نشأته وحياته

أسرته

إلى الدوحة العلوية الهاشمية يرتفع نسب الشعراني، فجده الأعلى هو محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب — رضي الله عنهما.

وقد هاجر أجداده إلى المغرب الأقصى في الموجات المهاجرة من البيت العلوي التي اختارت الأطراف النائية من الإمبراطورية الإسلامية، فرارًا من الملاحم المتتابعة بينهم وبين البيت الأموي تارة، وبين البيت العباسي تارة أخرى.

وفي المغرب الأقصى استطاع العلويون أن يؤسسوا دولًا، وأن ينشئوا حضارات، وأن يظفروا بالحب والتأييد من شعوب الشمال الأفريقي كافة.

ولكنهم مع هذا لم يستطيعوا أن يوحدوا كلمتهم ودولتهم، بل انقسم بيتهم إلى بيوت، وتفرق جمعهم إلى قبائل وبطون؛ ولهذا تعددت دولهم، وتعددت بيوتهم المالكة، وتعددت قبائلهم الحاكمة.

وكان الملك في مدينة تلمسان وما جاورها لقبيلة بني زغلة، وإلى تلك القبيلة ينتسب عبد الوهاب الشعراني.

ومن خصائص العلويين أن المُلك لم يصرفهم عن العلم، ولم يباعد بينهم وبين الولاية الدينية والزعامة الروحية، فكان منهم الملوك، وكان منهم الأئمة الهداة.

ولهذا نرى في تاريخ بني زغلة «أسرة الشعراني» الملك والتصوف يدرجان معًا، ويعيشان معًا، ويتقاسمان الحياة سويًّا، ونشاهد جده موسى ابن السلطان أحمد يؤثر طريق الله على الملك ومجده، فيتتلمذ على ابن مدين الصوفي، ويترك المغرب مهاجرًا إلى مصر تلبية لأمره.

ولقد أرخ الشعراني لنفسه في كتابه المنن، فلنتركه يُحدِّثنا عن نسبه: «أحمد الله تعالى حيث جعلني من أبناء الملوك١ فإني — بحمد الله تعالى — عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن زوفا بن الشيخ موسى، المكنى في بلاد البهنسا بأبي العمران، جدي السادس ابن السلطان أحمد ابن السلطان سعيد ابن السلطان فاشين ابن السلطان محيا ابن السلطان زوفا ابن السلطان ريان ابن السلطان محمد بن موسى ابن السيد محمد ابن الحنفية ابن الإمام علي بن أبي طالب — رضي الله عنه.
وكان جدي السابع الذي هو السلطان أحمد٢ سلطانًا بمدينة تلمسان في عصر الشيخ أبي مدين المغربي، ولما اجتمع به جدي موسى قال له الشيخ أبو مدين: لمن تنتسب؟ قال: والدي السلطان أحمد، فقال له: إنما عنيت نسبك من جهة الشرف، فقال: أنتسب إلى السيد محمد ابن الحنفية، فقال له: ملك وشرف وفقر — أي تصوف — لا يجتمعن، فقال: يا سيدي، قد خلعت ما عدا الفقر، فربَّاه، فلما كمل في الطريق أمره بالسفر إلى صعيد مصر، وقال له: اسكن بناحية «هو»٣ فإن بها قبرك، فكان الأمر كما قال.»

وإذن فالشعراني يقرر أن جده موسى قد حضر إلى مصر بإشارة صوفية من الإمام أبي مدين؛ ليتولى تربية المريدين والسالكين، ويقيم للإيمان دولة على ضفاف النيل، مؤثرًا طريق الله ومجاهداته على نعيم الملك وأمجاده.

وهذا الأمر نهج صوفي نعرفه من تاريخ التصوف، فالمتصوفة يعتبرون أنفسهم المدرسة الإسلامية الكبرى التي تهيمن وتشرف على القلوب المحمدية، وتهيمن وتشرف وتسأل أيضًا عن النهضة الإسلامية والعبادات الربانية. ينظر المتصوفة إلى العالم الإسلامي على اعتباره أمة واحدة، هم رأسه المفكر وقلبه النابض؛ ولهذا درج كبار المتصوفة على تربية أفذاذ الرجال، حتى إذا كملوا وأعدوا بعثوا بهم إلى المراكز الإسلامية التي تحتاج إليهم دعاة وهداة.

