لو الدهر تأنَّى
فسواء مُتْعَسٌ أو مُسْعَدٌ
أيْن من يَحمد خَطوَ الدهر أينَا؟
نحن نبغي من زمان فُسْحَةً
هل ربحْنا من زمان قد قضى؟
لو يعود الدهرُ مردود الخُطَى
لفعلنا فِعْلَنا فيما مضى
وصفُوا الدهرَ بشيخٍ حاصدٍ
أشْيَب في يده كالمنجلِ
وَهِمُوا في شيب دَهر يافعٍ
ذي فتاءٍ خالد لم يَنْصَلِ
يسرق الدهر بهاءً رائعًا
ويُعير النَّؤْيَ حُسْنًا أروَعَا
فهْوَ كالرسَّام يمحو صورةً
ثم يستنْبطُ رسمًا أبدعَا
وتَرَى الدهر مُغيرًا آسيًا
يدهُ تأسو وأخرى تَجرَحُ
والذي في القوم بالرزء يصول
يمنحُ السلوان فيما يمنحُ
ولَعَلَّ المُضْمَرَ المخبوءَ من
مصرع الدهر يُرى بالأَعْيُنِ
مصرعُ الدهر مَمَاتٌ للدُّنى
كيف يبْغيهِ الورى بالإِحنِ؟
موتُه موتٌ لمن قد قاسه
باتصال الفكر أو خفْق القلوبْ
عجبًا نحن خلقناه فما
نسبةُ الظلم إِليه والعيوبْ

أقوام بادوا

مفتاح القصيدة

جعلوا لِطبع اللؤم كل قداسة
وتحرَّزُوا من سنة المختار

المختار هو النبي ، وكل من نَبَذَ الله ورسوله، لا بد أن يصير إِلى ما هو موصوف في هذه القصيدة من الصفات؛ ونعني بالنبذ نَبْذ القلب وإِن لم ينبذ اللسان، ولا نعني أحدًا بالذات، وإِنما هي صفات يعرف كل متصف منها أنها شائعة حيث الاضمحلال والبوار.

الناظم
تركوا اللُّبابَ وشاقهم ما شانَهُمْ
من بهرجٍ في مطلب غرَّارِ
عاشوا عبيد كلامهم لم يدلفوا
من خلفه لحقائق الأفكارِ
جعلوا حطام اللؤم أعلى مكسبًا
وأعزَّ محمدةً ليوم فخارِ
يخفون أوزار النفوس بمنطقٍ
فينمُّ فاضح خافيَ الأوزارِ
حسبوا اغتياب الغائبين مطهِّرًا
لنفوسهم من خزية أو عارِ
كلٌّ يغار من الإِجادةِ جُهْدهُ
مثل النساء تغار كل مغارِ
يحكي عظيمُهم الحقيرَ سفالة
متكثِّرًا بدناءة الأنصارِ
يخشى البريء قضاءهم من خطةٍ
لم تُعفِ ناسًا من هوى الأصهارِ
العدل فيهم أجر كل مملَّقٍ
جعلَ النفاق عصابة الأبصارِ
كلٌّ يعاقب من يريد أليفه
ضرًّا له لا الكره للأشرارِ
الكِذْب عجز فيهمُ وخساسةٌ
والصدق عبد مزدرًى متواري
ندم المجيد على إِجادة قوله
أو فعله من ضيعةٍ وضرارِ
الضيمُ ما يجزى اللئامُ مُجوِّدًا
فيصون كلٌّ عجزه لفخارِ
سبقٌ بمضمار الحياة يحوزه
متخلِّفٌ بالغشِّ في المضمار
وتفرقوا إِلا لدى التهويش والـ
ـتَّضْليل فهْو مؤلف الدُّعَّارِ
وتخالُهم حشرات روْثٍ ما لهم
إِلا به حظٌّ من الإِكثارِ
وكأنَّ كلَّ إِجادة قد دهورَتْ
من عقلهم في بؤرةِ الأوضارِ
فكأنَّما أذهانهم بَالُوعةٌ
أخفتْ نفيسَ الدرِّ في الأغوارِ
كلٌّ يلوذ بإِثرَةٍ ويخالها الْـ
إِيثارَ بئس مزيَّف الإِيثارِ
ففعاله ومقاله وسكوته
للُّؤم لا فضلًا وحسْنَ جوارِ
دأبوا على إِفخاء حقٍّ، ما لهم
في حجبِه من مكسبٍ ونضارِ
لؤمٌ لعمرك لا مدًى لصياله
وضئولةٍ تحدو لسفل قرارِ
الطيش أغلب للتأمُّل فيهِمُ
حتى لدى العظماءِ والأخيارِ
سبق اللسان حصاتهم فكأنما
سكر العقار لهم بغير عقارِ
رانَتْ على مهْجاتهم وقلوبهم
وعلى الحجا والسمع والأبصارِ
شيمٌ تُوَرَّث حقبةً عن حقبة
كتخلف الأرجاس في الأنهارِ
أو مَا دهى أوصالَ جسم من ضنًى
يمضي ويترك باقي الآثارِ
جعلوا لطبع اللؤم كلَّ قداسةٍ
وتحرَّزوا من سنة المختارِ
هات المربِّي للكبار ولا تقلْ
يَا أيْنَ مُعْوِز رشده لصَغارِ
هيهات يَصْلُح نشءُ قوم لم يَجِدْ
خُلُق الكِبارِ يضيء مثل منارِ
عدوى الضئولة والخساسة فيهمُ
عدوى الوباءِ تسير كل مسارِ
قومٌ إِذا ابتدروا السباب رأيتهم
يطلون موضع عُرِّهم بالقارِ
متعاظمين على نجاسة أنفسٍ
نتجت نتاج الدود في الأقذار
ستر الخسيسُ خساسةً بخساسةٍ
في أنفس الأعوان والأنصارِ
متعظِّمًا يبدو كريمًا ساميًا
متحليًا بفضائل الأطهارِ
وترى الوقار ولا وقار وإِنما
أخفوا دعارة أنفس بوقارِ
ودعوا إِلى الإِصلاح دعْوَةَ مائقٍ
يسعى إِلى الأرباح سعْي تجارِ
هم يبتغونَ الجاه إِن لم يبتغوا
مالًا بدعْوة مصلح ثرثارِ
لم تدرِ وَحْيَ المصلحين حصاتُهم
فتشبَّثوا بزوائف الأفكارِ
صارَتْ وسائل عيشهم ما غالَهُ
من طبع لؤم سائق لبوارِ
فَقَدَ الحياءَ صغارُهم من ضيعة
فغدوا كبار الفخر غير كبارِ
صنعوا الأذى من غير ما سببٍ ولا
يُؤذي لغير القوت وحشٌ ضاري
ضلَّت غرائز شرهم عن أصلها
في صون عيشٍ أو لدفع ضرارِ
فغدت دناءة أنفسٍ وخساسة
كيدًا بلا كسب ولا أوطارِ
وحديثهم كالحك يهتك عرَّهم
فأخو السفاهة منه كأسٍ عاري
العدل ما وهبَ السمير سميرَه
والرأيُ للأوْشاب والأغمارِ
جَرُؤَتْ صعاليكٌ على ما لم يكن
في فهمهم، فقضوا بغير تماري
فوْضى لعمرك لا صلاح لشأنها
كيف الصلاح لأمرِ هاوٍ هاري؟
عادوا الذكاء خساسة فكأنما
نبذ الذبالة في الظلام الساري
إِلا الدعاوى الباطلات فإِنها
عادت كعَوْد مزيَّف الدينارِ
يتمرغون مجانةً، فنفوسهم
وجسومهم كمزابل الأوزارِ
كتمرُّغ المفلوك دغدَغَ جِلْدَهُ
عضٌّ من البرغوث في الأقذارِ

