الفصل الأول

سياسة محمد علي

تمهيد

تضافرت عدة عوامل في السنوات القليلة التي تلت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية على زيادة اقتناع محمد علي بضرورة العمل من أجل دعم أركان ولايته، كان أولها — ولا شك — تصميمه على الاحتفاظ بباشويته في وجه كل ما قد يتهدَّدها من أخطار، سواء أكان مبعث هذه تغيُّر الباب العالي عليه ورغبته في إقصائه عن الولاية، أم منازعة البكوات المماليك لسلطانه، أم تجدد الغزو الأجنبي على البلاد. ولم تكن هذه جميعًا أخطارًا جديدة، بل هي في جوهرها نفس الأخطار التي هددت بزوال الملك من يده في الأعوام الثلاثة السابقة، والتي استطاع التغلب عليها بعد تجارب قاسية مريرة وضعت باشويته في يد القدر، ومرت من جرَّائها بهذه الأزمات التي كادت تقضي عليها.

(١) البرنامج الداخلي

وعلى ذلك، فقد رفض محمد علي — وقد تخطَّى العاصفة، وجلا الإنجليز عن البلاد — أن يمر بتجربة أخرى شبيهة بهذه التجربة، فرفض أن يظل هدفًا يصوِّب إليه الباب العالي سهامه كلما تراءى له ذلك، أو لقمة سائغة قد يطمع البكوات المماليك في ازدرادها بسهولة إذا استطاعوا، وهم باقون على مناوأتهم له أن يفيدوا من فرصة غزو أجنبي آخر أو مؤامرة جديدة لعزله أو نقله تُحاك خيوطها في القسطنطينية، كما رفض أن يظل مكتوفَ اليدين أمام جنده الذين تطلَّع بعض رؤسائهم إلى الولاية ذاتها، وعمدوا إلى تحريك الفتن بين الأجناد أنفسهم لإضعاف حكومته، أو شقوا عصا الطاعة علنًا وتزعموا العصيان والفتنة، وأخيرًا، فقد رفض محمد علي البقاء تحت رحمة نظام مالي مُنع عن خزانته قسمًا لا يُستهان به من إيرادات حكومته في وقتٍ عظمت فيه حاجته إلى المال، ولم يكن من المتيسر العثور على المال من غير اللجوء إلى كل طريق، وطَرْق كل باب، وابتكار كل وسيلة جديدة لسد مطالب الحكم والإدارة العادية من جهة، ولمعالجة الأدواء التي ترتبت على وضع البلاد كإحدى ولايات دولة متخاذِلة ومستضعَفة يسعى أعداؤها لتمزيق أوصالها، وتعجز هي عن تأسيس الحكم القوي في ولايتها.

ولم يكن هناك معدًى عن أن يسلك محمد علي في سبيل الحصول على المال طريقًا عدَّه شاذًّا كثيرٌ من المعاصرين — مصريين وأجانب — عندما تعطَّلت مرافق البلاد بسبب الأزمات السياسية المتلاحقة، وكفاحه المستمر مع المماليك منذ وصوله إلى الحكم، فكسدت التجارة، وبطلت الصناعة — على ضآلتها — وأُهمِلت الزراعة، وذلك في الأقاليم التي دخلت في حوزته من أقاليم باشويته، بينما استأثر البكوات دونه بمديريات الفيوم والصعيد الغنية بحاصلاتها الزراعية، ورفضوا دفع «الميري»، فكان وضعًا شاذًّا تطلَّب لعلاجه وسائلَ شاذة، كان من بينها في نظر الأهلين مقاسَمة الملتزمين «فائظ الالتزام»، وحرمان المشايخ من مسموحهم، وتحصيل الضريبة على فائض إيرادات الأملاك الموقوفة، وما إلى ذلك مما سوف يأتي ذكره جميعه.

ولما كان المشايخ قد توهَّموا أن من حقهم في هذه الأحوال الشاذة مُطالَبة الباشا بتنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه عند وصوله إلى الحكم في عام ١٨٠٥، وأن من حقهم — وهم الذين عاوَنوه على اجتياز بعض الأزمات الشديدة التي صادفها خلال العامَين التاليَين — أن يُلزموه بطلب النصح والرأي منهم، واعتبر بعض الرؤساء القاهريين كالسيد عمر مكرم، أن الواجب يقتضي الباشا إشراكهم معه في ممارسة شئون الحكم، واعتبر سوادهم — وإن كانوا من غير المتصدرين وناشدي الزعامة كالشيخ عبد الرحمن الجبرتي — أن الظلم والطغيان هما شيمتا الحكم الذي أقامه الباشا، فقد استلزم العمل من أجل دعم أركان الباشوية أن يقضي محمد علي على عناصر هذه المقاوَمة التي لم يكن هناك بدٌّ من استفحال شرِّها إذا تُرِكت وشأنها، أو مكَّن الباشا لحاملي لوائها من المعارضين من مُقاسَمته السلطةَ والحكم، سواء أكان هؤلاء من الذين يتحيَّنون الفُرص للجهر بنقدهم لأساليبه علانيةً، أم إنهم يُؤثِرون التذمُّر في صمت وسكون وإن اشتدت كراهيتهم لحكمه، فلم يكن انفراده بالسلطة إلا إقصاءً لطائفةٍ اقتصر دورهم في الأجيال السابقة على الوساطة والشفاعة بين الأهلين وحكَّامهم، وكان محمد علي وحده، بسبب الأزمات التي صادفها في السنوات القريبة، المسئولَ عن قيامهم بذلك الدور السياسي الذي استهدف «قلب نظام الحكم» في هذه الولاية، والذي وجب عليه الآن — وقد أراد التفرغ لتحقيق غايته الكبرى — أن يجرد هذه الفئة الدينية من كل سلاح قد يعمدون إلى استخدامه ضده، عامدين أو غير مُقدِّرين لعواقبه، لتقويض عروش ولايته.

على أن العثور على المال، أو تطويع الجند، أو القضاء على الفتن والقلاقل الداخلية، أو إقصاء المشايخ، كانت جميعها مسائلَ لم يَلقَ محمد علي عنتًا أو إرهاقًا كبيرًا في معالجتها، بل تضاءلت خطورتها في واقع الأمر إلى جانب نضاله مع البكوات المماليك؛ وذلك لأن ما وقع من حوادث خلال سِني ١٨٠٥ و١٨٠٧ قد نهض دليلًا على أن مبعث الخطر على باشويته من هؤلاء البكوات لم يكن قوتهم أو قدرتهم على مناوأته وقتاله، بقدر ما كان اعتمادهم على معاوَنة إحدى الدول الأجنبية لهم لتمكينهم من استرجاع نفوذهم وسلطانهم في حكم البلاد، أو احتمال مبادرة الباب العالي بتأييدهم من جديد. وقد شهد محمد علي عمارة القبطان صالح باشا تأتي إلى مياه الإسكندرية لتنصيب الألفي شيخًا للبلد ولنقله هو إلى سالونيك، كما أنه شهد الإنجليز يأتون بحملتهم لاحتلال الإسكندرية، وينشط وكلاؤهم وقوَّادهم في استنهاضِ هِمة البكوات وحثهم على النزول من الصعيد والانضمام إليهم بفرسانهم، وكان بعدَ مشقةٍ وجهدٍ عظيمَيْن أن نجح محمد علي في جعل البكوات يلزمون خطة الحياد في النضال الدائر بينه وبين الإنجليز.

بيد أن هؤلاء البكوات، ما كانوا ليرضوا بالحياد، لو أنه كانت لهم زعامة نابهة ولم تفرِّقهم الخلافات، ولولا توسُّط الوكلاء الفرنسيين مع أقوى طوائفهم. وتلك أمور قد تتبدل، لو أن غزوة جديدة وقعت، وحزم البكوات أمرهم، وشاءوا وقتئذٍ درك ما فاتهم وتصحيح أخطائهم الماضية.

وكما كانت «حملة فريزر» أحد الإجراءات التي اقتضاها الموقف العسكري-السياسي في أوروبا، فقد يجدُّ على هذا الموقف نفسه ما يدعو الإنجليز لإعادة كرَّتهم على مصر، أو ما يدعو الفرنسيين في هذه المرة إلى سبق غرمائهم في احتلال هذه البلاد، وكلا الاحتمالين ماثل، ما دامت مصائر هذه الولاية مرتبطة بتطور العلاقات بين تركيا وبين المعسكرَيْن المتناضِلَيْن «إنجلترة وفرنسا»، ولا تتمتع الباشوية ﺑ «وضع» يأذن لها بالوقوف موقف الحياد إذا رأت تركيا الانحيازَ إلى أي هذين المعسكرَيْن، وكلا الاحتمالَيْن ينطويان على أخطار محققة، لا من حيث تعريض هذه البلاد للغزو فحسب، وانغماسها لذلك في حربٍ يجهل المتفائلون والمتشائمون على السواء نتائجَها، ولكن كذلك لتوقُّع قيام الحرب الأهلية في داخل البلاد ذاتها عند انضمام البكوات إلى الأعداء الغُزاة.

(٢) البرنامج الخارجي

ولذلك فإنه بينا بذَلَ محمد علي جهده لتأمين استقرار الحكم في الداخل، ظل يُعنى عنايةً فائقة ليتوقَّى الخطر الخارجي، ولم يعتور وسيلتَه لتحقيق هذه الغاية الأخيرة لبْسٌ أو إبهام، فهو قد عرف أن مصدرَ الخطر عليه دولتان، هما إنجلترة وفرنسا، وهو قد عرف أن الركون إلى جانب الباب العالي لا يكفل له السلامة، وقد رسمت له الحوادثُ الماضية الطريقَ التي ينبغي عليه أن يسلكها، كما استولد منها عناصرَ برنامجه السياسي الذي يدور حول أمر واحد؛ تقرير الحكم الوراثي في مصر. فهو إذا فاز بمحالَفة الإنجليز أو نجح في كسب صداقتهم، ثم وثَّق علاقاته بفرنسا، وهما المعنيتان بأمر مصر أكثر من غيرهما من الدول، فحصل بفضل ذلك على «الوضع» الذي يريده لباشويته، سهل عليه حينئذٍ، وبالوسائل التي يدريها، إقناع الباب العالي بالتسليم مرةً أخرى بالأمر الواقع، وأما إذا فشلت جهوده معهما، فلا مفرَّ عندئذٍ من استرضاء الباب العالي، ومحاوَلة الظفر منه بالوضع الذي يريده. على أن النجاح في كلا الأمرَين توقَّف قبل أي شيء آخَر على مدى استقرار حكم الباشا في ولايته بالدرجة التي تمكِّنه من إسداء الخدمات التي قد يكون أصدقاؤه في حاجةٍ إليها، ثم الذَّوْد عن حياض ولايته إذا بدا لأعدائه إقصاؤه عنها.

ومنذ حملة «فريزر» لم يكن وعرًا الطريق الذي صار على الباشا أن يسلكه في علاقاته مع الدولتين المتناضلتين؛ إنجلترة وفرنسا، فقد كان من أهم آثار هذه الحملة، أنه عدا ما جاءه من تعليمات عامة من الباب العالي تدعوه إلى تشديد النكير على الإنجليز وطردهم من البلاد، وتُنبِئه بأن أوامر قد صدرت لحاكمي الشام وصيدا لنجدته، فقد استقلَّ محمد علي بتدبير مسألة إجلاء العدو عن الولاية، وانفرد وحده بتحمُّل عبء القتال، ونشأ في مصر ميدان للعمليات العسكرية بمعزل عن ميادين الحروب الأخرى التي اشتبكت فيها الدولة، واختص الباشا بوصفه المسئول الأول عن تأمين سلامة ولايته بإدارة شئون الحرب والسياسة حسبما يراه محققًا لبلوغ هذه الغاية الأخيرة، واستهدف في نشاطه غرضًا مباشرًا ما كان يتفق الظفر به وما تريده الدولة، ونعني بذلك الاستيلاء على الإسكندرية وإدخالها في نطاق باشويته، بعد أن ظل الباب العالي يحرص دائمًا على بقائها خاضعةً في إدارتها له رأسًا، ولم يتلقَّ محمد علي أية تعليمات من الديوان العثماني تجيز له عقد صلح منفرد مع أعداء الدولة، ولم يُطلِع محمد علي هذا الديوانَ على الشروط التي تفاوَضَ فيها مع مندوبي القائد الإنجليزي، وحرص بطبيعة الحال على أن يظل أمر «المحالفة» التي عرضها على هؤلاء سرًّا مكتومًا.

وقد ترتَّب على استقلال الباشا بإدارة شئون الحرب والسياسة أثناء هذه الحملة، أن صار هو وحده في اعتبار القواد الإنجليز والوكلاء الفرنسيين، المرجعَ الذي يرجعون إليه، في المسائل المتعلقة بها، فلم تكن هناك مندوحة للإنجليز عن الاتصال به والمفاوَضة معه رأسًا، لا بوصفه غريمهم الذي ينازلهم فحسب، بل وأهم من ذلك أيضًا؛ لأن مفاوضتهم مع الباب العالي قد فشلت ولم يتسنَّ لهم آنئذٍ عقد صلح مباشر مع الدولة؛ ولأنهم بسبب هزيمتهم في مصر ولتصميمهم على التمسُّك بقاعدتهم الهامة في صقلية قد قرَّروا الجلاءَ عن الإسكندرية، وارتضوا بتسليم الإسكندرية إلى محمد علي لقاء إطلاق سراح الأسرى الإنجليز. حقيقةً كان «السير آرثر باجيت» قبل انقطاع المفاوضة مع القبطان باشا السيد علي الجزائري، قد توصَّل إلى اتفاق مع هذا الأخير بصدد إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، وكتب إلى محمد علي في هذا المعنى في ١٦ سبتمبر ١٨٠٧، ولكن رسوله «مورييه» الذي حمل رسالته هذه كما حمل رسالة القبطان باشا إلى محمد علي، لم يصل إلى الإسكندرية — كما عرفنا — إلا يوم ٢٢ سبتمبر؛ أيْ بعد إبرام اتفاق الجلاء عنها، وبعد أن كان قد تم إطلاق سراح الأسرى الإنجليز وتسليمهم.

ولا جدال في أن «محمد علي» في قيامه بالمفاوَضة رأسًا مع القواد الإنجليز، دون تدخُّل الباب العالي أو إشرافه على هذه المفاوضة، قد كسب «وضعًا» جديدًا يضعه عمليًّا على قدم المساواة مع حكَّام وجاقات الغرب، ويخوِّله حق التطلُّع إما إلى تقرير هذا «الوضع» الجديد من الناحية القانونية أو الشرعية بحمل الباب العالي على استصدار الفرمانات اللازمة لذلك، وإما إلى استدامة تقريره فعلًا، بالحصول على موافقة الدول — وأهم هذه في نظره، إنجلترة وفرنسا — على هذا «الوضع»، وزيادة على ذلك فإنه إذا استمر تسليم الدول بهذا الأمر الواقع، وتبع ذلك انتفاء معارضتها له، غنم الباشا مغنمًا كبيرًا يعينه على التفرغ لمعالَجة هذه المسألة ذاتها وبالطرق التي يعرفها في القسطنطينية.

وكما صار الإنجليز يرجعون إليه فيما يتصل بإجلاء جيشهم عن هذه البلاد، وارتضوا بإبرام اتفاقية الجلاء معه رأسًا، فقد وجد الوكلاء الفرنسيون من جانبهم أيضًا، ألَّا سبيل لتعزيز مصالح فرنسا في مصر إلا بتوثيق علاقاتهم مع الباشا، ولقد شاهدنا كيف أن القاهرة، لا القسطنطينية، كانت ميدان نشاط العملاء الفرنسيين للتنكيل بجيش «فريزر» وضمان إخفاقه، ثم لمنع الاتفاق بين محمد علي والقواد الإنجليز، وقد فشل هؤلاء العملاء في مبتغاهم الأخير، ولكنهم لم يجدوا مناصًا من قبول الأمر الواقع ورضوا ﺑ «التفسيرات» التي أدلى بها إليهم محمد علي، والتي كانت فحواها أنه لا يعتزم مصافاة الإنجليز، بل إنه سوف يقلب لهم، عند أول بادرة وبمجرد جلائهم عن البلاد، ظهرَ المجن. وكان من بواعث رضاهم بتصديق هذا الادِّعاء أن «محمد علي» كان بيده هو وحده إلحاق الأذى بالمصالح الفرنسية في مصر، إذا شاء، أو صون هذه المصالح، وفضلًا عن ذلك، فإنه لم يبدُ منه منذ وصوله إلى الحكم ما يدل على أنه يريد التخلي عن صداقة فرنسا، بل ثابر — على العكس من ذلك — على إنشاء صلات المودة مع الوكلاء الفرنسيين، ثم توقَّفت هذه الصلات بينه وبينهم في الأعوام الأخيرة، زد على ذلك أن الإمبراطور «نابليون» قد عقد معاهدة «تلست» مع القيصر الروسي، ولم يَعُد خافيًا على الوكلاء الفرنسيين في مصر أن الإمبراطور لا يزال يُمني النفس باحتلال هذه البلاد، ثم إنهم أدخلوا في حسابهم أن تطوُّرات الموقف في أوروبا قد تُفضِي إلى إرسال حملة فرنسية إلى مصر، مثلما فعل الإنجليز أنفسهم، وإن انبروا ينفون بشدةٍ هذا الاحتمالَ للباشا، وصار من صالحهم طالما بقي الغزو الفرنسي المتوقَّع في عداد المشروعات التي لم تتح الفرصة لتنفيذها، أن يثابروا على كسب مودة محمد علي وصداقته؛ صونًا لمصالح دولتهم.

وعلى ذلك، فقد استطاع الباشا أثناء نضاله مع جيش «فريزر» أن يحتفظ بصداقة الوكلاء الفرنسيين من جهة، وأن يستبدل صداقة الإنجليز بعداوتهم له من جهة أخرى، وكان بفضل هذا النجاح المزدوج أن عظم تفاؤله في إمكانه أن يقنع هاتين الدولتين؛ إنجلترة وفرنسا، بمعاونته على بلوغ «الوضع» الذي ينشده لباشويته، ولو أن هاتين الدولتين بالرغم من انتفاعهما من صداقة محمد علي، لم تكونا متهيئتَين — لأسباب سوف يأتي ذكرها — لقبول أي تغيير يطرأ على العلاقة التي ربطت بين باشوية محمد علي والباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليه.

(٣) إنجلترة: محالفة، أم صداقة وتجارة؟

ولقد سبق أن أشرنا، أثناء الحديث عن مفاوَضات الباشا مع الإنجليز بشأن تسليم الإسكندرية، إلى الأسباب التي جعلته يفضِّل كسب صداقة هؤلاء على استمرار عداوتهم له، فهم أصحاب أسطول كبير كفل لهم السيطرة في البحر الأبيض، ثم إن نابليون صاحب الانتصارات الباهرة في القارة الأوروبية لم يستطع حتى هذا الحين أن يدَّعي أنه قد أحرز نصرًا عليهم، ثم هم الذين أخرجوا قبلًا الفرنسيين من مصر، ويسهر أسطولهم في البحر الأبيض الآن لمنع هؤلاء من تجديد غزوهم لها، ثم اعتقد محمد علي إلى جانب هذا كله أن بوسعهم بفضل قوتهم البحرية، إذا شاءوا، الحيلولةَ دون وصول عمارة عثمانية أخرى إلى الشواطئ المصرية، ووقف تدخُّل الباب العالي في شئون هذه الباشوية بصورة تهدِّد حكومة محمد علي بها.

ولقد سبق أن أوضحنا كيف أن الرغبة في تأمين باشويته ضد نزوات الباب العالي خصوصًا كانت مبعث تفكير محمد علي في ضرورة ظفره لولايته بوضع مشابه لوضع الولايات أو الوجاقات المغربية، على أساس إنشاء الحكم الوراثي في أسرته في مصر كخير ضمان للاحتفاظ بالباشوية. كما أوضحنا أن هذه الرغبة كانت مما جعله يطلب محالَفة الإنجليز «ضد أعدائهم وأعدائه» من فرنسيين وعثمانيين على السواء، وذلك لقاء رعاية المصالح الإنجليزية التجارية في مصر، وتموين السفن البريطانية التي تأتي إلى الإسكندرية لتمتار منها، وتزويدها على وجه الخصوص بحاجتها من «ماء النيل». ولم يكن يبغي محمد علي مما عرضه على «فريزر» من وضع نفسه تحت حماية الإنجليز، سوى استمالة هؤلاء إلى قبول الدفاع عنه «عسكريًّا» ضد أي غزو قد يأتيه من جانب الفرنسيين أو العثمانيين، وإقناعهم بعقد المحالفة معه.

ومع أن «فريزر» لم يكن لديه من التعليمات ما يخوِّله إبرامَ هذه المحالَفة التي يريدها محمد علي، واكتفى بأن وعده بإبلاغ رغبته في قبول «الحماية» البريطانية عليه إلى حكومته في لندن، ثم لم يبدُ أن هذه كانت تريد وقتئذٍ الارتباطَ بتعهدات جديدة من طراز تلك التي ارتبطت بها سابقًا مع المماليك، قد تفرض عليها واجبات لا قِبَلَ لها بها، معطلة لنشاط قواتها المُعَدَّة لمواجَهة ما قد يطرأ من تقلُّبات على الموقف في أوروبا، وليس من صالحها الالتزام بها، فقد أدار محمد علي هذه المفاوَضات «السرية» بقدرٍ كبير من المهارة، حتى إن «فريزر» خرج منها وهو مقتنع تمامًا بأن الباشا جادٌّ في عروضه، وصادِق في رغبته كسْبَ مودة الإنجليز والتعاون معهم. وكان ظاهرًا أن الباشا في هذه المرحلة الأولى قد قطع شوطًا كبيرًا في نيل صداقتهم، ولم يكن هناك لذلك ما يدعو إلى يأسه من استمالتهم إلى تأييده في مطلبه من حيث حصوله على الحكم الوراثي في مصر في وضع مشابه — كما قدَّمنا — لما هو قائم فعلًا في وجاقات الغرب، أو توقع وقوفهم على الأقل موقفَ الحياد وعدم التصدي لمعارَضته إذا هو استطاع بوسائل أخرى، وعن غير طريقهم، الوصولَ إلى غايته.

وحقيقة الأمر، أن هذه الصداقة مع الإنجليز — وهي التي عقد محمد علي على استمرارها آمالًا كبيرة — إنما كانت من مبدأ الأمر مرتهنة بتوفر عاملين: أحدهما مثابرة الباشا على الخطة التي رسمها لنفسه في هذه المسألة، والآخَر اقتناع الإنجليز أنفسهم بأن من صالحهم، إذا لم يكن في وسعهم عقد محالفة مع الباشا — كانت «دفاعية» حسبما اقترح الباشا في عروضه على «فريزر» — على الأقل أن تسود العلاقات الودية بينهم وبينه، وأن من صالحهم تعزيزَ هذه العلاقات التي مهَّد لقيامها إبرامُ اتفاقِ الجلاء عن الإسكندرية بشروطه العلنية المعروفة.

وتضافرت عوامل عدة على جعل الإنجليز يحرصون على صداقة محمد علي؛ فقد خرج الباشا من نضاله الأخير معهم — أثناء حملة «فريزر» — عزيزَ الجانب، ثم إنه بسط سلطانه على الإسكندرية، وهذه من المراكز التجارية الهامة في البحر الأبيض، ومستودع غلات البلاد الزراعية المُعَدَّة للتصدير إلى الخارج، وأهم هذه الغلال، التي عظمت حاجة الإنجليز إليها لتموين قواعدهم في البحر الأبيض، ثم إنه كان واضحًا أثناء مفاوضتهم معه أنه يريد إدخال الإسكندرية في نطاق ولايته، وأهم من ذلك، أنه مصمِّم على الاحتفاظ بباشويته، بدرجة جعلته يقترح عليهم محالَفتَه ضد الباب العالي نفسه، وهو صاحب السيادة الشرعية عليه، وضد الفرنسيين، وهم الذين اعتبرهم الإنجليز أصدقاء له، بل واعتقد «مسيت» — كما رأينا — أنه كان «مبيعًا» لهم، ويعمل على تأييد مصالحهم في هذه البلاد، وقد أفزع الإنجليز دائمًا توقُّعهم أن يجدِّد هؤلاء غزوَهم لها، فكان هذا الفزع مبعثَ تفكيرهم في تأسيس سلطان المماليك مرةً ثانية في مصر، على اعتبار أنهم القوة التي تستطيع الدفاع عنها، ورد الغزو الفرنسي ومقاوَمته إذا وقع، كما كان هذا الفزع منشأ تقريرهم إرسال حملتهم لاحتلال الإسكندرية. وقد برهنت الحوادث منذ مجيء «فريزر» بجيشه إلى الإسكندرية، إلى وقت خروجه منها، على أن من العبث الاعتماد على البكوات المماليك، كقوة محاربة نشيطة، في صون هذه الولاية العثمانية من أخطار الغزو الأجنبي، وأن في وسع الحكومة التي أقامها الباشا في مصر أن تبذل جهودًا صادقة وجدية في سبيل الدفاع عنها، وتحطَّمت لذلك نهائيًّا الفكرةُ التي انبثقت منها كل تلك المشاريع التي نادى بها «هتشنسون» و«ألكسندر بول» وأضرابهما، وصار في وسع الإنجليز أن يعتمدوا على حكومة الباشا في مقاوَمة الغزو الفرنسي على الأقل؛ حتى يتمكَّنوا هم من المساهَمة بصورة فعَّالة في هذه المقاوَمة، وذلك طالما بقي محمد علي صديقًا لهم، وطالما بقي صحيحَ العزم على التمسُّك بباشويته، ولم يبدُ لرجالهم الذين تفاوضوا معه، أن الباشا باتفاقه معهم، وفيما عرضه عليهم من عروض «سرية»، إنما كان يبغي مداوَرتهم فحسب، أو يريد نبْذَ صداقتهم بمجرد جلائهم عن الإسكندرية.

والحق أن الباشا كان حريصًا على أن تَسُودَ العلاقات الودية بينه وبين الإنجليز، للأسباب التي عرفناها، ونهض أكثر من دليل واحد في السنوات الأربع التالية على وجود هذا الحرص لديه، وذلك في المسألتين اللتين اهتمت بهما إنجلترة اهتمامًا مباشرًا فيما يتعلق بعلاقاتها مع باشا مصر، وهما تموين مالطة وغيرها من مراكز قواتهم في البحر الأبيض، ثم استعداد حكومة هذه البلاد للوقوف في وجه العدو، ومثابَرتها على تحصين الإسكندرية وسائر المواقع بالشاطئ؛ لدفع الغزو الفرنسي إذا حدث، فقد اتفقت مصلحة الباشا في هاتين المسألتين مع المصلحة البريطانية؛ لأن بيع الغلال إلى الإنجليز يعود عليه بأرباحٍ وفيرة، ويملأ خزانته بالمال الذي هو في حاجةٍ مُلِحَّة إليه دائمًا، ولأن تحصين الشواطئ وتقوية المواقع الداخلية أيضًا من شأنه تأمين باشويته، ولو أنه كان يبغي من ذلك إلى جانب مقاوَمة الغزو الفرنسي إذا وقع، أن يكون على قدم الاستعداد لدفع أي اعتداء قد يقع عليه من جانب الباب العالي إذا صحَّ عزم هذا الأخير على إخراجه من مصر، ورفض الباشا التخلي عن ولايته. ثم إنه لم يشأ أن يأخذه الإنجليز أنفسهم على غرة، إذا بدا لهم فجأةً أن يعيدوا الكرَّةَ لامتلاك الإسكندرية مرةً أخرى. وقد وجد محمد علي في الاستجابة لرغبات الإنجليز وبيع غلاله لهم، عدا الربح المالي الذي يجنيه من هذه التجارة، وسيلةً نافعة لاتقاء شرورهم، وصرفهم عن محاوَلة غزو هذه البلاد، ولإقناعهم على الأقل بمزايا بقاء علاقات الود والصداقة، وتوثيق عراها بينه وبينهم، إذا تبيَّن أنهم لا يشاءون عقد محالَفة معه.

وأما الإنجليز، فالبرغم من امتناعهم عن عقد أية محالفة مع الباشا، فقد حرصوا من ناحيتهم على تعزيز علاقات الود والصداقة معه؛ للأسباب التي مر ذكرها؛ ولأنهم توقَّعوا بفضل هذه العلاقات الودية، أن ينقلوا بسهولة وأمان بريدهم إلى الهند، عبر الطريق البري.

وعلى ذلك، فقد شهدت السنوات القليلة التالية نمو علاقات الصداقة باطِّراد بين محمد علي والإنجليز، وكان تبادُلُ المنفعة التجارية الأساسَ الذي قامت عليه، ومع أنه تعذَّر على الباشا أن يرقى بهذه العلاقات إلى مرتبة المحالَفة التي نشدها، واستمالة الإنجليز إلى تأييد مسعاه من أجل الوصول إلى الاستقلال الذي أراده على أساس الحكم الوراثي في مصر، في وضع — كما ذكرنا — مشابه لوضع وجاقات الغرب، فقد جنى محمد علي من هذه الصداقة فوائد مالية وسياسية كثيرة.

ومثلما بدأت صلاته بالإنجليز، في مرحلة المفاوَضات الأولى، في شهر مايو سنة ١٨٠٧، بسبب مسألة الأسرى، فقد كانت هذه المسألة ذاتها مبعثَ استئناف صلاته بهم بعد اتفاق تسليم الإسكندرية، ذلك أنه كان لا يزال بالبلاد عددٌ من أسرى الإنجليز الذين صاروا رقيقًا في أيدي الأفراد، وقد تقدَّم كيف ترك «فريزر» مندوبًا للإشراف على جمع هؤلاء، هو «بتروتشي» يعاونه «هود»، كما ترك «آني» وكيلًا بريطانيًّا بالإسكندرية، وعُنِي الباشا عنايةً فائقة بمسألة هؤلاء الأسرى الرقيق، فتعهد بشراء هؤلاء من ماله الخاص من الأفراد الذين كانوا في حوزتهم، وتسليمهم إلى الإنجليز؛ فمهَّدت مسألةُ الأسرى لاستئنافِ العلاقات بين الباشا والإنجليز، وتُبودِلت الرسائل بين الفريقين، ولم تقتصر المباحَثات على إجراءات تسليم الأسرى، بل تناولت غيرها من المسائل التي اهتم بها الإنجليز، والتي توقَّع الباشا أن يجني من الاتفاق معهم بشأنها فوائدَ جمَّة، وتتضح طبيعة هذه العلاقات من مراجعة ما صار يذكره الوكلاء الفرنسيون في تقاريرهم عن هذا النشاط الذي شهدوه، والذي كان لا يتفق في نظرهم مع ما يقتضيه قيام حالة الحرب بين الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على الباشا، وبين إنجلترة، من واجب الحد من هذه العلاقات، والامتناع عن مساعَدة أعداء الدولة العثمانية بعدم الاستجابة إلى مَطالِبهم.

وقد بدأ هذا النشاط الجديد بوصول فرقاطة إنجليزية أمام الإسكندرية في ١٥ نوفمبر ١٨٠٧، فاستضاف «بتروتشي» ربَّانها، وزار الاثنان طبوز أوغلي، حاكم الإسكندرية، واستقبلهما هذا بحفاوة بالغة، وقد أحضر ربَّان هذه الفرقاطة رسائلَ باسم الباشا، بادر المسئولون بإرسالها إليه فورًا، قال الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية بتاريخ نوفمبر ١٨٠٧ «إنهم لا يعرفون محتوياتها، ولكنه يُقال إنها تتناول مسألة تسليم الأسرى الإنجليز «الذين كانوا قد بقوا في حوزة الأفراد كرقيق»، ثم مسألة تقديم كميات عظيمة من جميع أصناف الحبوب لتموين مالطة». قال هؤلاء الوكلاء: إن هذه المسألة الأخيرة من الموضوعات التي نصَّت عليها «الشروط السريَّة» التي حصل الاتفاق عليها مع «فريزر» عند تسليم الإسكندرية. أما «بتروتشي» فقد وصل القاهرة يوم ٢٤ نوفمبر، وصار يعقد اجتماعات سرية مع الباشا لبحث «المهمة التي جاءت من أجلها هذه الفرقاطة، و«التوسُّط» في المفاوَضات الجارية بين محمد علي وشاهين بك الألفي»، عندما كان هذا الأخير يريد الاتفاق مع الباشا في ظروف سوف يأتي ذكرها. وأما الاجتماعات العلنية بين محمد علي و«بتروتشي» فقد دار الحديث فيها دائمًا حول موضوع الأسرى، وعلَّق الوكلاء الفرنسيون على ذلك بقولهم: «وهناك كثير من المغفَّلين الذين يصدِّقون هذا.» ثم إن هؤلاء الوكلاء الفرنسيين لم يلبثوا أن احتجوا لدى محمد علي، على عدم مناسبة هذه العلاقات التي سوف تترتَّب عليها متاعبُ كثيرة له، ولم يشأ محمد علي إغضابَهم، فأظهر تحفُّظًا في صلاته مع «بتروتشي» وغيره من العملاء الإنجليز، حتى إن هؤلاء — على حد ما جاء في النشرة الإخبارية السالفة الذكر — بادَروا لإنجاح مساعيهم لدى الباشا بإذاعة أن جيشًا فرنسيًّا قد نزل في أبي قير، يبغون من ترويج هذه الشائعة تحريض الجند على التمرد والعصيان، لعلمهم أن هؤلاء يتحيَّنون الفرص دائمًا لإثارة الفتنة، ويتذرَّعون بأوهى الأسباب للإخلال بالنظام، وأنهم سوف يعمدون إلى الاعتداء على القنصلية الفرنسية والحي الفرنسي بالقاهرة، ولكن هؤلاء — كما قال الوكلاء الفرنسيون — «ما لبثوا أن برهنوا لأولئك الذين باعوا أنفسهم للإنجليز، على أنهم يفوقونهم أمانةً واستقامة، وأنهم يعرفون جيدَ المعرفة أنه قد انقضى الوقت الذي كان يتيسَّر فيه قتل وكلاء الحكومة الفرنسية، والإفلات من العقوبة والقصاص».

ومنذ ديسمبر من العام نفسه، تبُودِلت الرسائل بين الباشا وبين «السير ألكسندر بول» حاكم مالطة، في موضوع الأسرى، ومن أجل تسهيل إرسال البريد الإنجليزي إلى الهند عبر مصر، فجاءت قرويت إنجليزية لهذا الغرض إلى الإسكندرية في ديسمبر، ثم غادرتها إلى مالطة في ٢١ منه تحمل رسائل من محمد علي إلى حاكمها، ثم لم تلبث أن حضرت فرقاطة ظلت تتجوَّل أمام الإسكندرية بعض الوقت، قبل أن تُلقِي مراسيها عند قلعة فاروس، عند مدخل الميناء الجديدة، وقد ادَّعت هذه أن الغرض من مجيئها — حسبما ذكره الوكلاء الفرنسيون — إنما هو ﻟ «شراء الأسرى الإنجليز».

وفي ١٨ يناير سنة ١٨٠٨، وصل الإسكندرية إبريقٌ إنجليزي يرفع علم الهدنة — لأن الباب العالي كان لا يزال في حالة حرب مع الإنجليز — فنزل قائد السفينة إلى البر، وقابَل حاكمَ الإسكندرية طبوز أوغلي، مقابَلةً وصفها الوكلاء الفرنسيون بأنها كانت «ودية جدًّا» لم يلبث على أثرها فورًا أن غادر «بتروتشي» الإسكندرية إلى القاهرة لمقابلة الباشا، وقد أحضرت كلتا السفينتين (القرويت والإبريق) رسائلَ معهما، تسلَّمَها «البطروشي» وسار بها إلى القاهرة في كل مرة لتسليمها إلى محمد علي. وفي أواخر أبريل ظهرت قرويت إنجليزية أخرى أمام الإسكندرية، لم تلبث أن ابتعدت عن الثغر بعد مُباحَثةٍ قصيرة مع طبوز أوغلي، ثم عادت مرةً ثانية إلى الثغر في ١٥ مايو، لتحمل أربعة عشر أسيرًا، اشتراهم «البطروشي» في القاهرة من مسترقيهم.

على أن مجيء هذه السفن الإنجليزية إلى الإسكندرية، ومقابلات ربابنتها مع طبوز أوغلي، وذهاب «بتروتشي» إلى القاهرة، كل ذلك لم يلبث أن استرعى انتباهَ الوكلاء الفرنسيين الذين راحوا يفسِّرون هذا النشاط ويعلِّقون عليه شتى التعليقات، فكتب «دروفتي» إلى «سباستياني» في ٢٠ أكتوبر ١٨٠٧، أنه يعتقد مما وقف عليه من تقارير «مانجان» أن الاتفاق الذي عقده الباشا مع الإنجليز بشأن تسليم الإسكندرية لا يشتمل على شيءٍ من الوعود سوى تقديم المساعدة من جانب الإنجليز، إذا ما غزا جيشٌ أوروبي مصر، «ويبدو أن الأوامر الصادرة إلى القائد الإنجليزي «فريزر» بشأن إخلاء الإسكندرية كانت تلحُّ عليه في اتخاذ هذه الخطوة، بدرجةِ أنها خوَّلته أن يعرض على الباشا ما يطلبه من مال حتى ألف كيس، إذا رفض محمد علي تسليم الأسرى دون فدية.»

ثم كتب «سانت مارسيل» من الإسكندرية في أول فبراير ١٨٠٨، أنه «وإن كان لا يدري إذا كان القنصل «دروفتي» يعلم الغرض من هذه العلاقات السياسية «القائمة بين محمد علي والإنجليز»، والذي يقولون إن الأساس الذي ترتكز عليه إنما هو شراء الأسرى الذين بقوا في حوزة بعض الأفراد، فإن كثرة هذه العلاقات ثم نشوء علاقات غير عادية كذلك يبدو أنها آخذة في النمو باطراد، لَمِمَّا ينهض دليلًا على وجودِ تفاهُم بين هذه الحكومة في مصر والوزارة الإنجليزية.» ثم شرع «سانت مارسيل» يعلِّل هذه الظاهرة، فقال: إن الإنجليز يبغون من توثيق العلاقات مع محمد علي الوساطةَ لديه في الوصول إلى اتفاقٍ بينه وبين المماليك، وآية ذلك أن شاهين بك الألفي — وهو أقرب مَن يشمله الإنجليز بحمايتهم من بين البكوات — قد اصطلح مع الباشا، وأغدق عليه هذا النِّعَم والعطايا، فأعطاه كشوفية مديرية الفيوم، وبعض القرى في مديرية البحيرة، وأظهر نحوه صداقة كبيرة، وصار يعامله باحترام زائد، ثم إن الإنجليز يهدفون كذلك إلى الاستئثار لأنفسهم وحدهم بحق التجارة مع هذه البلاد، فيصدِّرون إليها متاجرهم، ويستوردون منها قبل أي شيء آخِرَ الغلال وسائرَ أصناف الحبوب التي هم في حاجةٍ قصوى إليها؛ لتموين مالطة وغيرها من الأماكن. ولما كان مبعث ثراء الإسكندرية كونها مستودع تجارة الصادر والوارد في مصر، فقد ساءت حالها وتكبَّدت خسائر فادحة، بسبب تعطيل الملاحة التجارية، نتيجة لسيطرة الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض، بينما يُعتبر النشاطُ التجاري بطريق البحر الموردَ الأساسي الذي تستمد منه ثراءها، وخاصةً لانعدام الوسائل التي يمكن بها إنشاء الصناعة في هذا الثغر، ولأن جدب أرضها يَحُول دون قيام الزراعة بها.

وثَمة سببٌ آخر، ذكره «سانت مارسيل» لتعليل هذه العلاقات النشيطة بين الإنجليز ومحمد علي، هو رغبة الأولين في العودة إلى احتلال الإسكندرية، أو امتلاكها بموافقة الباشا، فكتب في ١٠ فبراير ١٨٠٨: «أنه علم من أخبار موثوق بصحتها، أن الإنجليز عرضوا على محمد علي باشا اثني عشر ألف كيس لقاء موافَقته على إعطائهم الإسكندرية، ولكن الباشا الذي أغضبه هذا الاقتراح، لم يلبث أن أجاب بأنه مصمِّم على الدفاع عنها، ولن يسلِّمها إلا مُرغَمًا بقوة السلاح، وليس لقاء أي مبلغ من المال يُعرَض عليه.» واعتقد «سانت مارسيل» أن هذا الرفض من جانب محمد علي من شأنه أن يقضي بالفشل على مفاوَضات الإنجليز وقتئذٍ، وسوف يترتب عليه أن يخصِّص هؤلاء قسمًا من أسطولهم للجولة في المياه المصرية، يعطِّل الملاحة، بل ويُوقِف حتى سَيْر القوارب بين الإسكندرية ورشيد، وذلك في الوقت الذي كان رحيل الأسطول الإنجليزي آنئذٍ من بحر الأرخبيل قد بدأ يمكِّن السفن العثمانية من الملاحة بحُرِّية بين سالونيك وخانيا (في كريت)، وأزمير ورودس، وبين الإسكندرية، وساعد جلب مختلف السلع والغلات على إنعاش الحركة التجارية بالإسكندرية بعض الشيء.