وإذن فقد استقر الشيخ موسى أبو العمران ببلدة «هو» — وهي قرية كبرى من قرى الصعيد الأعلى، وأهلها من قبائل الهوارة أولي البأس والعصبية الإسلامية — وأسس الشيخ موسى فيها زاوية غدت مركزًا من مراكز التصوف في مصر، ومهدًا من المهود التي يستنبت بها رجال الدعوة الصوفية.

ولم يحدد لنا التاريخ السنة التي هاجر فيها موسى إلى مصر، ولكن كتب التاريخ حددت لنا تاريخ وفاته، فقد توفي ببلدة «هو» عام ٧٠٧ﻫ، بعد أن نجحت دعوته، واهتدى بهديها جمهورٌ ضخم من الصعيد الأعلى.

واستمرت أسرة الشعراني بالصعيد تحمل لواء العلم والولاية حتى مطلع القرن التاسع الهجري، فهاجر عميدها أحمد إلى ساقية أبي شعرة بالمنوفية، وأسس بها زاوية للعلم والعبادة، والتف الناس حوله ينهلون من معارفه وفتوحاته؛ فقد عُرف بالتفوق في العلوم الصوفية رغم أميته، كما اشتهر بالولاية والنفحات، وانتقل إلى جوار ربه عام ٨٢٨ﻫ.

وحمل اللواء بعده حفيده أحمد الذي أوتي حظًّا من العلم المعروف في الأزهر في عهده، وحظوظًا من العلوم الربانية التي اختص بها المتصوفة.

ثم تأذن ربك لهذا البيت الكريم؛ بيت الملك والدين، بأن عهد كماله وتمامه قد حان، فوهبه في ليلة مباركة الطفل العملاق عبد الوهاب الشعراني.

مولده

ولد الشعراني على أصح الروايات وأشهرها في ٢٧ من شهر رمضان عام ٨٩٨ﻫ، وكان مولده في بلدة «قلقشندة» — وهي قرية جده لأمه — ثم انتقل بعد أربعين يومًا من مولده إلى قرية أبيه، وإليها انتسب، فلُقِّب بالشعراني، وعُرف بهذا اللقب واشتهر به، وإن كان هو قد سمَّى نفسه في بعض مؤلفاته بالشعراوي.

ولقد اضطرب رجال التاريخ في تحديد مولده، فقد ذكر صاحب النور السافر تاريخًا لمولده قبل هذا التاريخ بقليل، وقد ذكر صاحب المناقب الكبرى تاريخًا آخر، وأما المناوي وعلي مبارك والمستشرق شاخت فقد أيدوا التاريخ الذي ذكرناه.

ونحن نرجح رواية المناوي؛ لأنه تلميذ الشعراني الأول وصفيه وصديقه، وهو بعد هذا أكبر المؤرخين الصوفيين بعد الشعراني، ويزداد ترجيحنا لهذه الرواية اتفاقها مع رواية علي مبارك، وهو من أدق من أرَّخ لهذه الفترة من التاريخ.

واضطرب رجال التاريخ أيضًا في الحديث عن طفولته ونشأته، فذهب المستشرقان «كرويمر» و«نيكلسون» إلى أنه اشتغل في مطلع حياته بالحياكة.

ولكن المستشرق «فولرز» يسخر من هذا القول قائلًا: «إن حياة الشعراني كانت زاخرة بالعبادة، حافلة بالتعليم، فلم يكن من الميسور أن يجد وقتًا يحترف فيه عملًا.»

ولست أدري من أين جاء المستشرقان بتلك الأقصوصة وتاريخ طفولة الشعراني صريح في أنه لم يضيع لحظة واحدة في غير العلم والعبادة؛ فقد حفظ القرآن وهو في سن التمييز، كما يقول، ودرس كتب النحو قبل العاشرة.

فهل هذا تاريخ رجل وهب نفسه للعلم والعبادة، أم تاريخ من يشتغل بالارتزاق من الحياكة؟ والشعراني يقول في صراحة: إن من منن الله عليه «أنه لم تكن هناك عوائق دنيوية تعيقني عن طلب العلم والعبادة، وكانت القناعة من الدنيا باليسير سَداي ولُحمتي، وهذه القناعة أغنتني عن الوقوع في الذلِّ لأحدٍ من أبناء الدنيا، ولم يقم لي أنني باشرت حرفة ولا وظيفة لها معلوم دنيوي من منذ بلغت، ولم يزل الحق تعالى يرزقني من حيث لا أحتسب إلى وقتي هذا، وعرضوا عليَّ الألف دينار وأكثر فرددتها ولم أقبل منها شيئًا، وكان التجار والكبراء يأتون بالذهب والفضة فأنثرهما في صحن جامع العمري فيلتقطه المجاورون.»

