مقام الفناء وأخطاء الحلوليين

تلك هي كلمة التصوف في وحدة الوجود، ولعمري إنها لأقوى الكلمات الإسلامية دفعًا لتلك النظرية الوثنية وهدمًا لها، وهي أعلى الكلمات الإسلامية استنكارًا لهول ما تنطوي عليه من كفريات وإباحيات ملعونة مرجومة، حتى إن الشعراني ليقول: «إن إبليس نفسه — وهو ملهم الخبائث — لا يجرؤ على تلك القولة الملعونة، التي ارتكب أربابها أمرًا إدًّا تكاد السموات يتفطرن منه وتخر الجبال هدًّا.»١

ولسائل أن يسأل: فكيف إذن نسبت إلى التصوف أو إلى بعض المتصوفة؟ ومن أي باب أدخلها المغرضون ووثب بها الواثبون؟ ومن أي باب أيضًا تسللت طوائف الإفك التي رمت التصوف أو بعض المتصوفة بالحلول والاتحاد؟

لقد تسلل المزيفون والمغرضون إلى المحراب الصوفي بذلك الإفك الأكبر ليطفئوا نوره، ويحطموا نبراسه متخذين — ومن عجب — آيته الكبرى؛ وهي المحبة أو مقام الفناء تَكِئةً لأكاذيبهم الآثمة.

فالتصوف قوامه الذكر والعبادة، والتأمل والطاعة، وثمرته التجلي والمحبة، وما يلهم التجلي وما تعلم المحبة، وبين بدايته ونهايته أحوال ومقامات ومعارج ونفحات، سرها الترقي الدائم في صفاء القلب، وإلهامات الروح، وإشراقات الحس.

وأول مقامات المتصوف المقبل على ربه، بل أول مقامات المؤمن العابد هو أن يعبد الله كأنه يراه، فإذا عبده تلك العبادة وتحقق بجلالها، فهل تظن أنه يرى سواه جل جلاله؟

يقول الشعراني: «ومن يقول لا موجود إلا الله، فذلك من مقام المريد المبتدئ؛ لأنه من شدة تعشقه في الطريق، وترحل قلبه عن محبة غير الله تعالى يصير قلبه محجوبًا عن شهود الأكوان، كما يقع لصاحب المصيبة إذا مات له ولد، أو تلف له مال، فإنه من شدة المصيبة يصير يدخل الدار ويخرج ولا يرى صاحبه الجالس على بابه، فإذا سئل: هل رأيت فلانًا؟ قال: لا، فإذا قيل له: لقد كان أمامك، قال: والله من شدة الهم ما رأيته.»

ثم يقول: «وليس مراد المبتدئ في الطريق أن ينفي وجود العالم كله كما يظن مَن لا علم له بأحوال أهل الطريق، بل مراده أن الله تعالى قد أخذ حبُّه بمجامع قلبه حتى حجبه عن شهود خلقه.

وإذا كان النساء اللاتي خرجن على يوسف — عليه السلام — ذهلن عن أنفسهن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بألم القطع، فكيف بذهول مَن تعلَّق قلبه بحب ربه وشاهد من آياته الكبرى؟!

وقد روى القشيري عن الشبلي أنه كان يزور في بداية أمره شيخه الحصري كل يوم جمعة، فقال له شيخه يومًا: يا أبا بكر، إن خطر في بالك غير الله تعالى من الجمعة إلى الجمعة فلا تعد تأتينا؛ فإنه لا يجيء منك شيء.»

ذلك هو أدب الطريق الصوفي الذي يلقنه الشيوخ للمبتدئين؛ أن ينفوا الوجود عن قلوبهم، بل عن خواطرهم؛ لتمتلئ كل جوارحهم بذكر الله، وحب الله، وجلال الله.

تلك معنويات عليا يتذوقها المؤمنون العابدون، ولا شأن لها بما أراد المضللون الذين توهموا في هذا القول المنير وحدة الوجود، أو الاتحاد والحلول.