وكان مبعث اقتراح الإنجليز على محمد علي إعطاءهم الإسكندرية، خوفهم من غزو الفرنسيين لهذه البلاد، ورغبتهم في احتلال الإسكندرية حتى يستطيعوا منع نزول الفرنسيين بها؛ أيْ نفس السبب الجوهري الذي دعاهم إلى إرسال حملة «فريزر» للاستيلاء عليها من قبل، فقد كان الغرض من مجيء الإبريق الإنجليزي إلى الإسكندرية في ١٨ يناير، على نحو ما تبين «سانت مارسيل» هو إبلاغ محمد علي أن الفرنسيين ينوون الحضور قريبًا إلى مصر بقوات عظيمة، ونصحه بضرورة وضع حاميات كبيرة في المواقع التي على الشاطئ لمقاوَمة هؤلاء عند مجيئهم ومنع نزولهم، ومحاوَلة إقناعه بقبول عدد من الجند البريطانيين في الإسكندرية لمساعدته في الدفاع عنها، ولكن الباشا — كما ذكر «سانت مارسيل» في كتابه إلى حكومته في ٢١ فبراير — رفض هذا الاقتراح الأخير، مستندًا في ذلك إلى أن لديه من الجند ما يكفي لتعزيز الحاميات بالشاطئ الشمالي، وأنه لا حاجةَ له إلى أية مساعدة أجنبية لتحقيق هذه الغاية.

وواقع الأمر أن الباشا كان قد بدأ يهتم بتحصين الإسكندرية أثناء إقامته بها بعد جلاء الإنجليز عنها في شهر سبتمبر من العام السابق، ثم إنه لم يلبث أن شرع بعد ذلك في بناء أسوار جديدة حول المدينة، في موضع أسوارها القديمة من أيام العصور الوسطى، وعُني الباشا بأن تكون هذه على نمط الأسوار التي أنشأها الجنرال «منو» وقت حصار الإنجليز للإسكندرية (١٨٠١)، وكانت التحصينات التي أقامها الفرنسيون في جهة باب رشيد قد صارت متهدمة، ولكن الخنادق التي حفروها كخطوط للدفاع من باب رشيد إلى قناة الإسكندرية من ناحيتها الشرقية كانت لا تزال باقية، وأما القلعتان اللتان أقامهما هؤلاء داخل أسوار الإسكندرية: قلعتا «كريتان» Crétin و«كفاريللي» Cafarelli فقد كان العطب الذي أصابهما قليلًا، وكذلك الطابية المثلثة Triangulaire إلى الجنوب الشرقي، والأخرى القريبة من نيكروبوليس Necropolis فكانتا تقريبًا بالحال التي تركهما عليها الفرنسيون، فاعتمد محمد علي على هذه المنشآت في تجديد تحصين الإسكندرية. وفي أوائل ١٨١١ كان قد تم بناء ثلث الأسوار تقريبًا، وتوقَّع كثيرون أن يفرغ الباشا من إقامة الباقي منها بعد حوالي عامين، واعتزم محمد علي وقتئذٍ بناء طابية بالقرب من سرايه التي يبنيها في المكان المعروف برأس التين. ثم إن الباشا اهتم بتحصين رشيد عند زيارته لها وهو في طريقه إلى القاهرة، كما شرع يعزز حاميات دمياط ورشيد والبرلس وأبي قير، حتى صارت هذه جميعها تذخر بالجنود الأرنئود، ثم إنه حشد الجند بدمنهور لنقلهم فورًا إلى الإسكندرية إذا طرأ طارئ مفاجئ يتطلَّب ذلك، وهذا علاوة على إرسال حوالي المائتين أو الثلاثمائة جندي من الأرنئود إلى الإسكندرية في فبراير ١٨٠٨، بينما كان قد تم في هذا الشهر نفسه تقوية حصونها بصورةٍ تمكِّنها من الدفاع عن المدينة. واستمرت الاستعدادات والترميمات على قدمٍ وساق كما لو كان العدو على وشك الظهور أمامها، كما عُنِي محمد علي بتموينها وتوفير المواد الغذائية لها.

ولم يكن غرض الباشا من هذه الاستعدادات، التهيؤ لصد الغزو الفرنسي فحسب، بل والحيطة والحذر كذلك من جانب الإنجليز أنفسهم، ثم توزيع الجند الأرنئود الذين ظهر تمرُّدهم على سلطانه — في ظروف سوف يأتي ذكرها — في المواقع البعيدة عن القاهرة من جهة، والتي كانت من جهةٍ أخرى مراكزَ الدفاع الأمامية عن البلاد إذا تعرَّضت هذه للغزو، ثم إنه كان هناك سببٌ آخر، أوضحه «سانت مارسيل» في رسالة ٢١ فبراير التي تقدَّم ذكرها، هو أن اتخاذ الباشا لهذه الإجراءات الدفاعية ذاتها كان يفيد مأربًا آخَر له هو «كسب ثقة الباب العالي، الذي وجب على الباشا استرضاؤه، بالرغم من السيطرة التي يتمتع بها؛ حيث يؤكِّدون أن الديوان العثماني قد أبلغ الباشا في كتبه الأخيرة إليه نبأ المحالفة التي تشكَّلت من أكثر الدول في أوروبا ضد هذه الأمة لتحقيق أطماعها منها بالغدر بها»؛ ولذلك فإن التهيؤ للدفاع عن البلاد، من شأنه أن يطمئن الباب العالي على خضوع باشا مصر له وحرصه على تلبية رغباته.

ومع أن الإنجليز لم يستطيعوا إغراء محمد علي بإعطائهم الإسكندرية، فإن هذا الفشل لم يعكِّر صَفْو العلاقات بينهم وبينه، بل ظل من صالحهم أن تتوطد هذه العلاقات الودية، لسبب آخَر هام، هو أخذهم الغلال من الإسكندرية، وجلب بضائعهم إليها لتصريفها في السوق المصرية، فلم يحدث ما توقَّعه «سانت مارسيل» من نتائج مترتبة على رفض الباشا التنازُلَ عن الإسكندرية للإنجليز، بل ظلت الملاحة حُرَّة، لا بين الإسكندرية ورشيد فحسب، بل وكذلك بين الإسكندرية وطائفة من المواني العثمانية، وذلك بالرغم من وجود بعض قطع الأسطول الإنجليزي لمراقَبة الملاحة في حوض البحر الأبيض الشرقي، وتضييق الحصار على السواحل العثمانية، فجلبت السفن إلى الإسكندرية متاجرَ ومنتجات أساكل الليفانت، ولم تكن السفن الإنجليزية أو العثمانية هي وحدها التي استطاعت الدخول إلى ميناء الإسكندرية أو الخروج بأمان منها، فقد دخلت هذا الميناء في أوائل أكتوبر ١٨٠٨، أربع سفن من مرسيليا، وواحدة من جنوة، محمَّلة جميعها بالمتاجر والأقمشة، خصوصًا من فرنسا.

واعتمد الإنجليز في نقل متاجرهم من مالطة إلى مصر على السفن النمساوية؛ إذ تعذر عليهم وهم لا يزالون في حرب مع الباب العالي أن يستخدموا سفنَهم في نقل هذه المتاجر، واستاء الوكلاء الفرنسيون من هذا النشاط، وراحوا يحتجُّون لدى محمد علي على إجازته التعامل مع العدو، وبذلوا كلَّ ما في وسعهم من جهدٍ وحيلة لمنع دخول البضائع الإنجليزية التي تحملها السفن النمساوية إلى الإسكندرية ولكن دون طائل، حتى إن «دروفتي» راح يشكو من مسلك محمد علي إلى «سباستياني» السفير الفرنسي بالقسطنطينية في ٣٠ مايو، ثم في ٢٤ يوليو، ويذكر له عبث المساعي التي قام بها لإبطال دخول السفن النمساوية المحمَّلة بالمتاجر الإنجليزية من مالطة إلى الإسكندرية، ويندِّد بموقف محمد علي في هذه المسألة، «وهو الذي — كما قال «دروفتي» — يستمع إلى نصح أولئك الذين يتأثرون بأقوال العدو وما لديه من وسائل (يستخدمها في إغرائهم) أكثر من تأثُّرهم بمظاهر قوتنا». وأشار «دروفتي» على السفير الفرنسي، بضرورة المسعى لدى الباب العالي، حتى يصدر هذا إلى الباشا «أوامر قاطعة، تحرِّره من الآراء الخاطئة والكاذبة التي يوحي بها إليه أناسٌ من طراز «بتروتشي» وأضرابه»؛ وهي آراء سوف يبقى متأثرًا بها، طالما بقي هؤلاء في مصر، وطالما لم تأتِه من حكومته هذه الأوامر القاطعة.

على أن الموقف لم يلبث بعد ذلك أن تبدَّل، عندما عقد الإنجليز الصلح أخيرًا مع الباب العالي، ودخلت سفنهم وتحت أعلامهم ميناءَ الإسكندرية بحرية، وتزايَد نشاطُ علاقاتهم التجارية مع الباشا، وصاروا يستوردون من هذه البلاد كلَّ حاجتهم من الغلال، وكل ما استطاع الباشا أن يبيعه منها إليهم، وكان توثق هذه العلاقات التجارية معهم من العوامل التي حفَّزت الباشا على مفاتحتهم من جديد في مشروع ذلك «الاستقلال» الذي حدَّثهم عنه أثناء مفاوَضات الجلاء عن الإسكندرية.

فقد بدأت الشكوك تساوِر العثمانيين من ناحية فرنسا، منذ أن قطعوا مفاوَضتهم مع «باجيت» في الظروف التي عرفناها؛ وذلك لأنهم وإن رجَّحوا تعذُّر الاتفاق بين نابليون والقيصر إسكندر الأول على خطة موحَّدة بشأن تقسيم إمبراطوريتهم العثمانية، فقد تبيَّن لهم تعذُّر الركون كذلك إلى صداقة الإمبراطور الفرنسي، في وقتٍ عجز فيه سفيره في القسطنطينية «سباستياني» عن التأكيد لهم قطعًا بحُسن نوايا نابليون نحو الدولة العثمانية، وبدا لهم أنهم لن يستطيعوا عقد الصلح مع روسيا إلا لقاء تسليمهم بخروج الأفلاق والبغدان من حوزتهم، ولن تفيد صداقة فرنسا شيئًا في منع هذه الكارثة، بل إن تهديد نابليون بالانتقام من علي باشا حاكم يانينا، إذا ظل مناوِئًا له — وكان هذا قد بسط سلطانه في ألبانيا — لم يلبث أن أعاد إلى ذهن الباب العالي قصةَ اعتداءِ الفرنسيين على مصر وغزوهم لها بقيادة نابليون بونابرت في عام ١٧٩٨. وعلى ذلك فقد فضَّل العثمانيون الآنَ المفاوَضةَ رأسًا مع الروس، ودون وساطة فرنسا، ثم استئناف المفاوَضة مع إنجلترة، ومع أن هذا التبدُّل في سياسة الأتراك لم يَنهِ الحربَ القائمة بينهم وبين الروس، فاستمر العداء حتى عُقِد الصلح بين تركيا وروسيا في معاهَدة بوخارست بعد ذلك بأربعة أعوام تقريبًا، في مايو سنة ١٨١٢، فقد ساعد هذا التبدُّل من ناحية أخرى على الوصول إلى نتيجة سريعة مع الإنجليز أنفسهم، ذلك أنه ما كاد مبعوثهم الجديد «السير روبرت أدير» Adair يصل إلى تينيدوس في سبتمبر ١٨٠٨، حتى بدأت المفاوَضات بينه وبين الأتراك، وأسفرت هذه عن عقد معاهَدة الدردنيل في ٥ يناير ١٨٠٩، ونصَّت إحدى مواد هذه المعاهَدة على تمتُّع رعايا كلٍّ من الدولتَين بنفس الامتيازات التي لهؤلاء في ممتلكاتِ كلٍّ منهما، ومعنى ذلك استعادة الرعايا البريطانيين نشاطَهم السابق في مصر التي هي من أملاك الدولة العثمانية. وفي نفس التاريخ أبرمت تركيا معاهَدةَ تحالُفٍ ودفاع مع إنجلترة.

وكان لحادث الصُّلح بين إنجلترة والباب العالي آثارٌ هامة في مصر، من حيث توقُّع زيادة نشاط العلاقات التجارية، خصوصًا بين الباشا والإنجليز، ثم الخوف من أن تسوء العلاقات بين الباب العالي وفرنسا بدرجةٍ تُفضِي إلى فصمها، ومن حيث تعمد الباشا الانتفاع من هذا الموقف الجديد بما يضمن له صَوْن مصالحه، وتحقيق مآربه، إذا عرف كيف يسلك الطريقَ السوي في صلاته مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين جميعًا.

فقد كان أول حامل لنبأ هذا الصلح إلى مصر، إبريق إنجليزي من أسطول «كولنجوود»، في البحر الأبيض، وصل الإسكندرية في منتصف مارس ١٨٠٩، فأُذيع الخبر، ونزل ربَّانه إلى المدينة، وقابَلَ حاكمَها طبوز أوغلي، ولقي ترحيبًا كبيرًا، وأحضر معه رسائلَ من حكومته، ولم يغادر هذا الإبريق الإسكندرية، حتى تسلَّم الربان جوابَ الباشا على رسائل هذه الحكومة.

وانتهز هذه الفرصة «بتروتشي» وغيره، ممَّن أغضبتهم سياسةُ الإمبراطور نابليون في أوروبا، وكانوا لذلك من أنصار الإنجليز، وراحوا يروِّجون لما كان يَصِلهم من أنباء ونشرات من مالطة مليئة بالطعن على نابليون والقذف في حقه، وكان المروِّجون — على وجه الخصوص — لهذه الدعاية السيئة ضد الإمبراطور، إلى جانب «بتروتشي»، كلًّا من قنصل إسبانيا في مصر «كامبو إيي سولر»، ورئيس الهيئة المشرفة في الإسكندرية على إيواء الذاهبين إلى الحج في الأرض المقدسة حيث عاش السيد المسيح، وهو «الأب أرمننجيلد» Ermenengilde، أمَّا الأول فقد أعلن معارَضته الصريحة لحكومة يوسف بونابرت الذي نصَّبه أخوه الإمبراطورُ ملِكًا على إسبانيا في يونيو من العام السابق (١٨٠٨)، وطفق يذيع كلَّ شتائم أو هجاء تتضمَّنه النشرات الآتية من مالطة ضد الإمبراطور وضد الملك يوسف.
وأما «الأب أرمننجيلد» فأصله من لوقا بإيطاليا، وصفه «سانت مارسيل» بأنه رجل معاند صلب الرأي، شديد التعصب مع كبرياء وعجرفة، ويكره فرنسا كراهةً شديدة، ومع أنه كان قد وضع نفسه دائمًا تحت حماية فرنسا إلا أن خوفه من قطع العلاقات بينها وبين تركيا بعد حادث الصلح الأخير بين تركيا وإنجلترة، جعله — على حد قول «سانت مارسيل» — يستبدل بحماية فرنسا حمايةَ «بتروتشي» له، بوصفه قنصل السويد العام، وذلك بتحريض من هذا الأخير، وغرض «بتروتشي» من ذلك أن يستميل الفرنسيين الموجودين بهذه البلاد إلى الانفضاض من حول القنصل الفرنسي والوكلاء الفرنسيين عمومًا، والانضواء تحت لواء رئيس هذه الهيئة الدينية بدافع الدين؛ لما لهذا الدافع الديني من تأثير على ذهنية المواطنين الفرنسيين الذين اعتقد «بتروتشي» خضوعَهم للخرافات والأوهام الباطلة، فأبطل «الأب أرمننجيلد» الدعاءَ المعتاد لنابليون في كنيسته، وحمل على الإمبراطور حملةً شعواء، كان مبعثُها في الحقيقة عداءَه له وللفرنسيين عمومًا أكثر من أي شيء آخَر، ثم لم تلبث أن تزايدت هذه العداوة عندما انتهت اعتداءات نابليون على الولايات البابوية بإعلانِ ضمِّها إليه في مايو ١٨٠٩، ووصلت الإسكندريةَ بعضُ «الأوراق» التي طُبِعت في مالطة، وأُذِيعت في الثغور فورَ وصولها، واعتبرت هذه — كما قال «سانت مارسيل» في رسالته إلى وزير الخارجية «شامباني» Champagny في ١٩ أبريل ١٨١٠ — «كأنها وثائق رسمية، بعث بها عملاء البابا، وهو الذي يحشد كل قوات الكنيسة للنضال ضد الإمبراطور». وقد أذاع «الأب أرمننجيلد» قرار الحرمان الذي أصدره البابا بيوس السابع Pius VII ضد نابليون في ١١ يونيو ١٨٠٩، ثم إنه كان من كبار أنصار الإنجليز بالإسكندرية نائب قنصل النمسا «جودارد» Godard الذي حيَّا دخول إبريق حرب إنجليزي إلى الميناء (في ٦ أبريل) برفع علم دولته على مبنى قنصليته، محتذيًا في ذلك ما فعله القنصل الإسباني العام «كامبو آبي سولر»، وقال «دروفتي» إن مهمة هذا الإبريق — بلا شك — هي حمل تقارير الحكومة إلى الهند، وقد زار ربَّانُه حاكمَ المدينة الذي رحَّب به.

على أن الذي أقضَّ مضجع «سانت مارسيل» أكثر من أي شيء آخَر، كان مسلك «بتروتشي» مدبِّر كل هذه الفِتَن، وحامل لواء الحملة المقذعة ضد نابليون وضد الفرنسيين عمومًا، وسرد «سانت مارسيل» في إحدى رسائله إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في ١٥ مارس ١٨٠٩، قصة هذا الرجل بصورةٍ تُظهِره من كبار المغامرين الذين لا يتورَّعون عن التضحية بكل مبدأ في سبيل نفعهم الشخصي، فقال: إن «فرنسيسكو بتروتشي» أصله من ليفورنة، تبع الفرنسيين عند مجيء حملتهم إلى مصر، والتحق بالإدارة المالية كمشرف على أبواب الإيراد والصرف في أسيوط، فجنى من هذا المنصب ربحًا عظيمًا، وصار صاحب ثراء عريض، حتى إذا أخلى الفرنسيون البلادَ لم يسمحوا له بالذهاب معهم إلى فرنسا، فأقام برشيد، وعيَّنه الإنجليز وكيلًا بريطانيًّا بها، وأظهر «بتروتشي» في هذا المنصب الجديد همة ونشاطًا عظيمَيْن، كما تنكَّر لفرنسا، واشترى من رئيس البعثة الدبلوماسية السويدية بالقسطنطينية وظيفةَ القنصل العام للسويد في مصر، ثم وفد إلى الإسكندرية بعد جلاء جيش «فريزر» عنها وتولَّى الإشراف على مصالح بريطانيا في هذه البلاد «تحت ستار القنصلية السويدية».

ونشط الوكلاء الفرنسيون لإزالة الأثر السيئ الذي أحدثته هذه الحملة المقذعة ضد نابليون، وكان أخشى ما يخشونه أن يتأثَّر الباشا نفسه بها، لا سيما بعد أن عقد الصلح بين تركيا وخصومهم الإنجليز من ناحية؛ ولأنهم توقَّعوا انفصام العلاقات بين تركيا وفرنسا دولتهم من ناحية أخرى، وكان من المنتظر مصادَرة السفن الفرنسية في المواني المصرية إذا أُعلِنت الحرب بين تركيا وفرنسا؛ ولذلك فقد بادَر «دروفتي» بمقابلة الباشا، فاجتمع به اجتماعًا طويلًا، وصار يستوضحه نواياه نحو الفرنسيين إذا انقطعت العلاقات بين حكومتهم وبين الباب العالي. ولما كان محمد علي يحرص على استبقاء صداقة الإمبراطور «ولا يريد إغضابه»، ويضن بحرمان الإسكندرية دخول السفن المحمَّلة بالمتاجر الفرنسية إليها، وخروج هذه السفن منها تحمل المنتجات المصرية، وذلك حتى لا يتعطل النشاط التجاري في الثغر، ويخسر الباشا — إذا وقع هذا — موردًا من موارد المال الذي هو في مسيس الحاجة إليه دائمًا، فقد أبى أن يكون فصم العلاقات بين تركيا وفرنسا مبعثَ أذى يلحق مباشَرةً بمصالحه، وطفق يهدِّئ من روع «دروفتي» ويتدبَّر معه الوسائل التي تكفل استمرار العلاقات التجارية مع فرنسا بصورةٍ لا تُظهِره بمظهر العاصي لأوامر الباب العالي، فقال له: «لقد شهدتَ بنفسك نوعَ المعامَلة التي لقيها الوكلاء والرعايا الإنجليز وقتَ أن استولى جيش حكومتهم بطريق الخيانة على الإسكندرية، وصار يعمل لطردي من هذه البلاد، إني لا أعتقد أن الباب العالي يرتكب حماقة الدخول في حرب مع فرنسا، وأما إذا حدث هذا، فَلْتنزل اللعنة حينئذٍ على الرجل الذي يأبى أن يعامل «الفرنسيين» كما عامَلهم في الماضي.» وأسفر الحديث الطويل بين «دروفتي» والباشا عن موافقة محمد علي على اتخاذ الوسائل التي تكفل إقلاعَ السفن الفرنسية الموجودة بالإسكندرية قبل إذاعة الفرمانات التي تعلن نشوبَ الحرب بين فرنسا وتركيا، بل إن الباشا «إظهارًا لما يكنُّه من احترام وتوقير للإمبراطور، أراد أن يفعل أكثر من ذلك»؛ وذلك — على نحو ما كتب «دروفتي» إلى «شامباني» من القاهرة في ٢٩ أبريل ١٨٠٩ — بتعهُّده «بأنه سوف يغمض عينيه عن حقيقة الجوازات التي سوف تحملها السفن الفرنسية الحاضرة إلى المواني المصرية، متسترة تحت أعلام الولايات البربرية أو وجاقات الغرب»، ومتخفية بصورة لا تُعرف منها جنسيتها الحقيقية، ولا تسبب تورُّط الباشا مع الباب العالي وحلفائه الإنجليز. وبالَغَ الباشا في الاحتياط من عدم إثارة سخط الباب العالي والإنجليز عليه، فأشار بضرورة الكتمان «إذا وافق الإمبراطور على السماح لرعاياه الذين يمارسون التجارة في مصر، بالاستمرار في نشاطهم، وفق الشروط المتقدمة»، وطلب أن تحضر السفن الفرنسية «المتنكِّرة» إلى ثغر دمياط بدلًا من الإسكندرية؛ أيْ بعيدة عن مراقبة الوكلاء الإنجليز النشيطين.

ومع أن الفرنسيين لم يبدوا حماسًا في استخدام ميناء دمياط، فقد أفادوا من الترتيب الذي اقترحه الباشا بشأن سفنهم التي تبغي المجيء إلى الإسكندرية، فحضرت سفنهم إلى هذا الميناء الأخير من مرسيليا «برسم تجار الإسكندرية من اليهود والطليان وغيرهم من الأجانب»، تستبدل بالمتاجر التي جلبتها، النطرون والصمغ والزعفران، والعقاقير وغير ذلك من حاصلات البلاد، كما صارت تأتي إليها السفن من تونس محمَّلة بالطواقي وبالبضائع الأخرى المجلوبة من فرنسا. وقد كتب «سانت مارسيل» في ١١ أكتوبر ١٨١٠: «إن أكثر المتاجر المصدرة من مرسيليا معنونة باسم تجار أجانب، أو من أهل البلاد هنا، أو مرسلة إلى البيت التجاري الإيطالي، المسمَّى: «فواهوريا وتيلش» Fua Horia et Tilche أغنى المؤسسات التجارية في مصر.»

وكان من المنتظر — كما أسلفنا — نتيجةً لعقد الصلح بين تركيا وإنجلترة، أن تنشط العلاقات التجارية بين الباشا والإنجليز، وكان أول آثار هذا النشاط أن وصلت إلى السويس في مايو ١٨٠٩ ثلاثُ سفن إنجليزية محمَّلة بمتاجر الهند؛ اثنتان منها حضرتا من البنغال، والثالثة من «سوارت»، فأذن وصول هذه السفن بافتتاح طريق الملاحة المباشرة بين الهند وهذه البلاد، وذلك «بعد أن ظل هذا الخط معطَّلًا عشرين عامًا تقريبًا» بسبب عدم أمان الطريق البري، «ونهب القوافل الإنجليزية في الطريق من السويس إلى القاهرة»، وذهاب السفن الإنجليزية لذلك إلى جدة بدلًا من السويس، وكان استئناف استخدام هذا الطريق البري حدثًا على جانب كبير من الأهمية لفت نظر الوكلاء الفرنسيين الذين راحوا يؤكِّدون لحكومتهم أنه ينهض دليلًا على اشتمال اتفاقية الجلاء عن الإسكندرية، التي عقدها الباشا قبل عامين مع الإنجليز، على مواد «سرية»، وأن الغرض من هذه الاتفاقية إنما كان لنقل المتاجر التي تأتي بها السفن الإنجليزية من الهند إلى السويس، عبر الطريق البري من هذه الأخيرة إلى الإسكندرية؛ حيث ينقل الإنجليز منها هذه المتاجر في سفنهم إلى بلادهم.

وكثر مجيء السفن المحمَّلة بالبضائع الإنجليزية إلى الإسكندرية، فرفعَتِ السفنُ الآتية من مالطة الأعلامَ الإنجليزية، واستعان الإنجليز بسفن غيرهم لنقل صادراتهم إلى مصر، ثم ما يستوردونه منها، فاستخدموا في ذلك سفنًا إسبانية وجنوية ونمساوية، كما استخدموا أخرى تونسية، رفعت جميعًا الأعلامَ البريطانية، حتى تستطيع مزاوَلة نشاطها بسلام، وكان أكثر اعتماد الإنجليز على السفن النمساوية؛ ولذلك فإنه ما إن عقدت النمسا معاهَدةَ الصلح مع فرنسا في فيينا، في ١٤ أكتوبر ١٨٠٩، حتى واجهت إنجلترة صعوبةَ توفير السفن اللازمة لمواصَلة علاقاتها التجارية النشيطة مع الإسكندرية، ولكنها سرعان ما ذلَّلت هذه الصعوبة بمصادَرة ما وُجِد من هذه السفن في مياه مالطة، أو بالاستيلاء عليها بمقتضى عقودِ بيعٍ صورية، وظلت تَفِد إلى الإسكندرية سفنٌ نمساوية وجنوية مما انحاز أصحابها إليهم وتخفق عليها الأعلام البريطانية.

وقد نقلت هذه السفن من منتجات مصر، النطرونَ، وخصوصًا الكتان بكميات عظيمة إلى مالطة، والأرز، وجلبت لها الصابون والساعات والمنسوجات القطنية، وكانت أكثر الأقمشة التي جلبتها السفن الإنجليزية من مالطة، منتجات فرنسية، ثم الورق وما إلى ذلك من سلع الاستهلاك المحلي، ثم الأخشاب، وكانت حاجة الباشا إلى الأخشاب شديدة لتجهيز أسطوله المُعَد لنقل المتاجر المصرية في البحر الأحمر من جهة، ثم لنقل الحملة التي استعدَّ الباشا لإنفاذها إلى الحجاز ضد الوهابيين، تلبيةً لأوامر الباب العالي، أو للاستعانة بهذا الأسطول في مناوأة الباب العالي نفسه، إذا طرأ بسببِ ما يخشاه من انقلابِ هذا عليه ما يدعو إلى ذلك.

على أن أهم ما حملته من الإسكندرية هذه السفنُ الإنجليزية، أو التي تحمل أعلامًا بريطانية، كان الغلال، وقد سبقت الإشارة إلى شدة طلب الإنجليز للغلال، لا سيما أثناء سنوات القحط الذي عانَتْه البلدان المطِلَّة على البحر الأبيض، ما عدا مصر التي تعتمد زراعتها على فيضان النيل الذي كان طيبًا في هذه الفترة، وتوفرت بسبب ذلك الحاصلات الزراعية، والحبوب خصوصًا، وطلب الإنجليز الغلال لتموين أسطولهم الذي انتشرت وحداته بين مالطة وجبل طارق، وذلك عدا تموين الجيوش المشتبكة مع الفرنسيين في حرب إيبريا، فكانت الغلال السلعة الرئيسية التي حملتها سفنهم إلى مالطة، ولم يكن لهذه غير مصر تستورد منها حاجتها من الحبوب، ثم إلى إسبانيا والبرتغال.

وبذل «دروفتي» وسائر الوكلاء الفرنسيين كلَّ ما وسعهم من جهد وحيلة لتعطيل نشاط الإنجليز التجاري، وحَمْل الباشا — على وجه الخصوص — على الامتناع عن تصدير الغلال إليهم. وكتب «سانت مارسيل» في ٣٠ مارس ١٨١٠ «أن الباشا قد رفض دائمًا التسامح بتصدير الغلال»، وقال «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في ٢٠ يونيو من العام نفسه «إن محمد علي كان يعارض دائمًا تصدير الغلال» إلى مالطة وغيرها، وقد يكون ما ذكراه صحيحًا، ولكن الثابت أن حركة التصدير لم تتوقف، ثم إن نشاطها كان في ازدياد مستمر، ثم إن «سانت مارسيل» نفسه لم يلبث أن صرَّح بشكوكه في إمكان إقناع الباشا بالامتناع عن بيع الغلال للإنجليز، فقال في رسالته السالفة الذكر: «ولكنه لما كان قد حضر إلى الإسكندرية مركبٌ حربي إنجليزي من طراز الإبريق، ودخلت معه سفينتان أخريان إنجليزيتان، وأحضرت هذه السفن صندوقًا مليئًا بالمال، فماذا يكون يا تُرى موقف محمد علي؟ وهل يستمر رفضه «السماح بتصدير الغلال لهم»؟» ثم كتب «دروفتي» في نفس رسالته التي سبقت الإشارة إليها، بأن الباشا الذي ظل يعارض دائمًا هذا التصدير «قد صار يسمح به الآن، بسبب ما يحصِّله من رسومٍ جمركية على الغلال المصدَّرة، وهو بحاجةٍ كبيرة إلى المال»؛ لما يتكلَّفه نضاله مع البكوات المماليك من نفقات طائلة، حتى إن الباب العالي مع حاجته هو الآخر إلى الغلال لم يظفر من محمد علي بما يسد هذه الحاجة؛ لأنه يجني ربحًا أوفر من اتِّجاره مع الإنجليز؛ ولأن «مَطالِب العاصمة (أي القاهرة) مُفضَّلة على كلِّ ما عداها، ويعلو تحقيق ما فيه صالحها على كل اعتبارٍ آخَر» في نظره.

والواقع أن افتقار محمد علي إلى المال كان من الأدواء المزمنة، ولم تَخفَّ حِدةُ أزمة المال هذه — كما سيأتي ذكره — في السنوات التي هي موضوع دراستنا، وكان من المتعذَّر على الباشا لذلك الامتناعُ عن التعامُل مع الإنجليز، لا سيما وقد انتفى بسبب صُلحهم مع الباب العالي في يناير ١٨٠٩ ما يدعوه لوقف هذا التعامُل معهم، ثم إنهم علاوة على ذلك، كانوا على استعدادٍ لدفع الثمن الذي يطلبه الباشا لغلاله نقدًا وعدًّا ومهما تغالى في تقديره، وهذا إلى جانب الرسوم الجمركية المرتفعة كذلك، والتي صار يفرضها على الحبوب والأرز والكتان والنطرون وسائر السلع المصدَّرة إلى مالطة، أو على السلع المجلوبة إلى مصر، وقد تزايَدَ توثُّق العلاقات بينه وبين الإنجليز منذ أن عاد من مالطة إلى الإسكندرية في ديسمبر ١٨٠٩، نائبُ القنصل البريطاني القديم «صمويل بريجز»، الذي كان قد غادرها منذ جلاء جيش «فريزر» عنها، وكان «بريجز» صاحب بيت تجاري كبير بالإسكندرية، قام بإدارته في غيبته هولنديٌّ يُدعَى «سوتش» Sutch، فأعاد الآن تأسيسه وكان صاحبَ ثراءٍ عريض، وبدلًا من أن يُبطِل الباشا بيع الحبوب للإنجليز، لم يلبث أن أعطى «بتروتشي» تصريحًا بتصدير الغلال إلى مالطة، ولم تفِد شيئًا محاوَلات «دروفتي» في منعه من اتخاذ هذه الخطوة. ثم أغدق «بريجز» الهدايا على الباشا ورجال حاشيته لتعزيز علاقته بهم، وفاز الإنجليز بكسب آخر، عندما أجاز محمد علي دخول سفنهم الحربية إلى ميناء الإسكندرية القديمة، وكان كل ما اشترطه «ألَّا يوجد بهذا الميناء في وقتٍ واحد أكثرُ من مركبَيْن حربيَّيْن فحسب».
وساء الوكلاء الفرنسيين، أن يظفر الإنجليز بكل هذه المزايا، وراحوا يعزون هذا إلى نشاط أعدائهم، الذي تزايد بعد عودة «بريجز» إلى الإسكندرية، فقال «دروفتي» في كتابه إلى حكومته في ١٢ مارس ١٨١٠: «إنه بعودة بريجز إلى منصبه، قد عادت إلى مصر المؤامَرات والدسائس من كل نوع، والتي هي عادةً تسير في ركاب الدبلوماسية البريطانية.» وحنق «دروفتي» على وجه الخصوص على ترجمان الباشا، وهو الذي شكا منه «دروفتي» و«مانجان» أيام المفاوَضات التي انتهت باتفاقِ تسليمِ الإسكندرية إلى محمد علي، كما حنق على طبيب الباشا المسمَّى «مندريشي» Mandrici وأصله من جنوة، وخدم في بلاط باي تونس قبل نزوحه إلى مصر، ويقول عنه «دروفتي» إنه في حماية الإنجليز، ويذيع عن نفسه أنه يعمل وكيلًا للولايات المتحدة الأمريكية في مصر، وأما الرجل الذي أثار حنق وغيظ الوكلاء الفرنسيين دائمًا، فكان «بتروتشي» الذي شكا منه هؤلاء شكوى مُرَّة؛ لأنه بعد أن خدم «جيش الشرق» لم يلبث أن تنكَّر لفرنسا بعد جلاء حملتها عن مصر، وأعلن عداءه لها، وعظم نشاطه التجاري مع الإنجليز في مالطة، وصار يبعث بالسفن الكبيرة المحمَّلة بالقمح والشعير إلى مالطة، وكان بسبب نشاطه التجاري هذا، وتظاهُره بالحرص دائمًا على إرضاء الباشا، مُقرَّبًا منه وصاحب حظوة لديه، ومع أن «سانت مارسيل» كان قد ذكر للوزير «شامباني» في مارس ١٨٠٩، أن الفرنسيين المنسحبين من مصر في عام ١٨٠١ هم الذين لم يأذنوا ﻟ «بتروتشي» باللحاق بهم، فقد راح يؤكد الآن لوزير الخارجية الجديد «الدوق دي كادور» Cadore أن بتروتشي قد خشي، بسبب اختلاساته — ولا شك — أثناء وظيفته كمحاسب في أسيوط، مناقشتَه الحساب إذا هو ذهب إلى فرنسا، فآثر البقاء في مصر، يخدم المصالح الإنجليزية، وينفِّس عن كراهيته لفرنسا بتدبير المؤامرات والدسائس التي تُلحِق الأذى بمصالحها.

ولقد جعلت الباشا حاجتُه إلى المال، إلى جانب الأرباح التي يجنيها من اتِّجاره مع الإنجليز، وتصدير غلاله لهم، ضنينًا بإرسال الغلال والحبوب إلى تركيا، بالرغم من أن هذه كغيرها من بلدان البحر الأبيض، كانت تشكو من القحط، وتخشى المجاعة، والسبب في ذلك أنه ما كان يستطيع بيع غلاله للدولة بالثمن المرتفع الذي يبيع به للإنجليز، أو يحصِّل على الغلال المصدَّرة إليها نفسَ الرسوم الجمركية العالية، التي يحصِّلها من الإنجليز، وقد حدث عند اشتداد القحط، والخوف من انتشار المجاعة في مالطة في عام ١٨١٠، أن رفع الباشا الرسومَ الجمركية إلى ٢٦ قرشًا عثمانيًّا على الإردب الواحد، ودفع الإنجليز الثمنَ بطيب خاطر، وخُيِّل إلى الباب العالي أن بوسعه وقْفَ حركة التصدير إلى مالطة، وحمل الباشا على إرسال الغلال إلى القسطنطينية؛ إذ أصدر أوامرَه لوالي مصر بمنع تصدير القمح إلى أوروبا، وتشدَّد في مَطالَبته بذلك، ولكن محمد علي ما كان يأبه لهذه الأوامر المتكررة.

صحيح أنه لبَّى طلب الباب العالي في أحايين قليلة ونادرة، وأرسل بعض الغلال إلى الدولة، ولكن التصدير إلى مالطة لم يتوقَّف، بل إن «دروفتي» لم يلبث أن كتب في ١٧ يوليو ١٨١٠، أن تصدير الغلال إلى مالطة قد نشط بدرجةٍ تسترعي الأنظار حقًّا، ثم لم تلبث أن تأزَّمت الأمور بين الباشا وبين الباب العالي في شهر فبراير ١٨١١ والشهور التالية، عندما استأنف هذا الأخير إصدار الأوامر المشددة إلى محمد علي بوقف تصدير القمح إلى أوروبا (وآخِرها في مايو)، وظل الباشا لا يأبه لها، وإنْ حاوَل في الوقت نفسه تهدئةَ كلٍّ من تركيا وفرنسا، بأن صار يعرض على فرنسا أن يبيعها الغلالَ بأثمانٍ مخفَّضة، ولو أنه لم يكن واضحًا وسيادة الإنجليز مبسوطة على البحر الأبيض، كيف تستطيع فرنسا أن تتسلَّم الغلال التي تبتاعها، ثم إنه عرض عليها استعداده لتموين جزيرة كرفو التي كانت في حوزته، ولو أن هذه كانت تأخذ من أوروبا حاجتها من الغلال بأثمانٍ تقل كثيرًا عن تلك التي طلبها. وأما تركيا، فقد عمد الباشا إلى مراوَغتها ومماطَلتها، بحجة افتقارها إلى السفن التي تنقل الغلال إلى بلادها، ومع أن تركيا قد أرسلت إلى الإسكندرية في شهر أغسطس ١٨١١ إحدى عشرة سفينة، فإن ثلاثًا منها فقط استطاعت أن تأخذ حمولتها من الغلال بعد ستة شهور، ولما طال الانتظار بسائر السفن بقيت منها أربع في الميناء يداعبها الأمل والرجاء، وقفلت الأخرى راجعةً بعد أن تملَّكَها اليأس والقنوط.

وأما الإنجليز فقد كان الحال على نقيض ذلك تمامًا، فقد استمرت سفنهم تَرِد إلى ميناء الإسكندرية بنظام، وفي أعداد كبيرة، ولم يحدث تأخير في شحن السفن، كما أنه لم يحدث من ناحية الإنجليز تسويف في دفع الثمن، وانحصر نشاط الباشا — على نحوِ ما ذكر «سانت مارسيل» في كتابه إلى «الدوق دي كادور» في ٧ يناير ١٨١١ — في «تجارة الحبوب» والغلال التي يبيعها للإنجليز، ولم يمنع ارتفاعُ السعر الذي باع به الباشا إقبالَ هؤلاء على الشراء منه، ولم يكن هناك سبيل للتعامل مع غيره، لاحتكاره تجارة الحبوب وغيرها من منتجات البلاد، بل إن هؤلاء ما لبثوا أن أوفدوا إليه من مالطة في مارس ١٨١١ مندوبين للاتفاق معه على شراء الغلال اللازمة لتموين صقلية كذلك وبالثمن الذي يريده، واستطاع الباشا التصرُّف في كميات وفيرة من الغلال؛ لأنه كان وقتئذٍ قد نجح في القضاء على المماليك والاستيلاء على غلات الصعيد في ظروفٍ سوف يأتي ذكرها. وقال «دروفتي» في كتاب إلى حكومته من القاهرة في ٨ مايو ١٨١١: «إن الباشا لم يكتفِ بالمضي في تجارته مع مالطة (وإرسال غلاله إليها)، بل إنه أنشأ مؤسسة بهذه الجزيرة — أو «خانًا» — لبيع الغلال، ولتوريد الغلال التي يبغي الباشا إرسالها إلى إسبانيا والبرتغال.» ونشط المشرفون على هذا الخان نشاطًا عظيمًا. وتحدث «سانت مارسيل» في يوليو عن نشاط هؤلاء ومهمتهم، وكان واجبهم إرسال السلع الصالحة للاستهلاك في مصر، لقاء ما يبيعونه من الحبوب. وهكذا — كما قال سانت مارسيل — تستمر دائمًا تجارة الغلال هنا؛ أي بالإسكندرية مع الإنجليز، وتعجُّ الميناء بالسفن النمساوية والمجرية والتابعة للبندقية تحمل الغلال إلى مالطة أو إسبانيا والبرتغال رافعة الراية الإنجليزية، ويبيع الباشا اليوم الواحد والعشرين مدًّا بمائة قرش، فجمع محمد علي من هذه التجارة أرباحًا وفيرة.

