صلاته بالملوك والوزراء

يحدثنا الجبرتي وابن إياس والشعراني وعلي مبارك — وهم من مؤرخي مصر في العصر التركي — عن لون الحياة في المدن والقرى المصرية، وعن لون الحكم الذي فرضه الأتراك على مصر حديثًا عجبًا يخلع القلب، ويذهل العقل.

فلقد خضعت مصر خلال الحكم التركي لأقسى أنواع العذاب البربري الهمجي؛ إذ تولى أمورها حكام طغاة جبابرة، وزاد من بشاعة جبروتهم جهلهم الفاضح، واستهتارهم بكل المقدسات الإنسانية.

كانت مصر خلال هذا الحكم العسكري الدكتاتوري تعاني الظلم والفساد، ونشأ عن الظلم والفساد في البيئات الحاكمة انتشار الجهل والفقر والمرض في ربوع الأرض الطيبة والوادي ذي الزرع والخير العميم.

واختل الأمن وفقد الناس السلامة في كل شيء، فما بقي للمال أو الدين أو الحياة قيمة أو كرامة.

يقول الجبرتي: «وقد كان من عادة الفرق العسكرية التركية أن تشارك أصحاب الحرف في مكاسبهم، فيمضي الجندي منهم إلى التاجر، ويخلع سلاحه، ويعلقه في المحل، ويصبح شريكه في أرباحه.»١

ثم يقول واصفًا للفوضى العامة الشاملة: «وكان التاجر لا يكاد يستقر في متجره حتى يسمع الناس يتصايحون ويتسابقون في العَدْوِ، وسرعان ما يحسبها فتنة قد شبَّت نارها؛ فيبادر بإغلاق محله ويلوذ فرارًا.»

ويقول صاحب «المناقب» متحدثًا عن الفلاح والقرية المصرية: «وكان الفلاح في قريته مُعرَّضًا لنوع آخر من الفزع والجزع: كان القضاة والكشاف يحطون عليه ويطالبونه بدفع الضرائب والأدوات، فإن عجز عن الدفع انتزعوا منه أرضه، وأذاقوه العذاب ألوانًا وأشكالًا بالمقارع والكسارات، وعصر الرأس، وإمرار الطونس على ظهره، وإدخال البوص بين الظفر واللحم، والتعليق، ووضع الخوذة المحماة بالنار على الرأس.»٢
ويقول ابن إياس واصفًا للمباشرين الذين أذلوا الشعب المصري ونهبوا أمواله: «كان المباشرون كالملوك يتصرفون في أمور الدولة بما يشاءون وليس على يدهم يد.»٣

وكان أخطر ما عانى الشعب المصري فوق ذلك أن العلماء — كما يقول المؤرخون — مشوا في ركاب الطغاة من الحكام والولاة، وغدوا لهم بطانة وحاشية؛ فزادوهم ظلمًا وعدوانًا، وأسبغوا على ظلمهم وعدوانهم ظلًّا كاذبًا من الدين.

وبقي المتصوفة وحدهم يحملون مشاعل الجهاد، ويصرخون في وجه كل جبار: قف، مَن أنت؟

ورجال التصوف عُرفوا دائمًا بانتفاضهم على الظلم والظالمين؛ لأنهم ارتفعوا بحياتهم فوق الرغبة والرهبة، وسموا بإيمانهم فوق ما يذل الناس من شهوات، وفوق ما يخيف الناس من جبروت.

أو كما يقول علي مبارك متحدثًا عن موقف المتصوفة من جبروت الولاة الأتراك: ولكن هذا الجبروت كان ينحل أمام زعماء المتصوفة.

ولقد تركزت قوة التصوف خلال هذا العهد في زعيم التصوف الشعراني، وبذلك تمثلت في الشعراني مقاومة الشعب المصري وتمرده على الظلم والظالمين.

واستطاع الشعراني بإيمانه وشخصيته وجهاده أن يُمثل سلطة الشعب، وأن يرد العدوان عنه، وأن ينتزع له حقوقًا من ظالميه.

سئل غاندي عن السر في أن الإنجليز لم يستطيعوا أن ينالوا منه، أو يخضعوه لسلطانهم مع ضعفه وقوتهم، فقال: «يرجع ذلك إلى سببين؛ الأول: أني لا أملك شيئًا يستطيع الإنجليز أن يأخذوه مني، فحرصًا عليه أخضع، والثاني: أني لا أطمع في شيء يستطيع الإنجليز أن يمنعوه عني، وطمعًا فيه أخضع.»

وكذلك كان موقف الشعراني من جبابرة الأتراك، لا يمد عينه إلى ما لديهم من متاع وجاهٍ، ولا يحرص على شيء في الحياة.