العداء والفناء

عفا الجاني وقد بلغ التشفِّي
وبعض العفو من فرح الشَّماتِ
للناظم
قد يُعزِّيك شامت يتشَفَّى
باجتلاء الآلام لا بالعزاءِ
للناظم

مقدمة

إِن العفو لا يكون من المظلوم المجني عليه وحده، بل قد يكون أيضًا من الجاني الظالم إِذا أقنع نفسه أنه المظلوم، أو إِذا أقنع الناس كي ينال عطفهم ومساعدتهم له في ظلمه وشره. وكثيرًا ما يساعد الناسُ الشريرَ في شرِّه، اعتقادًا منهم أنه هو المظلوم. أو لأن مساعدته في الشر ضد المظلوم فرصة لإراحة ميل كثير من الناس لالتذاذ القسوة؛ كما هي الحال في مرض «السادزم» عند إِطلاق هذا المصطلح عليه في المعنى الأعم. وهذا النوع من العفو الذي يجود به الظالم إِنما هو من فرح الشماتة، وهذا الشعور يشبه شعور الشامت الذي يعزي المصاب، ويخفي فرح الشامت ويظهر الأسف. وهو إِنما يعزي كي يرى آلام المصاب أثناء التعزية. وهذه القصيدة تصف النفس الإِنسانية بين عواطف الخير والشر. وقد تجتمع الأضداد منها في نفس واحدة من غفران وشمات، ومن حقد الحياة وصفح الممات، كا تصف عبث شقاء الحروب بين الأمم التي يتحالف بعدها الخصوم ويتعادى الأصدقاء.

الناظم
إِذا ما دنا الموتُ من هالكٍ
وأيقن ألا يطول البقاءْ
وقد زال ما كان مِنْ نشوةٍ
ومن شِرَّةٍ نال عنها العزاءْ
ولاحَ له عيشه مائلًا
وقد بزَّ عما جناه الرياءْ
وأُفهِمَ ما كان من حرصه
وأُبْصِرَ ما قد طواه الخفاءْ
يُرَى أسفًا أنْ عَدا أو جنى
وإنْ كان منه الأذى والعداءْ
وليس يُرَى آسفًا لاغتفار
دعاه قديمًا فلبَّى الدُّعاءْ
فليس على صفحه آسفًا
ولكن على النَّيْلِ ممَّن أساءْ
أيأسف أن ضاع ثأرٌ سُدًى
ومُتِّعَ خصمٌ له بالبقاءْ؟
عدوَّانِ عاشا على إِحنةٍ
وباعا السماحة بيْع الإِماءْ
أباحا النِّفاق وكيْد اللئام
لنَيْل الحطام وكَسْب الهباءْ
إِذا ما دنا الموت من واحد
أيشمت خصم له بالفناءْ؟
أيفرح مثل الجبان استراح
وَبُشِّرَ بالأمن بعد العداءْ؟
أيطعنه طعن نذل خصيمًا
صريع التراب مُراق الدماءْ؟
ومرأى الحِمام كمرأى السَّقام
يذل العُتُلَّ ويُخزِي الجفاءْ
هو الموت يَشْفِي قلوب العِدَا
ويختم بالصلح حرْب البقاءْ
وقد يُطْلَب الصلح من فرحة
تعير الشماتة ثوب السخاءْ
وكم من عداءٍ غدا أُلْفةً
فيا عبثًا إِذْ تراق الدماءْ
كم احتربَتْ أمم ثم عادت
كأنْ لم تَذُقْ في الحروب الشقاءْ
ألم تسمع الأرضُ نَوْحَ الجريح
يُودِّع حتى جنون الرجاءْ؟
أما اختلطت بالصديد الدماء
أما أفعم الموت نتْنَ الهواءْ؟
وكم عنُقٍ لقتيلٍ، به
عضاضُ عدوٍّ صريع العداءْ
عضاضٌ يحاوِل خلد الضَّغائِـ
ـنِ في جسد خَلْقُه للفناءْ
فيا عبثًا لجهود الأنام
سيمضي الرخاءُ ويمضي العناءْ
ويُصْبح من كان خصمًا لدودًا
عزيزًا ويُبْغَضُ إِلفُ المساءْ

مرأى الجمال وذكرى الجلال

مقدمة

لمناظر الطبيعة الرائعة الجليلة لذة في النفوس مثل مناظر الجبال الشاهقة، والهاويات العميقة، والأعاصير وأثرها، والبحار وأمواجها، وهي تبعث اللذة في النفس حتى في مخاوفها إِذا لم تتملك مخاوف مناظرها النفس بالذعر والرعب، وقد ينقلب الحنين المقهور في النفس إِلى الجمال فيصير وَلوعًا بمناظر الجلال والروعة، كما أن مناظر الجلال والروعة قد تشحذ الحنين إِلى الجمال وتذكِّر المرء به، وقد تطغى كل من العاطفتين على الأخرى، ولهما أيضًا صلات أخرى غير ما ذكرنا. ومن مسرات التفكير والفنون أن يتتبع الإِنسان صلات العاطفتين في نفسه. وهذه القصيدة من قبيل هذا التتبع.