وجرى رجال التاريخ على أنه انتقل إلى القاهرة مع والده، وأن والده قد سعى له حتى أدخله الأزهر الشريف.

وتلك الروايات أيضًا تنحرف عن الحق وتجانب الصواب، فإن الشعراني — وهو أصدق من يُؤرخ لنفسه — يقول في المنن: «إنه حفظ في قريته القرآن الكريم وهو في باكورة طفولته، ثم حفظ «أبو شجاع» والأجرومية ودرسهما على أخيه الشيخ عبد القادر بعد وفاة والده.»

وإذن فقد مات والده، كما ماتت والدته، قبل حضوره إلى القاهرة، وكان هذا — كما يقول — من منن الله عليه؛ إذ نشأ يتيمًا من الأبوين، فكان نصيره ووليه الله.

ولقد مات والده عام سبع وتسعمائة للهجرة، ودُفن في زاويته بساقية أبي شعرة، وتاريخ انتقال الشعراني إلى القاهرة كما أرَّخه بنفسه يأتي بعد تاريخ وفاة والده بثلاثة أعوام.

الشعراني في القاهرة

مات أبوه وتركه طفلًا يتيمًا فقيرًا، ولكن هذا الطفل اليتيم الفقير كان عجبًا، كان عابدًا متبتلًا مستغرقًا في صلواته وأذكاره استغراقًا لا يعرف في مثل سنه، وحسبك أنه كان يقوم الليل وهو في الثامنة من عمره.

وكان يؤمن في أعماق نفسه بأنه قد حفَّ بعناية ربانية تعصمه من النقص في دينه، كما تعصمه من السوء في حياته.

وكان يؤمن بهذا إيمانًا قلبيًّا وجدانيًّا، ويسوق على إيمانه حشدًا من الأحداث والأدلة التي وقعت له في طفولته، ونجَّاه الله منها، وحفظه من عواقبها.

وكان دارسًا فطنًا ألمعيًّا ذا شغف ونهم بالعلوم، وحسبك أنه قبل أن يتم العاشرة كان قد درس من كتب النحو ما أهَّله لمجالسة العلماء.

وكان من يؤمن أيضًا إيمانًا قلبيًّا وجدانيًّا بأن الله قد وهبه فوق الذاكرة الواعية الحافظة فهمًا في العلم، وبصيرة في إدراك غوامضه ودقائقه.

مات أبوه فكفله أخوه العالم الصوفي الورع الشيخ عبد القادر، وعبد الوهاب يدين لأخيه بالكثير من التوجيه والحب الصادق، والرعاية الكاملة الواهبة المانحة، بل ويدين له فوق ذلك بالحضور إلى القاهرة حيث تفتحت أمامه الآفاق.

ويقص علينا الشعراني تاريخ حضوره إلى القاهرة بذلك الأسلوب الأخاذ الصادق الذي عرف عن الشعراني وعرف به، فيقول: «وكان مجيء إلى القاهرة افتتاح سنة عشرة وتسعمائة، وعمري إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، فأقمت في جامع سيدي «أبو العباس الغمري»، وحنن الله عليَّ شيخ الجامع وأولاده، فمكثت بينهم كأني واحد منهم؛ آكل ما يأكلون، وألبس ما يلبسون، فأقمت عندهم حتى حفظت متون الكتب الشرعية وآلاتها على الأشياخ.»

ثم يقول: «ولم أزل — بحمد الله — محفوظ الظاهر من الوقوع في المعاصي، معتقدًا عند الناس، يعرضون عليَّ كثيرًا من الذهب والفضة والثياب، فتارة أردها، وتارة أطرحها في صحن الجامع فيلتقطها المجاورون.»

والشعراني هنا يغفل الإشارة إلى حقبة من تاريخه في طلب العلم، وهي الفترة التي مكثها في الأزهر.

فإجماع رجال التاريخ على أنه حضر من قريته إلى الأزهر؛ حيث قضى خمس سنوات يتلقى العلم على يد شيخه علي الشوني، الذي أحبه وقرَّبه واصطفاه، ثم انتقل بعد ذلك إلى مسجد الغمري بناء على مشورة شيخه علي الشوني.