ولم يشكُ من الأثمان أو الرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضها الباشا سوى خصمه القديم «مسيت»، وكان هذا قد عاد إلى منصبه قنصلًا بريطانيًّا في هذه البلاد في أواسط عام ١٨١١، بعد أن رقَّته حكومته كولونيلًا، وقد دخل الإسكندرية في موكب فخم، سار فيه خمسمائة من الجند الأرنئود، وأحاط بمركبته فرسان من الإنجليز المقيمين بالإسكندرية، ثم ربَّان وضباط قرويت إنجليزية راسية بالميناء، ويتقدَّم مركبته اثنان من السياس، مما يرمز جميعه إلى ما صار يتمتع به الإنجليز الآن من سمعة ونفوذ، ولو أنه اضطر أن يدفع ألفَيْ قرش لرؤساء هؤلاء الأرنئود الذين طالَبوه بثمن حفاوَتهم. ومع أن الموقف معه تبدَّل عما كان عليه منذ السنوات الأربع الماضية، وصار «مسيت» نفسه نهبًا للمرض، وأصاب الفالج ذراعَيْه وساقَيْه، حتى صار كسيحًا مقعدًا، فإنه لم يترك خصومته القديمة لمحمد علي، أو يُنسِيه المرضُ «واجبَه» الذي جعله الآن ينحى باللائحة على الباشا وينقد مسلكه نقدًا لاذعًا مُرًّا؛ لافتئاته على الحقوق أو الامتيازات التي للبريطانيين في أنحاء الدولة العثمانية وأملاكها، والتي وجب على الباشا احترامها، وعدم فرض الرسوم الجمركية العالية، فاستهل نشاطه الجديد، بالشكوى لحكومته من محمد علي، فقال في كتابه إليها في ٤ يوليو ١٨١١: «إنه يؤسفه شديدَ الأسف أن يجد حاكم أو باشا مصر الحالي (أيْ محمد علي)، لا يحترم الامتيازات المعطاة للإنجليز، بفضل معاهدات الامتيازات المبرمة بينهم وبين الباب العالي، فقد صمَّم على الاستئثار لحسابه، أو أنه نفذ ذلك فعلًا، بكل أنواع الاحتكارات، ولقد زيدت الرسوم الجمركية القديمة، وفُرِضت أخرى جديدة على كل سلع تجارة الوارد والصادر، وليس لدى الباشا جوابٌ على احتجاجات الوكلاء الأوروبيين، سوى قوله إن من حقه وضْعَ كل التنظيمات والقواعد الداخلية في نطاق باشويته أو حكومته، ولا جدوى من مخاطَبة الباب العالي لعلاج هذه الحالة؛ لأن الباشا، مع اعترافه الاسمي بسلطة السلطان، يرفض الإذعان لكل أوامر يُصدِرها عظمته، إذا تعارَضت مع مصلحته هو الخاصة.»

ولكن تذمُّر «مسيت» وغضبه، لم يَحُولا دون استمرار تعامُل الإنجليز مع الباشا، وشرائهم للغلال منه، بل قَبِل هؤلاء في بداية هذا العام نفسه (١٨١١) أن يدفعوا خمسين قرشًا عثمانيًّا ضريبة جمركية على كل إردب من القمح الذي يستوردونه، وهذا بطبيعة الحال علاوة على الثمن الذي يدفعونه في شرائه، ثم إن احتجاج الوكلاء الفرنسيين، وسخط الباب العالي لم يَحُولا كذلك دون مضي الباشا في بيع غلاله للإنجليز، والتذرُّع بشتى الوسائل لعدم إرسال القمح إلى القسطنطينية، تارةً بدعوى حاجته إلى الغلال ومختلف أنواع الأغذية لتموين جيشه الذي يُعِدُّه لحملة الحجاز واستخلاص الحرمَين الشريفَين من الوهابيين، نزولًا على إرادة الباب العالي، بل وصار يطلب علاوةً على ذلك أن يمدَّه الباب العالي نفسه بالأغذية والمؤن وغير ذلك من الإمدادات التي قال إنه في حاجة إليها؛ ليُكمِل استعداداته وحتى يتسنَّى له الخروج إلى الحجاز، وتارةً أخرى بدعوى عدم وجود السفن الكافية لديه لشحنها بالغلال وإرسالها إلى القسطنطينية، ناهيك عما يحتاجه هو منها لحملته ضد الوهابيين، وعلاوة على ذلك، لم تُعوِزه الحجة أمام احتجاجات الوكلاء الفرنسيين، في تبرير تعامُله مع أعدائهم الإنجليز.

فقد كتب «دروفتي» من القاهرة في ٢٨ أبريل ١٨١٠، أن طبيب الباشا «مندريشي» قد استند في إقناعه الباشا بالمضي في بيع الغلال للإنجليز إلى أن هؤلاء لديهم من القوة والوسائل ما يمكِّنهم من إرسال جيش إلى مصر لغزوها إذا انقطعت العلاقات بينهم وبين الباب العالي، كما أن في وسعهم من ناحية أخرى مساعدة الباشا ونجدته إذا أرسلت فرنسا حملةً لغزو هذه البلاد، ثم استطرد «دروفتي» يقول: وعلاوة على ذلك، فإنه «يبدو لي من التقريرات التي وصلتني، أن محمد علي قد صار يعتقد أنه إذا أجاب مَطالِب الإنجليز — من حيث الاستمرار على تصدير الغلال إليهم — فإن هؤلاء سوف يفصمون علاقاتهم مع البكوات المماليك، ولا يعود الباشا حينئذٍ يخشى شيئًا منهم.»

وفي ١٧ يوليو ١٨١٠، كتب «دروفتي» يقول: «إن الباشا بدعوى حاجته إلى مورد جديد من المال، يمكِّنه من متابَعة الحرب ضد المماليك، قد أعطى الإنجليز حديثًا الحقَّ في استيراد الحبوب بمطلق الحرية (من هذه البلاد)، في نظير دفع عشرة قروش تركية، رسومًا جمركية على الإردب وزن رشيد، وهو يعادل ٢٥ مريا جرامًا.» ومن المعروف أن «المريا جرام» الواحد يساوي عشرة آلاف جرام.

ولما رفض محمد علي الاستماع لأوامر الباب العالي المشددة، بمنع تصدير القمح إلى أوروبا، كتب «دروفتي» في ١١ نوفمبر ١٨١٠، أنه احتجَّ لدى الباشا على استمرار البيع للإنجليز، فكان جوابه: «أنه يخشى إثارةَ عداء هؤلاء ضده، إذا رفض رفضًا قاطعًا بيع غلاله لهم»، وأنه إذا امتنع عليهم أخْذُ الغلال بطريق الشراء، لجئوا إلى أخذها عنوةً بالقوة، ولكنه سوف يعمد إلى طريقة أخرى من شأنها إزعاج تجارهم إزعاجًا شديدًا، هي زيادة الرسوم الجمركية على الصادر، وقد رفع هذه فعلًا إلى ٢٦ قرشًا تركيًّا على الإردب زنة خمسة وعشرين مريا جرامًا، ولكن «دروفتي» لم يقتنع بالسبب الذي أبداه الباشا لزيادة الرسوم الجمركية، واعتقد أن مبعثه إنما كان رغبة محمد علي في جمع المال، منتهزًا فرصةَ وجود المجاعة في مالطة وفي جميع جزر البحر الأبيض تقريبًا وقتئذٍ، وأما الدعاوى الأخرى التي سوَّغ بها تعامُله مع الإنجليز، فقد كانت على نحوِ ما ذكره ﻟ «دروفتي» خوفه من هؤلاء، وضرورة تحصين الإسكندرية، وبناء أسطول من السفن في البحر الأحمر.

وفي ١٦ يناير ١٨١١ عاد «دروفتي» يقول إن الباشا في حاجة إلى المال الذي يحصل عليه من تصدير الغلال إلى الإنجليز لدفع مرتبات الجند، ولبناء أسطول من السفن في البحر الأحمر، «ودعواه الوحيدة التي يبرِّر بها مسلكه هذا «مع الإنجليز»، لدى الباب العالي، هي ضرورة إنجاز الاستعدادات اللازمة لخروج حملته ضد الوهابيين». وأما الوكيل الفرنسي الآخر «سانت مارسيل»، فقد كتب من الإسكندرية في ٢٧ مارس ١٨١١، ينبئ حكومته بوصول ضابطين من القومسيرية العامة للجيش البريطاني في صقلية؛ للمفاوَضة والاتفاق مع محمد علي على شراء الحبوب، ثم استطرد يقول: «ولما أن احتججتُ لديه على ذلك، قال «الباشا» إن هذا التعامل «مع الإنجليز» يزوِّده بالمال الذي يلزمه لتحصين الإسكندرية وزيادة عدد جيشه، وإنجاز تسلُّحه في البحر الأحمر، والقيام بحملته ضد الوهابيين، ثم إنه يخشى إذا هو رفض «التعامُل مع الإنجليز» أن هؤلاء إذا اضطروا إلى مغادَرة صقلية وطُرِدوا منها — وهذا أمر متوقَّع — فسوف يَنقضُّون عندئذٍ على مصر و«يغزونها»؛ كي يأخذوا منها ما يحتاجونه لتموين أسطولهم ومالطة، وعلاوة على ذلك، فإن الواجب يقتضيه — كما قال — الاحتراس من ناحية الإنجليز، في الوقت الذي لهم فيه جيش بالبرتغال، لا يعلم أحدٌ المكانَ الذي سوف يقصده، بعد اضطراره إلى مغادَرتها، وقد بلغه (أيْ محمد علي) أن هذا الجيش يبغي الدخول إلى البحر الأبيض، ثم إنه يعتقد أن قطع العلاقات بين إنجلترة وتركيا قد بات أمر متوقَّعًا.» ومن المعروف أن «السير آرثر ولزلي» Wellesley — دوق ولنجتون — الذي تولى القيادة العامة للقوات البريطانية في البرتغال في عام ١٨٠٩، كان بعد اشتباكه في معارك عدة مع الفرنسيين في شبه جزيرة إيبريا، قد اضطر إلى الانسحاب إلى الساحل في البرتغال.

وفي ٦ مايو ١٨١١، كتب «سانت مارسيل» يقول: «إنه يقطع بأن الباشا يريد عقد محالَفة مع الإنجليز، فهناك من صار يبيِّن له بالحجة والدليل أنه ببقائه صديقًا لفرنسا، في وسع هذه تثبيته في حكومته.» ولكنه لما كان هو بعيدًا بُعدًا كبيرًا من الدولة التي تكتفي ببذل الوعود، والتي قالوا إنها ذات أهمية ثانوية وقتئذٍ، فمن الخير له أن يصادق الإنجليز الذين في وسعهم بفضل قوتهم البحرية أن يحموا تجارته. ثم استمر «سانت مارسيل» يقول: «ويدرك الباشا جيدًا من ناحية أخرى، أن الإنجليز لن يولُوه حمايتَهم إلا من أجل تحقيق غاياتهم الشيطانية، ولكنه يرى — بعد إمعان النظر — أن الأفضل له، إذا لم يكن هناك معدًى عن الوقوع تحت رحمة الباب العالي أو إنجلترة، أن يسلِّم نفسه إلى هذه الأخيرة، التي سوف تُبقِي حينئذٍ على حياته وتترك له أمواله، بينما يجرِّده الباب العالي من أمواله وينتزع منه حياته.»

ولا جدال في أنه إلى جانب ما كانت تُدِرُّه عليه التجارة مع الإنجليز من ربح مالي وفير، كانت الدعاوى التي استند إليها الباشا في تبرير مسلكه، منبعثة عن وزن صحيح للأمور، بسبب مماطَلة البكوات المماليك في الاتفاق، وحسم خلافاتهم نهائيًّا معه، وما كان يذيعه الوكلاء الفرنسيون والإنجليز سويًّا، عن احتمال وقوع الغزو على هذه البلاد؛ إما من ناحية إنجلترة، حسب أقوال الأولين، وإما من ناحية فرنسا كما يؤكِّد الأخيرون. ثم إنه كان عليه استرضاء الباب العالي بالخروج إلى الحجاز ضد الوهابيين، وعلاوة على ذلك، فقد أفاد من صداقة الإنجليز والتعامل معهم، لا من حيث امتلاء خزانته بالمال فحسب للإنفاق منه في الوجوه التي ذكرها الوكلاء الفرنسيون أنفسهم، بل ومن حيث الاستعانة بنشاط الوكلاء الإنجليز في تنفيذ الخطة التي اتبعها مع البكوات المماليك؛ لاستمالتهم إلى الصلح معه، وخصوصًا عند سعيه لكسب ود وصداقة شاهين بك الألفي على نحوِ ما سيأتي ذكره.

وثَمة سببٌ آخَر يدعوه لإمداد الإنجليز بحاجتهم من الغلال، هو اعتقاده أن بوسعه الاعتماد على مؤازَرتهم له في بناء ذلك الأسطول التجاري والحربي الذي أراد إنشاءه، في البحر الأحمر، لتعزيز العلاقات التجارية بين موانيه وسائر المواني بهذا البحر، ولنقل جنده المرسلين إلى بلاد العرب، وكان يبغي أن يبيعه الإنجليزُ بعضَ سفنهم، أو يجهِّزوا بعض سفنه هو بالأسلحة التي تجعل منها سفنًا حربية، فعهد إلى سليم ثابت أحد رجاله في القسطنطينية بأن يتفاوض مع السفير الإنجليزي بها بصدد شراء السفن اللازمة له من إنجلترة، وكتب إلى كتخداه بالعاصمة العثمانية في ٢٢ يناير ١٨١٠، أن محمد آغا اللاظ قد بنى سفينة بالإسكندرية طولها ٣٦ ذراعًا، وعهد بقيادتها إلى إسماعيل قبودان البشكطاش (جبل الناره أو جبل طار)، على أن يذهب بها إلى مالطة؛ حيث يبتاع هناك سفينة أخرى، فيقصد المركبان ميناء السويس، بالدوران حول رأس الرجاء الصالح، وأما هذه السفينة التي أنشأها محمد آغا اللاظ فقد عُرِفت باسم «أفريقية»، وقد أبحرت فعلًا من الإسكندرية إلى مالطة في أبريل من العام نفسه.

ولكن الإنجليز لم يلبثوا أن «تعلَّلوا» بتعلات مختلفة لعدم بيع سفنهم لمحمد علي، وما إن وصلت «أفريقية» إلى لندن، حتى تدخَّل في أمرها رجال شركة الهند الشرقية التجارية الإنجليزية، وكان يعنيهم أن يظلوا محتكرين لتجارة الهند، فحاوَلوا دون قيام «أفريقية» برحلتها المنتظرة حول رأس الرجاء الصالح إلى السويس، وإن كانت الحكومة الإنجليزية قد تكفَّلت بتسليحها تسليحًا جيدًا على نفقتها، وحمَّلت قبطانها إسماعيل جبل طار هدايا عظيمة استرضاءً للباشا، فعادت هذه الفرقاطة إلى الإسكندرية في يناير ١٨١٢.

على أنه كان هناك إلى جانب ما ذكرنا، سببٌ يفوق في نظر محمد علي هذه الأسباب جميعها، ويدعوه للمثابَرة على كسب ود وصداقة الإنجليز، هو تصميمه على الاستعانة بهم في إخراج مشروع «استقلاله» الذي عرفناه إلى حيز الوجود، ولو أن هؤلاء رفضوا الاستجابة لهذه الرغبة.

(٤) الإنجليز يرفضون استقلال محمد علي

فقد مهَّدت العلاقات التجارية التي أنشأها محمد علي مع الإنجليز، لاستئناف مساعيه لعقد محالَفة معهم، واستند في مفاتحة وكلائهم برغبته هذه، أولًا: إلى أنه لا يثق في نوايا الباب العالي نحوه، ويريد تأمين بقائه في باشويته، ويعنيه لذلك التحالُفَ مع حليف قوي، يدفع عنه أذى الباب العالي. وثانيًا: إلى أنه من صالح الإنجليز توثيق صلاتهم به، حتى يرعى مصالحهم التجارية، لا في مصر وحدها فحسب، بل وكذلك في الأصقاع الجديدة التي ينوي فتحها في بلاد العرب، عند خروجه في الحملة التي يكلِّفه الباب العالي القيامَ بها ضد الوهابيين، فيفتح مواني البحر الأحمر لتجارتهم. وثالثًا: إلى أن تأمين الطريق البري من السويس إلى القاهرة فالإسكندرية يعود على تجارتهم مع الهند بفوائد عظيمة. وأخيرًا: إلى أن تحالُفهم معه يكفل اطمئنانهم إلى الحصول على كل ما يريدونه من غلال لتموين قواعدهم بالبحر الأبيض.

وقد بدأ مساعيه هذه مع الوكلاء الإنجليز، عقب مغادرة «فريزر» وجيشه البلادَ، وأبلغ «آني» رغبات الباشا إلى كل من القائدَيْن «فريزر» و«مور» منذ ١٨٠٧، ولكنه لم يظفر منهما بجواب حاسم. ولما كان محمد علي قد «اصطفى» هذا المالطي؛ ليسرَّ إليه ﺑ «حقيقة» أغراضه، وظل يكرر له القول إنه يعتزم فعلًا الخروج إلى بلاد العرب، لا لمجرد القضاء على الوهابيين، بل ولفتح ميناءَيْ جدة وينبع، والاستيلاء على اليمن ومخا، مينائها كذلك — وقد امتدت اعتداءات الوهابيين إلى اليمن — فقد اهتم «آني» بالأمر، وحرص على أن لا تفوت حكومته الاستعانة بمحمد علي، في تأمين الملاحة البريطانية في البحر الأحمر من جهة، وفتح ميادين جديدة لتجارتهم من جهة أخرى، عدا ما يترتب على التعاون مع قوات الباشا الصديقة في هذه المراكز، من غلق البحر الأحمر في وجه أية دولة مُعادِية وبخاصة فرنسا، إذا حدَّثتها النفس بمحاوَلة تهديد المصالح البريطانية في الهند مرةً أخرى، على غرار ما حاوَله بونابرت أثناء حملته المعروفة على مصر.

فقد لفتت حملة بونابرت هذه أنظارَ الإنجليز إلى أهمية البحر الأحمر، وقد أصرَّ «لورد فالنتيا» عند انتهاء رحلته في الهند، على العودة منها بطريق البحر الأحمر، وقد ذكرنا كيف دخل القاهرة في فبراير ١٨٠٦، بعد أن اجتاز الطريق البري بسلام من السويس إليها، وكان غرضه من الرحلة في البحر الأحمر، اكتشاف خير الوسائل التي يمكن بها غلق هذا الطريق في وجه غزو يأتي من الغرب، ثم تنمية تجارة الهند مع مواني البحر الأحمر، وقد تسنَّى له بذلك زيارة المواني الهامة، وخرج من رحلته هذه بأن احتلال عدن، وعقد محالفة مع الوهابيين والأحباش، أفضلُ ما يمكن اتخاذه من خطوات لتحقيق هذين الغرضَيْن، فكان من أثر دعوته أنْ ذهَبَ «هنري صولت» Salt، رفيقه في رحلته هذه، في مهمة إلى الحبشة في عام ١٨٠٩ لتنمية العلاقات التجارية بينها وبين الهند (بومباي). ثم إن حكومة الهند ما لبثت أن أوفدت الكابتن «ردلاند» Rudland إلى مخا، يعاونه «جون بلزوني» Belzoni لإنشاء نفس العلاقات معها، وكان من أغراض هذه البعوث كذلك منْعُ قراصنة الوهابيين من الاعتداء على سفن شركة الهند التجارية الشرقية.

وعلى ذلك، فقد اعتقد الوكلاء الإنجليز في مصر، لا سيما «آني» و«صمويل بريجز»، أن من صالح دولتهم التحالف مع محمد علي، وهو الذي ما فتئ يعلن عزمه على الخروج إلى الحجاز، ويجدُّ بكل ما لديه من وسائل لبناء أسطول تجاري وحربي في البحر الأحمر، وأما إذا رفضت حكومتهم المحالفة معه، فلا أقل من أن تعقد معه اتفاقًا تجاريًّا، يمكن بفضله نقل المتاجر البريطانية عبر الطريق البري بشروط سخية طيبة.

فكتب «آني» إلى اللورد «هو كسبري» في ٢٨ سبتمبر ١٨٠٨، «أن محمد علي لعدم ثقته بالباب العالي، يبغي أن يربط نفسه بإنجلترة، ويقترح عقد معاهدة سلام وتحالف معها، وﺑ «شروط» في صالحها.» ثم طفق يقص على الوزير مشروعات الباشا في الحجاز، عند قيامه بحملته إلى هذه البلاد، وفتح جدة وينبع واليمن، ولكن هذا الاقتراح لم يلقَ آذانًا مصغية من حكومة لندن، صحيح أن إنجلترة كانت لا تزال في حرب مع تركيا، وقد يكون هذا العرض من جانب باشا مصر — الذي حرص على إمدادها بالغلال وتفريج أزمة تموين أساطيلها وجيوشها — عرضًا مغريًّا، ولكن الإنجليز كانوا يبذلون آنئذٍ قصارى جهدهم للصلح مع الباب العالي، ثم إنه كان معروفًا لديهم من أيام مفاوضات الجلاء عن الإسكندرية، أن الباشا إنما يبغي المحالَفة معهم كي يظفر ﺑ «الوضع» الذي يمكِّنه من «الاستقلال» عن سلطان الباب العالي، فهم إذا ارتبطوا معه انساقوا إلى نزاعٍ جديد مع تركيا، وفضلًا عن ذلك، فإنهم ما قرَّروا سحب جيشهم من مصر، والتخلي عن المماليك أصدقائهم القدامى، إلا لرغبتهم في التحرُّر من أي ارتباط يفرض عليهم نشاطًا مستمرًّا في ميدان يبغون الخلاص منه كي يتفرَّغوا لمنازَلة العدو في الميادين الأخرى الأكثر أهميةً، فلم يكن من المنتظر حينئذٍ أن يقبلوا المحالَفةَ مع محمد علي.

بَيْدَ أنه وإن كان اقتراح المحالَفة قد ذهب أدراج الرياح، فقد كان لمقترحات الباشا الأخرى، والتي تضمَّنتها رسالة «آني» السالفة الذكر، وفحواها تنمية التجارة، صدى لدى حكومة الهند، فبعثت هذه ﺑ «جون بلزوني» إلى القاهرة، وعهدت إليه بمهمة «فتح طريق للمواصلات بين الهند وإنجلترة، عبر مصر، ودعم هذا الطريق، بإنشاء تبادل تجاري» يعمُّ نفْعُه الجميع.

وتحت إشراف القنصل «بريجز» دارت المفاوَضات بين الباشا و«بلزوني»، وعلى نقيض ما فعله محمد علي قبل ذلك، أثناء مفاوَضته «السرية» مع مندوبي «الجنرال فريزر»، عندما عرض أن يضع نفسه تحت حماية الإنجليز، رفض الباشا الآن «كلَّ شرط يبدو أنه يضعه تحت حماية الإنجليز»، فقد تغيَّر الحال الآن عما كان عليه في عام ١٨٠٧، بالنسبة لمركز حكومته الداخلي، فقد قطع شوطًا كبيرًا في تحصين الإسكندرية منذ جلاء الإنجليز عنها، وقضى على العناصر المشاغبة في جيشه، وأقصى المشايخ عن شئون الحكم، ومكَّنه الانفرادُ بالسلطة من الاستقلال بتدبير الوسائل التي تكفل له الحصول على المال، وجنى ربحًا وفيرًا من تجارة الغلال، ومن احتكاره التجارة عمومًا، عدا ما بدأت تُدِرُّه عليه احتكاراتُه الداخلية الأخرى، ونجح في إضعاف البكوات المماليك، وأنفذ الجيوش التي سوف تنتصر عليهم في اللاهون والبهنسا بعد قليل، ومع أنه كان لا يثق بنوايا الباب العالي نحوه، وشابَ الكدرُ علاقاتِه به؛ لمماطلته في الخروج ضد الوهابيين في الحجاز، ولاتِّجاره مع الإنجليز، وتصديره الغلال إليهم بالرغم من أوامر الباب العالي المشددة لمنع تصدير الحبوب إطلاقًا إلى أوروبا، وعدم إرساله الغلال إلى القسطنطينية إلا بالقدر الضئيل والذي لا يسدُّ حاجةَ هذه منها، فقد صار تكدير العلاقات بينه وبين صاحب السيادة الشرعية عليه لا يقضُّ مضجعَه كثيرًا، بعد الانقلابات التي وقعت في الدولة والتي أطاحت بعرش سليم الثالث (٢٩ مايو ١٨٠٧)، ثم بخليفته مصطفى، وأفضت إلى اعتلاءِ محمود الثاني عرشَ السلطنة (٢٨ يوليو ١٨٠٨) فأنهكت قُواها، ثم تزايد ضَعْفها بسبب ثورات الوهابيين في بلاد العرب، وباشوان أوغلو Pasvan Oglou في بلغاريا، وريجاز Rhigas في اليونان، وعلي باشا في يانينا، وقره جورج (أو جورج الأسود) في بلاد السرب، ناهيك عن استمرار الحرب بين الدولة وروسيا، واحتلال جيوش الأخيرة للولايات الدانوبية (الأفلاق والبغدان)، وكان هذا الضَّعْف الذي أصاب الدولة، إلى جانب عدم اطمئنانه إلى نواياها نحوه، حافزًا لمحمد علي على التمسك بمشروع «استقلاله»، ذلك المشروع الذي أراد الاستعانة بمؤازرة الإنجليز له على تنفيذه، ولم يكن — وهذا «الاستقلال» هدفه — ليرضى بأن يفرض هؤلاء حمايتَهم عليه، بل كان كل ما يبغيه منهم أن يُؤازِروه فحسب على تحقيقه.

وأيًّا ما كان الأمر، فقد كان «بلزوني» وكيل الشركة، مكلَّفًا بعقدِ اتفاقٍ يكفل تنمية التجارة بين الهند وإنجلترة، ويفتح الطريق البري عبر مصر للمواصلات بينهما، وقد أسفرت المفاوَضة بينه وبين محمد علي عن عقد معاهَدة تجارية في القاهرة في ٢٨ مايو ١٨١٠، حصل الإنجليز بفضلها على مزايا كثيرة لتجارة الهند، كما مهَّد أحد شروطها لإمكان إدراك تلك المحالَفة التي أرادها محمد علي، لو أن الحكومة الإنجليزية صدَّقت على المعاهَدة؛ فقد أعلن الاتفاقُ اعتمادَ الامتيازات التي تضمَّنتها معاهدات الباب العالي أساسًا للمعاملات أو التبادل التجاري مع الهند، وتعهَّد الباشا في حالة وقوع الحرب بين إنجلترة وتركيا، بعدم التعرُّض بشيء وبأي عذر كان للرعايا البريطانيين ولأموالهم، بل يمدُّهم بكل معاوَنة، ويُضفِي عليهم حمايته، ثم وافَق الباشا على إرجاع كل مَن يغادر السفن الإنجليزية في موانيه، من نوتيتها وغيرهم هربًا من الخدمة بها إلى هذه السفن، حتى ولو كان هؤلاء الهاربون قد اعتنقوا الدين الإسلامي، فأجاز أمرًا أصرَّ العثمانيون دائمًا على رفضه، ونصَّت شروط هذه المعاهَدة على السماح للمسافرين باستخدام الطريق البري، دون تحصيل أية ضرائب منهم أو على أمتعتهم، وأما البضائع التي تُنقَل عبر هذا الطريق من السويس وإليها، فيُدفَع عن حمولة كل جمل مستخدَم في حملها ثلاثة ريالات إسبانية، بينما تُدفَع عنها رسومٌ جمركية بواقع ٣٪ من قيمتها.

وكتب «صمويل بريجز» إلى «السير آرثر ولزلي» في ٣٠ مايو ١٨١٠، يُنبِئه بعقد هذه المعاهَدة التي يرجو تصديق حكومته عليها، ويذكر الأسباب المسوِّغة في نظره لإبرامها، فقال: «يشرِّفني أن أذكر لكم، لما كانت حكومة الهند قد بعثت بالكابتن «ردلاند» في مهمة إلى مخا و«جون بلزوني» مساعده من أجل فتح طريق للمواصلات بين الهند وإنجلترة عبر مصر، ودعمه بإنشاء تبادُل تجاري ذي نفع عام، فقد بدأت مفاوَضات في القاهرة تحت إشرافي، بين السيد «بلزوني» والباشا، وانتهت بنجاح إلى عقدِ معاهَدةٍ مؤقتة، أرجو أن تنال التصديق اللازم، فإن «محمد علي» باشا، ولو أنه لا يزال يَدين بولاءٍ اسميٍّ للباب العالي، فقد صار من زمن طويل يتمتع واقعيًّا باستقلال من درجة ذلك الذي كان للمماليك قبل الغزو الفرنسي.»

ومع أن فريقًا من الكتَّاب تعذَّر عليهم معرفة ما حدث بهذه المعاهَدة، فالثابت أن الحكومة الإنجليزية رفضت التصديق عليها لعدم تسويء علاقاتها مع الباب العالي، وللأسباب التي ذكرناها، ولأن الإنجليز كان يقلقهم نشاط محمد علي في بناء أسطوله التجاري والحربي، بمناسبة الاستعداد لحملة الحجاز، والذي كان يبغي استخدامه في البحر الأحمر.

ولكن الباشا، بالرغم من رفض الحكومة الإنجليزية التصديقَ على المعاهدة، لم ييئس من الظفر بالمحالَفة معها، تلك المحالفة التي رجا منها إقبال الإنجليز على تأييد مشروع استقلاله، ومع أنه كان متحذرًا دائمًا من ناحيتهم، حتى لا يفاجئ هؤلاء البلادَ بغزو جديد، كما كان متحذرًا كذلك من ناحية الفرنسيين للسبب نفسه، فقد استمرت علاقاته التجارية معهم، بل وتزايدت — كما رأينا — وينهض دليلًا على إيثار الباشا لصداقتهم، ما حدث فيما يتعلَّق ببيع البضائع والسلع التي كان يُصادِرها الفرنسيون أو الإنجليز عند استيلاء أحد الفرنسيين على سفن الفريق الآخَر في عُرْض البحر، ويأتون بها إلى المواني «العثمانية» أو غيرها، لبيعها، وقد استطاع «دروفتي» أثناء حملة «فريزر» في عام ١٨٠٧، أن ينال موافَقة محمد علي على مصادرة المتاجر الإنجليزية التي تأتي بها السفن إلى المواني المصرية، والإسكندرية خصوصًا، متسترة تحت بعض الأعلام غير البريطانية، ولكن الفرنسيين عجزوا في عام ١٨١١ عن بيع البضائع التي غنمتها إحدى سفنهم في البحر وأتت بها إلى الإسكندرية لتصريفها، كما عجزوا عن بيع سفينة إنجليزية غنموها كذلك، وهذا بفضل تدخُّل الوكلاء الإنجليز لدى الباشا الذي وافَق على إرجاء الفصل في المسألة حتى يستطيع هؤلاء الحصول من الباب العالي على أوامر تمنع الفريقَيْن المتقاتلَيْن (إنجلترة وفرنسا) من بيع البضائع أو السفن المصادَرة في المواني العثمانية.

وواقع الأمر أن مسلك محمد علي، سواء من حيث توثيق صلاته التجارية بالإنجليز، أو محاباتهم في موضوع الغنائم، قد جعل «سانت مارسيل» يكتب إلى حكومته منذ ١٣ يوليو ١٨١١ — أيْ بعد إخفاق مشروع المعاهَدة التجارية بعام تقريبًا — «أن للباشا علاقات وثيقة مع الإنجليز، سواء بسبب تجارة القمح معهم التي تُدِرُّ عليه ربحًا طائلًا، أو لرغبته في تأييدهم ﻟ «مشروع» استقلاله الذي ينشده، أو لأنه يريد أن يصبح أقل تقيُّدًا بأوامر الباب العالي الذي يخشى دائمًا أساليبَه السياسية الماكرة، أو لأنه — أخيرًا — يخشى من «اعتداء» دولة «أجنبية» عليه، ويعتزم زيادة جيشه لأربعين ألف مقاتل، يعتقد أنه العدد الذي لا يقهره به أحد.»

وفي ١٢ يونيو ١٨١٢، كتب «مسيت»: «أن محمد علي يبغي الاستقلال من زمن بعيد، فقد زاد عدد جنده بالقدر الذي أجازته له موارده لتحقيق هذه الغاية، وعندما صرَّح أخيرًا بأن لديه من المعلومات — حسبما وقف عليه من التقارير التي وصلته — أن الفرنسيين بفضل نفوذهم لدى الباب العالي، سوف يحملونه قريبًا على غلق المواني العثمانية دون تجارة بريطانيا العظمى، سألته كيف يكون مسلكه حينئذٍ، فأجاب دون أقل تردُّد، بأنه سوف يتمسَّك بالعلاقات الودية السائدة الآن فعلًا، بين مصر والمؤسسات أو المراكز البريطانية بالبحر الأبيض، وأنه إذا تعذَّر عليه إقناع الباب العالي بغض طرفه عن مسلكه في هذه المسألة، فإنه سوف يعلن استقلاله، وهو يأمل في هذه الحالة أن تزوِّده الحكومة الإنجليزية بالوسائل التي تمكِّنه من المقاوَمة بصورةٍ فعَّالة، ضد الأعداء العديدين والأقوياء، الذين سوف يترتب على تصميمه هذا استثارتهم ضده. ولقد وقفت على نوع وقدر المعاونة التي سوف يحتاجها عندئذٍ، دون تقييد الحكومة الإنجليزية بشيء، أو ربط هذه بأي تعهُّد من ناحيتها قبله، ولو أني أعتبر قيام هذه الحالة أمرًا بعيدَ الاحتمال جدًّا، ولقد كان جوابه أن عدد جيشه يكفي لصون مصر، وأنه سوف يعوزه فقط قدر من المال لمواجَهة النفقات غير العادية التي سوف يُرغَم عليها؛ ولأنه لما كان سيقاتل ضد جيوش أوروبية، فإن ذلك يتطلَّب مالًا ورجالًا. ثم إنه صرَّح برجاء أن يكون لديه قريبًا جيشٌ من أربعين ألف مقاتل.»

ذلك كان هدف محمد علي «السياسي» من توثيق علاقاته بالإنجليز؛ معاونته على بلوغ استقلاله، وتلك كانت «الشروط» التي أعلنها ﻟ «مسيت» والتي تضمَّنت نوع المعاونة التي يطلبها من الإنجليز، ومدى «الارتباط» الذي سوف يكون من نصيب هؤلاء، إذا قبلوا التحالف معه، ولا تتعدَّى هذه تقديم المال، المال الذي يستطيع هو الإنفاق منه على تحصيناته واستعداداته الدفاعية إلى جانب استقدام الجنود «المرتزقة» من تركيا ذاتها وسائر أنحاء الإمبراطورية للخدمة في جيشه، ولكن هذه العروض والمقترحات ذهبت جميعها سدًى.

ولم تمنع الرغبة في محالَفة الإنجليز واستمالتهم إلى تأييد مشروع استقلاله، من مفاتَحة الفرنسيين غرمائهم أنفسهم في موضوع هذا الاستقلال ذاته، أو السعي لدى الباب العالي للظفر بمأربه بالطرق والوسائل التي قال محمد علي إنه عليم بها وبأثرها لدى الديوان العثماني. ولكنه كما كانت هناك صعوبات حالت دون إصغاء الحكومة الإنجليزية لمقترحاته، فقد اعترضت مساعيه لدى الفرنسيين، ثم لدى الباب العالي، عقباتٌ جمَّة، فلم يظفر بما يريده.

(٥) فرنسا: «سر نابليون»

وكان موقف فرنسا من مسألة «استقلال» محمد علي، في هذه السنوات التي تلت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، يختلف عن موقف إنجلترة من هذه المسألة، من حيث الدوافع التي جعلت الفرنسيين يرفضون مشروعَ استقلاله، وهم أصدقاء الباشا، والذين عاوَنه وكلاءُ حكومتهم في سنوات التجرِبة والاختبار العصيبة على اجتياز الأزمات التي صادَفته، وكان آخِر ما فعلوه في هذا السبيل اتحاد «دروفتي» وسائر العملاء الفرنسيين مع الباشا في كفاحه من أجل طرد الإنجليز من الإسكندرية، وإنقاذ حكومته من الخطر الذي يتهدَّدها.

ولما كان الباشا في كل علاقاته معهم — وبالرغم من اتِّجاره مع الإنجليز — قد تمسَّك دائمًا بصداقته للأمة الفرنسية وأظهر احترامه للإمبراطور نابليون، وحرص على استرضاء الوكلاء الفرنسيين، فقد كان من المتوقَّع أن تكون فرنسا أكثر ميلًا من غيرها لتأييد مشروع استقلاله، ولكن هذا لم يحدث، لا لأن فرنسا كانت تريد إرضاء الباب العالي، أو منع انهيار الإمبراطورية العثمانية، أو أن هناك ما يدعو للتشكُّك جديًّا في نوايا محمد علي نفسه نحوها، أو صداقته لها، ولكن لأن الإمبراطور نابليون نفسه كان يبغي تقطيع أوصال الدولة العثمانية على أن يفوز بأدنى نصيب من أملاكها، ومن هذه مصر ذاتها؛ إحياءً لذلك المشروع الذي هدف منه إلى تأسيس إمبراطورية شرقية كبيرة على أنقاض الدولة العثمانية من جهة، ثم على أنقاض إمبراطورية الإنجليز في الهند من جهة أخرى، وتنظيم شئون «الشرق» بالصورة التي تَكفل دعمَ «إمبراطورية الغرب» التي حلَّت — بزعامة نابليون في أوروبا — محلَّ الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة «الجرمانية» القديمة، وعلى ذلك فلم يكن مناسبًا لمشاريعه التوسُّعية هذه، أن تظفر مصر إذا استقلت على يد محمد علي، بحكومة وطيدة قوية، في قدرتها دفع الغزو الفرنسي، وتعطيل مشروع الإمبراطورية الكبير، وهو الذي اصطلح المؤرِّخون على تسميته ﺑ «سر نابليون».

ومع أن توالي الكوارث على فرنسا، منذ أن قام الإمبراطور بغزوه الفاشل في روسيا (١٨١٢)، وأنهكت قواه الحرب في إسبانيا، وتألَّبت عليه الأمم في أوروبا، جعل متعذرًا التوسُّع في الشرق، فقد خلق وجود هذا «السر» متاعبَ عديدة للوكلاء الفرنسيين في مصر، في علاقاتهم مع محمد علي في السنوات التي تلت اتفاق الجلاء عن الإسكندرية خصوصًا، فقد كان على هؤلاء أن يكافحوا ذلك النفوذ الإنجليزي الذي استمر ينمو نموًّا مطردًا في مصر، في الفترة التي نحن بصدد دراستها، للأسباب التي مرت بنا، ووجب عليهم أن يمنعوا اتِّجار الباشا مع الإنجليز وتصدير غلاله إليهم في قواعدهم في مالطة وصقلية وشبه جزيرة أيبريا لتموين أساطيلهم وجيوشهم، في وقتٍ كان قد فرض فيه منذ نوفمبر ١٨٠٦ «النظام القاري» الذي أعلن حصار الجزر البريطانية، ومنع الدول الحليفة له أو الخاضعة لسلطانه من فتح موانيها للاتِّجار مع بريطانيا، ثم تعيَّنَ على الوكلاء الفرنسيين كذلك أن يستعينوا بمؤازَرة الباشا لهم، لوقف حملات القذف المشينة التي يشنُّها على الإمبراطور أمثالُ «بتروتشي»، و«الأب أرمننجليد»، وإزالة الأثر الذي قد تُحدِثه على الباشا «الشائعات» التي روَّجها الوكلاء الإنجليز عن اعتزام الإمبراطور غزو مصر، ومجيء جيش فرنسي قريبًا، لامتلاك البلاد وإنهاء حكم الباشا، وذلك كله فضلًا عن مسعاهم من أجل تمكين مواطنيهم من بيع غنائمهم هم أنفسهم، في هذه المواني من جهة أخرى.