الناظم
ذكرتكَ في البحار الزاخراتِ
وفي مجرى السفينِ الجارياتِ
كأنَّ البحرَ حيٌّ ذو جنانٍ
وموجُ اليمِّ نبْض النابضاتِ
وفي ذالك الجلال بلاغ راءٍ
وروْع للنفوس الواعياتِ
ولكنِّي ذكرتُكَ يا حبيبي
كما حَنَّ المريض إِلى الحياةِ
كما حنَّ الهزار إِلى ربيعٍ
وأفنان الرياض على الأضاةِ
وكم غلب الجمالُ على جلالٍ
كما غلب الرقادُ على الْتفاتِ
ذكرتك والقبور تردُّ طرفي
وتسخر من هيام بالشياتِ
وتخبرني بأن الحب فانٍ
وأن العيش صنْو للماتِ
ولكني ذكرتك يا حبيبي
وذاك الذكر خير الذكرياتِ
ذكرتك والسقام يبيد لبِّي
ويسلي النفس عن ماضٍ وآتِ
ويلهي النفْس عن حبٍّ وشِعْرٍ
وعن سحر العيون الساحراتِ
ولكني ذكرتُكَ يا حبيبي
كذكري للسنين المقبلاتِ
ذكرتُكَ في الطلول الدارسات
وآثار العصور الغابراتِ
أرى الأهرام كالأعلام تزهو
على عبث الصروف المهلكاتِ
فأُبْصِرُ مَنْ مضوا وأرى اعتزازًا
لهم بالمصبيات الفانياتِ
فيضؤُل عيش هذا الناس حتى
لينسى المرء ذِكْر المصبياتِ
ولكني ذكرتُكَ يا حبيبي
كذكري للأمور الخالداتِ

حواء الخالدة (من شعر الصبا)

أنتِ يا مَن ألَّفَتْ بين الفنونْ
وهْي لولا ما جنتْ منك ظنونْ
دوحةُ الفن التي تحبو الورى
بجناها من قطوف القاطفينْ
كلُّ لحنٍ أو قريضٍ أو دُمًى
نُحِتَتْ أو صورة، مِنْكِ تكونْ
كلُّ من قد خلبتْ لبَّ الرصين
من حِسَانٍ جمعتْ سحر الفتونْ
كُنْتِها للناس حالًا بعد حال
تحفة فاتنةً للناظرينْ
فلبستِ الحسن شكلًا بعد شكلٍ
وخبرتِ الحبَّ حينًا بعد حينْ
ورأيْت الكونَ في ضحْوَتِهِ
وفهمتِ الناسَ في ضيقٍ ولينْ
كنتِ أُمًّا، كنتِ أختًا، كنتِ زوجًا،
كنتِ في البؤس عزاءَ البائسينْ
فعلى صدرك يبكي همَّه
وأساه مُوجَعُ القلب حزينْ
كم نفوسٍ وقلوبٍ بسطتْ
لك ما تضمر في ماضي السنينْ
فعرفتِ القلب ما ينشده
وعرفْتِ النفس والسر الكمينْ
وقرأتِ الروح دهرًا بعد دهرٍ
وبلوتِ الخلق في مر القرونْ
أيُّ قلبٍ مغلق لم تفتحي
أي سرٍّ للورى لا تعرفينْ؟
كنتِ حواء التي من أجلها
يندب الفردوسَ كلُّ العالَمِينْ
وقليل لك يا حواء أن
يفقد الخلْقُ جِنان الخالدِينْ
آدمٌ كان بجهلٍ قانعًا
ناعمًا بالجهل في خفضٍ ولينْ
ليس يستطلع أمرًا غامضًا
في ثمار العيش والسرِّ المصونْ
بك شامَ الكون غضًّا زاهيًا
أكذا الغبْن، فيا نعم الغبينْ
جذوة الفطنة في اللبِّ وفي
نفسه من حسنك الغض شئونْ
كفِّري في النَّسل عن إِثمٍ مضى
وثقي في الله خير الغافرينْ
لم يكن إِثمك إِلا قدرًا
كي يلذَّ الناسُ سعدَ الهالكينْ
لا يحسُّ السَّعدَ إِلا هالكٌ
قد أحسَّ الهمَّ في القلب الحزينْ
كنتِ هيلينَ التي من أجلها
خُرِّبتْ طروادةٌ ذات الحصونْ
وقليل لك يا هيلين أن
يهلك الأبطال في الحرب الزبونْ
كنتِ شيرينَ التي قد ذلَّلَتْ
عنْقَ كسرى وهْو ذو المُلْك المكينْ
كنتِ تاييس إِذا ما خطرتْ
خفَقَ القلب كطير في وُكُونْ
كنت سيفُو إِذ رمت بالشعر كالْـ
ـجَمْرِ تُذكِي لفْطَهُ للسامعينْ
كنْتِ إسبزْيا التي قد فتنَتْ
باقْتِران الحُسْنِ والفهم الفطينْ
كنتِ ليلى، كنت بثْنًا، كنت عَزَّا،
باعثات الوجْد والشعر المبينْ
كنت ما كنتِ ولكن أنتِ أنتِ
لك سحر الضوء والليل الدجينْ!
وغدًا كيف تكونين وما اسـ
ـمُكِ بين الناس في الآتي الشطونْ؟

