الشعراني المفترى عليه حيًّا وميتًا

يقول الشعراني: إنه ما كان عظيم قط في عصر من العصور إلا وكان يلازمه ملازمة الظل خصوم وحسدة يملئون الجو صياحًا وجدلًا، ويشعلون النار فوق رأسه حقدًا وحسدًا.

ويستشهد الشعراني على ذلك بما وقع للأنبياء كافة، ثم لكبار الصحابة وعظماء الرجال في مختلف الأمم والشعوب، ليبتلي الله عباده، وليتميز الخبيث من الطيب، ولتمتحن الأعواد الإنسانية الصلبة ومقدار قدرتها على البقاء والخلود.

وقد أصاب الشعراني ما أصاب أسلافه من مصابيح الإنسانية وأعلام الهدى والإيمان.

فقد ملأ خصومه الدنيا حوله حقدًا وحسدًا وافتراءً وكذبًا — كما أوضحنا في الفصول السابقة — حتى أذاعوا نبأ موته تشفيًّا وحقدًا.

يقول الشعراني: «وكان حسادي يُحرِّفون عني مسائل لم أقل بها قط، ثم يكتبون بها أسئلة ويستفتون عنها العلماء، فيفتون بحسب السؤال، ثم يدورون بخطوط العلماء على الناس، فيحصل لي من ذلك أجور لا تُحصى من كثرة الوقوع في عرضي بغير حق.»١

ولا تزال الأجور التي لا تُحصى تُلاحق الشعراني في الدار الآخرة، فالشعراني الذي افترى عليه خصومُه في حياته لا يزال الافتراء يلاحقه ويتابعه وهو في مقامه عند ربه.

وإن كان خصومه في حياته دفعهم إلى الافتراء عليه الحقدُ والحسد، فإن خصومه اليوم يدفعهم إلى الافتراء إمَّا التأثر بما قال أسلافهم القدامى، وإمَّا الجهل بما قال الشعراني نفسه.

وهذا باب كبير يكاد يحتاج إلى كتاب خاص، ولكننا نجتزئ هنا بمثال واحد من أبشع ما نُسب إلى الشعراني.

نسبوا إليه أنه قال في «المنن»: إنه بنى بزوجته في قبة البدوي، وأطلق الدكتور زكي مبارك لسانه وألفاظه الضخمة القاسية تعقيبًا على هذه الحادثة البشعة الرعناء.

والدكتور زكي مبارك ومعه رجال الاستشراق قد أخطئُوا في اتهامهم للشعراني في البديهيات، أخطئوا كما يخطئ التلميذ الصغير الساذج في فهم الكلام الواضح المبين، فيحرف الكلم عن مواضعه، ويُخرج المعنى عن أهدافه ومقاصده.

يقول الشعراني: «ومما وقع لي مع سيدي أحمد البدوي أنه جاءني ودعاني أيام خروج الناس من مصر إلى مولده، فلما ذهبت إلى «طندتاء» صار كل مَن دخل القبة يبدأ بالسلام عليَّ قبل زيارة الشيخ حتى استحييتُ منه — وكانت أم ولدي عبد الرحمن لها معي مدة سبعة شهور وهي بكر — فجاءني وقال لي: اختلِ بها في ركن قبتي وأزِلْ بِكارَتَها ففعلتُ، فطبَخ لي طعامًا وحلوى، فلما رجعت إلى مصر حصل ما أشار به في تلك الليلة.»٢

ذلك قول الشعراني، وهو أوضح من فلق الصباح، فالقصة كما هو واضح قصة منامية، جاءه السيد البدوي في الرؤيا، ودعاه لزيارة مقامه في طنطا، ثم طلب منه في منامٍ تالٍ أن يختلي بزوجته التي لم يدخل بها رغم مرور سبعة أشهر على زواجه بها في رُكنِ قُبَّته، ثم يقول الشعراني في لفظ عربي مبين: «فلما رجعت إلى مصر حصل ما أشار به السيد في تلك الليلة.» أي أن الشعراني دخل بزوجته في مصر عقب عودته إليها تنفيذًا لما رأى في منامه.

وللمنامات عند المتصوفة مقام كبير، يحتذون في ذلك سنة رسول الله — صلوات الله عليه — فقد جاء في كتب الصحاح أن النبي كان إذا أصبح يقول لأصحابه: «مَن رأى منكم رؤيا؟» يعني أُعبِّرها له.

والشعراني يقول في كتبه: إنه كان ينبه في المنام على الأمور التي تقع، كما كان ينبه على أحواله ومقاماته وذنوبه وأخطائه من باب التأديب والتعليم بالرمز والإشارة.

والشعراني بنى بزوجته — كما يقول — ومضى عليها معه سبعة أشهر وهي بكرٌ لم يدخل بها، فنُبِّه منامًا على خطئه، ووجوب الدخول بها، وكان مرشده في الرؤيا هو السيد البدوي.

أو لعل الشعراني كان في حالة نفسية حالت بينه وبين الدخول بزوجته، فكان المنام الذي رأى سببًا في إصلاح تلك الحالة النفسية أو العقدة النفسية.

وعلى أي معنى من هذه المعاني، فقد صرح الشعراني بأنه لما عاد إلى مصر حصل ما أشار به السيد في المنام؛ أي أنه دخل بزوجته في مصر لا في قبة البدوي.

وبذلك تنهار تلك الأقصوصة المسرحية التي نسجوها حول الشعراني، وما أكثر ما نسجوا حوله من أقاصيص وأساطير!

١  الجزء الأول من المنن، ص١٢٢.
٢  الجزء الأول من المنن، ص١١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