ووجد الوكلاء الفرنسيون أنفسهم، بسبب «سر نابليون» في حيرة عظيمة، عندما تعيَّن عليهم أن يلزموا الحيطة والحذر في علاقاتهم مع الباشا، حتى لا يكشفوا هذا «السر»، وتعذَّر عليهم أن يدخلوا الطمأنينة إلى نفسه من ناحية الإمبراطور ومشاريعه الخَطِرة بصورة حاسمة، فلم يَسَعهم سوى «تكذيب» الشائعات التي يروِّجها خصومهم، ثم إذاعة إشاعات «مضادة» من جانبهم، يتهمون فيها الإنجليز بالعمل على تجديد غزوهم لهذه البلاد، وانحصرت التعليمات التي وصلتهم من حكومتهم في ضرورة مراقَبة نشاط تجارة الإنجليز مع الباشا، وبذل قصارى الجهد لمنع تصدير الغلال لهؤلاء، والعناية بتزويد حكومة الإمبراطور بكل المعلومات الدقيقة عن الأحوال السائدة في البلاد، بينما امتنعت حكومتهم عن الإدلاء إليهم بأي رأي حاسم فيما يتعلق بسير هذه الأحوال ذاتها، وخاصة فيما يتعلق بمشاريع محمد علي، وعروضه عليهم، سوى أنها رفضت بتاتًا الموافقة على مشروع استقلاله، وكان مبعث هذا الرفض، هو «سر نابليون» نفسه.

فقد قضى انتصار نابليون في «أوسترليتز» في ٢ ديسمبر ١٨٠٥، على الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأقام عروش «إمبراطورية الغرب» بزعامة نابليون، وجعل هذا الحادث الإمبراطور يتجه صوب «الشرق»، يبغي من فتوحاته في هذا الميدان استكمال إمبراطوريته الغربية، وجعلته الحرب مع بروسيا منذ ١٨٠٦ يشتبك في قتال مع روسيا، كما كان مشتبكًا مع إنجلترة، وأظهر هذا النزاع «معضلة الشرق» بحذافيرها في الوضع الذي أُريد لها، وقد تقدَّم كيف أرسَل الإمبراطور «سباستياني» سفيرًا في القسطنطينية؛ لدفع تركيا إلى الحرب ضد روسيا، وفشلت مهاجَمة أسطول «داكويرث» للقسطنطينية، كما أخفق غزو «فريزر» للإسكندرية، في تخويف الباب العالي، وحمله على الصلح مع الروس والإنجليز (١٨٠٧).

ثم إن انتصار نابليون على جيوش بروسيا وروسيا في «إيلاو» Eylau  و«فريدلند» Friedland في فبراير ويونيو ١٨٠٧، لم يلبث أن أفضى إلى إبرام اتفاق «تلست» في ٧ يوليو من العام نفسه، بين الإمبراطور والقيصر إسكندر الأول، فحدد عقد هذه المعاهدة بداية المرحلة التي صارت مشغولية الإمبراطور الرئيسية خلالها، تنظيم شئون «الشرق» بالصورة التي تكفل استكمال «إمبراطورية الغرب»، وليس صحيحًا أن الغرض من اتفاق «تلست» تقسيم أوروبا بين إمبراطوريتين: شرقية يتزعمها القيصر الروسي، تدخل القسطنطينية في نطاقها، وغربية يتزعمها نابليون.
ذلك بأن هذه المعاهدة، وموادها السرية التي وقعت في اليوم نفسه، لم تستهدف بحال من الأحوال تقسيم أوروبا بين العاهلين الروسي والفرنسي، وإنما تنهض دليلًا على وجود ذلك الاتجاه التوسعي الذي أراده نابليون لإمبراطوريته الغربية صوب «الشرق». آية ذلك إرجاع بولندة إلى عالم الوجود باسم دوقية وارسو، تحت نفوذ نابليون، كحاجز يحول دون توسع روسيا غربًا، ثم طرد الروس من جميع المواقع التي كانت بأيديهم في البحر الأبيض؛ حيث تنازلوا للفرنسيين عن جزر الأيونيان، وأهمها كورفو، ثم «كتارو» Bocche di Cattaro على ساحل الأدرياتيك الشرقي، وقد عُني نابليون بأن تغادر السفن الروسية البحر الأبيض بأقصى سرعة، إما إلى البحر الأسود أو إلى بحر البلطيق، فلم يَعُد بهذا البحر سوى فرنسا وإنجلترة.
ثم إن القيصر قبِل وساطة نابليون لدى تركيا من أجل عقد الصلح بينه وبين العثمانيين، فإذا رفضت تركيا هذه الوساطة ولم يُعقَد الصلح خلال ثلاثة شهور، انضمت فرنسا إلى روسيا ضد الباب العالي، وعملت الدولتان على تحرير المقاطعات العثمانية في أوروبا، مع استثناء القسطنطينية، لا سيما وأن نابليون باحتلاله جزر الأيونيان وكتارو، إلى جانب دلماشتا وراجوزا Ragusa — على ساحل الأدرياتيك الشرقي كذلك — قد تمكَّن من امتلاك مواقع على الحدود الغربية لإمبراطورية العثمانيين في أوروبا، تعادل أهميتها ما كان لروسيا من مواقع على ضفَّتَيْ نهر الدانيستر، على حدود هذه الإمبراطورية من ناحية الشمال الشرقي.
ومن ذلك الحين صار الشغل الشاغل لنابليون — كما ذكرنا — تنظيم الشرق لاستكمال إمبراطوريته، وكان من الواضح أن فتح الطريق إلى الهند، الوسيلة التي يتحقَّق بها هذا التنظيم، فتتدفَّق جيوش الإمبراطور إلى آسيا، إما عبر فارس وإما عبر مصر، وكان الإمبراطور قد أوفد إلى طهران الجنرال «جاردان» Gardane ووصل هذا إلى طهران منذ أواخر ديسمبر ١٨٠٧، ولكن صلح الإمبراطور في «تلست» مع أعداء الفرس لم يلبث أن اضطر «جاردان» إلى مغادرة البلاد في فبراير ١٨٠٩، وعقد هؤلاء مع الإنجليز محالفة، اشترطت طرد جميع الفرنسيين من بلادهم، وبذل حاكم الهند الجديد «جورج إليوت» Elliot أو اللورد «مينتو» Minto قصارى جهده لغلق طريق الهند في وجه الفرنسيين.

ولكن هذا الفشل لم يزعج نابليون كثيرًا؛ لأنه كان يعتقد أن في وسعه استخدام الطريق الآخَر إلى الهند؛ أيْ عبر مصر، واحتلَّ فتح مصر مكانًا عاليًا دائمًا في تفكيره، ولم تكن حملته عليها في عام ١٧٩٨ حدثًا عابرًا، أو إحدى مغامرات الشباب، بل ظلت معاوَدة الكَرَّة عليها من أسس بَرْنامجه السياسي، وإن صرفَتْه مشاغلُ السياسة والحرب قسرًا إلى إرجاء غزوها، حتى إذا توالى نزول الكوارث عليه تبدَّد كل أمل في إمكان ذلك.

ومما ينهض دليلًا على تمسُّك نابليون ﺑ «سره» وتصميمه على بسط نفوذ إمبراطوريته على «الشرق» وقتئذٍ بغزو مصر مرةً ثانية، أنه في خططه التي عرضها في يناير ١٨٠٨ على «مترنيخ» Metternich السفير النمسوي في باريس؛ لاستمالة النمسا إلى الحرب ضد إنجلترة، اقترح اقتسام أملاك الإمبراطورية العثمانية بين روسيا والنمسا وفرنسا، على أن تكون مصر و«بعض المستعمرات الأخرى» نصيبَ فرنسا من التقسيم المنتظر، ثم إنه لم يلبث أن بعث إلى القيصر برسالته المشهورة في ٢ فبراير ١٨٠٨، يَعِده بوصول الجيوش الفرنسية والروسية قريبًا إلى ضفاف البسفور، ومن هذه ينفتح طريق الهند أمام هذه الجيوش لغزو آسيا، وقد حفَّزه الآن على قبول تقسيم الإمبراطورية العثمانية، ما بدا من إصرار إنجلترة على مواصَلة الحرب ضده، وكذلك لاسترضاء القيصر الذي أراد هذا التقسيم حتى يطمئن على الأقل إلى امتلاك الولايات الدانوبية: «الأفلاق والبغدان» اللتان تحتلهما جيوشه، وتفاوض «كولينكور» Caulaincourt سفير الإمبراطور في بطرسبرك أسابيع طويلة مع الوزير الروسي «رومانزوف» Romanzoff في موضوع هذا التقسيم، ولكن دون الانتهاء إلى أية نتيجة لتمسُّك الروس — ضمن أشياء أخرى — بأن تكون القسطنطينية والدردنيل من نصيبهم، ورفض الإمبراطور التسليم بذلك، وبالرغم من فخامة الاحتفالات التي أُقيمت في «إرفورت» Erfurt بعد ذلك بمناسبة اجتماع القيصر والإمبراطور بها في سبتمبر ١٨٠٨، فقد كان اختلاف العاهلين على مصير الشرق ظاهرًا، وأما وجه الأهمية في مشاريع التقسيم هذه، فهو طلب نابليون أن تكون مصر والشام دائمًا نصيبَ فرنسا من أملاك الإمبراطورية العثمانية.
وعلى ذلك، وبالرغم من أن كل هذه المباحَثات لم تُسفِر عن اتفاقٍ حاسم بين روسيا وفرنسا فيما يتعلَّق بتقسيم تركيا، فقد ظل نابليون من جانبه محتفظًا ﺑ «سره»، ويتهيأ لغزو هذه البلاد عند أول فرصة سانحة، ومتى استطاع إلى ذلك سبيلًا، فظلت الاستعدادات ﻟ «الحملة الشرقية» قائمة على قدم وساق في جميع مواني الإمبراطورية، لا سيما في «طولون»؛ كي يخرج منها أسطول لاحتلال صقلية، وفي «تارنتو» لإرسال جيش لاحتلال مصر، وفي «روشفور» Rochefort لقيام أسطول يدور حول أفريقية، وفي «برست» لإنزال جيش في إنجلترة أو إرلندة، واتخذ نابليون آنئذٍ مقره في «تارنتو» للإشراف على الاستعدادات اللازمة لغزو مصر، وقد حدث هذا كله في عام ١٨٠٨، واحتفظ نابليون لنفسه في كل ما دار من مباحَثات حول التقسيم، بسوريا ومصر.
وتدل رسائل نابليون في هذه الفترة (من فبراير إلى مايو ١٨٠٨) على أن مشروع التقسيم بالصورة التي أرادها كان جديًّا، فقد بذل قصارى جهده حينئذٍ لدعم قوته في المواقع التي يحتلُّها في البحر الأبيض، كرفو وصقلية (وكانت هذه قد غادرتها أكثر قوات الإنجليز ونزل بها جيش «مورا» Murat لغزوها في عام ١٨٠٩)، وإسبانيا، وعلَّق نابليون أهمية كبيرة على موقعَيْه في كرفو و«صخرة شيللا» Scylla، وهذه في طرف شبه الجزيرة الإيطالية الجنوبي الغربي، ويفصل مضيق مسينا بينها وبين صقلية؛ فهي مفتاح هذه الجزيرة، والاستيلاء على صقلية. كما كتب في فبراير ١٨٠٨ إلى «ديكريه» Decrés وزير البحرية «يغير وجه البحر الأبيض».
ومن ميلان في ٢ أبريل ١٨٠٨ أعدَّ «هاملان» Hamelin مذكرة عن مصر لتقديمها إلى الإمبراطور، حملها «بودي» Boudy أحد الياوران، وقدَّم لها وزير الخارجية «شامباني» بمذكرة جاء فيها: «إنه لما كان «هاملان» يتوقَّع إنفاذ حملة لفتح مصر مرةً ثانية، فهو يقدِّم لجلالة الإمبراطور مذكرات موجزة عن المعلومات التي قام بجمعها عن هذه البلاد، ويرجو استخدامه في هذه الحملة أو في أي مكان آخَر. والغرض من مذكرته الانتفاع من كل المزايا التي لمصر كمستعمرة، إذا تسنَّت العناية بالزراعة والتجارة، وأُحكِم تدبير نظام الضرائب بها، فالزراعة إذا حسن الإشراف عليها تعطي محصولًا وفيرًا من السكر والنيلة والقطن والصمغ والسنا والكتان والأرز، وإذا شُجِّعت التجارة نشأت صلات على غاية من الأهمية مع البلدان الداخلية في أفريقية، وأما إذا وُضِع ترتيب طيب للضرائب كفل جبايتها بانتظام، فإن حصيلتها سوف تكون عظيمة.» ثم استطرد «شامباني» يقول: «ولكن «هاملان» لا يُعِدُّ من بين الفوائد التي تعود من امتلاك هذه المستعمرة (مصر)، إمكان استخدامها طريقًا لعبور تجارة الهند منها؛ لأنه يعتقد أن التجار يُؤثِرون دائمًا نقل متاجرهم بطريق الملاحة الطويل، على نقلها بذلك الطريق المجزَّأ الذي «يعترضه» برزخ السويس.» وقد جاء في ذيل هذه المذكرة أنها تستحق العرض مرةً أخرى عند بدء العناية بغزو مصر.
وفي ١٣ مايو ١٨٠٨ بعث الإمبراطور من «بايون» Bayonne بتعليمات مسهبة إلى «ديكريه» يطلب «إعداد ثلاث بوارج في طولون، تتم تهيئتها في أول سبتمبر ١٨٠٨، تستطيع حمل تسعة عشر ألفًا، إلى جانب تسعمائة من الخيول، وتُعَد لنقل ذلك كله ٨٦ سفينة مزوَّدة بمياه تكفي لشهرَين ونصف شهر، وأغذية لأربعة شهور»، وفضلًا عن ذلك فقد طلب الإمبراطور إعدادَ حملة للذهاب من ميناء «لورينت» Lorient إلى جزيرة «إيل ديل فرانس» في المحيط الهندي كي تقوم بعمل عسكري في الهند، بقصد تضليل الإنجليز عن معرفة هدف الإمبراطور الحقيقي، فقد كتب نابليون «أنه قد صحَّ عزمه على إنفاذ هذه الحملة، ويبغي في الوقت نفسه أن يبعث بأسطوله من طولون إلى خليج «تارنتو»؛ كي يحمل عشرين ألف رجل من هذا الموقع إلى مصر.»

ثم عاد نابليون إلى هذا الموضوع نفسه، فتحدث في ٢٦ مايو ١٨٠٨ عن حملة يعتزم إرسالها إلى الجزائر أو صقلية أو إلى مصر، ثم قال: «وعلى افتراض تقرير الحملة على مصر، أعتقد أنكم — مخاطبًا «ديكريه» — حسبما جرى به العمل في البحرية، تزوِّدون الأسطول بأغذية تكفي وجبات (أو تعيينات) كاملة لمدة ستة شهور، ومن «البسكويت» لشهر سابع.» وقدَّر نابليون المدة اللازمة لوصول أسطوله إلى أبي قير بثلاثة شهور، فينزل الجند إلى البر، وكذلك كميات «البسكويت» والأنبذة المخصَّصة للشهر السابع، ويتسنَّى للأسطول حينئذٍ أن يجد من المؤن ما يكفيه للذهاب من أبي قير إلى «تارنتو» أو للعودة إلى طولون؛ أيْ ما يكفي للثلاثة الشهور الأخرى اللازمة لهذه الرحلة.

ولم يكن الخروج بهذه الحملة إلى الشواطئ المصرية أمرًا متعذرًا؛ لأن أمير البحر «أليمان» Allemand كان قد ذهب بحملة إلى جزيرة «ألبا»، بينما كان أمير البحر الآخَر «غانتوم» Ganteaume قد ذهب بحملة إلى كرفو؛ لتموينها بالأغذية وعتاد الحرب الكثير (فبراير–أبريل ١٨٠٨)؛ ولذلك لم يكن مستحيلًا إرسال حملة إلى مصر، إما من «تارنتو» وإما من «كرفو»، بل إن أمر هذه الحملة سوف يكون أكثر سهولةً من أمر تلك التي خرجت من طولون إلى الشواطئ المصرية في مايو ١٧٩٨، بل حدث فعلًا أن وصلت إلى الإسكندرية في ٢ مارس ١٨٠٨ إحدى سفن الحرب الفرنسية من نوع الشباك، تُدعى «سربان» Serpent، خرجت من جنوة، واستطاعت الإفلات من رقابة الأسطول الإنجليزي، مما نهض دليلًا على أن في وسع أسطول طولون المرور بسلام، وبلوغ الشواطئ المصرية.
على أن انشغال الإمبراطور بالحرب الدائرة في إسبانيا، ثم إعلان النمسا الحرب على فرنسا في ٦ أبريل ١٨٠٩، اضطر نابليون إلى إرجاء هذه الحملة، ومع أنه انتصر على النمساويين في معركة «واجرام» Wagram المشهورة في ٦ يوليو من العام نفسه؛ فقد انشغل بطلاقه من «جوزفين يوهارنيه» والزواج من سليلة الأباطرة «ماري لويز» ابنة إمبراطور النمسا فرنسيس الثاني (١١ مارس ١٨١٠)، وظهر كأنما سوف يصبح نابليون نفسه وريثًا للأباطرة، ومنذ ١٧ فبراير من العام نفسه كان قد صدر قرار بضم الولايات البابوية إلى الإمبراطورية الفرنسية، وإعلان «رومة» المدينة الثانية للإمبراطورية، وبأن يحمل ولي العهد لقب ملك رومة، «وأن يُتوَّج الأباطرة في كنيسة القديس بطرس برومة بعد تتويجهم في كنيسة نوتردام بباريس»، على أن يحدث ذلك قبل السنة العاشرة من الحكم؛ أيْ في عام ١٨١٣ أو ١٨١٤، وفي ٢٠ مارس ١٨١١ ولد «ملك رومة» وريث عرش هذه الإمبراطورية.
ولم يكن هناك معدًى عن أن تحتلَّ مصر مكانًا ظاهرًا في كل مشاريع «الإمبراطورية»؛ لأنه — كما قال المؤرخ «دريو» Driault: «لا يمكن فَهْم فكرة الإمبراطورية بدون الشرق، ولا الشرق بدون مصر.» وقد تساءل «دريو» عن السبب الذي حدا بنابليون لتحديد عام ١٨١٣، أو عام ١٨١٤ للتتويج في رومة، ففسَّر هذا بقوله: «إن الإمبراطور كان يتوقَّع الانتصار على روسيا في حملة ١٨١٢، فيصبح من هذا الحين سيدًا على الشرق كما حدث ﻟ «قيصر» بعد واقعة «فرساليا» وعودته من مصر، وكما حدث ﻟ «أوغسطوس» بعد واقعة «أكتيوم» وعودته من مصر كذلك، وهكذا فإنه بكونه سيدًا على الشرق كما هو سيد على الغرب، يكون قد أكمل تشييدَ صرحِ الإمبراطورية، ويتسنَّى له عندئذٍ أن يُتوَّج في «الكابيتول» بتاج الأباطرة الرومانيين، ولقد صارت رومة تستعد لاستقباله.»

وعلى ذلك، فقد ظل الإمبراطور متمسكًا بضرورة إرسال حملة إلى مصر، فأصدر قرارًا في ١٥ يوليو ١٨١٠، بإصدار أسطول من الناقلات في البحر الأبيض، وفي ١٧ سبتمبر من العام نفسه كتب إلى «ديكريه» بشأن هذا الأسطول، فرجاه أن يخبره بما تم في أمره وما يستطيع نقله؛ لأنه يريد أن ينقل إلى مصر خمس فرق من الجنود، تتألَّف كل منها من ثماني «أورط» أو ستة آلاف رجل، ومجموع ذلك ثلاثون ألف جندي من المشاة، عدا أربعة آلاف من رجال المدفعية وسلاح المهندسين، وستة آلاف من الفرسان، والمجموع الكلي أربعون ألفًا، وهذا إلى جانب خمسمائة عربة مدفع، وألفين من الخيول للمدفعية وللفرسان. ثم إنه تحدث بعد ذلك عن أسطول بولوني، وشربورج، واختتم كتابه بقوله: «وتلك هي خطتي للعمليات العسكرية لعام ١٨١٢، وإني في انتظار التقرير الذي سوف تقدِّمه إلى المجلس التالي، وينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن هذه النتيجة هي ما يجب الوصول إليها.»

وعاد نابليون للموضوع نفسه بعد ذلك، فكتب في ٨ مارس ١٨١١، أنه إذا اتضح في عام ١٨١٢ أن الظروف ملائمة، «ففي عزمي القيام بحملة صقلية، أو حملة مصر في البحر الأبيض، و«أبغي» أن أفعل كل ما هو ضروري لجعل أساطيلي عند مصب «ألاسكو» وفي طولون، تبدو في مظهر يقذف الرعب والهلع في النفوس.» ثم قال: «ومن الواجب أن يكون بطولون كل ما لا غنى عنه لإنفاذ حملة إلى مصر.» وطلب إلى «ديكريه» أن يُعِدَّ له تقريرًا بالنوع الأكثر ملاءَمةً من سفن الحرب «أولًا: لاعتلاء النيل، وثانيًا: للدخول في البحيرات بجوار أبي قير».

ذلك كان «سر نابليون».

ولم يكن من المنتظر حينئذٍ أن يُعنَى الإمبراطور في شئون مصر بغير ما كان متصلًا ﺑ «سره» مباشَرة، وذلك في السنوات التي كان لا يزال الأمل يحدوه في أثنائها إلى إرسال حملته على مصر؛ أي إلى الوقت الذي عاد فيه فاشلًا من غزوته لروسيا في عام ١٨١٢، ثم تألَّبت عليه الأمم في أوروبا، ولم يكن من المنتظر كذلك أن يوافق الإمبراطور على «استقلال» محمد علي، أو يرضى بأن يوطِّد هذا دعائم حكومته في مصر، بالدرجة التي تمكِّنه من مقاوَمة الغزو الفرنسي الجديد عند حدوثه، وكان كل ما اهتمَّ به جمع المعلومات الصحيحة عن حقيقة الموقف في هذه البلاد، من حيث قيمة الموارد التي لدى محمد علي وتحت تصرُّفه، وعلاقاته مع البكوات المماليك، مبعث الضَّعف العام الذي يلازم حكومته، ما دام هؤلاء في عداء مستمر له، ثم نشاط تجارته مع الإنجليز، وبيعه غلاله لهم، وهي التي يموِّنون بها قواعدهم، فيحطِّمون رويدًا رويدًا ذلك «النظام القاري» الذي فرضه نابليون لتضييق الخناق عليهم اقتصاديًّا تمهيدًا لهزيمتهم.

ولذلك، فقد شهدت هذه الفترة (١٨٠٨–١٨١١) تبدُّلًا في جوهر السياسة الفرنسية نحو مصر. حقيقةً ظلَّ الوكلاء الفرنسيون حريصين على التمسُّك بمظهر صداقتهم لمحمد علي، ولكن هذه كانت صداقة في غير العلاقات الشخصية بين الباشا و«دروفتي» مثلًا، لا يمكن أن تُوصَف بأنها كانت خالصة أو منبعثة عن رغبة صحيحة في مؤازَرة محمد علي، فلم يكن غرض الوكلاء الفرنسيين من التظاهر بها سوى مقاوَمة النفوذ الإنجليزي، ومنع تصدير الغلال خصوصًا إلى أعدائهم، وحمل الباشا على تصدير غلاله إلى قواعدهم هم، في البحر الأبيض لا سيما إلى كرفو، ثم الحرص على كتمان «سر نابليون»، وتضليل الباشا عن معرفة نوايا الإمبراطور، عندما أوقفه الإنجليز على حقيقة هذه النوايا، وحذَّروه من مشاريع الفرنسيين، وعزم إمبراطورهم على غزو هذه البلاد، وإخراجه من حكومتها.

ولقي الوكلاء الفرنسيون عنتًا كبيرًا في «تكييف» مسلكهم، في ضوء التعليمات التي أتتهم من حكومتهم، وعندما مرت الشهور، دون أن يتحقَّق شيء من مشروع الحملة الفرنسية المنتظَرة على مصر، وتحتَّم عليهم المثابَرة على نفي ما أذاعه الوكلاء الإنجليز عنها، وإقناع محمد علي بأن أمتهم لا تزال صديقًا له، وأن الإمبراطور لا يريد به شرًّا، وأن الإنجليز يبيِّتون النية على غزو بلاده والغدر به.

ولما كان الباشا متحذرًا من نوايا الدولتين معًا، فرنسا وإنجلترة، ويعوِّل على حسن استعداده وقوته هو وحده؛ للذَّوْد عن البلاد إذا حاولت إحداهما غزوها، ويُؤثِر التجارةَ مع الإنجليز لما يناله منها من مال يتيح له فرصة إكمال استعداداته العسكرية وتحصين عاصمته وثغوره، وتقوية جيشه، وشهد هو الآخَر الشهورَ والسنوات تمر دون أن يتهدَّده خطرٌ مباشر من جانب فرنسا، وصار من المتعذَّر على نابليون، بسبب مشاغله العديدة والخطيرة في أوروبا، أن يُقدِم على غزو مصر، حتى ولو ظلَّ صحيحَ العزم على فعل ذلك؛ فقد صار من صالحه أن يستمر على علاقات طيبة مع الفريقين، يبيع غلاله للإنجليز، ويرضى بتصدير غلاله إلى كرفو تارة، ويبذل الوعود الطيبة للفرنسيين دائمًا، ويُمني النفس، نتيجة لتمسكه بصداقة الفرنسيين، أو بالأحرى لاتِّباعه معهم سياسةً لُحْمتُها استرضاؤهم، وسَداها تطييبُ خاطرهم، بأن يُقبِل هؤلاء على معاوَنته في تحقيق مشروع استقلاله.

وأما هذه الحقائق جميعها فتتضح من تتبُّع سير الحوادث في هذه الفترة.

(٦) نشاط «دروفتي» و«سانت مارسيل»

وقام على تنفيذ سياسة الإمبراطور نحو مصر، ورعاية المصلحة الفرنسية بها، والمواءَمة بين «المصلحة» المحلية، وبين صوالح «الإمبراطورية» العليا، «دروفتي» في القاهرة، و«سانت مارسيل» في الإسكندرية، وقد تراسَلَ هذان، إما مع السفارة الفرنسية في القسطنطينية، وإما مع حكومة الإمبراطور في باريس، وكثر رويدًا رويدًا اتصالُ هذين بالحكومة في باريس ﻟ «أهمية» المسائل التي عرضت لهما، ولما تلقَّياه من أوامر تطلب منهما هذا الاتصال المباشر، بسبب ما أبداه الإمبراطور من اهتمام خاص بهذه المسائل، التي كانت ذات صلة وثيقة ﺑ «سره».

وقد أشار وزير الخارجية الفرنسية، بصورة أو بأخرى، إلى هذا «السر»، عندما كانت التعليمات التي صار يبعث بها إليهما — ولا سيما إلى «دروفتي» — تتطلَّب منهما قبل كل شيء آخَر تزويدَ الحكومة بمعلومات دقيقة عن الموقف في مصر عمومًا، وعن نشاط العلاقات القائمة بين محمد علي والإنجليز خصوصًا.

ويبدو اهتمام حكومة باريس بتطوُّر الحوادث في مصر في أن وزير الخارجية لم يلبث أن بعث من فونتنبلو إلى «دروفتي» في ١٦ أكتوبر ١٨٠٧، يشكره على التقارير التي أرسلها إليه، والتي كان آخِرها بتاريخ ٢ مارس من العام نفسه، تُنبِئه بما وقع من حوادث بين جند الباشا والمماليك، وتبيِّن له الأثرَ الذي أحدثته وفاةُ كبيرَيْ زعماء المماليك؛ البرديسي والألفي، ولكنه لما كان لم يصل الوزير أية تقارير أخرى، بعد رسالة «دروفتي» بتاريخ ٢ مارس، واعتقد أن السبب في ذلك هو مصادَرة الإنجليز لها، وقد ظل هؤلاء أصحاب السيطرة في البحر الأبيض، فقد أشار عليه لضمان وصول تقاريره إلى باريس، أن يتوخى إرسالها بطريق مأمون، ومن صورتين، ثم أوصاه بأن يستمر على تزويده بالمعلومات الوافية، والدقيقة «عن كل الوقائع والحوادث التي يرى «دروفتي» أنها من نوع يوجب اهتمام الحكومة بها».

ثم عاد الوزير «شامباني»، فأبدى دهشته في رسالةٍ بعث بها إلى «دروفتي» من باريس في ١٧ أبريل ١٨٠٩، من أن هذا الأخير لم يثابر على الكتابة إليه، على زعم أن في كتابته إلى السفارة الفرنسية في القسطنطينية غناء عن إرسال تقاريره إلى باريس، فطلب إليه المواظَبة على الكتابة إليه. ولما كان «دروفتي» قد أبلغه، ضمن الوقائع التي ذكرها في تقاريره للوزير بتاريخ ١٨ يناير، ٨ أبريل، ١٢ يوليو، ١٠ أغسطس ١٨٠٨، أنه قد تهرَّب من التدخل بين الباشا والبكوات المماليك، في المفاوَضات الجارية بين الفريقَين من أجل الصلح، ورفض مصاحَبة محمد علي في الرحلة التي انتوى القيام بها لزيارة مختلف المواني المصرية، ثم أبلغ الوزير احتجاجاته لدى محمد علي على سماح هذا الأخير للسفن المحمَّلة بالبضائع الإنجليزية بالدخول إلى الإسكندرية، وأنه اضطر عند فشله إلى سؤال القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية «لاتور-موبورج» Latour-Maubourg أن يطلب من الباب العالي إصدار فرمانات «مصاغة في قالب يُلزِم «محمد علي» بالتخلي عن نظام جعله يتحيَّز لصالح تجارة إنجلترة»، فقد أجاب «شامباني» على كل هذه المسائل بامتداح مسلك «دروفتي».

فقال في موضوع المفاوضات بين محمد علي والمماليك: إن آراء وغايات الفرنسيين تتسم بطابع التقلب وعدم الاستقرار، لدرجةٍ لا تبيح لأي وسيط التدخل بينهما، حتى لا يجد هذا الوسيط نفسه في النهاية «متورطًا» مع كل الأطراف. وأما عن رحلة محمد علي لزيارة الثغور، فقد كان من رأي «شامباني» أنه يتعذَّر عليه الاقتناع بأن ثمة فائدةً من مرافقة «دروفتي» للباشا، يجنيها صالح «المأمورية» أو «الخدمة» المكلَّف بها «دروفتي»، بل يبدو له أن النتيجة الوحيدة المترتبة على مرافَقة الباشا في مثل هذه الرحلات، إنما هي زيادة نفقات قنصليته، وراح «شامباني» يشدِّد عليه، بوجوب الاقتصاد ما أمكن في نفقاته، وفيما يتعلَّق بما طلبه «دروفتي» من «لاتور موبورج» في القسطنطينية، فقد أوصاه «شامباني»، وأيًّا كانت النتائج التي سوف تسفر عنها الخطوات التي يتخذها «لاتور موبورج» هناك، بأن يبذل هو كل ما وسعه من جهد في علاقاته مع الباشا؛ «لتأمين تنفيذ الإجراءات المانعة التي أمر باتخاذها جلالة الإمبراطور»، لتطبيق «النظام القاري»، وغلق جميع المواني في وجه التجارة البريطانية.

وقد بعث «شامباني» في نفس اليوم (١٧ أبريل ١٨٠٩)، بتعليماته كذلك إلى «سانت مارسيل» ردًّا على رسائل هذا إليه في ٢ نوفمبر ١٨٠٨، ٢، ٣ يناير ١٨٠٩، وكان هذا الأخير قد أبلغه في تقرير ٢ نوفمبر وصول أربع سفن من مرسيليا، وأخرى من جنوة، محمَّلة ببعض الأقمشة والبضائع الفرنسية، وأن عددًا من هذه السفن قد غادر الإسكندرية يحمل متاجرَ من مصر، وأن السفن النمسوية تنقل تجارة مالطة إلى الإسكندرية، ثم ذكر للوزير أنه قد امتنع ورود السفن التي ترفع علم بيت المقدس، وتنقل تحت هذا الستار البضائع الإنجليزية في بطونها، وذلك منذ أن أثار الصعوبات والعراقيل في وجهها.

وكانت مسألة هذه السفن التي ترفع راية «بيت المقدس» مثارَ متاعب عدة للوكلاء الفرنسيين في مصر؛ وذلك لأنه بمقتضى «الامتيازات» التي لفرنسا في ممتلكات الدولة العثمانية، كانت فرنسا «حامية» بيت المقدس ورايته، ويدخل في نطاق اختصاص قناصلهم في المواني العثمانية، الإشراف على السفن التي ترفع هذه الراية، ولكنه حدث أثناء زيادة النشاط التجاري بين الإنجليز ومحمد علي، أن صارت بعض السفن التي تحمل متاجر هؤلاء من مالطة إلى الإسكندرية ترفع علم بيت المقدس؛ حيث لم يكن في مقدورها رفع العلم الإنجليزي بسبب قيام حالة الحرب بين إنجلترة وتركيا. ولما كان «نابليون» قد تشدد في غلق مواني البلاد الواقعة تحت سلطانه أو الموالية له، أو التي اتخذت موقف الحياد في نضاله مع إنجلترة، في وجه التجارة الإنجليزية؛ فقد وجب على الوكلاء الفرنسيين معالجة هذه المسألة بالصورة التي تكفل تطبيق «النظام القاري».

وقد أُثير موضوع السفن الرافعة لعلم بيت المقدس، عندما دخلت إلى الإسكندرية في ١٨ يونيو ١٨٠٨، السفينةُ «لاروز» La Rose آتية من مالطة ومحمَّلة ببضائع إنجليزية تبغي استبدالَ الغلال بحمولتها هذه، وكانت ترفع راية بيت المقدس، وكان صاحب هذه البضاعة أحدَ التجار في مالطة، يُدعى «بنسا» Pensa وهو من ليفورنة، ويبعث بهذه المتاجر إلى أخ له مقيم بالإسكندرية، وتحت حماية السويد. واعتقد «سانت مارسيل» أن من حقه — تنفيذًا لما لديه من تعليمات بشأن السفن الآتية من مالطة أو من أي جهة أخرى يحتلُّها الإنجليز — أن يطلب من ربَّان السفينة مصادَرة المتاجر التي على ظهر سفينته؛ حيث إن لفرنسا وحدها «حماية» علم بيت المقدس؛ ولأن البضائع التي تحملها «لاروز» إنجليزية. ولكن ربَّانها رفض الإذعان لهذا الأمر، بدعوى أن دولًا أربعًا تحمي راية بيت المقدس في مواني الليفانت، هي: فرنسا وإسبانيا والنمسا وإنجلترة، وليست فرنسا وحدها، وهو لا يخضع لذلك لولاية القنصلية الفرنسية القضائية.
ولجأ «سانت مارسيل» إلى حاكم الإسكندرية، طبوز أوغلي، يطلب منه مصادَرة بضائع هذه المركب بجمرك الإسكندرية، ومعاوَنته على إخضاع ربَّانها لأوامره قسرًا منه، ولكن طبوز أوغلي لم يلبث أن سلَّم هذه البضائع إلى المرسَلة إليهم، وعلَّل «سانت مارسيل» إخفاقه بأن ربَّان «لاروز» عندما لم يجد عند قنصلَي إسبانيا والنمسا الحمايةَ التي يريدها، صار يعتمد على حماية قنصل السويد «فرنسسكو بتروتشي» الذي هو الوكيل الإنجليزي في الوقت نفسه، وقد استطاع هذا أن يجذب إليه طبوز أوغلي، واضطر «سانت مارسيل» إلى إرسال تفاصيل الموضوع إلى «دروفتي» بالقاهرة، واستصدر هذا جملةَ أوامر من الباشا بمصادَرة هذه البضاعة، ونزع سكان المركب، ولم يمكن تنفيذ أوامر الباشا حتى حضر «شاويش» من قِبَله إلى الإسكندرية، فاضطر طبوز أوغلي إلى مصادَرة البضائع التي بأيدي الذين تسلَّموها، ثم نزع سكان المركب، وأُودعوا مبنى القنصلية الفرنسية. ولما كانت قد أُبقيت البضائع بمحلات التجار، حتى يمكن الفصل في هذه المسألة — مسألة السفن التي ترفع علم بيت المقدس — فقد صار «سانت مارسيل» يسعى لنقل البضائع موضع المصادَرة إلى مخزنٍ آخَر من جهة، وحمل ربَّان السفينة «لاروز» على الاعتراف بولاية القنصلية الفرنسية القضائية، بدلًا من ولاية القنصلية السويدية، وبعث «سانت مارسيل» بكل هذه التفاصيل إلى «لاتور موبورج» القائم بأعمال السفارة الفرنسية في القسطنطينية، كما بعث إليه «دروفتي» من القاهرة في ٢٤ يوليو ١٨٠٨، بتقرير وافٍ عن نفس المسألة؛ كي يسعى «لاتور موبورج» في الحصول من الباب العالي على فرمانات بتقرير وجهة نظر الوكلاء الفرنسيين بشأن علم بيت المقدس؛ حيث أقرَّت «الامتيازات» وضْعَ جميع المؤسسات التابعة للهيئات الكاثوليكية ببيت المقدس، وتبعًا لذلك السفن التي تمخر البحار رافعةً علم بيت المقدس، تحت حماية الإمبراطور الفرنسي مباشَرة، وبسط «سانت مارسيل» تاريخ هذا المركب، فقال: «إن صاحب لاروز السابق كان قبطانًا من «راجوزا» يُدعى «ميشيل مارتينوفيتش» Martinovtch، أرغمه الإنجليز عند إخلائهم الإسكندرية على الذهاب مع سفينته إلى مالطة، ثم إنهم ما علموا باتحاد «راجوزا» مع مملكة إيطاليا تحت سلطان نابليون، حتى صادروا السفينة التي بيعت في مالطة، واشتراها بيتُ «بنسا» وشركائه، وينتمي هؤلاء إلى «ليفورنة»، وقد أرسلوا «لاروز» محمَّلة ببضائع إنجليزية إلى الإسكندرية، وكان من رأي «سانت مارسيل» أن من العدالة أن يسترجع «مارتينوفتش» المالك الأصلي سفينتَه.»

وعلَّق «دروفتي» و«سانت مارسيل» أهميةً كبيرة على الجهود التي يبذلها «لاتور موبورج» في القسطنطينية حتى يقرَّ الباب العالي وجهةَ النظر الفرنسية في مسألة السفن التي ترفع علم بيت المقدس لأسبابٍ ذكرها كلاهما، فقال «سانت مارسيل»: إنه إذا أُجيز للإنجليز الاستمرار في نقل بضائعهم في سفن يخفق عليها علم بيت المقدس، والاتِّجار مع باشا مصر دون مقاوَمة، فإنه لن يقف شيءٌ في طريق نمو تجارتهم وانتعاشها لا في مصر وحدها فحسب، بل في كل بلاد الليفانت أو المشرق؛ لأن رئيس الهيئة الدينية «الكاثوليكية» في بيت المقدس «يتجر» في الجوازات أو «الرخص» التي تبيح للسفن رفع علم بيت المقدس، حتى انتشرت هذه الجوازات في جميع مواني الليفانت، وكان اليونانيون أسبق مَن أفاد من هذا الترتيب للدخول إلى مالطة، والاتِّجار مع الإنجليز؛ ولذلك فإنه إذا تسنَّى للوكلاء الفرنسيين تنفيذ ما لديهم من تعليمات في موضوع السفن الآتية إلى الإسكندرية، تحت العلم الإنجليزي، أو من بلاد يحتلها الإنجليز خارج الجزر البريطانية، أمكن وقف هذا الشر عند منبعه، وسوف يترتَّب على هذا النجاح نتائجُ عظيمة؛ لأن هذه السفن تأخذ اليومَ من مصر الكتان الذي يطلبه الإنجليز لبحريتهم، «حتى إن عددًا من السفن النمسوية الآتية من مالطة، محمَّلة بالبضائع «الإنجليزية»، لم تنقل في عودتها سوى هذا الصنف، الذي يجب علينا وعلى الأتراك حرمان أعدائنا منه.»

وأما «دروفتي» فقد كان من رأيه أنه إذا جاء قرار القسطنطينية في مسألة «لاروز»، وموضوع السفن التي ترفع علم بيت المقدس عمومًا في غير صالح الفرنسيين، وقد بعث كذلك محمد علي نفسه، يطلب رأي الباب العالي في هذه المسألة، ثم إذا لم يلقَ «سانت مارسيل» تأييدًا للإجراءات التي اتخذها مع السفينة «لاروز»، ولم يعاقب قبطانها العقوبة الرادعة على تمرُّده وعصيانه، ثم إذا كان القبطان أو التاجر الذي تملَّص من سلطان الحكومة الفرنسية بوضع نفسه تحت حماية دولة معادية لفرنسا؛ لتنمية التجارة الإنجليزية؛ لا يُعامَل بموجب القانون الذي صدر في ٣ مارس ١٧٨١ لتنظيم شئون القنصليات الفرنسية، وما يتعلق بنشاط الرعايا الفرنسيين التجاري وملاحة السفن في أساكل الليفانت، ووجاقات الغرب، وينص هذا القانون ضمن ما ينص عليه، على ترحيل كل فرنسي إلى فرنسا ينبذ سلطة «الملك» ويعمل للتملُّص منها، بقبول حماية أجنبية، ثم أخيرًا إذا أعطى قنصل السويد أو بالأحرى الوكيل البريطاني — والمقصود هنا «بتروتشي» — حق حماية قبطان هذه السفينة، والتاجر، والسفينة ذاتها، والمتاجر الإنجليزية؛ لانتهى — إذا وقع ما تقدَّم — كلُّ ما يتمتع به الوكلاء الفرنسيون في مصر من احترامٍ هم جديرون به بفضل ما لهم من خُلق عالٍ، ولَصارت إقامتهم بهذه البلاد عديمة النفع ولا جدوى منها، بل وغير مشرفة لحكومة فرنسا «أعظم الحكومات قاطبة»، التي يمثِّلها هؤلاء الوكلاء في مصر.