جنون الأقوياء

ملكوا الأرض واستباحوا حِمَاها
واستطالوا بجِنَّة الأقوياءِ
وسعَوْا ينشرون في الأرض سرًّا
مُنكرًا في شريعة الأتقياءِ
تارةً في الخفاء بالمكر يَعْدُو
نَ وطورًا في جهرة العظماءِ
أهْوَنُ الوِزْر ما أتوْه جهارًا
من صيالٍ وقسوة وبلاءِ
والذي في الخفاء أقتلُ للنفْـ
ـسِ وأقسى لصولِه في الخفاءِ
إِن رأوا نقْص أنفس في خصومٍ
استزادوه بالأذى والدهاءِ
أفْسَدُوا أمرهم ودسوا دُعَاةً
كي يهيجوا تشاحُن الأشقياءِ
واستمالوا سمْع اللئيم بلؤمٍ
زاده خسَّةً على الأدنياءِ
كصيال الشعوب بالمكْر والكيْـ
ـد وإِن أحرزت صفات العلاءِ
حَلَّلُوا للوشاة أن تشتفي من
لاعج الحق بالأذى والعداءِ
خدعتهم أرصادهم أم رَأَوْا أنَّ
سماحًا بشرهم كالجزاءِ؟
مَكَّنوهم مما أرادوا من الشَّرِّ
جزاء كخونهم والرياءِ
ذاك أن العدوَّ أرخصُ شأنًا
من تَحامِي الإِجحاف في الإِيذاءِ
قرَّظوا العلم والحضارة جهرًا
وتقاةً لله أو للقضاءِ
ثم ساسوا بالختْل في السرِّ ما شا
ءوا وشاءت جوامح الأهواءِ
لا رقيبٌ على الخفاء ولا الصوْ
لة فيه ولا عديم الحياءِ
عَدِموه للكفر بالله والنا
س سوى ما رجوا من الآلاءِ
عَلَّمَ العلْمُ صائلًا إِنما النا
س كنمْلٍ سواؤهم كسَواء
زعموا زَعْمَهُمْ وسمَّوْه علمًا
واستطالوا بلؤمِ ذاك الذكاءِ
وأباحوا لحقدِ كل وَلِيٍّ
مُثْلِجًا نار إِحنة الأحشاءِ
ثم قالوا وسَطَّروا في ضميرٍ
إِنه من ضرورة الأشياءِ
قسْ على ما بدا من الشرِّ جهرًا
في حروب ونزوة وعداءِ
ما أجَنُّوه وهْو أبلغ في الكذْ
ب وفي كل قسوةٍ واعتداءِ
وقديمًا جُنَّ القويُّ بما طا
ع له من تزلُّف الضعفاءِ
وضعوه في منزل الله كُفْرًا
فطغى واستباح سفْك الدماءِ
ورأى الخير والفضيلة ما شا
ء وإِن كان من أذى الأدنياءِ
ورأى الشر والكبائر ما عا
ف وإِن كان سيرة الأبرياءِ
وكذا المرء وهْو ليس وليَّ الْـ
ـحُكْم يطغى بنصرة اللؤماءِ
وسواءٌ شعبٌ وفرد وذو السُّلْـ
ـطان أو سادر من الدهماءِ
صنعوا الشرَّ حسْبةً ولوجْه الله
شاهت وجوههم من رياءِ!
أو لحقد قد مَوَّهُوهُ بخيرٍ
وتباهوا بحسن ذاك الطلاءِ
أو برأيِ الأحرار صاغوا قيودًا
واستباحُوا في الناس سفْك الدماءِ
وجنون القويِّ أقبح من قسْـ
ـوة حُسْن يقسو بغير ذكاءِ
إِيه لغز الحياة هل دورةٌ للـ
ـشَّر والخير غير ذات انتهاءِ؟
لعبة ما أراه أم خبل الأنْـ
ـفُس أم نزوة من الحمْقاءِ
إِحَنٌ في الحياة مثل خطوطٍ
نسجوها في البُرْدَة السِّيَرَاءِ
فغدت نهْزة الفنون، هو الفنُّ
كنحل يَشتار أرْيَ الشقاءِ
هل لسحْر الفنون أنْ دَلَف الدَّهْـ
ـر وساغ الأنامُ لؤمَ البقاءِ
سحرُها يترك اليَبَابَ عمارًا
حافلًا بالنعيم والآلاءِ
ويُحيل الخسيسَ من معدن العيْـ
ـش شريفًا بصنعة الكيمياءِ

خطرات في الحياة والموت (عند رؤية جمجمة)

رحيقك يا كأسَ النهى والمشاعرِ
ومهبطَ سر الله بين السرائرِ
أكأسَ الحجا أين الرحيقُ ترشَّفتْ
علالاته نشوى النهى والبصائرِ
أجُرِّعهُ ثغرٌ من الموت ظامئٌ
طوى ما طوى من فطنة وخواطرِ
حوتْها عوادي الدهر إِلا أقلها
إِذا خطَّ لفظ في بطون الدفاترِ
بدا الناس جيلًا بعد جيلٍ كأنهم
تهاويلُ سحر أو سمادير ناظرِ
وما تدركُ الألباب منهم عديدهم
إِذا استجمَعَتْهم بين ماشٍ وحاضرِ
كأن لم يَلُحْ منهم إِذا الموتُ غالَهُم
وَمِيض الثنايا أو بكاء المحاجرِ
ولم يعرفوا الآلام تُحْسَبُ أنها
ستخلد في جسمٍ إِلى الموت صائرِ
فأين مَضَتْ أحقاد قوم كأنها
لهيب جحيمٍ خالدٍ في السرائرِ؟
وأين ولوعٌ بالجمال كأنه
زعيم بتخليد الوجوه النواضرِ؟
وأين فِعالٌ يحسب الناس أنها
على جبهة الأيام من وشْم قادرِ؟
وأين جيوشٌ دَكَّت الأرضَ خيْلُها
مضَتْ حيث لا تمضي خواطر شاعرِ؟
وأين الغزاة الفاتحون وقد بدوا
كما تبعث الأشباحَ نفثةُ ساحرِ؟
فهل أنت ممن قد جَنَتْه سيوفهم
وداسَتْه خيلٌ تحتها بالحوافرِ؟
أمِ ازدان تاجٌ قد لبست بحكمةٍ
بها اسْطَعْتَ تصريف الصروف الدوائرِ
وهل أنتِ ممن دبَّر الشرَّ لُبُّهُ
وأَحْكَمَ زهرُ النفس جرَّ الجرائرِ؟
أم الخيرُ ما حنت إِليه نوازعٌ
لديك وإِن لم تحتقب خيرَ غادرِ
لقد كنتِ وكْر اللبِّ لو أن عاديًا
من الموت لم يهبط عليه بكاسرِ
بِكِ ارتاعَ مسعودٌ إِذا ارتاح يائسٌ
بذكرى الردى يرجو عُلالَةَ صابرِ
قد اختلف الأقوام في العيش والردى
فمِنْ ظافرٍ يهوى الحياة وخاسرِ
هنيئًا لكلٍّ ما يرى من عُلالَةٍ
بحسن حياةٍ أو بنجوى المقابرِ
وما علَّلَتْ نفس الفتى بمنيَّةٍ
ستطوي هموم العيشِ طيَّ الدساكرِ
سوى رغبة في العيش يرهب صرفه
فيعدو على البُؤْسى بذكرى الغوابرِ
بذكرى الحتوف الجاليات على الورى
من الراحة الكبرى أجلَّ البشائرِ

