جهاد الشعراني

السبحات الفلسفية والتصوف

لقد حمل الشعراني أعباء رسالة علمية إصلاحية ما أظن أن صوفيًّا سواه، بل لا أعتقد أن عالمًا من المفكرين الإسلاميين حمل مثلها، أو قام بشبيهٍ لها.

تلك الرسالة هي التوفيق بين شتيت الآراء والمذاهب والأفكار الإسلامية، والتقريب بينها، بتنقيتها من التطرف، وإبعاد الدخلاء والزائفين عن ساحاتها، وباتخاذه دائمًا موقفًا وسطًا محددًا كالصراط المستقيم.

عمل الشعراني على التوفيق بين الفقه والتصوف، أو بين الشريعة والحقيقة، كما يقال في الاصطلاح، وخصص لذلك الجانب الأكبر من دراساته وكتبه.

كما جاهد للتوفيق بين التصوف، وبين رجال الكلام والتوحيد، وأصحاب النظر العقلي من الفلاسفة والمتكلمين، يقول الشعراني في كتابه الميزان: «وحاولت المطابقة بين عقائد أهل الكشف وعقائد أهل الفكر حسب طاقتي، ولم يسبقني إلى ذلك أحد.»

وبذلك اتفق الشعراني مع الغزالي في ناحية، واختلف معه في الناحية الأخرى، فقد سعى الغزالي جاهدًا من قبله للتوفيق بين الفقه والتصوف، ولكنه في الناحية الأخرى حارب الفلسفة بعنف وقسوة، لم يهادنها ولم يقبل معها تفاهمًا، ولم يرض لها حجة.

وبهذا الموقف الذي اتخذه الشعراني شعارًا له؛ اضطر مكرهًا للمحاربة والصراع في كافة الميادين الفكرية والساحات العلمية.

فقد حارب الشعراني وحورب من أدعياء التصوف، من المجاذيب والبهاليل والدراويش، وكانوا أصحاب الجاه والسطوة في عهده.

كما حارب وحورب من الفقهاء المتزمتين الذين جمدوا على آراء وكتب أغرمت بالافتراض، وأولعت بالجدل والحوار، وملئت بكل غريب وشاذ، وحارب وحورب من رجال الكلام الذين ملئوا الدنيا صياحًا وهتافًا بأنهم وحدهم سدنة الإيمان وحجابه، وأن الإيمان الحقيقي الذي يقبله الله هو ما ابتكرته أقلامهم، وما اشترطوا له من قيود وسدود وحدود.

كما حارب الشعراني أيضًا المتفلسفين من رجال التصوف، ونازلهم منازلة قاسية، حتى إننا لنراه أحيانًا يهاجم محيي الدين، وهو المحب الأكبر والتلميذ الأمين لمحيي الدين، ويهاجم الغزالي مع إجلاله العظيم لحجة الإسلام، ويهاجم جمهرة من سادة المتصوفين القدامى مع احترامه لهم وتقديره. ولكن الشعراني يهدف لغاية أكبر من الحب والإجلال والتقدير للسابقين من المتصوفة، كان يهدف إلى حماية العقول العامية وأشباه العامية في عهده من صولة الآراء الصوفية، وهي صولة لا يعرفها إلا من ذاق وعرف، وهي صولة أكبر من أن تطيقها العقول الضعيفة، أو تحتملها القلوب الجامدة.

وعصر الشعراني كان لا يطيق تلك الصولة القوية للآراء الصوفية العليا، فعمل الشعراني للصالح العام، ولم يُلْق بالًا إلى عواطف الحب والاحترام، فقام بهجومه الكبير القوي على كلمات التصوف المجنحة، وعباراته الرحيبة الأفق التي تحمل أكثر من معنًى، وتؤدي إلى أكثر من غاية.

يقول الشعراني: وبالجملة فلا تحل قراءة كتب التوحيد الخاص وكتب العارفين إلا لعالم كامل، أو من سلك طريق القوم، وأما من لم يكن واحدًا من هذين الرجلين فلا ينبغي له مطالعة شيء من ذلك؛ خوفًا عليه من إدخال الشبه التي لا يكاد الفطن أن يخرج منها، فضلًا عن غير الفطن.