وقد تفاقمت الأزمة بين «سانت مارسيل» وطبوز أوغلي، عندما أصدر الباب العالي في نوفمبر ١٨٠٨ في موضوع «لاروز» قرارًا يقضي بمصادَرة السفينة والبضائع التي حملتها، على اعتبار أن «لاروز» سفينة بريطانية، ويُعتبَر حاكم الإسكندرية مسئولًا أمامه عن تنفيذ هذه المصادَرة، وعارض «سانت مارسيل» في تسليم سكان المركب، ووافق طبوز أوغلي على إحالة المسألة على الباشا في القاهرة، ولكنه لم يمضِ يومان حتى بعث حاكم الإسكندرية بقوةٍ من الجند لأخذ سكان المركب من القنصلية الفرنسية، ولم يشأ «سانت مارسيل» الاصطدام مع هذه القوة، فسلَّمها إلى الجند، وحزَّ في نفسه أن تظل البضائع «المصادَرة» في مخازن أصحابها، لاعتقاده أن السلطات الحكومية بالإسكندرية لن تعمد إلى مصادَرتها وأخذها؛ لأن هذه السلطات — كما قال — «إنما تريد أن يسود التفاهم الطيب بينها وبين مالطة؛ كي تستمر علاقاتها التجارية مع هذه نشيطة». بَيْدَ أن هذه الأزمة لم تلبث أن انفرجت مؤقتًا عندما عمد الباشا نفسه، «الذي أراد أن يتخذ قرارًا في هذه المسألة يحسم الخلاف فيها وما يتفق مع وجهات نظره»، إلى وقف المصادَرة حتى تأتي أوامرُ قاطعة وأخيرة من الباب العالي بصدد هذه المسألة.

ثم إن «سانت مارسيل» لم يلبث أن وجد من الحكمة وأصالة الرأي، الكف عن «مناقشة» موضوع الخلاف مع حاكم الإسكندرية، وآثَر الوكلاء الفرنسيون التريُّث حتى تأتيهم التعليمات من حكومتهم في باريس أو من سفارتهم في القسطنطينية، وأما الوزير «شامباني» فقد أقرَّ «سانت مارسيل» على سؤاله القائم بالأعمال الفرنسي في القسطنطينية التدخُّل لدى الباب العالي، ثم أوصاه ببذل قصارى جهده من أجل تنفيذ الإجراءات التي أمر الإمبراطور باتخاذها ضد التجارة الإنجليزية.

وعندما أبلغ «دروفتي» الوزير، في رسائله إليه في ٢١ أغسطس، ٩، ١٧ سبتمبر ١٨٠٩، فشَلَ مفاوَضاتِ الصلح بين محمد علي والمماليك، وخروجَ جيش الباشا لقتالهم وانتصاره عليهم في الصعيد، مع بيان الأسباب التي ذكرها محمد علي ﻟ «دروفتي» لاتخاذه هذه الخطوة، وفحواها خوفه من أن يتَّحِد البكوات مع الإنجليز إذا اقتضت هؤلاء الظروف السياسية المتغيرة إرسالَ حملة لغزو هذه البلاد، لاعتقاد الباشا أن الحرب مع النمسا قد اقتربت نهايتها؛ ولتوقُّعه أن يعلن الباب العالي الحرب على إنجلترة قريبًا، أصدر الوزير «شامباني» تعليماته في ٣١ مارس ١٨١٠ إلى «دروفتي» يقول فيها: «لقد قرأت باهتمام ما ذكرته عن الموقف في مصر، وعن آراء أو أهداف الباشا السياسية، ولكنني لا أزال عاجزًا عن إعطائك أية تعليمات بشأن الحوادث التي تعرضها عليَّ كأمور محتملة الوقوع، ويبدو لي أن من الأوفق الانتظار، حتى تقع هذه فعلًا، وحينئذٍ يتسنَّى لنا تقرير الخطة التي يجب اتباعها حيالها.»

وتحدَّث «دروفتي» في رسالته للوزير في ٤ ديسمبر ١٨٠٩، عن عودة الباشا من حملته الناجحة ضد البكوات في الصعيد، ومجيء محمد بك المنفوخ، أحد زعماء المرادية معه، ثم إنه تحدَّث في ١٢ مارس ١٨١٠، عن عودة «صمويل بريجز» القنصل الإنجليزي إلى منصبه في الإسكندرية، واستئناف المكائد والدسائس الإنجليزية النشيطة بعودته، والتي منها إغراء الوكلاء الإنجليز — كما قال «دروفتي» — لمحمد علي، على إعلان استقلاله في وضع مشابه لوضع حكَّام وجاقات الغرب، ثم ما يبدو للقنصل الفرنسي، من أن الإنجليز لم يتخلَّوا عن مشاريعهم العدوانية على مصر، واستعدادات الباشا العسكرية لرد أي اعتداء يقع على باشويته.

ولكن وزير الخارجية الفرنسية اكتفى عند إصدار تعليماته إلى «دروفتي» في ٣٠ يونيو، بذكر أنه قد أُحيط علمًا بما جاء في تقاريره عن الموقف في مصر، وعن عودة «بريجز» إلى الإسكندرية، واستئناف الإنجليز لمؤامرتهم في مصر، وأثنى على مهارته في كشف سرهم، وأوصاه بالمضي في جمع المعلومات الوافية الدقيقة وإرسالها إليه بانتظام.

وهكذا كان من الواضح، أن حكومة الإمبراطور في باريس، ما كانت تهتم وقتئذٍ، فيما يتعلق بمجريات الأمور في مصر، إلا بجمع المعلومات الدقيقة والمفصلة عن الحالة القائمة في البلاد، ومعرفة مبلغ نشاط الوكلاء الإنجليز بها، ونمو العلاقات التجارية بين الباشا والإنجليز، كما أن وقف هذه العلاقات، وتنفيذ «النظام القاري» بعرقلة هذه التجارة، وغلق المواني المصرية إذا أمكن، في وجه المتاجر الإنجليزية، كان أهم ما عُنيت به هذه الحكومة.

أضف إلى هذا، أن ما عاد يهمها، أن يستطيع محمد علي دعم أركان باشويته، والذود عنها، ومن وسائل ذلك، حسم خلافاته مع البكوات المماليك، وتحصين الثغور، واستكمال استعداداته العسكرية، فأقرت حكومة الإمبراطور، امتناع «دروفتي» عن التوسط بين الباشا وبين المماليك، أو مرافقة محمد علي في رحلته التفتيشية على المواني الشمالية، وقابلت بفتور ما ذكره الباشا عن الأسباب التي جعلته يقاتل البكوات في الصعيد، وفحواها — كما ذكرنا — خوفه من نزول حملة إنجليزية بالبلاد، نتيجة لما توقَّعه من انتهاء الحرب بين فرنسا والنمسا، وقيامها بين الباب العالي وإنجلترة، ثم تخلي البكوات عن موقف الحياد الذي وقفوه أيام حملة «فريزر» في عام ١٨٠٧. وكان من الجلي أن الباشا إنما قصد من ذكر هذه الأسباب ﻟ «دروفتي» معرفة رأي الحكومة الفرنسية، وهل تبغي معاونته على رد العدوان الإنجليزي إذا وقع، والأهم من هذا كله، هل تبغي مؤازرته في بلوغ استقلاله، الذي تحدث في أمره إلى «دروفتي» على نحو ما سيأتي ذكره.

ولكن في عام ١٨١٠ — كما في العامين السابقين خصوصًا — كان لا يزال موضوع الإمبراطورية الشرقية، أو بالأحرى، موضوع استكمال «الإمبراطورية» يحتل مكانًا بارزًا في تفكير نابليون، ولم يكن من سياسة الإمبراطور أن يستطيع محمد علي دعم أركان باشويته بالدرجة التي تمكِّنه من مقاوَمة الغزو المنتظر.

بل إن الإمبراطور، في الوقت الذي بعث فيه وزير خارجيته بتعليماته الأخيرة إلى «دروفتي» في ٣٠ يونيو ١٨١٠، طلب من وزير حربيته «كلارك دوق دي فيلتر» Clarke, Duc de Feltre في اليوم نفسه أن يبادر بإرسال أحد الضباط الكولونيل «بوتان» Boutin إلى الإسكندرية، وأن ينتحل الوزير بالاتفاق مع هذا الأخير عذرًا يبرِّر به هذه الرحلة، وذلك حتى يفحص «بوتان» حالة الدفاع في المواقع الهامة في مصر والشام؛ في الإسكندرية ودمياط والصالحية، والعريش وغزا، ويافا وعكا، وغيرها، ويُعِدُّ التقارير الوافية عن مقدار القوات التي بها، والتي توجد بمصر والشام جميعًا، وطلب الإمبراطور أن تشتمل هذه التقارير على كل ما يمكن جمعه من معلومات عن الحالة المدنية والعسكرية في هذه البلاد.

وقد غضب نابليون لتأخُّر قيام «بوتان» بمهمته، فكتب إلى «كلارك» في ١٤ أكتوبر ١٨١٠ يقول: «إنه كان يعتقد أن ضابط سلاح المهندسين «بوتان» قد غادر إلى مصر والشام، ولا تعنيني التفصيلات، فليذهب إلى أوترنتو، أو إلى أنكونا، وليخفِ مهمته بالطريقة التي يشاؤها، ولكن الواجب تأديتها، وعليه أن يمضي الشتاء كله، ثم قسمًا من فصل الصيف المقبِل في مصر والشام، بحيث يتمكَّن بعد ذلك من تقديم تقرير عن الأحوال العسكرية والسياسية في البلاد، وعليك أن توصيه بمشاهدة قلعة القاهرة، وقلعة الإسكندرية، ودمياط وعكا. وتشمل مهمته «زيارة» حلب ودمشق والإسكندرية، فأَزِلْ كل العقبات «التي قد تعترض قيامه بهذه المهمة»، ولا تتحدث إليَّ عنها بعد الآن.»

وقبل ذلك بيوم واحد، كان نابليون قد وافَق على مشروع التعليمات المعدة لرسول آخَر، هو السيد «نرسيا» Nerciat، أزمع إيفاده إلى مصر والشام، لزيارة عكا ويافا ورشيد والإسكندرية وقلعة القاهرة؛ «كي يدرس دراسة جيدة الموقف السياسي في مختلف الجهات في الشام ومصر». وتضمَّنت التعليمات المعطاة «نرسيا»، أن يقف على عدد الجنود في سوريا، ونوع العلاقات السائدة بين الحكَّام في مختلف جهاتها، ومعرفة المنافسات المنبعثة عن الحسد وخدمة المآرب الذاتية التي تنشر الانقسام والتفرقة بينهم، والوقوف على ميول الباشوات والبكوات نحو الباب العالي، وأثر هذه على حالة الدفاع عن الشام وتأمينها ضد الغزو. ثم وجب على «نرسيا» كذلك أن يفعل مثل هذا في مصر، ويقدِّم لحكومته ملاحظاته عن هذه الموضوعات جميعها، لا سيما فيما يتعلَّق برشيد والإسكندرية وقلعة القاهرة، فيتقصَّى في هذه الأماكن الأثرَ الذي بقي في ذهن أهلها عن حملة الفرنسيين السابقة (١٧٩٨–١٨٠١)، مع معرفة الميول التي يحتفظ بها الزعماء والسكان نحو فرنسا، ونوع السلطة التي للباب العالي في مصر، وعدد الجند الذين يحتفظ بهم هناك، ومدى اعتماده (أي الباب العالي) على خضوع هذه الولاية العثمانية له.

وطلبت هذه التعليمات من «نرسيا» أن «يذكر دائمًا، للتغلُّب على الصعوبات التي قد تصادفه، وتحمُّل المشاق التي قد تنهكه أثناء تأدية مهمته، أنه إنما يقوم بهذه المهمة بوصفه أحد وكلاء أو عمَّال جلالة الإمبراطور في بلد لا يزال مليئًا بكل «ذكريات» الأعمال العسكرية المجيدة، ويستأثر البتُّ في مصيره باهتمام الإمبراطور بدرجة عظيمة.»

وعلى ذلك، فقد توجَّه «بوتان» و«نرسيا» في مهمتهما، فسلَّم «شامباني» جوازَيْ سفر إلى «بوتان» في ١٦ نوفمبر ١٨١٠، أحدهما بوصفه مكلَّفًا بمهمة لدى قناصل مصر والشام، والآخَر بوصفه تاجرًا رحَّالة، فوصل إلى الإسكندرية في آخِر مايو ١٨١١، وزوَّده «دروفتي» بالمعلومات التي يريدها. ولما كان «بوتان» قد أبلغه ولادة «ملك رومة» ووارث عرش «الإمبراطورية» الفرنسية، فقد أُقيم احتفال كبير بالإسكندرية، ورُتِّلت تسبيحة الشكر Te Deum بكنيسة المبنى الخاص بهيئة «الأرض المقدسة» الدينية، وصحبه «دروفتي» في زيارة الأماكن التي أراد مشاهدتها، فكان مما لاحظه أن الباشا مثابر منذ ثلاث سنوات على تحصين الإسكندرية، ولكن تحصينات الإسكندرية ليست مخيفة أو بالدرجة التي تمكِّن الباشا من صد هجوم الفرنسيين عند وقوعه عليها، وأكَّد أن الخوف مستبد بالباشا من نزول الفرنسيين، ولكنه لا وسيلة لديه لدفعهم. وقد كتب «دروفتي» في يونيو ١٨١١، أن الباشا يريد النزول في الشواطئ المصرية، ولو أنه مما تجدر ملاحظته أن هذا قابل للزيادة دائمًا بفضل المجندين الذين يبعث بهم مندوبوه إلى مصر من مقاطَعات الدولة العثمانية في أوروبا، ويريد الباشا رفع عدد جيشه — إذا استطاع — إلى عشرين ألف مقاتل، وبالرغم مما يزعمونه أن في وسعهم الذَّوْد عن مصر ضد الجيوش الأجنبية، يسود الاعتقاد بين صفوف الجند بأن من المتعذَّر عليهم بتاتًا دفع الفرنسيين عن البلاد إذا غزوها. ثم إن الباشا الذي لا يقل اعتقاده عن اعتقاد جنده بعبث المقاوَمة ضد الفرنسيين، قد صار يُعنى عناية خاصة بفرسانه الذين يعتمد عليهم في إمكانه مغادرة البلاد إذا تأزَّمت الأمور، والانسحاب منها، إما بطريق العريش إلى الشام، وإما بطريق السويس إلى بلاد العرب، ثم إن أسطوله بالسويس على قدم الاستعداد للحركة في أي وقتٍ يشاؤه الباشا.

واستطرد «دروفتي» يتحدث عن خطة الانسحاب هذه والتحصينات التي بالقاهرة، فقال: «ومن عناصر هذه الخطة، وأجزائها، ذلك الطريق الذي أُنشئ للمواصلات بين قلعة القاهرة وجبل المقطم.» وهو طريق لا أثر لفن تعبيد الطرق وإنشائها في شقِّه، يُفضِي بعد بلوغ القمة إلى الصحراء. وأما القلعة ذاتها وسائر التحصينات بالقاهرة فهي ليست في مثل الحال الطيبة التي تركها «جيش الشرق» عليها، ومع ذلك فإذا عمد الباشا إلى اللجوء إلى القلعة، تستطيع هذه القيام ببعض الدفاع، فقد زوَّدها بذخائر الحرب بما يفوق كثيرًا ما فعله كلُّ أسلافه، وفي وسعه أن يموِّنها بالأغذية الوفيرة في أيام قليلة. وأكثر القلاع الصغيرة في المواقع التي حول القاهرة في حال سيئة، ولا يكاد يكون من هذه مزودًا بالمدافع، غير تلك التي على الطريق الممتد من القاهرة إلى بولاق، وهذه — كما هو معروف — تحمي خطًّا من المتاريس والخنادق، كان محمد علي قد أنشأه أيام غزوة الإنجليز الأخيرة، ولا جدال في أنه سوف يعمد إلى نفس الاحتياط، إذا أرغمته الظروف على ذلك، ولكن الجند الأتراك سوف يلقون صعوبة في الدفاع عن مثل هذا الامتداد الطويل من الأرض، إلا إذا بادر لمساعَدتهم على الأقل حدوث فيضان مرتفع للنيل، حتى تملأ مياهُ النهر الخنادقَ المحفورة؛ إذ يُعَد الهجوم الأمامي حينئذٍ غير عملي، ولا غنى عن الاستدارة حول هذه المراكز، مما ينجم عنه صعوبات أكثر، ولكني لا أعتقد أن الباشا سوف يصرُّ على الدفاع خارج القلعة إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد من الحرج، ويبدو لي أن خطة الحرب التي سوف يتخذها، هي بذل قصارى الجهد للاحتفاظ بالإسكندرية حتى تأتيه النجدات التي وعد الإنجليز بإمداده بها في مثل هذه الحالة، وأما إذا فقد الإسكندرية وخسر معركته الأولى، فإنه سوف يرتدُّ إلى القاهرة، ينشر الخرابَ في البلاد التي سوف يمر بها في طريقه إليها، فإذا بلغ القاهرة الخاضعة لسلطانه، دافَعَ عنها بالحديد والنار من مدفعية «القلعة»، ووضع فرسانه حوالي القاهرة وعلى شاطئ النهر، حتى إذا لم يَعُد في وسعه الاستمرار في الدفاع، طلب التسليم، أو عمد إلى إنقاذ نفسه بالفرار صوب السويس، حاملًا نفائسه وأمواله، وآخِذًا معه أهله وأصدقاءه الأوفياء، وقد احتفظ لهذا الغرض بعدد كافٍ من الهجن.

«ولم يزد الأتراك خلال السنوات التي قضوها أخيرًا بالإسكندرية شيئًا على التحصينات الموجودة بها، فكان كل ما فعلوه أنهم قاموا بترميم وإصلاح التحصينات التي تركها «جيش الشرق»، ولا شك في أن السيد «سانت مارسيل» قد أبلغكم — أي الوزير — أمرَ الأعمال الجديدة التي قام بها الباشا، وهذه — كما يؤكد لي كثيرون — لا قيمةَ ولا أهمية لها، فهي لا تعدو ترميم الأسوار القديمة من أيام العصور الوسطى حول المدينة، وهذه عند بلوغها حد الكمال لا تستطيع سوى إبداء مقاوَمة ضعيفة ضد هجومٍ تؤيده المدفعية، وفضلًا عن ذلك يتطلَّب الدفاع وجود حامية كبيرة بالإسكندرية، مما يتعذَّر على الباشا فعله، وفي نظري أنه يستحيل عليه العثور بتاتًا على العدد الكافي من رجال المدفعية اللازمين للخدمة في المراكز الأكثر أهميةً. وأما تحصينات دمياط فهي تمامًا نفس التحصينات التي أنشأها الفرنسيون (إبَّان حملتهم) على فرع النيل، على مسافة قريبة من مصبه.»

وقد صحب «دروفتي» «بوتان» في رحلة إلى الصعيد في نوفمبر ١٨١١، استمرت حتى بداية العام التالي، فعاد «دروفتي» إلى القاهرة في أواخر يناير ١٨١٢ تاركًا «بوتان» في قنا؛ حيث ذهب هذا منها إلى القصير.

وأما «نرسيا» فقد قصد إلى القسطنطينية، والمعروف أنه كان بها في مايو ١٨١١، ثم قصد إلى الأناضول؛ حيث شاهد بؤس أهله العظيم، وانتشار روح الاستياء والتذمر بين سكانه، حتى إن الصانع أو الزارع المسلم — كما قال — صار يتوق لأن تبسط دولة أوروبية سيطرتها على البلاد؛ حتى تعمل على تحريره من طغيان العثمانيين وظلمهم، وكان من رأيه أنه إذا غُزيت الشام ومصر، تسنى العثور في بلاد الأناضول على موارد عظيمة تكفي لتغذية جيش مؤلف من مائتي ألف جندي سنوات عديدة، أضف إلى هذا، أن هؤلاء الجند اﻟ ٢٠٠٠٠٠ يمكن جمعهم من بلاد الأناضول، بل وأكثر من هذا العدد إذا أراد الباشوات أصحاب الحكم في هذه الجهات. وفي يناير ١٨١٢، كان «نرسيا» موجودًا بطرابلس الشام، وقد راجت الإشاعات وقتئذٍ عن وصول أسطول فرنسي أمام الشواطئ المصرية، ثم تحدث «نرسيا» عن عكا، فقال: إن عدد سكانها لا يتجاوز الستة أو السبعة آلاف، وإن تحصيناتها أولية وضعيفة، ولا تُعد وحاميتها الخمسمائة، يُضاف إليهم خمسمائة آخرون من المماليك الذين هم متغيبون أكثر الوقت، أو مبعثرون في مختلف الجهات، وقال «نرسيا» عن يافا: إن الاستيلاء عليها سهل ميسور.

ذلك كان مبلغ اهتمام نابليون بالشرق وقتئذٍ، وسواء حالت مشاغله في أوروبا دون غزو الشام ومصر — وذلك ما حدث فعلًا — أو أن في وسعه في هذه السنوات، تنفيذ مشروعه، فقد شكل «سر نابليون» سياسته نحو مصر، ووجه نشاط الوكلاء الفرنسيين بها وجهات معينة، تتفق والغاية التي يستهدفها الإمبراطور، والتي ظل رغم مشاغله يمني النفس ببلوغها، ويعمل على تحقيقها.

وآية ذلك — عدا ما عرفنا — أنه حدث في اليوم نفسه الذي وافق فيه الإمبراطور على مشروع التعليمات المعطاة «لنرسيا»، أن كتب إلى وزير خارجيته «الدوق دي كادور» في ١٣ أكتوبر ١٨١٠، حتى يطلب من القناصل الفرنسيين في الشام ومصر مذكرات مفصلة عن مجريات الأمور في هذين البلدين عند أول يناير ١٨١١، فيتناول هؤلاء الموضوع من نواحيه السياسية والعسكرية والمالية، وعلى أن يراجعوا هذه المعلومات حتى تتفق مع حقيقة الأحوال السائدة، عند أول يوليو من العام نفسه، ثم معاودة الكرة مرة ثانية عند أول يناير ١٨١٢؛ وذلك — كما قال نابليون — «حتى يجد كل الآراء أو الفِكَر التي سوف يحتاجها في هذه المذكرات التي يجب أن تكون منظمة ومرتبة، ومتصلة بشئون العلاقات الخارجية.»

وفي اليوم نفسه كذلك (١٣ أكتوبر ١٨١٠)، بادر «الدوق دي كادور» بالإجابة على تقارير «سانت مارسيل» بتاريخ ٢٠ مارس، ٢٥ أبريل، ٢٩ مايو ١٨١٠، وقد تحدث هذا في تقريره الأول — وكان تقريرًا مسهبًا — عن تجارة القمح النشيطة بين مصر ومالطة وعن مسلك «الأب أرمننجيلد» المشين، الذي بادر برفع علم بيت المقدس «بمجرد أن نزل إلى البر قبطان إبريق إنجليزي، ثم وضع نفسه بعد ذلك تحت حماية القنصلية السويدية، والذي أوقف في الكنيسة الدعاء المعتاد لجلالة الإمبراطور نابليون، نتيجة لوصول أوراق غازيتة مالطة، من هذه الجزيرة، تتضمن قذفًا في حق الإمبراطور، أو بناء على أوامر يدَّعي صدورها من البابا.» ثم استطرد «سانت مارسيل» يتحدث عن الشكاوى التي قدمها إلى «دروفتي» في القاهرة حتى يعمل على استدعاء هذا الرجل الديني المنشق، وحتى ينال من الباشا السلطة التي تمكِّن الوكلاء الفرنسيين من ممارسة اختصاصاتهم في الإسكندرية التي تخضع لسلطان «بتروتشي» القنصل السويدي وأحد وكلاء الإنجليز بها. كما راح يتحدث عن الشكاوى التي بعث بها إلى «لاتور موبورج» بالقسطنطينية، وقال: «وأما الأول (دروفتي) فإنه عجز عن حمل الباشا على التدخل في هذه المسألة، وأما الثاني (لاتور موبورج) فقد أجاب بكل بساطة في رسالته إلي بتاريخ ١٢ مايو ١٨٠٩، بأنه ينبغي فيما يتعلق بمسألة «الأب أرمننجيلد» أن يعاقبه رؤساؤه.» ثم عاد فقال في رسالته بتاريخ ٦ ديسمبر ١٨٠٩، إن الواجب يقتضي مغادرة «الأب أرمننجيلد» للإسكندرية.

«والواقع هو أني لم أظفر بشيء. وقد أُبلغ نيافة الرئيس العام لهذه المؤسسة في بيت المقدس، وهي التي ينتمي إليها الأب أرمننجيلد، وقد أخبرته بكل هذه الوقائع، فأبلغ «دروفتي» في شهر ديسمبر من العام الماضي، أنه قد استدعى هذا الرجل، واستبدل غيره به، بل وأمر بمجيء أحد رجال هذه المؤسسة من القاهرة، ليقوم بوظائف «الأب أرمننجيلد» مؤقتًا حتى يحضر مَن يتسلم عمله، ولكنه لما كان هذا الأخير يدعي لنفسه الحق في استئناف قرار صاحب النيافة لدى رومة، فقد بقي بالإسكندرية، ولم يصل المعين بدلًا منه إلى الإسكندرية إطلاقًا، مما ينهض دليلًا على تضامن صاحب النيافة مع «الأب أرمننجيلد» ومسلكه المزيف، وهو الذي يصدر لوكلائه هنا أوامر متناقضة في نفس الوقت الذي يتهرب فيه من إحقاق مطالبنا المشروعة؛ ولذلك، فمن الضروري القضاء على مكائد هؤلاء الرهبان المشينة، أولئك الذين طمس أبصارهم ذلك التعصب الإجرامي الذي كان مبعث أضرار كثيرة في أماكن أخرى.»

وتحدث «سانت مارسيل» في رسالته بتاريخ ٢٥ أبريل ١٨١٠، عن استمرار تصدير الغلال والأرز إلى مالطة، ونشاط تجارة الباشا مع الإنجليز، بينما لم يصل إلى الإسكندرية منذ بداية هذا العام سوى مركبين حربيين وأربع سفن تجارية فرنسية، جاءت من مرسيليا، وتحمل الأخيرة بضائع قليلة وقد عادت محملة بالنطرون خصوصًا، وهذا عدا بعض السفن اليونانية التي ترفع العلم العثماني، وقد حضرت هذه من مرسيليا محملة كذلك ببضائع قليلة، وأخذت حمولتها من النطرون، وشكا «سانت مارسيل» من حاكم الإسكندرية الجديد، خليل بك ابن أخت الباشا؛ لأنه فرض ضريبة جمركية أخرى على الصادرات من الكتان والنطرون، والواردات من الأخشاب والصابون وغير ذلك، وكان خليل بك قد عين حاكمًا للإسكندرية، في مكان طبوز أوغلي، منذ أوائل العام نفسه، وصفه «سانت مارسيل» بأنه شاب لا خبرة له بتاتًا، ولو أنه يريد النظام والعدالة، وكان — على ما يبدو في رسالته بتاريخ ٢٩ مايو — أن أبلغ «سانت مارسيل» الوزير نجاح مساعيه أخيرًا في إرغام «الأب أرمننجيلد» وغيره من الرهبان المتعصبين في ملجأ أو مؤسسة بيت المقدس الدينية بالإسكندرية على مغادرة هذه المؤسسة.

وقد أجاب «الدوق دي كادور» على هذه التقارير، بتهنئة «سانت مارسيل» على نجاحه هذا، وقال: «إن الهدوء المعتاد سوف يعود إلى الملجأ أو المؤسسة، بذهاب هؤلاء، كما امتدح نشاطه في إرسال المعلومات الخاصة بالنشاط التجاري في الإسكندرية، واستزاده منها في تقاريره المقبلة، وطلب إليه أن يبلغه كل ما يمكنه الوقوف عليه من معلومات ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بصالح حكومة جلالة الإمبراطور، وعلى الخصوص فيما يتعلق بتجارة إنجلترة ونظامها البحري.»

واستمر اهتمام الإمبراطور بمعرفة حال تحصينات الثغور والمراكز الرئيسية في مصر والشام، استعدادًا لغزو هذه البلاد، فطلب من وزير خارجيته في ٦ ديسمبر ١٨١٠ أن يكتب بالشفرة إلى قناصل الإمبراطور في مصر لإرسال المعلومات التي تصف مفصلًا كل ما يتعلق بتحصينات القاهرة والإسكندرية ودمياط والعريش، كما طلب إليه أن يكتب إلى القناصل في الشام كي يبعثوا إلى الوزير بتفصيلات وافية عن التحصينات في غزا ويافا وعكا، وأن يوصوا بإرسال هذه المذكرات بطريق مأمون، وأن يكتبوها بالشفرة.

وقد تقدم كيف أن نابليون ظل يفكر تفكيرًا جديًّا في مشروع الحملة على الشام ومصر طوال عام ١٨١١، ويطلب من وزير بحريته «ديكريه» تهيئة الأساطيل الفرنسية في ميناء طولون وعند مصب «ألاسكو» خصوصًا لهذا الغرض.

ومع أن هذا الغزو لم يُقدَّر له الوقوع لا في هذه السنوات ولا في السنوات التالية، لأسباب خارجة في الحقيقة عن إرادة الإمبراطور نفسه، فقد كان لوجود هذا السر — سر نابليون — أثر مباشر على تكييف السياسة الفرنسية تجاه محمد علي، في الموضوع الذي استأثر باهتمامه من أيام حملة «فريزر» وهو الاستقلال من نمط استقلال وجاقات الغرب.

(٧) الفرنسيون يرفضون استقلال محمد علي

ولم تسُد بين محمد علي والوكلاء الفرنسيين، نفس العلاقات الوثيقة التي ربطت بين الباشا و«دروفتي» على وجه الخصوص، أيام أزمة النقل إلى سالونيك، أو أثناء وجود جيش «فريزر» بالإسكندرية، فإنه ما إن جلت الحملة الإنجليزية عن هذه حتى بدأت العلاقات بينه وبين الوكلاء الفرنسيين تدخل في طور جديد، صادف فيه «دروفتي» وزملاؤه مصاعب جمة، مبعثها مضي الباشا في بيع غلاله للإنجليز، بالرغم من احتجاجات الوكلاء الفرنسيين المتكررة، ومبعثها كذلك، ما صار معروفًا لدى الباشا، وحرص «بتروتشي» وسائر الوكلاء الإنجليز على إذاعته وترويجه، من انتواء الإمبراطور غزو مصر في أول فرصة سانحة.

وكان الغزو الفرنسي المتوقع لمصر من الشائعات التي ظلت رائجة في هذه البلاد خلال السنوات التي نحن بصدد دراستها (١٨٠٨–١٨١١)، وكان لها أوضح الأثر في رسم السياسة التي جرى عليها محمد علي، سواء في علاقاته مع الإنجليز والفرنسيين أنفسهم، أو مع الباب العالي، وكانت هذه سياسة تتسم بطابع الحيطة والحذر في علاقاته مع هؤلاء الأطراف الثلاثة، فهو يتقرب من الإنجليز كي يتقي شرهم، وحادث غزوهم الأخير للإسكندرية لا يزال ماثلًا في الأذهان، وكي يستعين بهم على دفع الغزو الفرنسي إذا وقع ولا يريد إغضاب الفرنسيين؛ اتقاء لشرهم كذلك، وحتى لا يستعد لمجيء حملتهم المرتقبة على هذه البلاد، ولا يزال حادث غزوهم لها بدعوى الاقتصاص من المماليك على إيذائهم المصالح الفرنسية ماثلًا في الأذهان كذلك، وهو لا يثق في نوايا الباب العالي نحوه، ويريد الاستعانة بإنجلترة وفرنسا في الوصول إلى الاستقلال الذي ينشده، حتى إذا رفضت هاتان الدولتان مساعدته، سلك مع الباب العالي الطريق الذي اعتقد أنه يعينه على نيل مأربه.

فإنه ما كاد الباشا يفرغ من مسألة عصيان ياسين بك الأرنئودي التي انتهت بنفيه خارج البلاد في فبراير ١٨٠٨، وفي الظروف التي سوف يأتي ذكرها، حتى راجت الشائعات القوية عن قرب نزول جيش فرنسي بالشواطئ المصرية، وكان الإنجليز هم المسئولون عن ترويج هذه الشائعة، عندما وصل الإسكندرية منذ ١٨ يناير ذلك الإبريق الإنجليزي الذي سبقت الإشارة إليه، وهرع «بتروتشي» إلى القاهرة لمقابلة الباشا بها، وأسفرت المقابلات السرية والكثيرة بينهما، منذ وصوله في ٢٥ يناير، عن ذيوع نبأ صدَّقه كثيرون هو أن هناك حملة فرنسية كبيرة، تجري الاستعدادات في مواني فرنسا لإرسالها إلى مصر، فتوقفت الإجراءات التي كان قد بدأها الباشا لترحيل عدد كبير من الجند الذين أظهروا تمردهم ضد سلطانه إلى الشام، وصدرت الأوامر إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط لتهيئة وسائل الدفاع عنها جميعها.

وكان الذي حمل الإنجليز على تحذير محمد علي من هذا الغزو المتوقع، ما عرفوه عن حملتي «أليمان» إلى ألبا و«غانتوم» إلى كرفو، واحتمال أن تذهب لذلك حملة أخرى من تارنتو أو كرفو إلى مصر، أضف إلى هذا اعتقاد الإنجليز الراسخ أن الفرنسيين لن يتخلوا عن مشروع غزو مصر بتاتًا، فقال «سانت مارسيل» في تقريره إلى حكومته في ٢١ فبراير: إن الغرض من مجيء الإبريق الإنجليزي إبلاغ محمد علي قرب وصول قوات فرنسية عظيمة إلى مصر، ونصحه بتقوية المراكز الرئيسية في الشاطئ المصري، وتعزيز حامية الإسكندرية، وكان عندئذٍ أن عرض عليه الإنجليز إمداده بجيش لمساعدته ورفض الباشا الاستعانة بقوات أجنبية — على نحو ما سبق ذكره.

ولقد لقي هذا النبأ ذيوعًا كبيرًا في الإسكندرية على وجه الخصوص؛ حيث راح المسئولون بها يحذِّرون الشعب من قرب حضور جند أجانب لغزو مدينتهم، وفريق قال: إن هؤلاء من الإنجليز، واعتقد فريق آخر، وهم الأكثرية، أن الغزاة من الفرنسيين، ثم سرعان ما اشتد هياج الخواطر، عندما دخل ميناء الإسكندرية في ٢ مارس ١٨٠٨، ذلك الشباك الفرنسي المسلح «سربان» الذي تقدمت الإشارة إليه، فقد انزعج المسئولون من الأتراك والأرنئود بالثغر أيما انزعاج، وساورتهم المخاوف من أن تكون هذه السفينة طليعة أسطول فرنسي على وشك الظهور أمام الإسكندرية، وقلق طبوز أوغلي حاكم المدينة قلقًا عظيمًا، فنشطت حركة الجند بها، استعدادًا للدفاع، وتسلح الأهلون، وبذل «سانت مارسيل» قصارى جهده لتهدئة الخواطر، وزالت المخاوف رويدًا رويدًا عندما أنزلت السفينة البضائع التي كانت تحملها إلى البر، ومضت الأيام ولم يظهر للأسطول المزعوم أثر.

وفي القاهرة، كان حرج «دروفتي» وسائر مواطنيه عظيمًا بسبب هذا الحادث، واستمر هذا الحرج أيامًا عديدة؛ وذلك لأن الباشا صار يتوعد ويتهدد «دروفتي» لمعرفة المهمة الغير الاعتيادية التي كلَّف هذا الشباك الفرنسي بها، وكثر اعتداء الجند على الإفرنج، وأوجز «دروفتي» وصف الحالة في القاهرة، فقال: «إهانات مفرطة يرتكبها الجند في حق الأوروبيين، سرقات، وحوادث قتل تقع في الشوارع وفي وضح النهار. وأما في الإسكندرية فالغرامات والفرض بجميع أنواعها، وإزعاج وسوء معاملة للأوروبيين على يد حاكمها، وإفراط الجند في التعدي والإخلال بالنظام، مع عدم توقيع أية عقوبة عليهم لردعهم.»

ثم تزايدت متاعب الوكلاء الفرنسيين بسبب حادثي «الأب أرمننجيلد» والسفينة «لاروز»، وقد سبق الكلام عنهما، كما كثر في الشهور التالية ورود صحف مالطة الإنجليز، تقذف في حق الإمبراطور، ويروج الوكلاء الإنجليز مطاعنها عليه، وبذل الوكلاء الفرنسيون كل ما وسعهم من جهد وحيلة لكسب رضاء محمد علي، فانتهز «سانت مارسيل» قيام الباشا برحلته في الوجه البحري، في سبتمبر ١٨٠٨، لمحاولة ذلك، وكان الباشا قد طلب إلى «دروفتي» مرافقته في هذه الجولة التي أراد بها زيارة دمياط ورشيد والإسكندرية، وامتنع «دروفتي» عن تلبية طلبه، في الظروف التي عرفناها، فأهدى «سانت مارسيل» محمد علي بندقية للصيد من صنع فرساي، وأهدى ترجمانه نظارة، وذلك أثناء زيارة الباشا لرشيد، وتكبد «سانت مارسيل» نفقات عظيمة بسبب هذه الزيارة، ولو أنه لم يكن هناك معدًى في رأيه عن تحمل هذه النفقات لمقاومة نفوذ الوكلاء الإنجليز، ولجلب رضاء محمد علي، فكتب إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في ٢ يناير ١٨٠٩، يلفت نظره إلى هذه النفقات التي صار يشكو من فداحتها، ويطلب إلى الوزير إمداده بالمال اللازم لمجاراة الوكلاء الإنجليز، فكان مما ذكره، يعلل سؤاله هذا: إن الوزير قد لا يعتقد أن النفقات التي تحملتها القنصلية الفرنسية بالإسكندرية، بسبب الهدايا التي قُدِّمت للباشا وإنفاق المال الذي أوجبه وجوده برشيد، أكثر مما ينبغي بذله، ولكن الحقيقة أن هذه المبالغ ضئيلة بالقياس إلى ما ينفقه الوكلاء الإنجليز، وفضلًا عن ذلك، فإنها لم تكفِ لإرضاء الباشا، ثم استطرد «سانت مارسيل» يقول: «ومما زاد في شجوني أني علمت من السيد «دروفتي» أن الباشا قد شكا إليه من قلة كرمي وسخائي ولا يسعني إلا أن أعزو هذا الإلحاح، وهذا التذمر من جانبه، إلى تلك الصداقة المغرضة التي يبديها نحو الإنجليز الذين يعطونه أكثر بكثير جدًّا مما في وسعنا أن نعطيه نحن له، فأنظار أعدائنا موجهة دائمًا نحو مصر، ويبغون من سخائهم غرضًا من الضروري تلافيه قبل وقوعه، ومن واجبنا إحباط مكائدهم، ولا نُدحةَ لنا للوصول إلى هذه الغاية، عن كسب صداقة رجال وعمال هذه الحكومة — أي حكومة محمد علي — ولا طريق إلى ذلك غير إعطاء الهدايا في الظروف المناسبة، فإذا كانت هذه ضئيلة القيمة، امتنع تحقيق الغرض منها، وأما إذا انقطع إعطاء هذه الهدايا بتاتًا، فسوف يتعرض القناصل لمزعجات تُسوِّئ في هذه البلاد سمعة الفرنسيين، وتقضي تمامًا على التجارة الفرنسية، بفضل ما سوف يلقاه حينئذٍ أعداؤنا من مزايا كثيرة؛ ولذلك فإنه إذا تعذر علينا مجاراة هؤلاء الأعداء في سخائهم، فلنعطِ إذن بالقدر الذي يكفي — على الأقل — لإبعاد تلك الكراهية عنا، والتي مبعثها الطمع الأشعبي، وسوف يتكفل حينئذٍ ما لهذه الأمة الفرنسية العظيمة من سمعة عالية، ومجد عسكري، بترجيح كفة الميزان في صالحنا.»

وكان في شهر مارس أن انحلت مسألة السفينة «لاروز»؛ حيث أصدر الباب العالي فرمانًا أمر فيه بإرجاع البضائع المصادرة إلى أصحابها، المرسلة هذه إليهم، بالإسكندرية، وإرجاع السفينة إلى ربانها على أن يُرفع هذا العلم العثماني عليها، ولم يكن هذا الحل، بالحل الذي يريده «سانت مارسيل» الذي شهد المدافع تُطلق من الطوابي بالثغر تحية لهذا العلم عند رفعه، وقال: «إن المال الذي وزِّع بسخاء على رجال الحكومة بالإسكندرية، كان من أثره مظاهرات الاحترام هذه التي لم يكن من عادة المسئولين إجراؤها.»