يوم مطير

نهار تدَانَى الدَّجْنُ في عُلْوِ أفْقِهِ
مبلَّلةٌ أرجاؤه ومَناكِبُهْ
خبَتْ شمسه كالجمر يخبو لهيبُهُ
وعاد رمادًا حسنهُ وعجائبُهْ
دجا مثل وجه الهمِّ إِلا جلاله
فللدجنِ سحر يحزن النفس خالبُهْ
ثقيل على القلب البهيج عُبُوسُهُ
ولكنه قد يسْحر القلب كاربُهْ
كما كان بعض الحزن للنفس شائقًا
تعَاقِرُه في نشوةٍ وتقاربُهْ
ترى قطراتِ الغيث كالخيل أُطلقَتْ
لكسْب رهانٍ أَحْرَزَ السبقَ كاسبُهْ
وتحسبها كالطير تهفُو تنزِّيًا
تَنزِّي الدُّبَى إن أَهْرَقَ الغيثَ ساكبُهْ
كأن الصِّلالَ الزاحفاتِ على الثَّرى
تجوس إِذا ما الغيْث جاست سواربُهْ
كما عاج حيرانٌ يمينًا ويسْرةً
من الذعر، شرُّ الذعر ما عاج صاحبُهْ
على الأرض والجدران والدوح قَطْرُهُ
ويُدْفَع في وجه المشَرَّدِ حاصبُهْ
أيسطو عليه الغيث يغسل نحسه
أم الغيث من لَهْوٍ تَراه يداعبُهْ؟
كلهْوِ غلامٍ ملَّكَ القسْوُ قلْبَهُ
إِذا حيوانٌ هابَه فهْوَ ضاربُهْ
سجية كل الناس من هاب شرَّهم
رموْهُ ببأسِ اللؤم والخوفُ شائبُهْ
ويعزو خيال المرء للكون رُوحَهُ
مناقبه تُجْلى به ومثالبُهْ
إِذا رنَّق الترْبُ الهواء انبرى له
من الوَدْقِ طُهْرٌ يغسل الجو صائبهْ
ترى البرق فيه مُصْلِتًا سيف نقمة
لها الرعدُ صوت يذهل اللبَّ راعبُهْ
إِذا خف كان الغيث لهوًا ونعْمةً
وإِن لجَّ لاحتْ للعيون خرائبُهْ
ويطغى على الوادي بجيشٍ عَرَمْرمٍ
مسالكه مذمومة وعواقبُهْ
يخفُّ على لوح الزجاج فصوته
طنين فراشٍ مَرَّ باللوح حاصبُهْ
وطوْرًا يلحُّ الودقُ منه فصوته
خريرٌ كما يسْتحْلِبُ الدَّرَّ حالبُهْ
ويرنو إِليه المرءُ من ثقب بيته
كأنَّ غريبا يتقي منه هائبُهْ
وطوْرًا ترى الغلمان تلقط طَلَّهُ
يداعب صنْوٌ صنْوَهُ ويلاعبُهْ
ترى كلَّ لَوْنٍ بعده قد زها به
كأنَّ طِلاءً فوقه لجَّ خَاضبُهْ
يُعَلِّقُ قرْطًا في ذُرى الدوح قطْره
فتحسبه قد نظَّم الدُّرَّ ثاقبُهْ

السكون بعد النغم

أَفْحَمَ الشجوُ مقولَ النغم العذْ
ب فأمسى هذا السكونَ المهيبَا
مثلما تفحم الشجون خطيبًا
صار في صمته قَئولًا خطيبَا
كسكوتِ العشَّاقِ في نشوة الْـ
ـحبِّ تناجي فيه القلوبُ القلوبَا
أو سكوت اللهيف فوجئ بالبُشْـ
ـرى ويخشى من حسنها أن تخيبَا
أو سكوت الشباب في حُلم الآ
مالِ من قبل أن تُعاني المشيبَا
أو سكوت الخشوع في صَلَوَات الْـ
ـقلب صار البعيد منه قريبَا
أو سكوت الأم الرءوم حنانًا
وابنها نائم حَمَتْهُ الخطوبَا
حلمتْ حلمها بما سوف يسعى
في مساعيه جيئةً وذهوبَا
من ثمار الحياة تختار أحلا
ها له نعمة وسعدًا وطيبَا

•••

نَغمٌ خلَّفَتْ بوارًا لِلَحْنٍ
دقَّ عن أن تصيبَ سمعًا طروبَا
وكأنْ لم تزل بمسمع مسحو
رٍ من اللحن آملٍ أن تئوبَا
فهْو يُصغي لعودة الصوت منها
وهْي في نفسه تدبُّ دبيبَا
سَحَرَ القلبَ شدوُها أم سكونٌ
خلَّفَتْه فكان سحرًا حبيبَا
عجب يسحر السكوت أم اللحْـ
ـن يناجي في ذا السكون الغيوبَا
وكأنَّ الأصداء من بعدها في الـ
ـنَّفْس تشدو وتستثير الوجيبَا
هامسات في النفس همس مُسِرٍّ
بائح بالهوى ويخشى الرقيبَا
في سكون كأنما هدأ الكَوْ
نُ خشوعًا لها وسحرًا عجيبَا
هدأة الكون في المساء وقد يخْـ
ـشع راءٍ والشمس تحدي غروبَا
فكأنَّ الحياة عادت سكونًا
كسكون الردى رهيبًا مهيبَا
تحسب الدهر ساعةً دقَّها قد
منع الصمت صوته أن يجوبَا
ساعةً تُوهِم الورى أن هذا الْـ
ـكون قلْبٌ ما إِن يحس وجيبَا
تحسب الدهر مسقط الماء غال الْـ
ـماء فيه جموده أن يصوبَا
فدويٌّ بالذكر في النفس منه
وسكوتٌ في الأذْن يسبي القلوبَا

قيد الماضي

أخذنا عن الماضي قليلًا من النُّهى
وأكثر ما نِلْنا الهواجس في النَّفْسِ
فمن غامض لا يدرك الفهمُ فَهْمَه
ومن واضحٍ كالخطِّ في صفحة الطرسِ
فمن قَسْو ذي خوف من الموت والأذى
ومن ضغْن مهمومٍ من الفكر والحدسِ
ومِن حقد ذي حقد يرى العيش كلَّه
ظلامةَ مغلوب على الغدِ والأمسِ
ومن كيد لاهٍ أَشْرَبَ العيشُ قَلْبَهُ
لذاذةَ صنع الشرِّ في الجهر والهمسِ
ونِلْنا، وما زال الذي كان كائنًا
يدافع عنه المرء بالسيف والفلسِ
يدافع عنه المرءُ بالحق والهوى
ويسعى له الأضداد ندبًا إِلى نكسِ

•••

ويغرى به حتَّى الذين شقاؤهم
بأن يخذل الإِصلاحَ ضغْن ذوي النحسِ
حقودُ قلوبٍ لا يُداوَى فسادُها
فتدعو ذوي الآمال فيهم إِلى اليأسِ