ثم يقول: «ولكن من شأن النفس كثرة الفضول، ومحبة الخوض فيما لا يعنيها، وقد وضع بعض العلماء من السلف كتابًا جمع فيه كثيرًا من الكلمات التي ينطق بها العوام مما يؤدي إلى الكفر، وحذر فيه من النظر في جملة من الكُتب، وقد حبب إليَّ أن أذكر لك طرفًا من ذلك لتتجنب النطق به والنظر فيه، فأقول وبالله التوفيق: ومما يقع فيه كثير من الناس قولهم: يا من يرانا ولا نراه. وقولهم: يا ساكن هذه القبة الخضراء. وقولهم: سبحان من كان العلا مكانه. ونحو ذلك مما لا يجوز التلفظ به؛ لما يورث من الإبهام عند العوام، وأن لله تعالى مكانًا خاصًّا، وإن قال هذا القائل: أردت بقولي «ولا نراه» عدم رؤيتنا له في الدنيا. قلنا له: قد أطلقت القول، والإطلاق في محل التفصيل خطأ. وقد أجمع أهل السنة على منع كل إطلاق لم ترد به الشريعة، سواءٌ كان في حق الله تعالى، أو في حق أنبيائه، أو في حق دينه، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري يقول: «ما أطلق الشرع في حقه تعالى أو في حق أنبيائه أطلقناه، وما منع منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع نظرنا فيه، فإن أوهم ما يمتنع في حقه تعالى منعناه، وإن لم يوهم شيئًا من ذلك رددناه إلى البراءة الأصلية، ولم نحكم فيه بمنع أو إباحة.» فقد اتفق الإمامان على منع كل إطلاق يوهم محظورًا في حق الله تعالى، وتبعهما العلماء على ذلك قاطبة، وكذلك منع من يقول: … يا دليل الحائرين، يا دليل من ليس له دليل، ونحو ذلك، وكله لم يرد به شيء.

وقد أجمع أهل الحق على وجوب تأويل أحاديث الصفات؛ كحديث ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، وقد بلغ بأحد الضالين أن يقول — وكان على المنبر فنزل درجًا منه — وقال للناس: «ينزل ربكم عن كرسيه إلى سماء الدنيا كنزولي عن منبري هذا.» وهذا جهل ليس فوقه جهل.

ومما يمنع شرعًا إطلاق بعضهم على الله تعالى: الخمار، والساقي، وراهب الدير، وصاحب الدير، وليلى، ولبنى، وسعدى، وأسماء، ودعد، وهند، والكنز الأكبر ونحو ذلك، وكذلك لا يجوز إجماعًا إرادة ذاته تعالى بقول بعضهم:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا

وقول بعضهم:

تمازجت الحقائق بالمعاني
فصرنا واحدًا روحًا ومعنى

فكل هذا وأمثاله لا يجوز عند أهل السنة والجماعة، وقد سألت سيدي عليًّا الخواص عن التغزلات التي في كلام القوم: هل مرادهم بها الله تعالى؟ فقال: لا، إنما مرادهم بها الخلق، ولكن يفهم الفاهم منها في حق الحق ما يبعثه عند سماعها إلى الحضور مع الحق.

قال: لأن أولياء الله تعالى أعرف الخلق بالله تعالى بعد الرسل والأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — ويجلون الحق تعالى عن أن يجعلوه محلًّا لتغزيلاتهم؛ فلذلك ضربوا الأمثال بالمحبين والمحبوبين من قيس ولبنى ونحو ذلك.

وكذلك مما ينبغي اجتنابه قول بعضهم: ما في الوجود إلا الله، وقولهم: إن الله في قلوب العارفين. وإنما الصواب أن يقال: ما في الوجود في الأزل إلا الله، ومعرفة الله في قلوب العارفين، وإليه الإشارة بحديث: «وسعني قلب عبدي المؤمن.» أي وسع معرفتي من غير إحاطة بي، وكذلك مما ينبغي اجتنابه قولهم: هذا زمان سوء؛ لأن الزمان هو الدهر، والدهر هو الله، وكذلك قول بعض الخطباء: سبحان من لم يزل معبودًا؛ لأنه عبد عند من لم يعلم كونه معبودًا بالقوة؛ أي أهلًا لأن يعبد؛ لأنه يوهم قدم العالم، وذلك كفر.

ومما يجب اجتنابه قولهم: يا قديم الزمان؛ لأن الرب لا يتقيد بالزمان؛ فهو كلام باطل، وكذلك قول بعضهم: كل ما يفعله الله خير؛ لإيهامه نفي وجود الشر في العالم، وأن كل ما يكسبه العبد من المعاصي خير، وكذلك قول: فلان يطلع على الغيب؛ لأنه يوهم باطلًا، وإنما الأدب أن يقال: فلان له فراسة صادقة، أو كشف، أو اطلاع فقط؛ لئلا يزاحم الرسل في مقام العلم والقطع، فإنه ليس للأولياء إلا الظن الصادق فقط، الذي هو في اصطلاحهم عبارة عن الاعتقاد الصحيح الجازم المطابق للواقع فقط، وهذا الظن هو الذي يسمونه إلهامًا وفتحًا وكشفًا.

وكذلك مما يجتنب قوله قول بعضهم: باعك الله، وأقالك الله، إذا اشتغل في البيع أو الإقالة؛ لأنه يوهم مذهب أهل الاتحاد، وذلك كفر.

قال الإمام العلامة عمر بن محمد الأشبيلي في كتابه المسمى «لحن العوام»: وليحذر من العمل بمواضع من كتاب «الإحياء» للغزالي، ومن كتاب «النفخ والتسوية» له، وغير ذلك من كتب القوم؛ فإنها إما مدسوسة عليه أو وضعها في أوائل أمره، ثم رجع عنها كما ذكر في كتابه «المنقذ من الضلال».

وكذلك يحذر من مواضع في كتاب «القوت» لأبي طالب المكي نحو قوله: الله تعالى قوت العالم، ومن مواضع في تفسير «مكي»، ومن مواضع كثيرة في كلام ابن ميسرة الحنبلي.»