وانتهت مسألة هذه السفينة، في الوقت الذي ذاع فيه خبر عقد الصلح بين الباب العالي وإنجلترة جاء به إلى الثغر إبريق إنجليزي، احتفل بمقدمه قنصلا إسبانيا والنمسا، فرفعا أعلام دولتيهما احتفاء به، ورحَّب حاكم المدينة بقبطان هذا الإبريق الذي نزل إلى البر لزيارته وتسليمه رسائل باسم محمد علي باشا، وقد سبق أن تحدثنا عن الأثر الذي أحدثه ذيوع نبأ الصلح بين تركيا وإنجلترة، ومسعى «دروفتي» لدى الباشا الذي ظفر منه بوعد قاطع بأن الحرب إذا قامت فعلًا بين فرنسا والباب العالي فإنه لن يحيد عن معاملته الودية السابقة للوكلاء والرعايا الفرنسيين في ولايته.

ولكن كثرة الصعوبات التي صادفها «دروفتي» في عمله كوكيل فرنسي في هذه البلاد، منذ خروج الإنجليز من الإسكندرية، ورواج الشائعات عن قرب الغزو الفرنسي لهذه البلاد، ونشاط تجارة القمح مع إنجلترة، وهي الصعوبات التي كان آخرها ما نشأ الآن عن عقد الصلح بين الأتراك والإنجليز لم يلبث ذلك كله أن جعل «دروفتي» يسأل حكومته أن تنقله من بلد صار يصفه بأنه متوحِّش، ولا قدرة له على الإقامة به إذا قامت الحرب فعلًا بين فرنسا وتركيا، فكتب في ٩ أبريل ١٨٠٩ يقول تعليقًا على الوعد الطيب الذي أعطاه له محمد علي: «ومع أنه ليس من الحكمة دائمًا الركون إلى مثل هذه الأقوال أو الوعود، وينبغي لي أن أرغب في وقوع حادث يرغمني على ترك بلاد متوحشة أفنيت فيها خمس سنوات من عمري، تحيط بي الأخطار من كل جانب، ويستبد بي القلق، ولا أتذوق غير الحرمان، حتى انتهكت قواي وضعفت صحتي، فإنه إذا اقتضى صالح الدولة بقائي بهذه البلاد، ففي اعتقادي أنه بوسعي على الرغم من انفصام العلاقات بين الحكومتين (العثمانية والفرنسية) تدبير أمر إقامتي طالما كان هناك نفع يُرجى من مكوثي بها.» وقد اختتم «دروفتي» رسالته هذه بطلب تعليمات من حكومته في هذا الشأن.

وتزايدت متاعب الوكلاء الفرنسيين، عندما عاد «بريجز» في ديسمبر ١٨٠٩ إلى منصبه بالإسكندرية كقنصل للإنجليز بها، ونشطت مكائد «بتروتشي»، وثار الأب أرمننجيلد ثورته المعروفة على سلطان الإمبراطور الفرنسي وممثليه في مصر، وشكا «دروفتي» من دسائس طبيب الباشا — مندريشي — وترجمانه، وقويت الشائعات عن الغزو الفرنسي المنتظر، وأجاز الباشا دخول سفن الحرب الإنجليزية إلى ميناء الإسكندرية، وظل «دروفتي» وزملاؤه يعانون صعوبات عدة في إحباط هذه المؤامرات والدسائس حتى وقع حادث في شهر أبريل ١٨١٠، أثار مخاوف محمد علي من ناحية فرنسا، واستفزه الغضب الشديد بسببه على الوكلاء الفرنسيين.

فقد وصل إلى مصر، في طريقه إلى جزيرة «إيل دي فرانس»، رسول في خدمة الإمبراطور، يُدعى «كادر» Kader، نزل من دمياط إلى القاهرة؛ حيث كان يبغي مغادرة هذه الأخيرة إلى السويس حوالي اليوم السابع عشر من شهر أبريل، ولكنه لم يحتط في كتمان أمره أو الغرض من رحلته، فبلغ خبره القاهرة قبل وصوله إليها، وطغى عليه الزهو والافتخار، فعزا لمهمته أهمية كبيرة، لم تكن — كما قال «دروفتي» — في الحقيقة لها، فكان هذا المسلك غير الحكيم من ناحيته إلى جانب اختياره هذا الطريق الشاذ — طريق دمياط — للذهاب إلى الهند؛ «لأنه كان أول الرسل الفرنسيين الذين شُوهدوا إطلاقًا يتخذون هذا الطريق في رحلتهم إلى الهند على الأقل في المدة التي قضاها «دروفتي» في مصر»، كان لذلك كله أبلغ الأثر في جعل الوكلاء الإنجليز يعمدون إلى اتخاذ أساليبهم المعروفة في مثل هذه الظروف للاستفادة من هذا الحادث، ودبَّروا مكيدة للإيقاع بين الباشا و«دروفتي»، فأبلغوا الباشا أن «كادر» يحمل معه رسائل إلى «دروفتي» حتى يسلمها هذا إلى البكوات المماليك، وراحوا يسعون للاستيلاء على الرسائل التي حملها هذا الرسول من الباشا نفسه.

ويذكر «دروفتي» تفاصيل هذه المؤامرة، في تقريره إلى حكومته في ٢٨ أبريل ١٨١٠، فيقول: «ولكنه حدث لحسن الحظ أني في نفس المساء الذي دُبرت فيه هذه المؤامرة (للإيقاع بينه وبين الباشا) كان عليَّ أن أبعث بترجماني إلى الوزير محمد علي، فقابله الباشا مقابلة سيئة للغاية، وفي سورة غضبه أرسله إليَّ دون أن يدعه يفتح فاه بكلمة واحدة، ليبلغني أن الواجب يقتضيني الامتناع عن إنشاء صلات في مصر مضادة لمصالحه إذا شئت العيش في هدوء وسلام، فما إن بلغتني هذه الرسالة، حتى امتطيت جوادي قاصدًا إلى القلعة دون أن أفقد دقيقة واحدة، وكان الوقت ليلًا، ووجدت الباشا على أهبة الانصراف إلى مخدعه، فرحَّب بي ترحيبًا فاترًا، ولو أنه أبدى ارتياحه لما ظهر من اهتمامي بالحضور إليه لأساله تفسير ما وقع، ونهضت أقوالي دليلًا على ما أكنُّه من ولاء، وغادرني الباشا وهو يشكرني على حضوري الذي جنبه قضاء هذه الليلة في كدر، وأعطاني موعدًا لمقابلته في اليوم التالي.

وأما هذه المقابلة الثانية فقد استطالت كثيرًا، أكد لي الباشا في أثنائها أن الوكلاء الإنجليز قالوا: إنهم يدفعون خمسين ألف قرش عثماني، للحصول فقط على صورة من الرسالة التي وصلتني من فرنسا لتسليمها إلى الزعماء المماليك، الأمر الذي يدل — على ما يبدو لي — على أنهم مستعدون للتضحية بهذا المبلغ لسلب الرسول «كادر» ما يحمله، وفي اعتقادي أنه لا جدوى من إبلاغكم — مخاطبًا وزير الخارجية — كل ما دار في هذه المقابلة، فأكتفي لذلك بذكر نتائجها.

فإنه مما يبدو لي أن الباشا مقتنع بأنه لا يقدر على الركون إلى الصداقة التي يظهرها نحو الإنجليز، فإن هؤلاء إنما يبذلون قصارى جهدهم لتحريضه على اتخاذ خطوات مضادة لمصالحه وواجبه، وأقسم لي على سيفه، أنه لما كان يشعر بواجبه نحو كرامته، ونحو نظام حكومته، فقد رفض كل شروط يبدو أنها تستهدف وضعه تحت حماية الإنجليز، ثم إنه أظهر لي أسفه على ترك فرقاطته التي يريد إدخالها في البحر الأحمر عن طريق المحيط — والمقصود هنا الفرقاطة أفريقية، وقد سبق ذكر موضوعها — تبحر إلى مالطة، وقد أبلغني أنه سوف يلغي السماح لسفن الحرب الإنجليزية بدخول ميناء الإسكندرية القديمة، وأنه سوف يصدر أوامره لتحصين الإسكندرية تحصينًا جيدًا، وأنه لما كان لا يسعه إلغاء الأوامر التي أجازت تصدير الحبوب إلى مالطة، فسوف يرفع أثمانها بدرجة تزعج المتجرين بها، ثم أنهى الباشا كلامه بأن طلب مني نسيان ما حدث، ثم استدعى أمامي رئيس حراس قافلة السويس، وقال له: إنه سوف يعتبره مسئولًا عن أي شيء يشكو منه الرسول «كادر»، ثم أعطاني خطابًا يحمل توصية طيبة بهذا الرسول لعمال الباشا من مدنيين وعسكريين في كل المواني.

وأما هذه المقابلة فقد جرت في اليوم التاسع عشر من هذا الشهر.

وقد تمهلت في إبلاغكم عنها؛ حتى يتسنى لي أن أنقل إليكم في الوقت نفسه، أن «كادر» قد وصل سالمًا إلى السويس، وأنه قد غادرها إلى جدة، ويحمل معه خطابات توصية إلى المسئولين في جدة، وكذلك في مخا.»

وذكر «دروفتي» دليلًا على أن الباشا يعني فعلًا ما أبلغه إياه في هذه المقابلة من حيث علاقاته مع الإنجليز: «أن محمد علي قد أنفذ أحد ضباطه إلى إسكندرية لإجراء الترميمات التي تتطلبها التحصينات في هذه المدينة، وأنه بعد أن فرض ضريبة صادر على الحبوب معادلة لثلثي قيمتها، بدعوى حاجته إلى بعض الغلال لإرسالها إلى القسطنطينية، لم يلبث أن وضع بعض القيود على شحنات القنصل الإنجليزي إلى مالطة، وأخيرًا فقد رفض الموافقة على التعريفة الجديدة التي حصل السفير الإنجليزي عليها من الباب العالي لتعيين قيمة الرسوم الجمركية على البضائع التي يصدرها التجار البريطانيون من مصر أو يستوردونها إليها.

ومبعث هذا الرفض، هو روح الباشا الاستقلالية التي تزداد قوة دائمًا، وطالما بقيت القسطنطينية وأزمير وحلب وجزر بحر الأرخبيل تعاني القحط والمجاعة، وتزخر مصر بالغلال الوفيرة، ولقد فرضت على الصادرات إلى تركيا ضرائب كبيرة لم يسبق لها وجود بتاتًا.»

ولا جدال في أن تصريحات الباشا «لدروفتي» في اجتماع ١٩ أبريل هذا، كانت تصريحات هامة، قد تنبئ — على نحو ما أراد «دروفتي» أن يقنع نفسه به — بأن تغييرًا قد طرأ على سياسة محمد علي، من شأنه أن يقربه من الوكلاء الفرنسيين، ويباعد بينه وبين خصومهم الإنجليز، لا سيما وأن الباشا، بفضل الإجراءات الأخيرة التي اتخذها قد أقام الدليل في نظر «دروفتي» على أنه يريد تعطيل تجارتهم، والحد — على الأقل — من تصدير غلاله إلى مالطة وغيرها من الأماكن التي كانت مسرحًا لنضالهم مع الفرنسيين في أوروبا، ولكن الحقيقة كانت على النقيض من ذلك، ولم يفطن «دروفتي» إلى غرض الباشا من إظهار شكوكه له نحو الإنجليز، أو مبعث زيادة الرسوم الجمركية على الصادر، وقد كان هذا إجراء ماليًّا، اتخذه الباشا مع الإنجليز، كما اتخذه مع الباب العالي، ولم يبغِ منه سوى غرض واحد فحسب، هو ملء خزائنه بالمال الذي استمر في حاجة شديدة إليه دائمًا لدفع مرتبات الجند وسد نفقات الحكومة. ثم كان مما أحيا الأمل لدى «دروفتي» في إمكان حدوث هذا التغيير في سياسة محمد علي، أن الباشا على الرغم من مكائد الوكلاء الإنجليز، وسورة الغضب التي استبدت به، قد مكَّن «كادر» من المضي في رحلته بسلام، بل وزوَّده بخطابات توصية إلى عماله في مختلف الأساكل.

ومع ذلك، فإن شيئًا مما يكون «دروفتي» قد منَّى نفسه به لم يحدث، ذلك أن تصدير الحبوب والكتان وغيرهما إلى مالطة لم يتوقف إطلاقًا، بل تزايد نشاطه في الشهور التالية، واستمرت السفن تأتي بالبضائع الإنجليزية إلى الإسكندرية، سواء كانت هذه السفن بريطانية أم نمساوية أم غيرها، وترفع أعلامًا إنجليزية أو غير إنجليزية. ثم استمر دخول السفن الحربية الإنجليزية إلى الميناء من وقت لآخر، فحضر إبريق من مالطة في شهر مايو، قال عنه «دروفتي»: إنه «الثاني الذي ظهر في هذه المياه منذ ثلاثة شهور»، واحتفل الإنجليز في الإسكندرية بعيد ميلاد ملكهم جورج الثالث احتفالًا ضخمًا رائعًا، ونثروا النقود بسخاء، ليلتقطها فقراء الأهلين، وذلك — كما قال «دروفتي» أيضًا في ١٣ يونيو — حتى يكسبوا صداقة الجماهير، على غرار ما فعلوا في الأيام التي سبقت غزوهم في عام ١٨٠٧، وعندما انتصر الباشا على بكوات المماليك في قنطرة أو جسر اللاهون والبهنسا في يوليو وأغسطس من العام نفسه، واستولى على غلال وحاصلات الصعيد خصوصًا، صُدِّرت أكثر الغلال إلى مالطة، وفي أكتوبر دخل الإسكندرية إبريق إنجليزي آخر يحمي أربع سفن آتية من مالطة كي تستبدل غلالًا بحمولتها. وفضلًا عن ذلك كله، فإنه لم تمضِ أسابيع معدودات على هذه التصريحات التي أدلى بها الباشا «لدروفتي»، حتى كان قد عقد مع «بلزوني» في ٢٨ مايو ١٨١٠، تلك المعاهدة التي رفضت الحكومة الإنجليزية التصديق عليها.

وواقع الأمر، لم يكن السبب الذي حدا محمد علي إلى التبسط في هذه التصريحات التي فتحت أمام «دروفتي» آفاقًا واسعة، أسف الباشا على مصادقته للإنجليز، أو ندمه على إرسال فرقاطته أفريقية إلى مالطة في طريقها إلى إنجلترة كي يتم تسليحها هناك استعدادًا للقيام برحلتها إلى البحر الأحمر حول رأس الرجاء الصالح، أو تسلط الخوف عليه من ناحية الإنجليز، أو حرصه على تنمية العلاقات التجارية بينه وبين فرنسا، في وقت كان يعلم فيه أن الفرنسيين عاجزون عن الإفادة من أية تسهيلات قد يعطيها لهم — وقد عرض عليهم فعلًا كما ذكرنا أن يبيعهم الغلال بأثمان مخفضة — وذلك بفضل ما للإنجليز من سيطرة مكينة في البحر الأبيض، بل إن الذي حفَّز محمد علي على الإدلاء بهذه التصريحات كان تقريره الاستعانة بالفرنسيين على تحقيق مشروع استقلاله، ذلك المشروع الذي عرف عنه «دروفتي» نفسه الشيء الكثير، أثناء مفاوضات عام ١٨٠٧، التي انتهت بجلاء الإنجليز عن الإسكندرية.

فقد اعترضت مفاوضات الباشا منذ استئنافها مع الوكلاء الإنجليز بعد جلاء حملة «فريزر» صعوباتٌ جمة، فلم تُعِر الحكومة الإنجليزية — كما عرفنا — آذانًا مصغية لمقترحاته السياسية، ثم لم تلبث أن ظهرت بعض العراقيل أثناء مفاوضته الأخيرة مع «بلزوني»، وكان مبعثها محاولة «بلزوني» و«بريجز» اشتراط شروط رأى فيها الباشا مساسًا بكرامته ورغبة في وضعه تحت الحماية الإنجليزية، الأمر الذي جعله يُقسِم أمام «دروفتي» أنه لن يتخلى عن واجبه نحو نفسه ونحو نظام حكومته. وعلى ذلك، فإنه ما إن انتهت مفاوضاته مع «بلزوني» و«بريجز» بعقد المعاهدة، التي وإن كان مجرد إبرامها — إذا جاء تصديق الحكومة الإنجليزية عليها — اعترافًا عمليًّا بالوضع الذي يصبو إليه في علاقاته مع الدول الأجنبية، وخطوة ممهدة لاستكمال الوضع المشابه لما كانت تتمتع به وجاقات الغرب آنئذٍ؛ فقد جاءت خلوًّا من كل ارتباط سياسي يتصل بالمحالفة التي أرادها مع الإنجليز؛ لم يجد الباشا مناصًا من محاولة الاستعانة بالفرنسيين، منافسي الإنجليز وخصومهم، على الظفر ببغيته.

وكان الباشا قد حرص على استبقاء حبل المودة موصولًا بينه وبين الوكلاء الفرنسيين، بالرغم من رواج الشائعات الكثيرة عن عزم الفرنسيين على إرسال جيش كبير لغزو مصر، فلزم الحيطة والحذر في استعداداته العسكرية، حتى «سانت مارسيل» وغيره من مواطنيه، لم يخامرهم شكٌّ في أن الغرض من هذه الاستعدادات إنما هو الاحتراس من ناحية الإنجليز وغزوهم لهذه البلاد مرة ثانية، أكثر من الحيطة ضد فرنسا. ثم إنه كان قد حرص كذلك على استرضاء الوكلاء الفرنسيين في شئون التجارة، وأظهر استعداده دائمًا لتفسير الأسباب التي ألزمته بتصدير الغلال إلى مالطة، وهي الأسباب التي بادر هؤلاء بذكرها في تقاريرهم إلى حكومتهم يعلِّلون بها هذا النشاط المنافي لصالح دولتهم، والتي كان منها على نحو ما عنى محمد علي بإبرازه خوفه من الغزو الإنجليزي، وحاجته إلى المال لإنجاز استعداداته العسكرية تهيؤًا لدفع هذا الغزو إذا وقع، وزيادة على ذلك، فقد تظاهر بالرغبة في معاونتهم على اجتياز الأزمة التي أحدثتها مصادرة السفينة «لاروز» بسلام، أو تلك التي أثارها مسلك «الأب أرمننجيلد» المشين، ثم ها هو ذا يُطلِع «دروفتي» على ما يجول في ذهنه، ويبسِط له مخاوفه من الإنجليز، ويظهِر ندمه على إرسال أفريقية إلى مالطة، وتهدأ سورة غضبه فيبيح «لكادر» المضي في مهمته، ويزوده بالتوصيات لضباطه.

وقد خُيل إلى الباشا، الذي وإن كان لم يركن إلى نوايا فرنسا نحوه، كما لم يركن إلى نوايا إنجلترة؛ فقد ظل يجهل سر نابليون، ولا يعرف شيئًا عن استعداداته ومشاريعه، اللهم إلا ما نقله إليه الإنجليز عنها، وكان مفهومًا عن هؤلاء أنهم خصوم الإمبراطور وأعداؤه الألداء، نقول إنه قد خُيل إلى محمد علي أن بوسعه أن يجذب الفرنسيين إلى مؤازرته على بلوغ استقلاله، إذا هو — إلى جانب كل ما تقدم — لوح أمام أنظارهم بالمزايا التي يمكن أن تنتفع بها مصالحهم التجارية في مصر، وفاته أن الوكلاء الفرنسيين، علاوة على ما كانت تنتويه حكومتهم نحو مصر، كان لا مناص من أن ينظروا بعين الشك إلى طبيعة ما يجري من اتصالات بينه وبين الوكلاء الإنجليز خصومهم، وأن يعزوا إلى تحريض هؤلاء ومكائدهم كل مشروع يصدر من الباشا، ولا يتفق في أغراضه مع أهداف إمبراطورهم السياسية.

وعلى ذلك، فقد طلب محمد علي الاجتماع «بدروفتي»، وتحدَّث إليه في مشروع استقلاله، طالبًا معاونة فرنسا في تحقيقه، فأبلغ «دروفتي» حكومته ما دار في هذا الاجتماع، في تقرير بعث به إليها من القاهرة في ٢٨ نوفمبر ١٨١٠، جاء فيه:

إن محمد علي، وهو يتأهب للسفر إلى الإسكندرية، كي يشرف بنفسه — كما يقول — على شحنات الغلال التي يجب عليه إرسالها إلى القسطنطينية؛ قد رغب في أن أجتمع به اجتماعًا سريًّا قبل رحيله، فكانت مقابلة طويلة، تناول الحديث في أثنائها الكلام عن مشاريعه التجارية في البحرين الأبيض والأحمر، ولا سيما رغبته — قبل كل شيء — في أن تكون لديه بالبحر الأبيض سفن تجارية، يسعها ممارسة حقوق الحياد في كل الأحوال، ولقد جعله النقاش حول هذا الموضوع يتطرق إلى الاعتراف بأنه ليس على صلات طيبة جدًّا بحكومته؛ أي الباب العالي، وأنه يريد من فرنسا موافقتها على أن يصير في مصاف وجاقات الغرب.

ولقد انتقل من ذلك في استطراد طويل، إلى الكلام عن المزايا التي بوسعه إعطاؤها للتجارة الفرنسية، ثم اختتم حديثه مطالبًا إياي أن أوضح له ما إذا كان من المحتمل أو من غير المحتمل، أن تَلقى المزايا التي يعرضها، والتي تنتفع بها التجارة الفرنسية قبولًا لدى صاحب الجلالة الإمبراطور، ولما صار الباشا يلح عليَّ في أن أجيب على تساؤله جوابًا قاطعًا، ذكرت له أن هذا أحد الشئون العليا التي يخرج تناولها عن نطاق عملي المكلَّف به لدى محمد علي، وأن كل ما أستطيع فعله هو أن أعده بإحالة هذا الموضوع على وزير الخارجية الفرنسية، ويبدو لي أن جوابي هذا كدَّره، فأظهر تحفظًا في مقالته بعد ذلك، لم ألحظه عند بداية الحديث.

ويبدو مما ذكره لي قبل هذا التحفظ، أن الوكلاء الإنجليز قد أكدوا له نجاح المفاوضات التي سوف يجريها مع حكومتهم بشأن هذه المسألة، بل وأجزم أن لهم نصيبًا كبيرًا في جعله يقرر الذهاب إلى الإسكندرية؛ حيث ينتظرون بها وصول قنصل بريطاني جديد، هو مأمور السفارة البريطانية السابق بالقسطنطينية.

ولقد علمت أنهم؛ أي الوكلاء الإنجليز، معجبون بأنفسهم لنجاحهم في صرف الباشا عن الإصغاء لنصائحي، ويرجون بمجرد ذهابه إلى الإسكندرية أن يستطيعوا الظفر منه بتسهيلات كثيرة؛ لأخذ الحبوب، ولإنجاح كل عملياتهم الأخرى التجارية والسياسية. ومما يدعو للأسف أن الإنجليز قد اشتروا كل الرجال المحيطين بالباشا، ثم إنهم يدفعون الذهب كتضحية في سبيل تمكنهم من خديعته، وتحريضه على اتخاذ خطوات أفضت إلى توريطه دائمًا مع الباب العالي، فضلًا عن تمكينهم من توثيق الصلة بين مصلحته وصوالحهم، وجبره على اعتبار الإنجليز وحدهم أصدقاءه المخلصين الذين في وسعه أن ينتظر بعض المساعدة منهم عند الحاجة.

ومع ذلك، فأملي كبير في أن يستطيع «سانت مارسيل» بفضل ما عُرف عنه من غيرة ونشاط أن يثبت لدى محمد علي ذلك التحرز النافع الذي مبعثه إساءة الظن بالإنجليز، والذي منعه حتى الآن من الوقوع في الشَّرك الذي تنصبه له هذه الزمرة من الأعداء.

ذلك كان الأسلوب الذي عرض به «دروفتي» مقترحات الباشا على حكومته، ولقد كان من الواضح أن محمد علي في رغبته أن يكون لسفنه الحق في ممارسة حقوق الحياد، إنما أراد أن يظفر لباشويته بذلك الوضع الذي كان لوجاقات الغرب، والذي من خصائصه تمكين الوجاقات الثلاثة: طرابلس، وتونس، والجزائر، من التزام موقف الحياد إذا نشبت الحرب بين الدولة العثمانية صاحبة السيادة الاسمية عليها، وبين أية دولة أجنبية، فتسير سفن الوجاقات بأمان، تخفق عليها أعلامها، ودون أن تتعرض لخطر المصادرة. ولقد كان من مزايا الظفر بهذا الوضع المباشر لباشويته، عدم تعطيل نشاط الباشا التجاري، في وقت كثر فيه دخول السفن إلى ميناء الإسكندرية خصوصًا، وخروجها منها محملة بالبضائع المجلوبة إلى مصر أو المصدرة منها، وعندما كان محمد علي يهتم ببناء أسطول تجاري يعمل في البحرين: الأبيض والأحمر؛ كي يستخدمه في نقل منتجات باشويته، فيستأثر هو بتجارة المرور، بدلًا من أن يفيد من هذه أصحاب السفن الأجنبية، ثم إنه كان من مزايا الوضع الذي أراده لباشويته، تقرير الحكم الوراثي في أسرته في مصر، على نحو ما سبقت الإشارة إليه مرارًا في هذه الدراسة.

ولكن «دروفتي» الذي لم يكن يجهل مشروع الباشا الاستقلالي، لم يجد في مقترحات محمد علي أثناء هذه المقابلة السرية ما يدعوه للفت نظر حكومته إليه جديًّا، سوى نشاط الوكلاء الإنجليز ومساعيهم للتأثير على بطانة الباشا بالرشاوى، وعلى الباشا نفسه بالهدايا حتى يجذبوه لتأييد مصالحهم، واعتبر مشروع محمد علي الذي يمكِّنه من الوقوف موقف الحياد في علاقاته مع الباب العالي والدول الأوروبية عند قيام حالة حرب بين تركيا والدول، من وحي الإنجليز أنفسهم الذين يبغون توريط محمد علي مع الباب العالي، لبواعث اعتقد «دروفتي» أنها لا بد متصلة بمصالحهم السياسية والتجارية فحسب، وكان مما أيَّد هذا الرأي لديه ما قاله محمد علي نفسه، من أن الوكلاء الإنجليز يؤكدون له موافقة حكومتهم على أن تكون لديه سفن تجارية بالبحر الأبيض يسعها ممارسة حقوق الحياد في كل الأحوال.

وفضلًا عن ذلك، فقد كان «دروفتي» صاحب آراء محددة عن حكومة محمد علي من ناحية، وعن أساليب الباشا السياسية من ناحية أخرى، من حيث إن هذه الحكومة لم تكن متمتعة بذلك الاستقرار الذي يخوِّل الباشا التطلع إلى الاستقلال المنشود، ومن حيث إن هذه الأساليب كانت تهدف إلى مداورة واسترضاء الدول الأوروبية جميعها، ولا يمكن الاطمئنان لذلك إلى سياسته، بل ينحصر نشاط الباشا في باشويته، ولا يتعدى أفق سياسته حدود هذه الباشوية ذاتها. وبنى «دروفتي» رأيه هذا، على تجاربه الطويلة في هذه البلاد، وعلى وقوفه على مجريات الأمور بها، لا سيما في الفترة التي تلت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية.

وقد بسط «دروفتي» وجهة نظره هذه منذ أوائل عام ١٨٠٨، في تقرير مسهب عن الموقف في مصر، بعث به في ٨ أبريل، إلى «تاليران» برنس ودوق دي بنيفنتو Benevent وزير الخارجية الفرنسية، فقال: «… وأما فيما يتعلق بالباشا فإنه يعتبر نفسه لا أقل من أمير مطلق السلطة، بالرغم من قوله إنه عبد لجلالة السلطان المعظم، وبينما يصدر أوامره لمرءوسيه بتنفيذ المعاهدات القائمة بين الحكومات الأوروبية والباب العالي، فهو لا يدع الفرصة تمر دون إظهار أن هذه الأوامر إنما تصدر عن تلك السيادة التي يمارسها، ويتوقف إصدارها على إرادته هو وحده، والمبدأ الذي يطغى على سياسته، هو دائمًا مراعاة خواطر جميع الدول، دون تمييز إحداها على الأخرى، وإذا شاء جلالة الإمبراطور مراجعة التقارير التي كان لي شرف تقديمها إلى السفارة الفرنسية بالقسطنطينية خلال عام ١٨٠٧، لاتضح له أنه ليس لمحمد علي أي اتجاه أكيد في علاقاته مع الوكلاء الأوروبيين، فلا تتعدى سياسته حدود مصر التي يقول إنه إنما صار سيدًا عليها بحدِّ حسامه، والتي يقول إنه إنما يبغي قضاء حياته بها، وأن يكون مماته ودفنه بها.

ومع ذلك، فإن ادعاءات السيادة هذه لم تنجح حتى هذه اللحظة في تحريره من تلك التبعية التي يفرضها عليها جيشه، ذلك الجيش الذي هو مستعد دائمًا للتمرد والعصيان من أجل مرتباته المتأخرة، ولقد جعلته هذه الحقيقة أكثر من أي شيء آخر يبذل قصارى جهده لإنهاء خلافاته مع البكوات المماليك بأية وسيلة كانت، فقد كان يريد الذهاب إليهم على رأس جنده قبل الحوادث التي وقعت في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر ١٨٠٧ — ويشير هنا إلى تمرد الجند وقتذاك، وكان حادثًا سوف يأتي ذكره — حتى يملي شروط الصلح عليهم في البلاد التي يوافق اليوم على تركها لهم.

ويبدو لي أنه لا معدَى عن عرض هذه الأمور، لما تنطوي عليه من دلالة على أن الموقف في مصر سوف يظل دائمًا دون تغير وعلى حاله، فيما يتعلق بتلك الحكومة التي سوف تخضع دائمًا لكل تلك المتاعب المنبعثة من عدم استقرارها، ووجود تلك المنازعات الحزبية التي تحيط بها، ولا مفر من أن يشعر الإفرنج بالصدمات التي تنجم عن مثل هذه الحالة التي يسودها اختلال النظام، ومن واجب القناصل كذلك أن يعتمدوا على ما يستطيعون الآن وفي المستقبل أن ينالوه من نفوذ بتدبيرهم الشخصي، أكثر من اعتمادهم على الامتيازات والاحترام الذي تضفيه عليهم طبيعة مهمتهم.

والمصريون في حال يبعث على أبلغ الأسى، فالضرائب القاسية في الصعيد والوجه البحري، والمظالم وبعثرة الأموال قد أرهقت المزارعين واضطرتهم إلى الشحاذة، كما ألقت بهم في مهواة اليأس والقنوط.»

وأما اعتقاد «دروفتي»، بأن تشبث محمد علي بمشروع استقلاله من وحي الإنجليز، فكان اعتقادًا قديمًا رسخ في ذهنه، منذ أن شهد توثق الصلات بينه وبينهم، بسبب تجارة القمح، وزيادة نشاط الوكلاء الإنجليز، وبخاصة دسائس السيد «بتروتشي»، فكتب قبل مقابلته السرية مع محمد علي ببضعة شهور، ومنذ ١٢ مارس ١٨١٠، إلى «شامباني» وزير الخارجية الفرنسية: أن الوكلاء الإنجليز «يعملون على زيادة تمسك محمد علي بمشروعه المحبب إليه، ألا وهو التخلص من سيادة الباب العالي، والارتقاء بباشويته إلى مصاف الدول البربرية (وجاقات الغرب)، وقد اجتهدوا في تملقه وإرضاء عاطفته المنبعثة عن الشعور بالكرامة الذاتية، بأن صاروا يعدون بترك راية ملك مصر تخفق في البحر الأبيض، فتتمتع جميع السفن التي تحمل هذه الراية بكل الامتيازات التي للمحايدين، ولو أنهم علقوا ذلك بشرطين، رفض الباشا الإذعان لهما، أولهما: السماح لسفن الحرب الإنجليزية بالدخول إلى ميناء الإسكندرية القديمة، وثانيهما: طرد الوكلاء الفرنسيين.

ولقد كان بفضل هذه المناورات، أن حصل الإنجليز — على الأقل — على الغلال لتصديرها إلى مالطة، ريثما تنتهي هذه المفاوضات إلى نتيجة.

وحيث إني لم أعرف ظروف هذه المحاولات والدسائس السرية، إلا بطريق ما كان يصلني من تقارير متفرقة ولا رابط بينها، فقد تعذر عليَّ حتى الآن الوصول إلى فكرة صحيحة ودقيقة بالدرجة التي تتيح لي المجازفة بإبداء رأي عن النتيجة التي قد تسفر هذه المحاولات عنها، ولكنني أجد لزامًا علي بالرغم من ذلك، أن أذكر أن الوكلاء الإنجليز منذ أن صار من المتوقع قطع العلاقات بين تركيا وإنجلترة قريبًا، قد كفت لجاجتهم في ذلك الموضوع الذي اعتادوا دائمًا تقديمه على كل ما عداه من الموضوعات التي تناولها حديثهم، وأعني بذلك خوفهم من الأسطول الذي يتأهب في طولون للانقضاض على مصر، ثم إنهم صاروا إذا تحدثوا عن الاستعدادات التي تجري في موانيهم هم أنفسهم يبذلون قصارى جهدهم لتحويل انتباه الباشا إلى نواحٍ أخرى، بإعلانهم أن الغرض من هذه الاستعدادات إنما هو إرسال أساطيلهم إلى البرتغال وكرفو.»

وقد ذكر «دروفتي» الأسباب التي حفزت الإنجليز ووكلاءهم — في رأيه — على تشجيع محمد علي على التمسك بمشروعه الاستقلالي، والدخول معه في مفاوضات سرية تهدف إلى تحقيق هذا الاستقلال، الذي يرقى بباشويته إلى مصافِّ وجاقات الغرب، والتمويه عليه — في نظر «دروفتي» — فيما يتعلق بالغرض من الاستعدادات التي تجري في موانيهم، فقال في نفس رسالته هذه، «وإنما لمما يبدو لي أن هذه الوقائع (السالفة الذكر، والتي بسطها في تقريره) إنما تنهض دليلًا على أن الحكومة البريطانية ما زالت متمسكة بمشاريعها العدوانية على مصر، ومن الممكن لذلك أن تتجدد نفس الظروف التي مرت بي من هنا في عام ١٨٠٧.»

وعلى ذلك، فإنه لم يكن من المنتظر، وتلك آراء «دروفتي» عن حكومة محمد علي وقتئذٍ، وعن مشروع استقلاله، أن توافق حكومة الإمبراطور في باريس على تحرر محمد علي من سيادة الباب العالي، بالدرجة التي تمكنه من إنشاء باشويته أوجاقًا من طراز وجاقات الغرب، ناهيك بمشاريع نابليون نفسه وذلك السر الذي لم يشأ التخلي عنه، فقد صمت «الدوق دي كادور» عن مشروع هذا الاستقلال في التعليمات التي أصدرها إلى «دروفتي» في ٣٠ يونيو ١٨١٠، ولم يسترعِ انتباهه، من تقرير ١٢ مارس، سوى مكائد الإنجليز ومؤامراتهم، ولم يتبدل موقف حكومة الإمبراطور، من مشروع محمد علي طوال هذا العام (١٨١٠)، أو خلال العامين التاليين؛ أي في السنوات التي تتناولها هذه الدراسة.

ومع أن محمد علي قد حاول استرضاء الوكلاء الفرنسيين، بأن صار يعرض عليهم بيع غلاله للحكومة الفرنسية، بثمن يقل بمقدار الربع عما يبيع به لحسابه الخاص في المواني الألمانية التي تزود جزيرة كرفو بحاجتها من الغلال، وهي التي يعلم أنها تشكو كغيرها من المجاعة، فقد ظل «دروفتي» ينقم على الباشا نبذه لأوامر الباب العالي التي تمنع تصدير الغلال للإنجليز، وهم الذين سلكوا في هذه المسألة مسلكًا لم يتوخوا منه — على الأقل — المحافظة على المظاهر، وذلك في الوقت الذي يبغون فيه — على حد قول «دروفتي» — العيش في سلام مع الباب العالي بكل وسيلة، واعتقد الوكيل الفرنسي أن محمد علي لا يزال على عهده مع الإنجليز الذين قال إنهم «يدفعونه دفعًا إلى المضي في طريق لا شك في أنه يفضي إلى توريطه مع الباب العالي، وإلى تسويء العلاقة بينه وبين صاحب السيادة الشرعية عليه إلا إذا كان الديواني العثماني — كما افترض «دروفتي» تعليلًا لعدم تأزم الأمور بين الفريقين بسبب نبذ الباشا لأوامر القسطنطينية — قد اتبع نفس السياسة المتقلبة والمتلونة التي طالما جعلته يزود الرسول (الذي يبعث به إلى الولاة) بفرمانين في وقت واحد، يلغي أحدهما الآخر.»

وشكا «دروفتي» من نفاق الإنجليز من جهة، ومضي الباشا في التعامل معهم من جهة أخرى، فقال في رسالته إلى «شامباني» في ٢٧ مارس ١٨١١، «إنه لمما يبعث على السخرية أكثر من أي شيء آخر، أن يعمد الإنجليز إلى لصق إعلان على باب القنصلية البريطانية بالإسكندرية، يقولون فيه: إنه قد صار ممنوعًا من الآن فصاعدًا اعتماد هذه القنصلية لأوراق السفن المشحونة بالحبوب لغرض تصديرها إلى مالطة … إلخ؛ بناء على أمر السفارة الإنجليزية بالقسطنطينية الصادر في ٢٥ أكتوبر ١٨١٠، بينما يشاهد المرء في الوقت نفسه قوافل تأتي من هذه الجزيرة تحرسها سفن الحرب البريطانية، وذلك من أجل أخذ الغلال إلى مالطة، وبينما يشاهد المرء بعد ذلك السيد «ماثوس» Mathos وقد كان من موظفي هذه السفارة ذاتها، بمجرد نزوله إلى البر يبدأ المفاوضة مع الباشا لشراء كميات عظيمة من الحبوب.» ثم استطرد «دروفتي» يعلِّق على ذلك كله بقوله: «ومن المحتمل أن يكون الإنجليز الذين أصبحوا مجردين من كل الوسائل التي زودهم بها المماليك حتى الآن لإثارة الحرب الأهلية والفوضى في مصر، قد صاروا اليوم يبذلون الجهد لتوريط الباشا مع حكومته؛ أي الباب العالي؛ كي يستطيعوا يومًا ما سوقه لاتخاذ خطوات، تنتفع بها مشاريعهم العدوانية التي ما فتئوا يدبرونها ضد هذه البلاد. ولقد كان ذلك ما دفعني — كواجب مفروض عليَّ — لتحذير الباشا، الذي قال إنه محتاط لتجنب الوقوع في هذه الفخاخ المنصوبة، ومهما لُوحظ من عدم انطباق في مسلك الباشا بين أقواله وفعاله، فالصحيح دائمًا أنه وإن استجاب بارتياح دائمًا لمطالب أعدائنا؛ أي تصدير الغلال للإنجليز والتجارة معهم، فهو إلى جانب هذا قد كلفهم ثمنًا غاليًا، نال من ماليتهم كثيرًا. ومنذ أن اتضح لي استحالة إقناع الباشا بحرمان نفسه من تلك الموارد التي تأتيه من هذه التجارة، فقد صار هدفي الذي أبذل قصارى جهدي دائمًا لتحقيقه، هو دعم أسعار الغلال وعدم تقلبها بقدر الاستطاعة»؛ وذلك لفائدة التبادل التجاري الضئيل وقتئذٍ مع فرنسا، وتموين الحامية الفرنسية بجزيرة كرفو.

وبالرغم من تحذير «دروفتي» للباشا من ناحية الإنجليز، ونصحه له، فقد مضى محمد علي — كما سبقت الإشارة إليه — في توثيق صلاته بهم، سواء كان مبعث هذا — على نحو ما كتب «سانت مارسيل» في ٣ يوليو ١٨١١ — ما تدره عليه تجارة الغلال معهم من أرباح طائلة، أو استناده على مؤازرتهم في تحقيق أطماعه الاستقلالية، وقد تناول «سانت مارسيل» الموضوع مرة أخرى في رسالته التي سبقت الإشارة إليها، إلى حكومته في ١٣ يوليو.

ثم راح يؤكد في رسالة تالية في ١٤ يوليو: «أن السبب الرئيسي فيما هو قائم من صلات بين الباشا والإنجليز، إنما هو اتجار باشا مصر بالغلال مع مالطة، ثم هناك ما يدعوني إلى الاعتقاد كذلك، بأن استمرار هذه التجارة، مع ما في ذلك من خرق حتى لأوامر الباب العالي، إنما هو نتيجة لما تفرضه على الباشا تلك النصوص التي تضمنتها المعاهدة السرية التي أُبرمت مع الإنجليز وقت انسحابهم من مصر في عام ١٨٠٧.»