•••

يريدون مَنْع الحربِ والحربُ سُنَّةٌ
إِلى أن تُفيق النَّفسُ من إِثرةِ النفسِ
فهل يدركون الطهر من قبل عمرةٍ
وطينتهم معجونة الدم بالرجسِ؟
ويا ويلهم شبَّتْ عن الطوق حرْبُهُمْ
وأَزْرَتْ بفعل السيف والروح والترسِ
وظلُّوا حيارى خشيةً من دمارها
وكلٌّ يرجِّي نفع أحداثها الحُمْسِ
وكلٌّ يعاف العدلَ إِلَّا لنفسه
سجية لؤم هل تزول من الجنسِ
وتأبى سجايا الشرِّ طهرةَ عادل
تغيَّر فيهم مأتم العيش بالعُرسِ
سواءٌ لعمري طبْع فرد وأمةٍ
همُ الأنس ما أبدَوْا سوى نجس الغرسِ
وكيف تزول الحرب، والسِّلْم بينهم
كحربٍ طغت بالقهر والمكر والخلسِ؟
وكم قدَّسوا قُدسًا لتطهر أنفسٌ
فأزرى جوارُ النفس بالدين والقدسِ
خميرة عيش شرُّهم وحقودهم
فكيف يراد العيش للأمن والأُنسِ؟
بناء المعالي كان بالشرِّ قائمًا
وما طربوا إِلا إِلى نغم النحسِ
وما شربوا من لذة العيش شربة
صفا ماؤها من كدرة الهمِّ في الكأسِ
غفلنا ونام الهامدون، وفوقنا
نجوم الدجى زَهر على قُبَّة الرمسِ
فإنْ كان خلْقُ الناسِ للعجز والأسى
ولم يستطيعوا البرء من خطل المسِّ
وأعجز أوصافَ الأطباءِ داؤُهُمْ
ولم يَشْفِهِمْ من شرِّهِم عمل النَّطْسِ
وإِن قبسوا من شعلة القدس قبسة
فما صانها العادي ولا فاز بالقبسِ
فإِنَّ ارتهان المرء في سجن شرِّه
إِذا جدَّتِ الأحداثُ شرٌّ من الحبسِ
وإِن انغماس المرء في لُجِّ أمسه
كما يغرق الغواص من نهكة القمسِ
وإِن رسيف النفس في قيد شرها
كما يخلد المحموم في خطأ الحسِّ
يقولون إِنَّ الحق في الناس قوةٌ
وأقوى من الحقِّ الجهالة في النفسِ

صوتك

صوتُك صوتُ السلامِ تألفه الأَنْـ
ـفسُ بعدَ الكفاح والظَّفَرِ
أو مثل صوتِ الطيور في وَضَح الصُّبْـ
ـحِ نشاوَى من غير ما سُكُرِ
صوتك صوت الربيع يبعث في الـ
ـرَّوْضِ حياةَ الطيور والزهَرِ
أو مثل صوت الحياة ظافرةً
عابثةً للجمال والصُّوَرِ
يُطربُ مثل الصَّدى الخلوبِ إِذا
ردَّدَه الريف في سَنا القمرِ
أو مثل شدو الشَّجيِّ يسمعه السَّا
هرُ في هَدأةٍ من السَّحرِ
من عالم الخُلد خِيلَ منبعثًا
لعالم الفانيات والغِيَرِ
تنال منه الأسماعُ فتنتَهُ
وتقتضي مثلها من الأشرِ
فهْو كمعنًى يُضْفِي لسامعه
مواردًا ثرَّةً من الفِكَرِ
أو عَيْنِ دعجاءَ، في محاسنها
عمقٌ كعمق البحارِ والدُّرَرِ
تأخذ منها العيون أقربَها
وأبعدُ الحسن أطيب الأثرِ
صوتكِ صوت الشباب والعمر
ما دامَ فانٍ فاتَ بالعُمرِ
أو مثل صوت المُنى السحيقة
والحبِّ وصوتُ الداعي من القَدَرِ
كلاهما نافذٌ يُلبَّى على
ما كان من قِسمةٍ لمؤتَمِرِ

شفق الغروب

شفقُ الغروبِ وإِنه
سحرٌ تُراح له القلوبْ
وكأنَّه الأنماطُ أعْـ
ـلَى صُنْعَها فنٌّ عجيبْ
خدرت ذُكاءُ كأنها الْـ
ـحسناء يرقبها الرقيبْ
وكأنها الملك المحجَّـ
ـبُ في تَحَجُّبه رهيبْ
بستار مُلْكٍ حاكَ رَوْ
نَقَ حسنه الحذِقُ الأريبْ
عبأتْ مفاتن لونها
والحسن معشوقٌٌ مهيبْ
والحسن أبهى حين رَوْ
قُ الحسن رَوْعٌ لا يريبْ
رَوْعٌ لمهلك كل يوْ
مٍ لا يُقيم ولا يئوبْ
كم مرَّ في يومٍ مضى
أملٌ يحقَّقُ أو يخيبْ
وأسًى يخال مُخلَّدًا
فإِذا به ذكرى تنوبْ
والعيش ألوانٌ وبعْـ
ـضُ العيش من بعضٍ قريبْ

•••

شفقٌ على أُفْق البحا
رِ به سفائنه تغيبْ
سُودٌ تشابه عنبرًا
في يمِّه ذهبٌ صبيبْ
وكأنَّ صفحة مائه
نور على نور يذوبْ
من منبع الذهب استقى
أم أنَّه ورد يصوبْ
أسفائنًا قد حُمِّلتْ
ما يحمل الرائي الطروبْ
شوقًا إِلى وهجٍ على
أفْق كما حنَّ الغريبْ
والنفس تنشد مرتقًى
كلٌّ على وطنٍ يلوبْ

•••

وعوالم للسِّحر تَعْـ
ـرفها وتنشدها القلوبْ
لاحت على شفق الغرو
ب كأنها الحلم الحبيبْ
نارٌ تؤجج في الغديـ
ـر وحلية المرجِ العشيبْ
والشمسُ تبدو في المنا
قع ماسةً مثل اللهيبْ
ماءٌ ونارٌ جُمِّعا
في المنظر العجبِ العجيبْ
وتوهُّجٌ كدمٍ يلو
ح بلا قتيلٍ أو حريبْ
كدم الرحيقِ بنشوةٍ
ردَّ الكْهُولَ عن المشيبْ

•••

وعلى المزارع هابطٌ
بجناحِ ذي الريِّش الخضيبْ
وهدوء ذي السمع المُصيـ
ـخ وراحة القلب المجيبْ
وعناق أرضٍ والسما
ء به وبالدَّغَش العقيبْ
وعلى البهائم وحشة
من غير مكروب كثيبْ