لم ينف المتصوفة بهذا القول الإيماني العظيم وجود الكون، ولم يتصوروا بل لم يجل بخواطرهم أن معنى ذلك وحدة أو حلول. إنهم قوم حجبتهم المحبة عما سوى الله فلم يروا في الكون سواه، مسألة حسية وجدانية، ليس معناها أن الكون قد زال أو فني، وإنما معناها أن القلب المحب قد استغرقه جلال محبة الأعظم فلم ير إلا إيَّاه.

يقول الشعراني: «أجمع أهل الحق على أن حقائق الأشياء ثابتة، فكيف يصح نفيها؟ إنما العبد يُحجب عنها بما دهمه من الأمور العظيمة، قيل للشبلي: ما التوبة؟ قال: ألا تشهد في الدارين سواه؛ أي لا تشهد في الدارين خالقًا أو ربًّا أو رازقًا أو مؤثرًا ومدبرًا سواه، وإن شهدت ليس لأحد وساطة أو أثر في عمل ما؛ فلا تلتفت إلى ذلك.

وليس معنى هذا أن لا نشهد غير الله أصلًا من جميع الأكوان؛ فإن ذلك لا يصح للمقربين، وذلك معنى قوله صلوات الله وسلامه عليه: «أصدقُ كلمة قالها شاعرٌ كلمةُ لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل
… … … …»

أي كالباطل من حيث إن كل شيء قائم بالله تعالى لا بنفسه، فإن شاء الله أبقاه، وإن شاء أذهبه في لمح البصر أو هو أقرب.»

ذلك فناء المبتدئين أو مقام المريدين أو حجاب السالكين في أول الطريق، يُحجبون بحب الله عما سواه، أما الكمل السادة فقد ارتفعوا فوق تلك المعاني ولم يقفوا مع العقبات، بل رأوا الله — جل جلاله — ورءوا الكون أيضًا، وذلك — كما يقول محيي الدين — أكمل ألوان العبادات.

يقول السراج الطوسي في اللمع: «غلطت جماعة من البغداديين في قولهم: إنهم عند فنائهم عن أوصافهم دخلوا في أوصاف الحق. وقد أضافوا أنفسهم بجهلهم إلى معنى يؤدي بهم إلى الحلول، أو إلى مقالة النصارى في المسيح — عليه السلام.»

فإن وجد في كلام الكمل من المتصوفة معنى الفناء في الله — جل شأنه — فالمعنى الصحيح المقصود من ذلك أن الإرادة للعبد، وهي من عند الله عطية، ومعنى خروج العبد من أوصافه والدخول في أوصاف الحق خروجه من إرادته ودخوله في إرادة الحق، وذلك منزل من منازل أهل التوحيد.

وأما الذين غلطوا في المعنى فإنما غلطوا بدقيقة خفيت عليهم حتى ظنوا أن أوصاف الحق هي الحق. وهذا كله كفر؛ لأن الله تعالى لا يحل في القلوب، ولكن يحل في القلوب الإيمانُ به، والتوحيد له، والتعظيم لذكره.

ثم يقول في اللمع أيضًا متحدثًا عن الفناء: «هو فناء رؤيا العبد في أفعاله لأفعاله.»

ويقول الهجوري واصفًا الفناء: «بأنه فناء إرادة العبد في إرادة الله، لا فناء وجود العبد في وجود الله.»

ذلك هو الفيصل بين المتصوفة وخصومهم؛ فالفناء الصوفي هو فناء معنوي، لا فناء مادي كما توهم المتوهمون.

يقول القشيري في باب الفناء: «ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار لا عينًا ولا رسمًا ولا طللًا يقال: إنه فني عن الخلق وبقي بالحق.»

