مقام الفناء وابن تيمية

ومن عجيبٍ أن مقام الفناء الذي اتهم فيه المتصوفة بوحدة الوجود تارة، والاتحاد والحلول تارة أخرى، مقام من صميم التوحيد الإسلامي، بل هو المقام الذي ترتكز عليه العبادات الربانية كافة، حتى إن ابن تيمية — وهو خصم التصوف الأكبر — ليُخصص لشرحه في كتبه مكانًا لم يخصصه لغيره من مواقف الفكر الإيماني.

يقول الإمام ابن تيمية في كتابه «العبودية»١ متحدثًا عن مقام الفناء؛ الفناء في المحبة الإلهية: «الفناء عن إرادة ما سوى الله، بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب من غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يُقصد بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال: أريد أن لا أريد؛ أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية، وكمال العبد أن لا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه. وهذا معنى قولهم في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، قالوا: هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله، فالمعنى واحد. وهذا المعنى إن سُمِّي فناء أو لم يُسمَّ هو أول الإسلام وآخره، وباطن الدين وظاهره.»

ثم يتحدث ابن تيمية عن المقام الثاني في مقامات الفناء فيقول: «وأما النوع الثاني فهو الفناء عن شهود السوى، وهو يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته ضعفت قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير الله، بل ولا يشعرون كما قيل في قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا، قالوا: فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى.

وهكذا كثيرًا ما يعرض لمن دهمه أمر من الأمور؛ إمَّا حب وإمَّا خوف وإمَّا رجاء، يبقى قلبه منصرفًا عن كل شيء إلا مما قد أحبه أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره، فإذا قوي على صاحب الفناء هذا، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن: وهي المخلوقات المبعدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل؛ وهو الرب تعالى. والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى يضطرب في تميزه، فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يُذكر أن رجلًا ألقى نفسه في اليم، فألقى محبُّه نفسَه خلْفَه، فقال: أنا وقعت، فما أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك إني.»

أليست تلك المقامات من حالات الفناء هي المقامات التي يُرمى فيها المتصوفة بوحدة الوجود؟

يقول ابن تيمية خَصْمُ التصوف الأكبر: «فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته ضعفت قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد.»

وهل قال المتصوفة أكبر من هذا القول؟! ومن عجب أن ابن تيمية يهاجم التصوف والمتصوفة لأنهم يقولون: إنهم في نشوتهم الكبرى لا يرون إلا الله، ويذهلون عما سواه؛ أي نفس ما يقول ابن تيمية.

إنهم ليرون الله في كل شيء، ومع ذلك يوقنون بأنه سبحانه فوق كل شيء. وهذا أكمل درجات التوحيد.

ويقول ابن تيمية أيضًا في مجموعة رسائله:٢ وأما قول الشاعر في شعره:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا

فهذا إنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل. وهذا تشابه وتماثل لا اتحاد العين بالعين، إذا كان قد استغرق في محبوبه حتى فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:

غبت بك عني
فظننت أنك أني

فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ.

ويقول ابن تيمية أيضًا في الرسائل: «روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي بقوله تعالى: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة.» فقوله: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة.» فجعل معاداة عبده الولي معاداة له، فعين عدوه عين عدو عبده، وعين معاداة وليه عين معاداته، ليسا هما شيئين متميزين.»

ويذكر أيضًا ابن تيمية حديثًا رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي، يقول الله تعالى: «عبدي، مَرضتُ فلم تعدني، فيقول: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده. عبدي، جعتُ فلم تطعمني، فيقول: رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي.»

ولم أجد ردًّا على خصوم المتصوفة الذين هاجموهم في مقام الفناء، وتسللوا منه إلى اتهامهم بوحدة الوجود، وفكرة الاتحاد والحلول، أبلغ من هذا التفصيل الرائع لمقامات الفناء الذي كتبه ابن تيمية خصم التصوف الأكبر، والذي رمى المتصوفة بوحدة الوجود، وقذفهم بالاتحاد والحلول متخذًا برهانه من كلامهم في الفناء والمحبة.

ولم أجد شاهدًا أكبر دلالة مما استشهد به هو من القرآن الكريم وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا؛ أي فارغًا مما سوى موسى.

وقلب المتصوفة لشدة حبهم لربهم أصبح فارغًا مما سوى الله — جل جلاله — وربنا سبحانه أكبر وأعظم من أن يُشبَّه بعبد من عباده، أو برسول من رسله.

وليقل بعد ذلك المغرضون ما شاءوا …

١  ص٩٦.
٢  ص٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