ويحدثنا الشعراني عن نفسه بأنه كان لا يقبل مالًا أو هدية من حاكم، فإذا ألحوا عليه تقبَّل المال بيده، وطوَّح به على مرأًى منهم ومشهد من الناس.

بل لقد رفض أن يلتمس له أحد الوزراء معونة الخليفة في تركيا، وكانت في ذلك الوقت شرفًا أي شرف، وأملًا أي أمل.

وكان الشعراني في تواضعه يتكبر على المتكبرين، ويتعالى على هؤلاء الجبارين؛ ليحفظ كرامة إيمانه، وكرامة شخصه، وكرامة وطنه.

قال له الوزير الأعظم، علي باشا، عندما عزم على الرحيل إلى تركيا: إننا مقربون إلى الخليفة؛ فهل لك حاجة عنده؟ فأجابه الشعراني في عزة المؤمن: ألك حاجة عند الله؟ إننا مقربون إلى حضرته.

وبتلك العزة الإيمانية يرى الشعراني أن الملوك في طاعته؛ لأنه في طاعة الله، وفي مصالح عباده، يقول الشعراني: «تشفَّعتُ عند السلطان الغوري، والسلطان طومان باي، وخاير بك، وغيرهم من باشوات مصر، فقبلوا شفاعتي، وذلك معدود من جملة طاعة الملوك لي.»٤

وبتلك العزة الإيمانية غدا الشعراني المحامي الأول عن الشعب المصري، أو كما يقول: «ومما منَّ الله به عليَّ كثرة قبول شفاعتي عند الأمراء، ولا أعلم الآن أحدًا في مصر أكثر مني شفاعة عند الولاة، فربما يفنى الدست الورق في مراسلاتهم في حوائج الناس في أقل من شهر.»

وارتفعت مكانة الشعراني بدفاعه عن الشعب، وبإيمان الملوك والوزراء بأنه رجل فوق الإغراء، وفوق المادة، وفوق وظائفهم، وفوق ما يستعبدون به الناس، وقد امتحنوه سرًّا وجهرًا، فأرسلوا له الأموال والخيرات، فردَّها عليهم، فأعادوها سرًّا، فازداد اعتصامًا وإصرارًا.

وعرضوا عليه الوظائف والهبات من الخليفة، فأبى أن يأخذ مالًا من حاكم، أو حتى أن يأكل من طعامه؛ لأن في ذلك ما يخدش عقيدته، وما يخدش رسالته.

وطارت شهرة للشعراني بأنه رجل كرامات وآيات، وأن من يعصي له أمرًا ينكب في ماله، أو جاهه، أو حياته.

ويحدثنا صاحب «المناقب» عن إيمان جبابرة الترك من الولاة والوزراء بكرامات الشعراني وقوته فيقول: فقد ترتب على هذا الخوف أن الولاة كان إذا زارهم الشعراني أسرعوا إليه يُقبِّلون يديه، ويتبركون به، ويجلسون على الأرض بين يديه، ويسارعون إلى قضاء أوامره وشفاعاته.

ويقول لنا صاحب «المناقب» أيضًا: إن الأمراء كانوا يلتمسون منه أن يوصي بهم خيرًا أينما اتجهوا في أرجاء الإمبراطورية التركية، حتى إنه كتب مرة يوصي العجم والروم بالأمير جاثم الحمزاوي، كما كان يولي القضاة والمحتسبين وكبار الموظفين، ويُرجع إليه في كل أمور الدولة صغيرها وكبيرها.

بل إن علي مبارك ليحدثنا عن خوف الإمبراطورية التركية كلها من الشعراني، ومسارعتها إلى إرضائه اتقاءً لغضبه.

ويكفي للدلالة على مكانة الشعراني ما يرويه لنا أيضًا علي مبارك، من أن أحد الولاة تعرض لذرية الشعراني بعد وفاته، فتسامع السلطان في تركيا بأنباء هذا العدوان، مع أن أحدًا من ذريته لم يرفع شكواه إليه، فأرسل السلطان بكف العدوان عنهم، وهدد من ركب رأسه في مناوأتهم باعتباره طريد القانون، وأنذر بإهدار دمه جزاء عناده.

حتى الموت لم يستطع أن يحجب نفوذ الشعراني؛ لأنه نفوذ قام على الإيمان والعقيدة، وكل ما يتصل بالإيمان والعقيدة خالد لا يفنى.

١  الجبرتي، ج٢، ص١٢٤.
٢  المناقب الكبرى، ص١٢١.
٣  ابن إياس، جزء ٣، ص١٨١.
٤  المنن، جزء ٣، ص٢٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