مفتاح القلوب

هل عندك الخُبْرُ والخَبَرْ
عن مُعْلن السِّرِّ يا قدَرْ؟
فهَبْه لِي أتقِّ الأعادي
وأعرف الصَّادقَ الأبَرْ
من قبل أن أنقم العوادِي
وألعقَ الصَّابَ والصَّبَرْ
فأعرف الحافِزات طرًّا
إِلى المودَّات والسيرْ
يا طالما غرَّني ابتسامٌ
كم باسمٍ قلبُه كشَرْ
قد حرتُ دهرًا وحارَ مني
قوم تهابُ الذي اسْتَسرْ
هل عندَك الخُبْرُ والخَبرْ
عن معلن السِّر يا قدَرْ؟
ليقرأ العاذلون غيبِي
ويأمنَ الحبُّ إِن نفَرْ
وا حرَّ قلبِي إِذا تناءتْ
وخالني الغادرَ المكرْ
فيعرف الخلُّ أنَّ قلبي
أصفى من العذب في الغُدُرْ
قد أخفق الحبُّ في بيانٍ
وأخفق اللحظ والبصرْ
وأخفق العيش وهْو سفر
تبلى على الحازم الحذرْ
هل عندك الخُبْرُ والخَبَرْ
عن معلن السرِّ يا قدَرْ؟

الأندلس العربية

جنةٌ لم يظفر الدهرُ لها
بمثيلٍ، جنة الأندلسِ
إِذ دَجَت أقطارُ أوروبا بَدَتْ
في ظلامِ الدهر مثل القَبَسِ
أو كنجمٍ يهتدي الساري به
في ضلالِ المسلكِ الملتبسِ
أو كنادٍ يأنسُ الضيفُ به
موحشًا في البيدِ وسط الحندِسِ
أهلُها الغرُّ الأُلى قد ملكوا
بالنُّهى منهم عنانَ الشُمُسِ
عمروا الأرضَ وأجروا ماءَها
وزَها كالسحرِ نبتُ اليبسِ
لم يهابوا بهجةَ العيشٍ ولا
جعلوا الطهرَ قرينَ الدنسِ
أفْسَحوا للفكرِ فيهم موطنًا
موطنَ الفضلِ الشهيِّ الأنسِ
كللوا بالمجد هاماتهمُ
في نعيم العزِّ أو في الأبؤسِ
في خلال البحرِ أو في المصنعِ
في لظى الحربِ وطيبِ المغرسِ
لم يكونوا مثل قومٍ أنفوا
أن ينالوا منه أعلى منفسِ
نجدةُ الفارسِ فيهم شيمةٌ
علَّمَتْ قومًا صفاءَ الأنفسِ
ووفاء بعهودٍ وثقت
في ظلالِ السعد أو في التعسِ
أخذ الإِفرنْج عنهم فِكْرَهُمْ
وابتكارًا لم يكن بالأوكسِ
نهضةُ الأحياءِ لولا صحف
صنعوا، عزَّت على الملتمسِ
لم يكن مصرعُهم من وهنٍ
لا ولا من لذةٍ لم تحبسِ
شجعوا في ضحوةِ المجدِ كما
شجعوا في أُخريات الغَلَسِ
دبَّت الفرقةُ فيهم كاللظى
تتلظى في الهشيمِ اليبسِ
صيَّرتْ بهجةَ أيامٍ لهم
مأتمًا من بعد حسنِ العرسِ
وإِذا شمْلُ أناسٍ لم يكن
معقلًا هانوا على المفترسِ
قاتلوا قومًا بقومٍ منهمُ
عن قلوبٍ نفرت لم تسلسِ
بربرٌ من تحتهم والقوط من
فوقِهِمْ مثل رحى المندرسِ
تأنسُ النفسُ إِلى عهدك يا
حلم الأحلام بالأندلسِ!
كنت أوحى من خيالٍ طارقٍ
في الكرَى أو قبلة المختلسِ
فعلى القومِ سلامٌ إِنهم
حملوا شعلةَ نارِ القدسِ
وهْي أعباءُ حياةٍ ونهًى
وكفاحٌ ثم نومُ المرمسِ!

بهاء الحياة

كم أسينا على زوال بهاءٍ
كان أُنسًا وكان للنفسِ أهلَا
ووددناه خالدًا ليس يفنى
فنرى الزهرَ في الحدائق حولَا
ونرى بهجةَ الربيعِ دوامًا
ليس يفنى الربيع ضوءًا وظلَّا
ونرى عارمَ الشبابِ جديدًا
أبدًا سادرًا إِذا الشيخ غَلَّا
ونرى كل ما نودُّ ونهوى
خالدًا لا يزول رسمًا وشكلَا
فأسينا إِذ الفناء طريق الْـ
ـحسنِ والعيش يتبع اليوم ليلَا
كل آنٍ يجدد الكون وجهًا
من حلاه يحلو إِذا الرث ملَّا
لذةُ العيشِ في التقلب في العيْـ
ـشِ ونيل الجديدِ حلوًا مُحلَّى
أبدًا يبسط الزمان ويطوي
مُلحًا لا تدوم إِلا لتُسْلَى
جدةُ الحسنِ رونقٌ تأخذ الطرْ
فَ طَريفًا وما استجدَّ ليقلى
ورأينا مفاتِنًا ربما مرَّ
تْ سراعًا كالطيفِ حين اضمحلَّا
غَفُلَ الطرفُ عن سناها فلما
غربت ضاء حسنها وتجلَّى
أعجمت في حياتها ثم عادت
في ضمير الآباد أشهى وأحلى
ثم عادت يحبو البيان حلاها
حجة توضح البهاء وقولَا
حسرة للبيان بعد فوات الْـ
ـحسن لو قد غدا أليفًا وخِلَّا
وإِذا بالفناءِ فينا ينادي
لو يدوم الجمالُ هانَ وقلَّا
بهجةُ العيشِ في زوال بهاءٍ
ملأ النفسَ طرفةً ثم وَلَّى
وإِذا خافت النفوسُ على فا
نٍ تحلَّى وكان أشهى وأغلى
فوددنا الزمانَ حبًّا عليه
لا جديدًا يرجى ورثًّا أملَّا
أبدًا واردَيْن وردًا زلالًا
نَهَلًا جارعين منه وعلَّا
غير ما قانعين أن حياةً
وقفت في الزمان تعتد بُطلَا
وقفةُ الكون ميتةٌ وفناءٌ
لا حياةٌ به ولا حُسْن يقلى
فرضينا وما رضينا ولكِنَّا
عرفنا الأمور فهمًا وعقلَا
ثم عدنا إِلى الأسى والتمني
أبدًا غالبين فرعًا وأصلَا
وودنا خلودَ كل مراد
ودوام الجمال شكلًا وشكلَا
واستطبنا المحال من بعد ما لا
ح بنور اليقين بطلًا وجهلَا
وأسيناعلى زوال بهاء
كان أنسًا وكان للنفسِ أهلَا!