ومسجد الغمري كان في ذلك الوقت منارة للعلم، ومثابة للطلاب، وكانت الحياة فيه على غرار أمثاله من المساجد التي تحولت في العالم الإسلامي إلى معاهد علمية، لا يُكتفى فيها بالتعليم فقط، بل تجرى فيها أيضًا الأرزاق من الأوقاف والهبات على من يلازمها ويتخصص للعلم فيها.٤

ولبث الشعراني في مسجد الغمري يعلم ويتعلم ويتهجد ويتعبد سبعة عشر عامًا، ثم انتقل إلى مدرسة أم خوند، وفي تلك المدرسة بزغ نجم الشعراني، وتألق تألقًا ملأ الدنيا حوله صياحًا؛ صياحًا امتزج فيه هتاف الإعجاب من محبيه بعاصفة الانتقاد والافتراء من حساده وشانئيه.

وقد حاول بعض المستشرقين، وجاراهم بعض دارسي الشعراني من المعاصرين، أن يلقوا ظلالًا من الشكوك والريب حول انتقاله المفاجئ من مسجد الغمري إلى مدرسة خوند، فحاكوا أسطورة خيالية حول حب الشعراني لابنة شيخ مسجد الغمري، وغضب والدها لذلك، ولم يأتوا بدليل واحد على دعواهم، وإنما أقاموها استنتاجًا خياليًّا؛ لأنهم كما يقولون لم يجدوا مبررًا لهذا الانتقال، فلا بد إذن أن يكون هناك ثمة سبب خفي. وهذا السبب الخفي لا بد وأن يكون شجارًا بين الشعراني وشيخ المسجد، وهذا الشجار لا بد وأن يكون أساسه حبًّا فاشلًا بين الشعراني وابنة الشيخ.

وتلك الأسطورة الاستنتاجية أشبه بالروايات المهلهلة التي أولع بها كتاب القصص الذين لا ينظرون إلى الحياة إلا من وراء عدسات الخيال الجنسي.

ويحدثنا علي مبارك عن تلك الفترة من حياة الشعراني فيقول: «لقد راض الشعراني نفسه على النهج الصوفي وهو في جامع الغمري، فطار ذكره وذاع في الناس أمره، وكان شيخه علي الشوني قد أذن له في أن يرتب بهذا المسجد مجلسًا للصلاة والسلام على رسول الله، ولكن أولاد الغمري أكل قلوبهم الحسد على تلك المكانة العالية التي ظفر بها الشعراني، فطلبوا منه أن يغادر مسجدهم.»

ويروي صاحب النور السافر أن الشعراني أخذته حالة وجد ذات يوم، فصاح باسم الله صيحة ارتجت لها جدران المسجد، وكاد يتصدع منها بيت الشيخ أبي الحسن الغمري، وكان على كثب منه، فاستفسر هذا عن صاحب الصوت حتى إذا عرفه هم بالرحيل إلى بيت آخر، ولكن الشعراني كان قد سبقه إلى الرحيل تاركًا وراءه كل ما يملك، وولى وجهه شطر بين السورين، حتى حط رحاله بمدرسة أم خوند، وأقام تجاهها ستة أيام، فرأى في منامه أن رسول الله — صلوات الله عليه — قد أذن له بالإقامة بها، فدخلها مع أسرته.

ولا تعارض في الجوهر بين رواية علي مبارك وبين رواية صاحب النور السافر؛ ففي الرواية الأولى أن أولاد الغمري نفسوا عليه مكانته حتى طلبوا منه الرحيل عن مسجدهم.

وفي الرواية الثانية أن الشيخ تظاهر بالرحيل لسبب تافهٍ يُضمر وراءه أكثر من معنى، وأدرك الشعراني الغاية والهدف من هذا التظاهر؛ فسارع هو بالانتقال أدبًا مع شيخه، واختصارًا للخطوة الثانية التي لا ريب فيها، بعد أن طغى اسم الشعراني على الشيخ وعلى أسرة الشيخ.

وإذن فهذا الانتقال كان سرُّه التنافس والحسد لا الحب والهوى. كان ضرورة طبيعية للشعراني، فقد آن أن يستقل بنفسه وبمجالسه العلمية، وآن له أن يكون صدرًا لهذه المجالس لا مجرد تابع وتلميذ.

١  المنن، جزء ١، ص٣٢.
٢  هو أبو عبد الله أحمد الزغلي سلطان تلمسان وما والاها.
٣  إحدى مدن مديرية قنا.
٤  يقول ابن خليكان، ج١، ص٥٥: إنه كان في كل جامع كبير مكتبة؛ لأنه كان من عادة العلماء أن يوقفوا كتبهم على المساجد.
ويقول المقدسي: إن المساجد في القاهرة تحولت إلى معاهد عامرة بالطلاب، حتى إنه أحصى في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة وعشرة مجلسًا من مجالس العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