ثم يقول: «وفناؤه عن نفسه وعن الخلق بزوال إحساسه بنفسه وبهم، فإذا فني عن الأفعال والأخلاق والأحوال، فلا يجوز أن يكون ما فني عنه من ذلك موجودًا، وإذا قيل فني عن نفسه وعن الخلق، فنفسه موجودة والخلق موجودون، ولكنه لا علم له بهم ولا به. وقد نرى الرجل يدخل على ذي سلطان فيذهل عن نفسه وعن أهل مجلسه هيبة، حتى إذا سئل بعد خروجه من عنده عن أهل مجلسه لم يمكنه الإخبار بشيء.»

وهو فناءُ إجلالٍ وحب إذن، لا فناء عين، فناء القلب المستغرق في أنوار الجلال الإلهي عما سواه.

ويروي الشعراني في الطبقات عن الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي وهو يشرح حال المراقبة: «والمراقبة لعبدٍ راقب الحق بالحق، وتابع المصطفى في أفعاله وأخلاقه وآدابه. والله — عز وجل — قد خصَّ أحبابه وخاصته بأن لا يَكِلهم في شيء من أحوالهم إلى نفوسهم ولا إلى غيره، فهم يراقبون الله تعالى ويسألونه أن يرعاهم.

والمراقبة تقتضي حال القرب، والله — عز وجل — قرَّب القلوب إليه بما هو قريب منها، فهو يقرب من قلوب عباده على حسب ما يرى من قرب قلوب عباده منه، فانظر بماذا يقرب من قلبك.

وحال القرب يقتضي حال المحبة، وهي تتولد من نظر القلب إلى الله — عز وجل — وجلاله وعظمته، وعلمه وقدرته؛ فطوبى لمن شرب كأسًا من محبته، وذاق نعيمًا من مناجاته، فامتلأ قلبه حبًّا، فطار بالله طربًا، وهام به اشتياقًا، ليس له سكن ولا مألوف سواه، فهو محب خرج من رؤية المحبة إلى المحبوب بفناء علم المحبة، من حيث كان له المحبوب في الغيب ولم يكن هو بالمحبة، فإذا خرج المحب إلى هذه النسبة كان محبًّا بلا علة.

والمحبة تقتضي الذكر، فلا يزال المحب يذكر ربه ويدخل الخلل في ذكره لنفسه حتى يصير الغالب عليه ذكر ربه، وصار كالغافل عن نفسه، ثم يغفل عن ذهوله عن نفسه، وينسى باستيلاء ذكر ربه عليه جميع الأحاسيس، فيقال: فني عن نفسه، ويقال: فني بربه. وهو هنا يكون مختطفًا عن نفسه، ممحوًّا عن جملته، فانيًا عن كله.»

سُئل أبو يزيد عن عمره فقال: أربع سنوات، ويجيب البسطامي شارحًا تلك الكلمة بقوله: «حجبت عن الله سبعين سنة، ولم أره إلا في السنوات الأربع الأخيرة، وعليه فالسبعون الأولى ليست من عمري.»

وهذا الشعور الكامل بالتجلي الإلهي والإحساس الصادق بالحب الرباني يزداد حتى يبلغ الحد الأعلى، فيذهب عن المحب وعيه، بل تكاد تذهب عنه بشريته، ليغدو جوهرًا أو كالجوهر، وهي الحالة التي يعبرون عنها بالذوق والشرب والغيبة، ويجمع ذلك كله كلمة: الوجد.

ويُعد المتصوفة الفناء في حالة الوجد نهاية سفرهم إلى ربهم، فيصبح الصوفي هنا في قمة فوق العالم؛ لأنه استغنى عنه.

وهذه هي حال البقاء، والإنسان فيها إنسان كامل. وهذا موقف لا مجال للقول فيه، أو كما يقول الغزالي: «يصل الإنسان إلى حالة يضيق نطاق النطق عن وصفها.»

١  من أراد التوسع في دراسة موقف التصوف الإسلامي من نظرية وحدة الوجود، فليراجع ذلك في كتابنا عن «محيي الدين بن عربي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