ويعدد الشعراني كتبًا كثيرة ثم يقول: «وليحذر أيضًا من مطالعة كتب الشيخ محيي الدين بن عربي — رضي الله عنه — لعلو مراقيها، ولما فيها من الكلام المدسوس على الشيخ، لا سيما «الفصوص» و«الفتوحات المكية»؛ فقد أخبرني الشيخ أبو طاهر عن شيخه، عن الشيخ بدر الدين بن جماعة، أنه كان يقول: «جميع ما في كتب الشيخ محيي الدين من الأمور المخالفة لكلام العلماء مدسوس عليه، وكذلك كان يقول الشيخ مجد الدين صاحب القاموس».»١

ويوالي الشعراني حملته الكبرى فيقول: «وليحذر أيضًا من مطالعة كتب عبد الحق بن سبعين مما يوهم الحلول والاتحاد والتشبيه وأقوال الملحدين، ومنع بعضهم من سماع كلام سيدي عمر بن الفارض في التائية، والجمهور على جواز ذلك مع التأويل.»

ويختم الشعراني تلك الدراسة المؤمنة الصادقة التي يهدف بها إلى حماية العوام وأشباه العوام من صولة التصوف والمتصوفة بقوله: «فهذه عدة نصائح وتحذيرات قد سقتها إليك، فزنها بميزان الشرع، وعليك بمطالعة كتب الشريعة من حديث وتفسير وفقه، والاقتداء بأئمة الدين من الصحابة والتابعين وتابع التابعين ومقلديهم من الفقهاء والمتكلمين، وإياك والاجتماع بهؤلاء الجماعة الذين تظاهروا بطريقة القوم.»

والشعراني وهو يهاجم التفلسف في التصوف، ويرفع الستار عن الدخيل والمدسوس على المتصوفة، لا ينسى أبدًا رسالته كصوفي، ولا ينسى أن يكشف الستار عن حقائق العلم الصوفي الصادق الذي صدر عن وجد وحب، أو عن ذوق رفيع، واصطلاح صوفي يدق على من لم يتذوق ألحان القوم ومقاصدهم.

ولهذا فهو يعقب على حملته بدفاع حار عن أقطاب التصوف، وعن كلمات لهم أو اصطلاحات أوَّلها الناس فخرجوا بالتأويل عن مقاصدهم وأهدافهم.

ومن هذا القبيل كلمة حجة الإسلام الغزالي المشهورة: ليس في الإمكان أبدع مما كان، والتي اتخذها ابن تيمية وسيلة لتجريح الغزالي والتهكم به، بدعوى أن في هذا القول ما يشبه الحجر على قدرة الله في الإبداع المستمر.

يقول الشعراني: كلمة الغزالي كلمة مؤمنة صادقة وإن جهلها خصومه؛ لأن جميع الممكنات أبرزها الله على صورة ما كانت في علمه تعالى القديم، وعلمه القديم لا يقبل الزيادة، وفي القرآن الكريم أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.

ودافع أيضًا عن شيخه الأكبر محيي الدين بن عربي، وأوضح ما يريده من قوله في الفتوحات وغيرها: حدثني قلبي عن ربي، أو حدثني ربي عن قلبي، أو حدثني ربي عن نفسه تعالى بارتفاع الوسائط.

يقول الشعراني: ليس مراده أن الله تعالى كلَّمه كما كلَّم الأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — وإنما مراده أن الله تعالى يلهمه على لسان ملك الإلهام بتعريف ببعض أحوال، فهو من باب قوله : «إن يكن في أمتي محدثون فعمر.»

ثم يقول الشعراني: ومما نقل عن القوم قولهم: اللوح المحفوظ هو قلب العارف، ليس مرادهم نفي اللوح المحفوظ، وإنما مرادهم أن قلب العارف إذا انجلى ارتسم فيه كل ما كتب في اللوح المحفوظ نظير المرآة إذا قابلها لوح مكتوب.

وقولهم أيضًا: «دخلنا حضرة الله وخرجنا عن حضرة الله، ليس مرادهم بحضرة الله — عز وجل — مكانًا خاصًّا معينًا، فإن ذلك ربما يُفهم منه التحيز للحق — تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا — وإنما مرادهم بالحضرة حيث أطلقوها شهود أحدهم أنه بين يدي الله — عز وجل — فما دام يشهد أنه بين يدي ربه — عز وجل — فهو في حضرته، فإذا حجب خرج عن حضرته تعالى.» وللشعراني في هذا الباب إسهاب وتفصيل لم يُسبق إليه.

وبذلك أنصف الشعراني التصوف الصادق بدفاعه الصادق، كما أنصف الحقيقة بهجومه على كل من شطح أو تفلسف فأوهم كلمه ما يخدش الإيمان، أو يتنافى مع حقائق الإحسان.

وكان الشعراني في الموقفين كعهده أبدًا على الجادة الواضحة والصراط المستقيم والطريقة الوسطى.

١  المنن، جزء أول، ص٢٤٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