مقطوعات شعرية

صلاح الحياة أم غايتها

قل كيف نحْيا ولا تقُلْ لي
ما حكمة العيْش والبقاءْ
فمطلب للعلاء يحدو
وآخَر كله عناءْ
كم سأل السائلون قِدمًا
ما الكون، ما العيشُ، ما الفناءْ؟
مسألةٌ ما لها جوابٌ
وليس يُلْفى لها غناءْ
كساخطٍ من طروق داءٍ
وتاركٍ خلفه الدَّواءْ

ود الأسى

يا رفاقًا طالما أَنْسَتْهُمُ
لذةُ العيش حزينًا يا رفاقْ
قد وجدت الصِّدْق في ودِّ الأسى
مِقَةُ اللذات كسبٌ ونفاقْ

غبي ذكي

يا غبيًّا رأى الذكاءَ شقاءً
ورأى النَّحس أن يكونا أريبَا
أنت أذكى من الذكيِّ الذي يحـ
ـيا شقيًّا لكيْ يكون أديبَا
وإِذا كانت الغباوة نعمى
فمن الحمق أن تكون لبيبَا

البصير الأعمى

يا قلبُ صَبْرًا ولا تَعْتِبْ على قِسَم
قد استوى الناس في عتْب على القسمِ
الحظُّ أعمى لدى من لم يَنَلْ أَرَبًا
وهْو البصير لدى من فاز بالنعمِ

خطة الضعة

في كلِّ نفسٍ من نفوس الورى
شيءٌ مِنَ الحِقد وسوء الظنونِ
إِنْ كذَّبَ المُثْني على نفسه
صدَّقَ من يزري بفضل القرينِ
لذاك يعلي الخبُّ من نفسه
إِن هدَّ من فضلٍ بمدح قمينِ
أكثر من إِعلائه نفسه
بأن يزكِّي النفس عند الفطينِ

ناجح

كل بِشْر منه فخٌّ
كل لفظ منه غدرُ
بلغ النُّجحَ بلؤمٍ
إِنَّ بعض النجح وزرُ

الكذب

للكِذْبِ في الناس أوساطٌ مجنحة
والصدق يسعى لديهم كالسُّلَحْفاةِ
يهوون ما لا يسيغ العقلُ من كذبٍ
وينبذ الحق من حِرص المجاراةِ
كأنما الكذب مِلْح يستلذ به
طهيُ الحديث وإِشباع السخيماتِ

إخفاء السريرة بالنطق

أتحسب أن الله أعطاك منطقًا
لتبسط من لغو الكلام على الصدقِ
وأنَّ لسانًا بين فكَّيْك ناطقًا
لإِخفاء ما دون السريرة بالنطقِ
وتكتم ما قد يظهر الوجه أمره
بقولك قولًا باطلًا شَبَهَ الحقِّ

عجائب الحقد

عجبتُ للمرء في بُغضٍ وفي مقة
هما العجيبان إِن آخى وحين عَدَا
يرمي النِّفاية لا يبغي لها ثمنًا
حتى إِذا ما حداها راغبٌ حسدَا
ويغفر الذنب من إِحسان فاعله
حتى إِذا نفدَتْ آلاؤه حقدَا

فخر الناجح

قبيحٌ نجاحُ المرءِ إِن هوَ شانَهُ
بفخرٍ فلا يقبحْ نجاحُك بالفخرِ
كأن لم يكنْ أهلًا له حين نالَهُ
هو الصمت قد يطري إِذ الفخر لا يُطري
جلا منه عيبَ النفس من بعد ستره
كذاك حديث العهد بالمال واليُسرِ
ويا رُبَّ نجْحٍ يسلبُ المرء رشده
ويبدي خصالًا منه تقتل أو تزري

نذالة الحسد

عدوُّك مرجوٌّ فإِن كان حاسدًا
فلا رحمةٌ تُرْجَى لديه ولا عدلُ
وليس بنذلٍ كلُّ من صال أو عدَا
وتابَ ولكنَّ الحسود هو النذلُ

مغفل لمغفل

قالوا الأنام إِذا اختبرت أمورهم
وبلوتَ من أحوالهم ما يبتلي
غرٌّ يخادعه لئيم عاقلِ
ولبئس حَظُّ المرءِ إِن لم يعقلِ
كذبوا، فما عيش الأنام وهزله
إِلا خداع مغفلٍ لمغفلِ!
يتهارشون على الحياةِ ورِجْسها
فِعْلَ الكلاب على خبيث المأكلِ!

باقة غزل من شعر الصبا

يا أيُّها الخاذل النائي بجفوته
خلَّفْتَ في العيش سِحْر المنظر البهجِ
خلعْتَ حسنًا على عيش كما خَلَعَتْ
شمس الغروب على الآفاق من وهجِ

•••

فرص الحياة قليلةٌ
فإِلامَ صدُّك يا حبيبي
بَيْنَا جمالك يانِعٌ
فينان كالغصن الرطيبِ
إِذ لا جمال ولا صبا
يصبي القلوب إِلى الوجيبِ
والعيش خلد في الشبا
ب فإِن دنوْتَ من المشيبِ
أحسسْتَ إِقبال الردى
كخشوع قلبك في المغيبِ
فترى الحياة قصيرة
كتلألؤ البرق الخلوبِ
وإِذا الحياة كنغبة الْـ
ـعصفور رُوِّع بالرقيبِ
متلفتًا يحسو ويخْـ
ـشى أن يفاجأ من قريبِ
بينا تراه على الغديـ
ـرِ تراه في الأفق الرحيبِ

•••

خلَّفْتَ في القلب يا مُعَذِّبَهُ
ما خلَّفَتْ نغمة من الجرسِ
ذكراك في نفس منصت يقظٍ
ذكرى غناء في الأذن كالهمسِ
كأنما القلب نحوكم أبدًا
لينوفر دائر مع الشمسِ

•••

كنت روضي والعيش صيف وفيٌّ
حافل بالنعيم والآلاءِ
فلئن عادت الحياةُ شتاءً
أنت فيها كزهرة في الشتاءِ
فهْي محبوبة وأندادها كُثْـ
ـرٌ ومحبوبة بقفر عراءِ
وهْي أشهى إِلى النفوس وأحلى
لافتقاد الأنداد والأكفاءِ

•••

أَعِرِ البدر طَلْعَتَكْ
علِّم النجمَ نظرتَكْ
وامنحِ الصيفَ من روا
ئك والزهرَ نضرتَكْ
وهَبِ الطيرَ شَدْوَ صَوْ
تِك والفجرَ غُرَّتَكْ
وإِذا ما هفا النسيـ
ـمُ فَعلِّمْهُ خطرتَكْ
امنحِ الكون نشوتك
علِّم السحرَ قدرتَكْ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