ثم إنه لم تلبث أن نشأت أزمة من طراز تلك التي أثارها حادث المركب «لاروز» في عام ١٨٠٨، سبَّبت امتعاض الوكلاء الفرنسيين من محمد علي، وأظهرت حرص الباشا على استرضاء الإنجليز وعدم تكدير خواطرهم، غير آبه لما قد يلحق بالمصالح الفرنسية من أذى نتيجة لهذا المسلك، ولم يسَع الوكلاء الفرنسيين سوى مداراة الباشا لتجنب الاصطدام معه، في وقت تزايدت فيه مشاغل الإمبراطور وتفاقمت مشكلاته في أوروبا من ناحية، ووجب على هؤلاء الوكلاء استرضاء محمد علي حتى يبعث بغلاله لتموين الفرنسيين في كرفو من ناحية أخرى.

وأما تفصيل هذه الأزمة الجديدة، فهو أن إحدى سفن القرصان النابوليتانية، وتُدعى «روا دي روم» Roy de Rome، كانت قد «غنمت» بالقرب من مالطة، سفينة ترفع علمًا إنجليزيًّا محملة شحنة من الأنبذة وغيرها من سيفالونيا — إحدى جزر الأيونيان — إلى مالطة، وكان قبطان سفينة القرصان «أنطوان ميشيل» Antoine Michel من ضباط بحرية «جلالة ملك الصقليتين» يواقيم مورا Joachim Murat، الذي خلف يوسف بونابرت ملكًا على هذه المملكة التي أقامها نابليون في شبه الجزيرة الإيطالية، فذهب القرصان إلى ميناء طرابلس الغرب ليبيع غنائمه بها، ولكن يوسف القره مانلي، باشا طرابلس، لم يسمح ببيع الغنائم، لصداقته مع الإنجليز، تلك الصداقة التي أفضت بعد ذلك إلى عقد معاهدة سلام معهم (في ١٠ مايو ١٨١٢) تجددت بفضلها المعاهدات القديمة التي عقدها هذا الوجاق مع بريطانيا؛ وعلى ذلك فقد غادرت «روا دي روم» طرابلس إلى الإسكندرية لبيع البضائع والسفينة المصادرة، فبلغت ميناء الإسكندرية في ١٢ أغسطس ١٨١١، ولكن «مسيت» بوصفه قنصلًا بريطانيًّا، لم يلبث أن تدخل لمنع بيع هذه «الغنائم الإنجليزية» فنشأت الأزمة.

واستند «مسيت» في معارضته هذه إلى أن معاهدة امتيازات جديدة قد عُقدت حديثًا بين حكومته والباب العالي، تنص إحدى موادها خصوصًا على منع بيع أية غنائم إطلاقًا في المواني العثمانية، وقد ترتب على هذه المعارضة أن قرر حاكم الإسكندرية، عدم إنزال البضائع إلى البر، حتى تأتي أوامر الباشا، الذي أحال عليه هذه المسألة، فأبلغ «سانت مارسيل» الأمر إلى «دروفتي». ولما كان محمد علي بالسويس وقتئذٍ، فقد أوفد «دروفتي» إليه «مانجان»، وأصدر الباشا أمره بعدم المعارضة في بيع الغنائم، وتحدى «مسيت» هذا الأمر، فلصق إعلانًا على باب القنصلية الإسبانية — وعداء «كامبو أبي سولر» القنصل الإسباني لفرنسا معروف — يحذِّر فيه الجمهور من شراء البضائع والسفينة المصادرة، بالرغم من إجازة الحكومة المحلية — كما قال الإعلان — «بيع هذه الغنائم التي استولت عليها سفينة القرصنة «روا دي روم» من الإنجليز»، وينذر باتخاذ إجراءات قضائية فورًا ضد من يقدم على ذلك لرد البضائع المشتراة على غير وجه حق، أو دفع قيمتها إذا حصل التصرف فيه وتعذر إحضارها.

ولكن أوامر جديدة لم تلبث أن وصلت حاكم الإسكندرية خليل بك، تلغي الأوامر السابقة، وتمنع البيع؛ فقد بادر «مسيت» بإرسال احتجاجاته إلى محمد علي، وكان موجودًا بالسويس وقتئذٍ «الشيفالييه بالان» Palain القائم بأعمال البعثة الدبلوماسية السويدية في القسطنطينية، وكان هذا قد قدِم لزيارة الآثار في مصر، ثم ذهب لمقابلة الباشا في السويس، فرأى الباشا استشارته، فقال «بالان»: «ولو أنه يجهل ما يحدث خارج القسطنطينية، إلا أنه يعلم أنه محرَّم على الإنجليز والفرنسيين بيع الغنائم في القسطنطينية»، فكان هذا الرأي كافيًا — على نحو ما شكا الوكلاء الفرنسيون — لأن يلغي محمد علي أمره السابق ويحيل المسألة على القسطنطينية حتى يفصل فيها الباب العالي. وتعجب «دروفتي» كيف يدَّعي «بالان» الجهل بما يجري خارج القسطنطينية، وهو الذي يعلم أن القراصنة الفرنسيين يجلبون غنائمهم التي يصادرونها من الإنجليز إلى مينائي شيوز وسالونيك لبيعها فيهما، ولكن «دروفتي» نفسه راح في كتبه إلى حكومته في ٥ سبتمبر ١٨١١ يعلل السبب الذي حدا بالسيد «بالان» لإبداء الرأي المتقدم، فقال: «إن «بالان» هو الذي عين قنصلًا عامًّا للسويد في مصر وسمح بأن يمثلها بها السيد «بتروتشي» المشهور الذي ورد اسمه كثيرًا في التقارير التي بعث بها إلى حكومته، وهو العدو الألد لفرنسا، والوكيل ذو الحماسة العظيمة للحكومة الإنجليزية في مصر.» ثم إن «سانت مارسيل» بادر بإبلاغ «لاتور موبورج» بالقسطنطينية ما حدث؛ حتى يتوسط لدى الباب العالي لاستصدار أمر لمحمد علي بعدم الممانعة في بيع الغنائم.

وقد سببت مسألة السفينة «روا دي روم» امتعاض واستياء الوكلاء الفرنسيين من محمد علي، الذي يريد تضحية مصالح دولتهم، لقاء استرضاء أصدقائه الإنجليز، والذي — حتى يجد مخلصًا من مواجهة الموقف بنفسه فلا يثير بتصرف قد يأتيه غضب الإنجليز أو أعدائهم الفرنسيين منه — قد أحال هذا الموضوع إلى الباب العالي، مع ما في ذلك من تعطيل لنشاط القراصنة الفرنسيين الذين سوف يمتنع عليهم بيع الغنائم التي يصادرونها من الإنجليز في المواني المصرية حتى يأتي قرار الباب العالي، وقد يطول الزمن قبل أن يأتي هذا القرار كما هو معروف عن بطء الديوان العثماني وتردده، وقد يصدر هذا القرار في غير صالح الفرنسيين بسبب تقلب الباب العالي.

ولقد كانت الدعاوى التي تذرَّع بها «مسيت» لوقف بيع غنائم السفينة «روا دي روم» على جانب كبير من الخطورة؛ لأنه إذا صح قول «مسيت» إن معاهدة امتيازات قد عقدت من مدة قريبة بين حكومته والباب العالي، تنص إحدى موادها بصورة خاصة على منع بيع أية غنائم في مواني الدولة العثمانية، لأفاد الإنجليز وحدهم من هذا الخطر، ووقع الغرم على الفرنسيين فحسب، ذلك أن الإنجليز كان في وسعهم — على نحو ما شرح «سانت مارسيل» لوزير الخارجية الفرنسية في ٢٦ أغسطس ١٨١١ — أن يذهبوا بغنائمهم بكل سرعة إلى القاعدة القريبة من «الليفانت» التي لهم، وهي مالطة، بينما تبعد المواني الفرنسية عن «الليفانت»، ويتعذر على القراصنة الفرنسيين لذلك الوصول إليها بسرعة أو دون التعرض لمطاردة الأسطول الإنجليزي لهم، ومعنى هذا أنه صار ممنوعًا على هؤلاء، التجول في مياه الليفانت مما يترتب عليه أن تحظى تجارة الإنجليز في هذه الجهات بكل أمن وسلام، فتزيد انتعاشًا أكثر مما هي عليه الآن.

واعتقد الوكلاء الفرنسيون أن الواجب كان يقتضي محمد علي أن يذكر حسن صنيع فرنسا معه، من جهة، وما للباب العالي من أفضال سابقة عليه من جهة أخرى، وهو الذي يعتمد في بقائه في باشويته على رضائه، ويدين له بالطاعة بوصفه تابعًا له، فلا يبادر بإجابة مطالب الوكلاء الإنجليز ويقبل على تنفيذها قبل أن تصله أوامر الباب العالي الصريحة والقاطعة في هذه المسألة، وأنه ما كان ينبغي للباشا أن يتعلل بضرورة انتظار أوامر الباب العالي، وهو الذي لا يجهل — كما قال «سانت مارسيل» — أن القراصنة الفرنسيين كثيرًا ما يأتون بغنائمهم إلى مواني الدولة العثمانية، ولا يلقون معارضة ما في بيعها «فهل تغدو مصر يا تُرى كتونس وطرابلس الغرب التي يؤكدون لي أن البايات والباشوات في هذه الوجاقات قد بدءوا يستمعون لما يقوله الإنجليز؟»

وساء الوكلاء الفرنسيين أن يغض الباشا نظره على اجتراء «مسيت» على الانتقاص من سلطته، وتحدى أوامره لرجال حكومته، فيرضى بأن ينشر «مسيت» ذلك الإعلان الذي تهدد وتوعد فيه كل مشترٍ لغنائم «روا دي روم» بالمقاضاة، وبالرغم من الأوامر التي أصدرها الباشا إلى حاكم الإسكندرية بإجازة بيع هذه الغنائم، فقال «سانت مارسيل»: إن عمل «مسيت» هذا كان فيه إضعاف لسلطان الباشا، ومع ذلك فإنه لم يعترض عليه. واستخلص «سانت مارسيل» من هذا الحادث «أن الإنجليز قد صاروا مسيطرين على مصر، التي يأخذون منها كل غلالها لتموين وإعاشة أعداء فرنسا، والذين لم يكفهم الحصول على هذه المزايا، فأجبروا الباشا على الرضوخ لإرادتهم، حتى يمنع بيع غنائم تافهة صادرها القراصنة النابوليتان وأتوا بها إلى هذه البلاد.» ثم استطرد يقول: «وهكذا يظل الإعجاب والتحيز لكل ما هو إنجليزي في زيادة مطردة في مصر، ولا يمحو من أذهان الفرنسيين المقيمين بهذه البلاد ما يتحملونه من إهانات سوى حقيقة أنهم ينتمون لتلك الأمة المجيدة التي يتبوأ عرشها أعظم الأبطال جميعًا.»

واستمرت مسألة هذه الغنائم معلقة مدة طويلة، حدث في أثنائها أن قبض إبريق إنجليزي على «روا دي روم» بالقرب من قبرص في سبتمبر ١٨١١، ثم إنه كان في شهر أكتوبر أن أبلغ «لاتور موبورج» من القسطنطينية «سانت مارسيل» أن الباب العالي قد أصدر أمرًا إلى محمد علي؛ حتى لا يضع أية عراقيل في سبيل بيع الغنائم، ولكن الباشا نفى «لدروفتي» وصول هذا الأمر إليه، حتى إذا كان شهر مارس ١٨١٢، حضر قبطان «روا دي روم» نفسه، مزودًا برسالة من كتخدا الباشا بالقسطنطينية لإجازة البيع، وكان القبطان «أنطوان ميشيل» بعد أن أطلق سراحه الإنجليز قد ذهب إلى القسطنطينية، فأحدثت رسالة كتخدا الباشا الأثر المطلوب، فأجاز محمد علي البيع، ولكن على شريطة أن يمتنع من الآن فصاعدًا إحضار أية غنائم وبيع أية غنائم سواء كانت فرنسية أو إنجليزية في مواني الإمبراطورية العثمانية، ولم يكن قرار محمد علي في صالح الفرنسيين للأسباب التي سبقت الإشارة إليها.

بيد أنه لم يكن في وسع الوكلاء الفرنسيين مهما بلغ بهم الكدر والاستياء، إغضاب محمد علي، ليس فقط لأن مشروع الغزو الفرنسي لمصر لم يتحقق، على الرغم من الإشاعات التي استمرت تذيع وقتئذٍ عن الحشود المستعدة في هذه البلاد، وليس لأنه كان من العبث تكدير الباشا في موضوع لم يقم أي دليل على أنه مستعد لتلبية رغبتهم فيه، ووقف تعامله مع الإنجليز أو تصدير غلاله إلى مالطة، بل وكذلك لأن الفرنسيين أنفسهم كانوا يريدون أن يموِّن الباشا بالغلال حاميتهم في كرفو.

فقد سأل «دروفتي» الباشا أن يبعث ببعض السفن المحملة بالغلال إلى كرفو، وأجاب الباشا سؤله، فأشرف منذ أغسطس ١٨١١، أحد التجار الفرنسيين بالقاهرة ويُدعى «منتل» Mentel على حركة التصدير إلى كرفو، وفي الشهر نفسه غادرت سفينة مجرية الإسكندرية إلى دمياط، لتبحر منها إلى كرفو بعد شحنها، وقد غادرت هذه دمياط في الشهر التالي محملة بالغلال، لبيعها لحساب الباشا هناك، وعقد الوكلاء الفرنسيون آمالًا كبيرة على أن يتبع هذه السفينة غيرها، طالما لم يقع من يغيِّر عواطف الباشا الطيبة، ولكنه حدث أن فضَّل قبطانها الذهاب بشحنته إلى سيفالونيا؛ حيث رجا الظفر بربح أوفر، ولم يسلم للمندوب التجاري الفرنسي في كرفو، وهو «ماثيو لسبس» سوى مبلغ صغير من الأثمان التي حصلها، كان على «ماثيو لسبس» أن يبتاع بها زيوتًا للباشا في نظير الغلال التي أرسلها.
ولما كان «ماثيو لسبس» عند توقعه العودة إلى مصر قنصلًا عامًّا بها، قد أعدَّ أسلحة في ليفورنة ليحملها معه هدية إلى محمد علي، فقد قرر الآن إرسال هذه الهدية إلى الباشا؛ ضمانًا لذلك الشعور الطيب الذي أبداه من حيث تصدير غلاله إلى كرفو، وحتى يزيد ورود الغلال إليها، وذلك كما قال «ماثيو لسبس» إلى جانب ما اشتراه من زيوت للباشا، بذلك القدر الضئيل المتبقي من الأثمان التي يبعث بها غلاله، ووافق وزير الخارجية الفرنسية «الدوق دي بسانو» Bassano على هذا الرأي، وطلب هذا بدوره من «دروفتي» في ٢١ مارس ١٨١٢، عند وصول هذه الهدية أن يقوم بتقديمها للباشا إذا وجد الظروف مناسبة لفعل ذلك، كدليل على ما تكنه له الحكومة الفرنسية من تقدير واحترام، وما ترجوه له من تمنيات طيبة. ثم إن الوزير لم يلبث أن أضاف إلى ذلك قوله مخاطبًا «دروفتي»: «ولدي ما يحملني على الاعتقاد بأن هذا الاهتمام البادي من جانبنا سوف يكون له وقع طيب في نفس محمد علي، ولا أشك في أنك سوف تفيد من هذه المناسبة؛ لحمله على إرسال شحنات أخرى من الغلال إلى كرفو حسب وعده لك.» ثم حذَّر الوزير «دروفتي» بعد حادث قبطان السفينة الأخيرة، من تكليف قباطين غير موثوق بأمانتهم كل الوثوق بالذهاب بهذه الشحنات إلى كرفو.

وقد حرص «ماثيو لسبس» على أن تصل هدية الأسلحة هذه في سلام وأمان إلى الباشا، فطلب أن يبعث محمد علي بمن يتسلمها باسمه من يانينا أو بريفيسا، وأبلغ «دروفتي» محمد علي خبر هذه الهدية، فكان لهذا النبأ وقع حسن لديه، ولكن «دروفتي» الذي اعتقد أن من العبث أن يتوقع إنسان أن تقف هذه الهدية ما يظهره الباشا من صداقة وتحيز للإنجليز؛ حيث إنه يؤثر نفعه المالي على كل ما عداه عمد إلى تعليل إهدائه هذه الهدية، بأنه اعتراف من حكومته بحسن صنيعه في تموين كرفو، وتعويض له عن الخسائر التي تكبدها في هذه الصفقة. وفي كتابه إلى «الدوق دي بسانو» في نوفمبر ١٨١٢ قال «دروفتي» يبرر ما فعله: «إن هذه الطريقة — على ما يبدو له — تتلاءم وحدها مع ما يأخذ به الباشا من آراء نفعية، وفضلًا عن ذلك، فإنها تُبقي قائمة شكاوانا السابقة، حتى إذا حدث ما يدعو لإبرازها أمكن بعثها ضده.»

كتب «دروفتي» هذه الرسالة في ٢٨ نوفمبر ١٨١٢؛ أي بعد أن كان محمد علي قد فرغ من تذليل الصعوبات الداخلية التي اعترضت توطيد باشويته في مصر، ثم تسنى له دعم أركان الولاية، منذ أن قضى على العناصر المناوئة لسلطانه وأجهز على البكوات المماليك في مذبحة القلعة في مارس من العام السابق — كما سيأتي ذكره — ونجح في إزالة سخط الباب العالي عنه بإنفاذ ولده طوسون باشا على رأس الحملة الموجهة لقتال الوهابيين في الحجاز. ولم يبدُ علاوة على هذا كله أن نابليون — وقد اندحر في غزوه لروسيا — سوف يقدِر على غزو مصر مرة أخرى، ومع ذلك، فإن ما ذكره «دروفتي» لتبرير الطريقة التي أبلغ بها الباشا نبأ هدية الأسلحة، من حيث إنها تكفل بقاء الشكاوى السابقة قائمة لبعثها ضد محمد علي عند الحاجة لإبرازها لينهض دليلًا على أن الفرنسيين كانوا لا يزالون يتوقعون حتى هذا الوقت المتأخر أن يغزو إمبراطورهم هذه البلاد، بل إن الإشاعات — على نحو ما أشرنا — قد ظلت قوية طوال هذه الفترة، وبخاصة في أواخر عام ١٨١٠ وأوائل العام التالي، عن توقع مجيء الفرنسيين القريب لغزو البلاد؛ ولذلك فإنه وإن كان الوكلاء الفرنسيون قد حرصوا على استبقاء صلات المودة مع محمد علي، وعنيت حكومة الإمبراطور في باريس بإظهار تقديرها واحترامها لمحمد علي، وتمنياتها الطيبة له، فقد كان من الواضح أن فرنسا لن توافق بحال من الأحوال على مشروع استقلال محمد علي.

ولقد كان لموقف فرنسا هذا من مشروع الاستقلال، إلى جانب موقف إنجلترة منه، أكبر الأثر في تقرير محمد علي أن يطرق الباب المتبقي له؛ أي اللجوء إلى صاحب السيادة الشرعية عليه، وهو السلطان العثماني، لعله يظفر منه مباشرة بذلك الوضع الذي أراده لباشويته حتى تصبح هذه وجاقًا من طراز وجاقات الغرب، على أساس الاعتراف بالحكم الوراثي في أسرته. ولكنه مما يجب ملاحظته، أن هذا الاتجاه صوب تركيا قد بدأ قبل اتضاح فشل جهود محمد علي مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين في المسألة التي تذرع بها للظفر بمأربه، وهي أن يكون لسفنه الحق في الملاحة تحت رايته هو، أو بالأحرى تحت راية الوجاق المصري، حتى يتسنى لها التمتع بصفة المحايد فلا تتعرض لها أساطيل العدو، في حالة الحرب بين تركيا والدول الأجنبية، فقد سارت مساعيه لدى الباب العالي من أجل الحصول لباشويته على وضع مشابه لوضع وجاقات الغرب في نفس الوقت الذي جرت فيه مساعيه لهذه الغاية مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين في مصر.

وثمة حقيقة أخرى، فقد اتضح للباشا أثناء مفاوضته مع الإنجليز والفرنسيين، كما استطاع أن يدرك من مجريات الأمور في أوروبا، أن الدول بسبب انشغالها بالنضال العنيف مع نابليون في القارة، ما كانت تريد أن تتكدر علاقاتها مع تركيا، وهي التي أتاح لها عقد الصلح مع إنجلترة في يناير ١٨٠٩، استئناف المحاولة من أجل تحقيق رغبتها؛ أي الوقوف موقف الحياد من النضال الدائر، وكان بعد لأي وعناء أن أنهت في ٢٨ مايو ١٨١٢ معاهدة بوخارست الحرب بين تركيا وروسيا، وأدرك محمد علي أن الإقدام على انتزاع استقلاله من الباب العالي عنوة، دون أن يجد ظهيرًا له من بين الدول الأوروبية، مغامرة خاسرة؛ ولذلك فقد كان لهذه الحقيقة وزن في تشكيل علاقاته مع الباب العالي، منذ جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، إلى عام ١٨١١؛ أي إلى نهاية هذه الفترة التي نحن بصدد دراستها.

(٨) الاتجاه صوب تركيا

والحقيقة أنه تضافرت — عدا ما ذكرنا — عوامل عدة لتكييف العلاقات التي سادت بين محمد علي والباب العالي في هذه الفترة (١٨٠٧–١٨١١)، مرد طائفة منها إلى ما صح عليه عزم محمد علي من البقاء والاستقرار في مصر، والظفر بالباشوية الوراثية، ومرد بعضها الآخر إلى حذر الباب العالي من ضياع هذه الولاية المصرية من الدولة، سواء حصل ذلك نتيجة لغزو أجنبي أو لعصيان الباشا ونبذ السيادة العثمانية، أضف إلى هذا أن الباب العالي قد اعتبر أن من حقه على الباشا أن ينهض هذا بوصفه تابعًا له، ومتمسكًا بالولاء لصاحب السلطان الشرعي عليه لتلبية مطالب الديوان العثماني، فيما فيه المحافظة — في الواقع — على كيان الإمبراطورية العثمانية وتجنيبها الأخطار التي تهددتها.

وكان من أثر هذه العوامل، أن تميزت العلاقات بين الباشا والباب العالي في هذه الفترة، بالتقلب والتغير، فهي تارة تكدرها الشوائب، وأخرى تتسم بطابع التفاهم، وفي كل الأحوال لُحمتها وسَداها المداراة من الجانبين، لإدراك الديوان العثماني تعذر إخراج محمد علي من باشويته، وهو الذي تتدعم حكومته تدريجيًّا، وكلما طال بقاؤه في الولاية. أضف إلى هذا أن الباب العالي كان في حاجة إلى معاونة الباشا الصادقة لإخماد عصيان الوهابيين وثورتهم بالحجاز، ووقف إغاراتهم على أملاك الدولة في الشام والعراق، لا سيما بعد أن انكسرت جيوش ولاته أمام الوهابيين، هذا من ناحية؛ ولأن الباشا من ناحية أخرى كان يدرك أن من خرق الرأي نبذ سيادة السلطان ومناوأته طالما لا يجد سندًا من الدول الأوروبية يؤازره، وقد شهدت هذه الفترة تسوية الخلافات رويدًا رويدًا بين الجانبين، حتى إذا وافت سنة ١٨١٠ على ختامها، كان الباب العالي قد قطع على نفسه عهدًا بإعطاء الحكم الوراثي لمحمد علي في باشويته، وإن كان قد جعل ذلك مشروطًا بخروج جيش محمد علي إلى الحجاز والانتصار على الوهابيين وكسر شوكتهم.

ولقد كان من الواضح في أثناء ذلك كله، أن محمد علي قد صح عزمه على الاستقرار في هذه البلاد وعدم التخلي عن ولايته، إلا إذا أُرغم إرغامًا بحد السيف — كما قال — على تركها، وذلك قرار لم يكن هناك أي شك في جديته منذ أن نشأت أزمة النقل إلى سالونيك — على نحو ما سبق توضيحه — ثم ظهر هذا العزم صادقًا عند انتهاء حملة «فريزر»، وكان مبعث المشروع الذي تقدم به محمد علي من ذلك الحين بصورة محددة لإنشاء باشويته وجاقًا من نمط وجاقات الغرب.

ولم يكن انتصار الباشا على حملة «فريزر»، واضطرار هذه الحملة إلى الانسحاب من الأراضي المصرية في الظروف التي عرفناها، الباعث الفرد الذي حفَّز الباشا على السعي من أجل تنفيذ مشروع استقلاله عن الباب العالي، بل إن ضعف الدولة الذي أعجزها عن تطويع باشواتها المتمردين عليها في طائفة من ولاياتها الأخرى، وطمع الدول في ممتلكاتها، ثم اختلال الأمور في مركز السلطنة ذاتها، كل هذه كانت أسبابًا زادت من تحفز الباشا، كما أنها جعلته مطمئنًا إلى استطاعته الفوز بمأربه، إذا هو ظل مثابرًا على سعيه، وكان لحادث الانقلاب الذي قام به الإنكشارية في إسلامبول وأفضى إلى عزل السلطان سليم الثالث وقتله، ثم انتهى بعزل السلطان التالي مصطفى، وتولية محمود الثاني، أبلغُ الأثر في نفس محمد علي، من حيث دلالته على اضطراب الأحوال في مقر السلطنة، بصورة لا شك في أنها سوف تزيد من ضعفها وعجزها عن ردع ولاة الدولة المتمردين، ومن حيث إنه ساعد على رسوخ اعتقاد محمد علي بأن الواجب يقتضيه العمل بكل سرعة لتثبيت باشويته في مصر بصفة دائمة، حتى ينأى بها عن الأخطار التي قد تتهددها نتيجة لمثل هذه الانقلابات إذا وقعت مرة أخرى، وطرأ على ذهن أصحاب السلطة الجدد محاولة عزله أو نقله من باشويته، وقد بلغت القاهرة أنباء هذه الانقلابات وتفاصيل حوادثها، وما أفضت إليه، كل ذلك دفعة واحدة على ما يبدو، في أواخر جمادى الثانية ١٢١٣؛ أي في الثلث الأخير من شهر أغسطس ١٨٠٨. ثم لم يمضِ قليل على ذيوع هذه الأخبار حتى كان قد وصل إلى بولاق في ٢٤ أغسطس رسول من القسطنطينية وعلى يده مرسوم بإجراء الخطبة باسم السلطان محمود بن عبد الحميد، فتحقق الخبر.

وظهر تصميم الباشا على الاحتفاظ بباشويته واستكمال سلطانه بها، وأنه قد صحَّ عزمه على البقاء والاستقرار بها وعدم مبارحتها، أولًا في تمسكه بالإسكندرية التي تسلمها من الإنجليز، وضمها إلى باشويته، وثانيًا في استقدامه سائر أفراد أسرته من قولة، ثم أسرات رجاله ومعاونيه الصادقين. وقد عهد الباشا إلى أبنائه ومَن وثق في ولائهم له بالمناصب الهامة في الحكومة.

وكانت العلاقات بين الباشا والديوان العثماني قد استمرت في الفترة التالية لجلاء حملة «فريزر» عن الإسكندرية، لا يعتورها الكدر، فقد تقدم كيف أن الباب العالي أرسل الهدايا للباشا ولكبار العسكر، كما أعاد إبراهيم بك بن محمد علي من القسطنطينية، إظهارًا لرضاء السلطان وتقديره لجهود الباشا في الانتصار على الإنجليز (سبتمبر ١٨٠٧)، فاستمر هذا الرضا في الشهور التالية، حتى إذا جاء موعد تجديد الولاية للباشا وتثبيته بها عن العام التالي، حضر قابجي من القسطنطينية في ديسمبر ١٨٠٧ يحمل مرسومات أحدها بتقرير لمحمد علي باشا على ولاية مصر، وآخر بالدفتردارية باسم ولده إبراهيم، وآخر بالعفو عن جميع العسكر جزاء على إخراجهم الإنجليز من ثغر الإسكندرية، وحمل هذا القابجي — ويُدعى بيانجي بك — خِلعًا وشلنجات هدايا للباشا ولرجاله. وقد غادر البلاد في فبراير من العام التالي، راجعًا إلى القسطنطينية.

ولكنه لم تمضِ شهور قلائل حتى قامت «حركة الينكجرية» وانتهت الانقلابات التي وقعت بالقسطنطينية بالمناداة بمحمود الثاني في ٢٩ يوليو ١٨٠٨، وكان في هذا الشهر نفسه أن وصل الإسكندرية قبطان من رجال البحرية العثمانية، قصد فورًا إلى القاهرة لمقابلة محمد علي، قال عنه «دروفتي» في رسالته إلى حكومته من القاهرة من ١٠ أغسطس «إنه يحمل أوامر تطلب من محمد علي باشا إعطاءه قومندانية المواني والشواطئ المصرية»؛ أي إرجاع الإسكندرية وسائر المواني إلى الإشراف العثماني تحت إدارة القبطان باشا بالقسطنطينية مباشرة، وتعيين رؤساء لحكومتي الإسكندرية ودمياط خاضعين رأسًا للباب العالي، ومستقلين عن باشوية القاهرة.

ومع أن الباشا رحَّب بهذا القبطان ترحيبًا كبيرًا، فقد كان من الواضح — على حد ما قال «دروفتي» في رسالته السالفة — «أنه لا يميل بتاتًا إلى تسليمه حكومة الثغور والشواطئ المصرية»، بل إن الباشا ما لبث أن قرر القيام بجولة في الشواطئ المصرية لزيارة دمياط ورشيد والإسكندرية، وهي الجولة التي أراد أن يصحبه فيها «دروفتي»، واعتذر هذا لعدم وجود تعليمات لديه من حكومته تجيز له ذلك — على نحو ما سبق بيانه — وقد قام الباشا بهذه الرحلة، فتجول في جهات الوجه البحري، وذهب إلى دمياط ورشيد والإسكندرية. وقد تحدث «سانت مارسيل» عن الغرض من هذه الرحلة في كتابه إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في ٢١ سبتمبر ١٨٠٨، فقال: «ومع أن أحدًا لا يعرف السبب الحقيقي لرحلته هذه، ولكن الاعتقاد السائد هو أنه يبغي أن يستميل السكان إلى تأييد رغبته في الاحتفاظ لنفسه بحكومتي الإسكندرية ودمياط، اللتين يريد الباب العالي تعيين حكام لهما، مستقلين عن باشا القاهرة.»

ثم استمرت مساعي الباب العالي لإخراج الإسكندرية من نطاق باشوية محمد علي، حتى أوائل العام التالي، ولكن دون نتيجة، فيذكر الشيخ الجبرتي في حوادث محرم ١٢٢٤ (١٦ فبراير–١٧ مارس ١٨٠٩) أن قاصدًا «حضر من قبودان باشا يطلب عوائده بالإسكندرية، فقال له حاكم الإسكندرية، ينبغي أن تذهب إلى الباشا بالترعة (ترعة الفرعونية، التي كان الباشا وقتئذٍ يشرف بنفسه على سدها لمنع انسياب المياه من فرع دمياط)، وتقابله، فذهب إليه وقابله»، ولكن الأجل لم يمهل هذا القاصد للوصول إلى نتيجة قاطعة فيما جاء بسببه؛ فقد بات ليلته عند السد، وأصبح ميتًا فأخرجوه إلى المقبرة. وقد شُغل الباب العالي بعد ذلك بالمسألة التي طغت على كل ما سواها، وهي استنهاض همة محمد علي لإنفاذ جيشه لقتال الوهابيين بالحجاز، فركدت مسألة الإسكندرية، واستتب سلطان محمد علي بها، وظلت من ذلك الحين هي وسائر الثغور والشواطئ المصرية جزءًا لا يتجزأ من باشوية مصر، فكان دخول الإسكندرية — خصوصًا في نطاق هذه الولاية — الخطوة الأولى التي خطاها الباشا في سبيل استكمال سلطان باشويته.

وكان من بين الإجراءات التي لجأ إليها محمد علي من أجل توطيد سلطانه في هذه الباشوية، أنه عين أهله وأقاربه في مناصب الجيش والإدارة الهامة، من ذلك رفعه إلى مرتبة الباشوية ابنه طوسون بك الذي عهد إليه بقيادة الحملة المعدة للحجاز، ثم ابنه إبراهيم بك الذي جعله دفتردارًا. وقال «دروفتي» في ٩ أبريل ١٨٠٩، وهو يذكر هذه الإجراءات التي اتخذ منها دليلًا على أن الباشا إنما يعتمد على القوة في قدرته على البقاء في حكومة مصر، والتي يبغي منها تأكيد وضمان سيادته في مصر، «إنه إذا استثنينا بعض الجند من الأرنئود وقلة من العثمنلي من تركية آسيا الذين هم اليوم أقل كلفة له، وأقل ولاء للباشا كذلك، فإن سائر الجيش يتولى قيادته ضباط من أهله أو أصدقاء الباشا المحالفين له.»

وقد رفع محمد علي ولديه طوسون وإبراهيم إلى الباشوية في شهر أبريل ١٨٠٩، وخصص لهما منازل لإقامتهما، وجعل لكل منهما حاشية كبيرة، وأحاطهما بالحراس والضباط، وقد أضفى عليهما محمد علي هذه الرتبة الرفيعة، كإنعام من خصائص السلطة التي يتمتع بها، يمنحه الباشا لمن يشاء، ودون الرجوع في ذلك إلى رأي الباب العالي، وقد فسر المعاصرون مقصد محمد علي من ذلك بأنه الرغبة في تعويد أهل مصر على مشاهدة أعضاء أسرته يمارسون السلطة الفعلية في البلاد، وإقناعهم بأن الباشا قد صمَّم على البقاء في حكم هذا القطر، فلا يتوقعون حدوث تبديل أو تغيير، ويرسخ في أذهانهم أن حكومة الباشا باقية، وتصبح هذه الحقيقة أمرًا مسلمًا لديهم.

وكان لهذه الغاية ذاتها؛ ولأن الباشا قد قرَّر فعلًا البقاء في باشويته، مهما كانت الظروف والأحوال، إلا إذا أرغمته قوة خارقة على التخلي عنها، أن بعث محمد علي يدعو سائر أفراد أسرته، زوجه الأولى وبصحبتها بنتيها وولده الثالث إسماعيل، أخو طوسون وإبراهيم، فما إن وصلوا من قولة إلى الإسكندرية، حتى ذهب إبراهيم بك لاستقبالهم في ٢٦ مايو ١٨٠٩. وفي ٢٨ مايو عاد إبراهيم إلى القاهرة، واتُّخذت الاستعدادات لملاقاة الأسرة في بولاق يوم ٣١ مايو، «فنبهوا على جميع النساء والخوندات، وكل من كان لها اسم في الالتزام، أن يركبن بأسرهن ويذهبن إلى ملاقاة امرأة الباشا ببولاق، وذلك صبح اليوم المذكور، واعتذرت الست نفيسة المرادية بأنها مريضة، ولا تقدر على الحركة والخروج فلم يقبلوا لها عذرًا.» ويصف الشيخ الجبرتي هذا الاستقبال فيقول: «فلما كان صبح يوم ٣١ مايو اجتمع السواد الأعظم من النساء بساحل بولاق على الحَمَّارة المُكَارية، وهم أزيد من خمسمائة مُكَارٍ، حتى ركبت زوجة الباشا، وساروا معها إلى الأزبكية، وضربوا لوصولها وحولها بمصر عدة مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية، ثم وصلت الهدايا والتقادم، وأقبلت من كل ناحية الهدايا المختصة بالأولاد والمختصة بالنساء.»

وكان من بين الواصلين من قولة، ابن بونابرتة الخازندار، وكثير من أقارب وأهالي الرؤساء الأرنئود، من بطانة الباشا، وقد نجح الباشا — ولا شك — فيما قصد إليه من حضور كل هؤلاء، وهو المقصد الذي ذكره المعاصرون — على نحو ما أسلفنا — فكتب الشيخ الجبرتي معلقًا على ذلك بقوله: «فإنهم لما طابت لهم مصر واستوطنوها وسكنوها ونعموا فيها أرسلوا إلى أهاليهم وأولادهم وأقاربهم بالحضور، فكانوا في كل وقت يأتون أفواجًا أفواجًا نساء ورجالًا وأطفالًا.» وهكذا كان من الواضح أنه صار راسخًا في أذهان أهل البلاد أن حكومة الباشا قد توطدت دعائمها، مع ما يستتبع ذلك من تعود المصريين رويدًا رويدًا على تلقي التوجيه من هذه الحكومة صاحبة السلطان في البلاد، وعدم الانسياق وراء نصح وتوجيهات هيئات أو أفراد آخرين تعودوا في الماضي القريب على قبول النصح منهم كالمشايخ والعلماء، أو عدم التردد في نبذ أوامر الباب العالي نفسه، التي تعودوا على احترامها، وذلك إذا جاءت هذه مناقضة لصالح الباشا.

وفي واقع الأمر، كان محمد علي في هذه الأثناء، قد قطع شوطًا كبيرًا في سبيل دعم أركان ولايته، حتى إنه صار لا يخشى بأسًا من علاقاته مع الباب العالي بالصورة التي تتفق مع مصالح باشويته فحسب، فمضى في تصدير الغلال إلى مالطة والتعامل مع الإنجليز، بالرغم من أوامر الباب العالي الذي أراد منع إعطاء الغلال للدول الأجنبية، وكانت المسألة الوحيدة التي أذعن فيها الباشا لإرادة الديوان العثماني، هي السهر على تحصين الثغور والاستعداد لدفع الغزو الأجنبي عن البلاد إذا وقع، وقد اتفق النشاط في هذه الناحية مع مصلحة الباشا نفسه، وقد سبق الحديث عن جهود محمد علي في تحصين الإسكندرية ورشيد بصورة جدية، منذ أن وصله عن طريق الإنجليز، في الظروف التي ذكرناها، في أوائل عام ١٨٠٨، الخبر بخروج عمارة الفرنسيس إلى البحر بسيسيلية، وربما استولوا عليها، وكذلك مالطة، فكان في أواخر يناير من هذا العام أن جمع رجال الباشا عدة كثيرة من البنائين والنجارين وأرباب الأشغال لعمارة أسوار وقلاع الإسكندرية وأبي قير والسواحل. ثم حدث في ديسمبر من العام التالي أن وصلت أخبار بأن عمارة الفرنساوية نزلت إلى البحر وعدة مراكبهم مائتان وسبعة عشر مركبًا محاربين، ولا يُعلم مقصدهم أي جهة من الجهات، وحضر ثلاثة أشخاص من الططر المعدين لتوصيل الأخبار، وبيدهم مرسوم مضمونه الأمر (من الدولة العثمانية) بالتحفظ على الثغور، فعند ذلك أمر الباشا بالاستعداد وخروج العساكر. وفي منتصف ديسمبر ١٨٠٩ سافر جملة من العساكر إلى ناحية بحري، فسافر كبير منهم ومعه جملة من العسكر إلى الإسكندرية، وكذلك سافر خلافه إلى رشيد وإلى دمياط وأبي قير والبرلس.

ثم تزايد إلحاح الباب العالي في طلب الغلال من مصر، وظهر تكدره من مراوغة الباشا له الذي لم يشأ — كما أسلفنا — أن يبعث إلى القسطنطينية بما يسد حاجتها من الغلال، ويكف عن تصدير غلاله إلى الإنجليز، فوصل القاهرة، قابجي في فبراير ١٨١٠ وعلى يده مراسيم بطلب ذخيرة وغلال، ووردت الأخبار في الشهر نفسه من الديار الرومية بغلبة الموسكوب واستيلائهم على ممالك كثيرة، وأنه واقع بإسلامبول شدة وحصر وغلاء في الأسعار وتخوف، ولم يرَ الباشا مناصًا من تجهيز بعض شحنات الغلال لإرسالها إلى القسطنطينية، ولكنه لما كان يرى في إمداد الدولة بالغلال تعويقًا لمشاريعه التجارية، ويتوقع تكدر العلاقات بينه وبينها لعدم استجابته لكل مطالبها، فقد تحدَّث إلى «دروفتي» عن مشروع استقلاله (في نوفمبر من العام نفسه)، وذكر أنه ليس على علاقات طيبة جدًّا مع الباب العالي، غير أن مباحثاته مع «دروفتي» لم تسفر — كما عرفنا — عن النتيجة التي ينشدها، فضلًا عن أن مفاوضاته مع الوكلاء الإنجليز بصدد استقلاله قد باءت هي الأخرى بالفشل. وعلى ذلك، فلم يكن هناك معدًى عن أن يحاول الباشا التقرب من الباب العالي، وتحسين صلاته به، لعله يظفر منه بمأربه.

ولقد اعترضت جهوده مع الديوان العثماني، من أجل الفوز برضاء الباب العالي، في هذه المرحلة — عدا تصدير الغلال إلى الأجانب، وعدم الثقة الكامنة لدى الفريقين نحو بعضهما بعضًا — طائفة من الصعوبات التي كان مبعثها المباشر إصرار الباب العالي من ناحية على إنفاذ جيش من مصر لقتال الوهابيين، ثم طرد يوسف كنج باشا دمشق من ولايته، ولجوؤه إلى محمد علي من ناحية أخرى، ومحاولة هذا الأخير إبعاد سليمان باشا الكرجي والي عكا وصيدا من حكومة دمشق التي دانت له بعد خروج يوسف كنج منها، ومع أن محمد علي ظل ممتنعًا عن الخروج إلى الحجاز مدة طويلة، وظل الباب العالي من جهته ممتنعًا عن إعادة يوسف كنج إلى ولايته، فقد انفرجت الأزمة رويدًا رويدًا بين الباشا والباب العالي، عندما وعد السلطان آخر الأمر بإعطاء الحكم الوراثي لمحمد علي في مصر، ولو أنه جعل تنفيذ هذا الوعد مشروطًا بنجاح محمد علي في إخماد حركة الوهابيين، وقرر الباشا إنفاذ الحملة إلى الحجاز، بعد أن كان قد فرغ من دعم أركان باشويته وقضى على البكوات المماليك، وهم أشد خصومه مناوأة لسلطان باشويته، في مذبحة القلعة، ثم تبين له أن في وسعه أن يجني من حملته في بلاد العرب فوائد عدة تزيد من توطيد سلطانه في باشويته.

(٩) مسألة الحرب الوهابية

فقد لقيت دعوة محمد بن عبد الوهاب تأييدًا كبيرًا منذ أن تعهد محمد بن سعود أمير الدرعية في عام ١٧٤٤ بنشر الدعوة في البلاد العربية، وبايعه الشيخ على أن يكون إمامًا يتبعه المسلمون، وصار عبد العزيز بن محمد بن سعود يغزو في الجزيرة (شمالها وغربها وشرقها وجنوبها) ففتح الرياض، ثم القصيم (١٧٧٣–١٧٧٥)، وغزا الأحساء، وسار ابنه سعود في طريقه، وتوفي محمد بن عبد الوهاب سنة ١٧٩٢، وقت أن كانت جيوش الشريف غالب بن مساعد، شريف مكة، زاحفة من الحجاز لمحاربة أهل نجد دون طائل. وفي سنة ١٨٠٠ دخل سعود كربلاء، وانهزمت جيوش الدولة التي بعث بها سليمان باشا والي العراق إلى الأحساء لمحاربة أهل نجد فيها، ولكنه حدث بعد سقوط كربلاء — مقر الشيعة المعروف — أن اغتال رجل شيعي الإمامَ عبد العزيز في الدرعية في السنة نفسها، وكان عبد العزيز قد عين قبل وفاته بخمس عشرة سنة ابنه سعودًا خلفًا له. وفي عام ١٨٠٣ دخل سعود مكة، بعد أن جلا عنها الشريف غالب إلى جدة. وبعد عامين استولى الوهابيون على المدينة، ثم اتجهت أنظارهم إلى الشمال، فوصلوا إلى حوران والكرك، ووقفوا منتصرين على أبواب الشام وفلسطين، وأوقعوا الهزيمة بجند الدولة الذين خرج بهم والي الشام عبد الله العظم للحج في عام ١٨٠٥، ووجدت الدولة العثمانية — وقد انكسرت جيوش ولاتها في العراق والشام — أن تطلب من محمد علي أن يتولى بنفسه إنقاذ الحرمين الشريفين ودحر الوهابيين.

وكانت الدولة، منذ أن بلغها عزم عبد العزيز بن سعود على مهاجمة الحرمين الشريفين، قد بعثت منذ منتصف ديسمبر ١٨٠٢ تطلب إلى خسرو باشا والي مصر وقتئذٍ «والي دفترداره» خليل رجائي أفندي، إرسال نجدة من مائة وخمسة وعشرين ألف قرش إلى والي جدة، ومثلها إلى أحمد باشا متصرف «إبج إيل» Itch Il الذي رُقي وزيرًا وعُين حاكمًا عسكريًّا للمدينة المنورة، على أن يذهب خسرو باشا من فوره إلى جدة ومعه عدة وافرة من الجند والمدافع والذخيرة، وعلى أن يذهب أحمد باشا الموجود وقتذاك بدمياط إلى المدينة وبصحبته عدد من الجند، ولكن هذا الأمر لم يُنفذ بالنسبة لخسرو باشا أصلًا، بسبب الحوادث التي مرَّت بنا والتي انتهت بطرده من الولاية، ثم تأخر ذهاب أحمد باشا نفسه إلى الحجاز حتى أُرغم هو الآخر على مبارحة القاهرة في يونيو ١٨٠٣.

واستمرت الدولة تطلب إنفاذ النجدات من الرجال والمؤن والذخائر، من مصر إلى الحجاز، فوصل الططر بفرمان من الباب العالي باسم علي باشا الجزائرلي والبكوات المماليك، بتشهيل أربعة آلاف عسكري وسفرهم إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، وإرسال ثلاثين ألف إردب غلال إلى الحرمين، فقال الشيخ الجبرتي في حوادث ٧ فبراير ١٨٠٤، «إنهم عملوا ديوانًا وقرءوا هذا الفرمان، وكان أيضًا مما جاء فيه، أنهم؛ أي الدولة، قد وجهوا أربع باشات من جهة بغداد بعساكر، وكذلك أحمد باشا الجزار أرسلوا له فرمانًا بالاستعداد والتوجه لذلك، فإن ذلك من أعظم ما تتوجه إليه الهمم الإسلامية، وأمثال ذلك من الكلام والترقق، وفيه بعض القول بالحسب والمروءة بتنجيز المطلوب من الغلال، وإن لم تكن متيسرة عندكم، تبذلوا الهمة في تحصيلها من النواحي والجهات بأثمانها على طرف الميري بالسعر الواقع. ولكن علي باشا الجزائرلي كان قد قبل ذلك بأيام معدودة، وانشغلت حكومة القاهرة الثلاثية (البرديسي، إبراهيم، محمد علي) بمطاردة الألفي عقب وصوله من إنجلترة، ثم حدث انقلاب ١٢، ١٣ مارس ١٨٠٤ الذي أخرج البكوات من حكومة القاهرة، وتنصيب أحمد خورشيد باشا. وقد قُرئ فرمان في ٤ يوليو من العام نفسه يطلب تشهيل لوازم الحج والحرمين من الصرة والغلال. وفي ٢٧ يوليو وصل مندوب من قبل الباب العالي يحمل أوامر تقضي بإخراج خمسمائة من العسكر إلى ينبع البحر يقيمون بها محافظين لها من الوهابيين، ويدفع لهم جامكية سنة كاملة وذخيرتها وما يحتاجون إليه من مؤنة وغلال وجبخانة. وقد تبيَّن من قراءة هذه الأوامر أنه قد تعين أبو مرق باشا بعساكر الشام إلى الحجاز، فأحضر أحمد خورشيد كبار العسكر وعرض عليهم ذلك الأمر، وقال لهم إنه ورد لي إذن عام في تقليد من أقلده، فمن أحب منكم قلدته أمرية طوخ أو طوخين، فامتنعوا من ذلك، وقالوا نحن لا نخرج من مصر، ولا نتقلد منصبًا خارجًا عنه.» وكانت كل القوة التي غادرت البلاد إلى ينبع البحر لا تزيد على مائة عسكري لا غير ذهب بها في ٢٠ أغسطس من العادلية خارج القاهرة علي باشا الوالي المسافر إلى ينبع البحر، قاصدًا إلى السويس في طريقه إلى الحجاز. وفي ١٧ نوفمبر وصل قاصد من الديار الرومية؛ أي من الدولة وعلى يده فرمان عن مراسلة للباشا (أحمد خورشيد) بإرسال باشة الينبع لمحافظتها من الوهابيين وأنه أعطاه ذخيرة شهرين، بأن يرسل إليه ما يحتاجه من الذخيرة لأجل حفظ الحرمين.

ولكن خورشيد لم يستطع إرسال أية نجدات أخرى لجيش الدولة بالحجاز، مع ضآلة النجدات الأخيرة التي بعث بها إليه، وذلك لانشغاله بالنضال مع محمد علي، ذلك النضال الذي انتهى بالمناداة بولاية هذا الأخير، كما هو معروف في مايو ١٨٠٥، وقد جاء في المكاتبة التي حملها سلحدار القبطان باشا إلى محمد علي بإبقائه في القائممقامية أن يقلد من قِبله باشا على عسكر يعين إرساله إلى البلاد الحجازية ويسهل له جميع احتياجاته من الجبخانة وسائر الاحتياجات واللوازم، واستعد طاهر باشا المتعين للذهاب إلى بلاد الحجاز وبرز بعساكره إلى خارج باب النصر في نوفمبر، ولكن هؤلاء الجند شُغلوا بمطاردة جماعة الألفية وعربان أولاد علي، في ديسمبر، وبطل أمر السفرة المذكورة، وشُغل محمد علي بنضاله مع البكوات، وكان كل ما فعله أن أخرج المحمل والكسوة وعين للسفر بهما من القلزم مصطفى جاويش العنتبلي ومعه صراف الصرة، وقد ارتحلت القافلة فعلًا من القاهرة في ٧ فبراير ١٨٠٦ قاصدة إلى السويس.

وتعذَّر بسبب أزمة النقل المعروفة إلى سالونيك، والنضال مع محمد بك الألفي من ناحية، وبكوات الصعيد من ناحية أخرى، إرسال النجدات إلى الحجاز، بالرغم من أن المرسوم الذي كان قد أتى به كتخدا القبطان صالح باشا لتقرير الولاية لمحمد علي في سبتمبر ١٨٠٦، قد نص في نظير تثبيته في الولاية، على قيامه بالشروط التي منها طلوع الحج ولوازم الحرمين، وإيصال العلائق والغلال لأربابها (في الحجاز) على النسق القديم. ثم حضر في نوفمبر من العام نفسه قابجي يحمل فرمانين: أحدهما يتضمن تقرير الباشا على ولاية مصر، والثاني يتضمن الأوامر بإجراء لوازم الحرمين وطلوع الحج وإرسال غلال الحرمين … وتشهيل غلال وقدرها ستة آلاف إردب وتسفيرها على طريق الشام؛ معونة للعساكر المتوجهين إلى الحجاز.

ولكنه لم تمضِ شهور قليلة حتى كانت حملة «فريزر» قد جاءت إلى مصر واستولت على الإسكندرية، ونشب من ثم ذلك النضال الذي تتبعنا أدواره من نزول الإنجليز في الأراضي المصرية في مارس ١٨٠٧ إلى وقت جلائهم عن الإسكندرية في سبتمبر من العام نفسه، وكان في أثناء ذلك أن وصلت في ١٤ يونيو «القافلة والحجاج من ناحية القلزم على مرسى السويس، وحضر فيها أغوات الحرم والقاضي الذي توجَّه لقضاء المدينة، وهو المعروف بسعيد بك، وكذلك خدم الحرم المكي، وقد طردهم الوهابي جميعًا، وأما القاضي المنفصل فنزل في مركب ولم يظهر خبره، وقاضي مكة توجَّه بصحبة الشاميين، وأخيرًا المواصلون، أنهم مُنعوا من زيارة المدينة، وأن الوهابي أخذ كل ما كان في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر، وحضر أيضًا الذي كان أميرًا على ركب الحجاج، وصحبته مكاتبة من مسعود الوهابي (والمقصود هنا سعود بن عبد العزيز) ومكتوب من شريف مكة غالب، وأخبروا أنه أمر بحرق المحمل.» وشكا حاكم قلعة المدينة، الحاج مصطفى، من انقطاع ورود الحبوب التي كانت ترسلها مصر سنويًّا إلى الحرمين الشريفين، منذ عام تقريبًا، مع شدة الحاجة إليها بسبب البؤس والضنك المنتشرين بهذه الجهات، وبعث الباب العالي حوالي منتصف سبتمبر ١٨٠٧ يطلب من محمد علي إرسال كميات وافية من الحبوب إلى المدينة المنورة بكل سرعة، وعندما صدر في نوفمبر من العام نفسه فرمان تقرير محمد علي باشا على ولاية مصر (للسنة القابلة؛ حيث جرت العادة بتقرير الولاية سنويًّا)، ذكر الباب العالي أن محمد علي قد استحق هذا التقرير في وظائفه تقديرًا لمواهبه، ولجهوده في أخذ الإسكندرية من الإنجليز، وقال إن من بين واجبات وظائفه هذه ما يتعلق بمسألة الحرمين الشريفين، وقد وصل القاهرة في ٢٤ ديسمبر ١٨٠٧، القابجي بيانجي بك يحمل فرمان التقرير هذا وغيره من المراسيم، وكان من بين هذه مرسوم بالتأكيد في التشهيل والسفر لمحاربة الوهابيين بالحجاز واستخلاص الحرمين.

وقد بقي بيانجي في مصر قرابة شهرين يستحث الباشا على إنفاذ جيشه إلى الحجاز، وقال الشيخ الجبرتي: إن هذا القابجي «كان حضر بالأوامر بخروج العساكر للبلاد الحجازية، وخلاص البلاد من أيدي الوهابية، وفي مراسيمه التي حضر بها التأكيد والحث على ذلك، فلم يزل الباشا يخادعه ويعده بإنفاذ الأوامر، ويعرفه أن هذا الأمر لا يتم بالعجلة، ويحتاج إلى استعداد كبير وإنشاء مراكب في القلزم، وغير ذلك من الاستعدادات.» ويستطرد الشيخ، فيذكر الوسيلة التي لجأ إليها محمد علي لإظهار الصعوبات التي تعترض تنفيذ الأوامر التي جاءته فورًا ودون إمهال، وأهم هذه الصعوبات ما تتكلفه الحملة المزمعة من نفقات طائلة مع خلو خزانته من المال، «فعمل الباشا ديوانًا جمع فيه الدفتردار والمعلم غالي والسيد عمر والمشايخ، وقال لهم: لا يخفاكم أن الحرمين استولى عليهما الوهابيون، ومشوا أحكامهم بهما، وقد وردت علينا الأوامر السلطانية المرة بعد المرة للخروج إليهم ومحاربتهم، وجلائهم وطردهم عن الحرمين الشريفين، ولا تخفى عنكم الحوادث والوقائع التي كانت سببًا في التأخير عن المبادرة في امتثال الأوامر، والآن حصل الهدوء، وحضر قابجي باشا بالتأكيد والحث على خروج العساكر وسفرهم، وقد حسبنا المصاريف اللازمة في هذا الوقت، فبلغت أربعة وعشرين ألف كيس، فأعملوا رأيكم في تحصيلها. فحصل ارتباك واضطراب، وشاع ذلك في الناس، وزاد بهم الوسواس، ثم اتفقوا على كتابة عرضحال ليصحبه ذلك القابجي معه بصورة نمقوها»، فغادر بيانجي القاهرة في ٢٨ فبراير ١٨٠٨، للعودة إلى القسطنطينية، وخرج الباشا لوداعه.

ووجه الأهمية في هذا الحادث، أنه يحدد بداية مرحلة جديدة في العلاقات بين الباشا والباب العالي بشأن الحرب الوهابية، فقد درج الباب العالي منذ أن وصل محمد علي إلى الولاية، على مطالبة الباشا بإرسال الغلال التي جرت العادة بإرسالها سنويًّا إلى الحرمين الشريفين، وإنفاذ النجدات من الذخائر والجبخانة والعسكر إلى الحجاز، وقد شاهدنا كيف أن الباشا لم يرسل جندًا إلى الحجاز، وكيف شكا حاكم المدينة المنورة من عدم ورود أية حبوب من مصر، منذ عام ١٨٠٦، وقد كان المسوِّغ لعدم تلبية أوامر الباب العالي، انشغال الباشا بنضاله ضد البكوات المماليك، وحربه مع الإنجليز، ثم عدم تكليف الباشا رسميًّا، كأحد الباشوات الذين عينهم الباب العالي لقيادة الحملات الموجهة ضد الوهابيين، بالخروج بجيش مستقل وبوصفه باشا مصر، للاشتراك مع زملائه في هذه الحملات.

ولكنه سرعان ما صار للمسألة وجه جديد، عندما فوَّض الباب العالي محمد علي رسميًّا بتصفية الحرمين الشريفين، وحضر القابجي باشا، يطلب إليه إنفاذ العسكر إلى الحجاز، وصار لزامًا على الباشا امتثال أمر السلطان والخروج فورًا لقتال الوهابيين، وانتحال المعاذير المبررة لتباطؤه في تنفيذ هذه الأوامر الصريحة والمحددة. ولما كان الباشا لا يريد الدخول في حرب، ميدانها بعيدة، ونفقاتها جسيمة، وهو لما يفرغ بعد من دعم أركان باشويته، والقضاء على خصومه الداخليين — البكوات المماليك — وتطويع الجيش الذي كان لا يزال يتخذ من المطالبة بمرتباته المتأخرة ذريعة للتمرد والعصيان، ولا تزال إلى جانب هذا كله حاجته إلى المال شديدة، ولما كان في حاجة كذلك إلى السفن لنقل جيشه إلى بلاد العرب، وذلك في الوقت الذي عظم فيه نشاطه التجاري وأراد السفن لنقل غلاله المصدرة إلى الخارج، فقد آثر الباشا عدم الدخول وقتئذٍ في هذه المغامرة، التي باء فيها بالفشل غيره من الولاة في العراق والشام، زد على ذلك، أنه كان غير مطمئن لنوايا الباب العالي من جهته، ولا يزال ماثلًا في الأذهان حادث محاولة نقله إلى سالونيك، بينما هو يريد تأمينًا لباشويته، أن يرقى بها إلى مصاف وجاقات الغرب، على أساس الحكم الوراثي في أسرته، فلا يظل تجديد ولايته، وتقريره بها سنويًّا، مرهونًا برضاء الباب العالي عليه، وخاضعًا لنزوات الديوان العثماني وتقلبات الأهواء السياسية، أو مطالبها من وجهة النظر العثمانية.

وحيث إن الباب العالي قد فوض إليه الآن إنهاء مسألة الحرمين الشريفين، وصار ينتظر صدوع الباشا بالأوامر الصادرة إليه من صاحب السيادة الشرعية عليه، فقد وجب على محمد علي أن يوضح للباب العالي الأسباب التي تحول دون صدوعه بهذه الأوامر فورًا ومن غير إبطاء، ولكن الباب العالي — كما سيتضح — لم يقتنع بالحجج والدعاوى التي قدمها محمد علي، ثم تزايدت خطورة الموقف في الحجاز، وتزايد تبعًا لذلك، إلحاح الديوان العثماني على محمد علي بضرورة الخروج لحرب الوهابيين، فكثر الأخذ والرد بين الجانبين، وتُبودلت الرسائل الكثيرة بينهما، وانقضت سنوات أربع، منذ سبتمبر ١٨٠٧، قبل خروج جيش طوسون باشا بن محمد علي إلى الحجاز في سبتمبر ١٨١١، وتكشف هذه المراسلات عن حقيقة الأعذار التي انتحلها محمد علي لإرجاء إنفاذ الحملة ضد الوهابيين، ثم إنه لم يلبث أن طرأ في أثناء ذلك على العلاقات بينه وبين الباب العالي ما كدرها بسبب حادثة يوسف كنج (أو جنج) وسليمان باشا التي ألمعنا إليها، حتى إنه بدا في وقت من الأوقات أن الأمور قد تأزمت بينهما بدرجة لا أمل في تسويتها، لولا حاجة الباب العالي إلى جيش محمد علي من جهة، ثم ما أظهره محمد علي نفسه من حنكة سياسية، من جهة أخرى، مكنته من اجتياز الأزمة، ثم الظفر علاوة على ذلك، بذلك الوعد الذي أشرنا إليه، تقرر الحكم الوراثي في مصر إذا انتصر جيش الباشا في الحجاز.

وقد بدأ الباشا مراسلاته مع الباب العالي، يوضح الأسباب التي تحول دون إنفاذ عسكره فورًا إلى الحجاز في فبراير ١٨٠٨، فكتب إلى الآستانة يقول: إنه وإن كانت قد أُحيلت إلى عبدكم تصفية الحرمين الشريفين، وتطهيرهما من الخارجي بموجب الخط الهمايوني، التي هي بالشوكة مقرونة فسمعًا وطاعة، وليس لي جواب غير مؤدى سمعنا، ومن الجلي أن عبدكم عبد الدولة العلية ومملوكها، ولكن هناك أسباب تدعو إلى إعمال الروية والتريث، منها: أن واقعة الحرمين هذه ليست من المسائل التي يمكن إنجازها بالاعتماد على جهده هو وحده، بل هي مادة جسيمة تتطلب إمداد السلطان ملاذ العالم، بإرسال عشرة آلاف كيس نقدًا وعدًّا، غير المهمات وما إليها، وهذا مما يعجز محمد علي عن فعله؛ لأنه — كما قال — مثقل بالديون الكثيرة، سواء كان مبعثها بقاء بعض الأراضي في مصر دون ري — بسبب انخفاض الفيضان في هذا العام، وقلة الإيراد المتحصل تبعًا لذلك — أم النفقات التي تطلَّبها فتح الإسكندرية وإجلاء الإنجليز عنها، أم المبالغ الكثيرة التي تعهد محمد علي بدفعها سدادًا للديون التي بقيت على سلفه أحمد خورشيد باشا وقت عزله من الولاية، أضف إلى هذا، أنه لم يصل الباشا بارة واحدة من إيرادات الصعيد؛ لأن هذا الإقليم بيد البكوات المماليك.

ثم إن هناك سببًا آخر هامًّا يدعوه إلى عدم إخلاء مصر من الجند، بإرسال الجيش المطلوب إلى الحجاز، هو أنه قد ترتَّب على الحرب القائمة بين الدولة وأعدائها، أن صارت مصر مطمح أنظار جميع الدول المسيحية؛ ولذلك فأقرب الاحتمالات وأجدرها بالملاحظة، إنما هو احتمال أن يتسلط أعداء الدين على السواحل المصرية، فيما إذا صار إرسال العسكر الموجودين بمعية عبدكم محمد علي إلى الحجاز، ثم وعد الباشا بإنجاز استعداداته على وجه السرعة، وسداد ديونه، حتى يتسنى له القيام بالمهمة المكلف بها في السنة القادمة، وقال: إنه يعمل الآن لتجهيز ثلاثة أو أربعة آلاف جندي من المشاة لهذه الغاية، يعتزم إرسالهم إلى جدة بحرًا بطريق السويس، مزودين بالذخائر والمهمات وكامل العدة والأدوات، وإن كان هو شخصيًّا لا يستطيع السفر لمجرد تلك المحاذير التي سردها في رسالته هذه.

ولم تلقَ هذه المعاذير قبولًا لدى الباب العالي، فأوفد إلى مصر عبد الكريم آغا، من أغوات القصر السلطاني ومعه خطوط شريفة، وعطايا ملوكية، يستحث محمد علي على إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ويبين للباشا مدى حاجة الباب العالي إلى سند مفيد يأخذ على عاتقه تصفية مسألة الحرمين الشريفين، التي فوض محمد علي باستخلاصها من يد الوهابي، ولإبلاغه تعهد السلطان بإجابة كل ما يسأله محمد علي في هذا الشأن. فبادر الباشا بالكتابة إلى القسطنطينية في ١٠ مارس ١٨٠٨، يُظهِر خضوعه وولاءه للسلطان العثماني، ويعتذر في الوقت نفسه عن عجزه عن تلبية رغبته.

وكان من المعاذير التي انتحلها الباشا في هذه المرة، أنه وإن كان قد نجح في جعل نصف طائفة المماليك يدخلون في ذلك حذو الجماعة الأولى، فالواجب يقتضيه متابعة السعي في دفع غوائلهم وشرورهم بالقوة القريبة من الحكمة والتعقل؛ حتى ينبسط ظل الدولة على إقليم الصعيد، ثم إنه لم يستطع حتى الآن سداد ديونه.

ثم استند محمد علي في عبث محاولة القضاء على الوهابيين، بالاعتماد على جيشه هو فحسب، إلى أن هؤلاء قد استولوا على الحجاز من عشرين سنة خلت، وتزايد استقرارهم به سنة بعد أخرى، وتسنى لهم ضبط شئونه ودعم سلطانهم به، حتى صار لا يكفي لدفع هذا الشر والأذى، أن يزحف محمد علي بجيشه من مصر فحسب، إلى مكة والمدينة، بل تحتم أن تخرج كذلك الجيوش من الشام وعكا وبغداد، فإذا أمكن تدبير زحف من مصر ومن هذه الجهات، في وقت واحد على مكة والمدينة، وقام الجميع بحملة واحدة، يتخابر رؤساء هذه الجيوش مع بعضهم بعضًا، لأمكن تنظيم المصلحة بصورة تكفل إنجازها بسهولة وتحقيق الثمرة المرجوة منها، وقد وصل محمد علي إلى هذا الرأي بعد إمعان النظر، وفي يقينه أن الأخذ به لا يُفضي إلى هلاك الخارجي المذكور وإزالة كل أثر له من مكة والمدينة فحسب، بل واقتلاع جذوره كذلك من موطنه الأصلي.

على أن الباشا الذي كان لا يرى من صالحه إنفاذ جيشه إلى الحجاز وقتئذٍ، وخشي أن يأخذ الباب العالي برأيه هذا الذي ذكره، لم يلبث أن استدرك، معتذرًا عن عدم إمكانه إرسال جنده، بأنه طالما بقيت الحرب دائرة الرحى بين الباب العالي والدول ولم ينعقد الصلح، فإن مصر سوف تظل موضع أطماع هذه الدول الأجنبية، ولا يكفي ما لدى محمد علي من الجند للذود عن مصر وللزحف بجيش عظيم على الحجاز معًا وفي آن واحد.

وعلى ذلك، فقد اقترح محمد علي على الباب العالي حلًّا لهذه المشكلة كان من الواضح أن هذا الأخير يعجز عن اتخاذ أية خطوة بصددها، هو أن يتفضل الباب العالي بإصدار أمر عالٍ يؤمن به الباشا على أن الدول الأجنبية لن تتسلط في هذا الباب؛ أي لا تغير على مصر، حتى إذا صدر هذا التعهد من جانب الديوان العثماني اطمأن بال محمد علي.

ولم يشأ محمد علي، حتى إذا تمكن الباب العالي من إجابة هذه الرغبة، إلا أن يعجل تلبيته لأوامر الديوان العثماني مشروطة بشروط، أهمها: أن يمده الباب العالي نفسه بما يحتاج هو إليه لإنجاز استعداداته، وانعقاد الصلح بين تركيا والدول، ثم قال: «إنه من الجلي الواضح أن سبب تأخره عن الخروج إلى الحجاز، ليس سوى تلك الديون التي استدانها من أجل تحصين الإسكندرية، منعًا لتسلط الدول المسيحية على قلعة هي بمثابة المفتاح لإقليم الحرمين الشريفين، فإذا انعقد الصلح، وبعث الباب العالي إليه بالأشياء التي هو في حاجة إليها لإعداد الحملة المطلوبة، فإنه سوف يزحف على الحجاز في السنة القابلة بنفسه وعلى رأس جيشه، ويبذل قصارى جهده، بل ويجاهد جهاد المستميت قولًا وفعلًا، وقلبًا وقالبًا، من أجل القضاء على العدو وإفنائه بعون الله تعالى.»

وقد أرفق محمد علي برسالته هذه قائمة بالأشياء التي يريدها من الباب العالي، ومن هذه أقمشة من الجوخ، لارتفاع ثمنها في مصر، بل وانعدام وجودها تقريبًا، بسبب الحرب القائمة، مع أنه في حاجة إلى أقمشة منها تكفي للباس عشرة آلاف جندي، نصفهم من الفرسان، علاوة على النفقات الأخرى التي يقتضيها تجهيز هؤلاء إلى جانب ما يربو على الثلاثين ألف شخص من الموظفين، والسياس والحمالين والطباخين والسعاة، أضف إلى هذا نفقات ستة آلاف جمل لنقل المؤن والأغذية والعتاد، ثم إن الباشا طالب بأثمان ٢٠٠٠٠٠ إردب من الغلال لغذاء الجند مدة ستة شهور، و٤٠٠٠٠٠ إردب لسنة كاملة، عدا نفقات الهجن والإبل التي تحمل هذه إلى ميناءي القصير والسويس، ونفقات الشحن كذلك إلى ينبع وجدة، علاوة على المال اللازم لشراء الهدايا وإعطاء المنح والعطايا لأغوات الداخل والخارج وسائر رجال الحكومة، ولصرف علوفات العسكر ومعيناتهم على حساب مائة وخمسين ألف خرج، ثم ما يلزم من مال لعمارة خمس قلاع لوضع الذخائر بها، والمراد إرسالها من مصر إلى الحجاز، ثم الصرر والعطايا التي جرت العادة على إعطائها لطوائف العربان، وذلك إلى جانب ما يتطلبه البذل لهم لاستمالتهم وكسب صداقتهم. وقد قدَّر محمد علي المبالغ اللازمة، والتي طلبها من الباب العالي في هذه القائمة مبلغ يتراوح بين خمسة وثلاثين ألف كيس نقدًا وأربعين ألفًا، ولا شك في أنها — كما قال — سوف تنفق لصالح الدين والدولة، ويؤدي إنفاقها إلى نجاح هذه المصلحة الخيرية، ولم يَفُت الباشا أن يذكر في ذيل هذه القائمة أن الأقاليم المصرية قد بقيت شَراقي بسبب قلة الماء في هذه السنة المباركة.

وحتى يجيب الباب العالي هذه المطالب التي تنحصر في أمرين هامين، من وجهة نظر محمد علي: تكليف ولاة العراق والشام وصيدا أو عكا بإنفاذ جيوشهم في وقت واحد مع الجيش الخارج من مصر لقتال الوهابيين، ثم إرسال الإمدادات من المال والمهمات إلى محمد علي، حسب القائمة السالفة الذكر؛ حرص محمد علي على التمسك بالغيرة والحماس لمشروع الحرب الوهابية، ولو أنه راح يردد نفس المعاذير التي ذكرها سابقًا، والتي أخرت خروجه إلى الحجاز، ويشير على الديوان العثماني بضرورة العمل بالخطة التي ذكرها، من حيث زحف الجيوش العثمانية من مختلف ولايات الدولة المتاخمة لبلاد العرب، للإطباق على الوهابي من كل جانب.

وأراد الباشا أن يستوثق من موقف شريف مكة، غالب بن مساعد، فكتب إليه حتى يعلم ما إذا كان غالب مع الدولة أم مع الخارجي، ثم أبلغه محمد علي أن مأمورية الحجاز قد أُسندت إليه، وأنه يستعد للخروج إلى الحجاز، وسأله إذا كان يرغب في إرسال أحد كبار الأمراء من لدنه أو رئيسًا من قواد الجند لمرافقة الحملة المزمعة، ولكن غالبًا لم يُجب بشيء على كتاب محمد علي، ثم إنه تبين للباشا أن الشريف غالبًا، وسعود بن عبد العزيز، عندما علما بأنه يهيئ جيشًا كبيرًا يعتزم إرساله بطريق السويس إلى الحجاز، بادرا بالاتفاق والاتحاد صورة ومعنى، حتى إنهما أنفذا ثلاثمائة مقاتل من المغاربة والعربان ومدافع وذخيرة، ونحو ألف ومائتي فارس إلى قلعة المويلح (القريبة من الأراضي المصرية) واستولوا عليها. ثم إنه نمى إلى الباشا مما صار يرويه الحاضرون من يافا وغزة، أن سعود بن عبد العزيز بالاتفاق مع غالب بن مساعد قد أنفذا عثمان المضايفي، بجيش من العربان كبير للزحف على الشام، وأن الشريف قد بعث يكتب إلى العربان في جهتي غزة والخليل لجذب قلوبهم، وكان عثمان بن عبد الرحمن المضايفي من وزراء الشريف غالب، اختلف معه في الرأي، فطرده الشريف من مكة، وانحاز المضايفي إلى السعوديين، ودخل مكة مع سعود في عام ١٨٠٣، ثم إنه لما تصالح سعود وغالب، ثم اتحدا لدفع الخطر المتوقع أنفذا المضايفي إلى المويلح، ولو أن هذا الصلح لم يكن مبعثه خلوص النية من جانب الشريف الذي ظل يسعى لإخراج الوهابيين من الحجاز، ومع ذلك، فقد أثمر اتحادهما المؤقت ثمرته المرجوة.

وبادر محمد علي بإبلاغ الباب العالي ما وقف عليه من أخبار، ثم إنه اتخذ من استيلاء المضايفي على قلعة المويلح سببًا لبيان وجه الصعوبة في إرسال الجند بحرًا من جهة السويس لوجود قوات الوهابيين بموقع المويلح الذي يقطع الطريق على الجند عند خروجهم من بحر السويس إلى بحر القلزم، وكتب إلى الباب العالي في ١٨ يونيو ١٨٠٨، أنه يستحيل لهذا السبب خروج الجيش الذي يعدُّه إلى الحجاز، وأن نجاح هذه المهمة — مهمة استخلاص الحرمين الشريفين من الوهابي — متوقف على الزحف بجيوش عظيمة في آن واحد من جانب كل من مصر والشام وبغداد (أو العراق) برًّا وبحرًا في حركة متسقة.

ثم إنه كان في هذه الرسالة أن راح محمد علي يبسط الأسباب الأخرى التي تمنعه من إنفاذ الحملة، فقال: إن الزراعة قليلة في هذا العام لانخفاض النيل، ولأنه علاوة على ذلك قد شاء قضاء الله وقدره أن تهب ريح سموم عاتية فتكت بالزرع، فشحت الغلال وارتفع ثمنها حتى بلغ سعر الإردب المصري عشرة ريالات، أضف إلى هذا أنه من الواضح أن توجه عبدكم محمد علي من مصر قبل انعقاد الصلح (بين تركيا والدول) أمر ينطوي على الخطر كل الخطر؛ حيث إن الدول الأجنبية تتطلع للاستيلاء على هذه البلاد؛ ولذلك فإنه يرجو بمجرد أن يبعث الباب العالي بالإمدادات التي تضمنتها القائمة التي أرسلها الباشا طي رسالته السابقة في ١٠ مارس، أن يستطيع الذهاب إلى الحجاز في السنة القابلة؛ حيث إن ذهابه في هذا العام، للأسباب التي ذكرها قد صار متعذرًا، وقد اختتم محمد علي هذه الرسالة بقوله: وها هو ذا الشريف غالب قد استولى على قلعة المويلح برًّا وبحرًا، وشرع يعتدي على أطراف الشام، وهو متحد مع الوهابي، فواجب الدولة — على نحو ما أراد أن يقول — أن تتدبر الأمر بسرعة.

أما الدولة فقد أخذت — على ما يبدو — برأي محمد علي، فوجَّهت سر عسكرية الحجاز مع إيالة الحبشة وجدة إلى يوسف ضيا باشا الصدر الأعظم السابق؛ حتى يتولى القيادة العليا للعمليات العسكرية المزمعة في الحجاز، على أن يكون زحفه من جهة الشام، وأصدرت أوامرها إلى سليمان باشا والي بغداد، حتى يزحف من العراق على نجد، وطلبت من محمد علي الزحف من مصر على مكة والمدينة، ثم اهتم الباب العالي بإجابة مطالب الباشا حسب القائمة التي أعدها، ولكنه حتى نهاية عام ١٨٠٨، لم يكن محمد علي قد أرسل الدفتر المبينة فيه تفاصيلها، مما سبَّب ارتباكًا عظيمًا لوكيل الباشا في القسطنطينية، محمد نجيب أفندي، الذي بعث يرجو سرعة إرساله. وفي ٢٨ نوفمبر صدر قرار الباب العالي بتثبيت محمد علي باشا في الولاية، كما بعث السلطان في الشهر نفسه، يثني على حسن إدارته ويشكره على حكومته الطيبة، وينقل إليه خبر تثبيته في وظائفه، ويذكِّره بواجبات هذا المنصب، ومنها أن يتبع التعليمات التي بعث بها إليه يوسف ضيا باشا والي جدة وحلب والقائد الأعلى للحجاز، وأن يعمل لتأمين الشواطئ والمواقع المصرية.

وكان مقصد محمد علي، عندما لفت نظر الدولة إلى استفحال شر الوهابيين بالحجاز، واتحادهم الأخير مع الشريف غالب، وهو الاتحاد الذي مكنهم من الاستيلاء على قلعة المويلح، وغزو أطراف الشام، ثم صار — لذلك — يكرر القول في ضرورة خروج جيوش ثلاثة من العراق والشام ومصر في وقت واحد ضد الوهابي؛ كان مقصد محمد علي، عدا انتحال الأعذار لعدم الخروج إلى الحجاز في سنته، أن يظفر بولاية جدة (الحجاز) والقيادة العليا للقوات المحاربة هناك؛ حيث إن الباب العالي قد عهد إليه بمأمورية الحجاز وفوَّضه في إنهائها، حتى إذا صح عزمه نهائيًّا على الذهاب إلى الحجاز، وفي الوقت الذي يلائمه، كانت إيالة الحبشة وجدة التعويض أو المكافأة التي ينالها عند انتصاره على الوهابيين.

وكاشف الباشا كتخداه في القسطنطينية، محمد نجيب بما يريده، ولكن الأخير لم يجد الظرف مناسبًا لإثارة هذا الموضوع في دوائر الديوان العثماني؛ لأن محمد علي حتى هذا الوقت، كان لا يزال يتلمس شتى الأعذار للمماطلة والتسويف، وإرجاء الخروج إلى الحجاز من عام إلى آخر، فلم يكن الباب العالي راضيًا عن مسلكه، فآثر محمد نجيب كتمان هذه المسألة حتى تحين الفرصة المواتية، ثم إنه لم يلبث أن كتب إلى محمد علي عندما تعين يوسف ضيا لسر عسكرية الحجاز، وآلت إليه ولاية الحبشة وجدة «أنه وإن صار توجيه عسكرية الحجاز مع إيالة الحبشة وجدة إلى يوسف ضيا باشا الصدر الأسبق، وكما سبق أن أبلغه محمد نجيب إلى الباشا من قبل فإنه من غير المقطوع به حتى الآن، ما إذا كان الصدر سيذهب فعلًا إلى الحجاز أو لا يذهب؛ ولذلك فقد استحث محمد نجيب في رسالته هذه بتاريخ ١٧ ديسمبر، الباشا على الخروج إلى الحجاز، ووعد أنه عند تحرك محمد علي بإذن الله، في السنة القابلة من مصر، يقوم بإجراء ما يلزم من أجل توجيه إيالة جدة إلى عهدته.»

وفي ٨ فبراير ١٨٠٩ وصل القاهرة قابجي، «وعلى يده مرسومان، أحدهما تقرير للباشا على ولاية مصر، والثاني يذكر فيه أن يوسف باشا ضيا المعدني (أو المعدن) الصدر السابق تعين بالسفر على بلاد الشام لتنظيم بلاد العرب والحجاز، وأن يقوم محمد علي باشا بلوازمه وما يحتاج إليه من أدوات وذخيرة وغير ذلك. وفي الشهر نفسه وصل قاصد يخبر بوصول قابجي وعلى يده مرسومان: أحدهما الأخبار عن صلح الدولة مع الإنجليز والموسكوب وانفتاح البحر وأمن المسافرين، والثاني الأمر بالسفر والخروج إلى فتح الحرمين وطرد الوهابية عنهما، وأن يوسف باشا الصدر السابق المعروف بالمعدن تعين بالسفر للحرمين عن طريق الشام، وكذلك سليمان باشا والي بغداد متعين أيضًا بالسفر من ناحيته (العراق) على الدرعية، وأحضر للباشا تقريرًا بالولاية مجددًا وخلعة وسيفًا.» وفي ١٨ مارس ١٨٠٩ وصل القابجي إلى القاهرة، وطلع إلى القلعة؛ حيث قُرئت المراسيم بحضرة الجمع.

ولكن الباشا وقتئذٍ كان مهتمًّا قبل كل شيء بإخراج تجريدة إلى البكوات المماليك بالصعيد لنكثهم عهودهم معه، في ظروف سوف يأتي بيانها في موضعها، ولم يُعر هذه الأوامر التي تطلب منه الخروج إلى فتح الحرمين وطرد الوهابية عنهما أي التفات. وقد علق الشيخ الجبرتي على عدم تلبية الباشا لرغبات الديوان العثماني من حيث إرسال الإمدادات المطلوبة إلى يوسف ضيا، بأنه لم يظهر لذلك الكلام أثر بيد أن كتخدا بك (محمد آغا لاظ) بالغ في الحفاوة بالقابجي عند وصوله، وقد كان الباشا وقتئذٍ متغيبًا بجهة السد — سد الترعة الفرعونية — وتوافد الأعيان والأشياخ، وأكابر الدولة للسلام عليه، وضربوا بعد الفراغ من قراءة المراسيم مدافع وشنكًا، ووعد الباشا بالاهتمام بأمر هذه الحملة الهامة، ولكنه كان من الواضح — على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في ٩ أبريل ١٨٠٩ — أن الباشا قطعًا لا ينتوي فعل شيء.

وعلَّل «دروفتي» السبب في ذلك بقوله: «إن تخليص الحرمين الشريفين اللذين يعتبرهما المسلمون حرز الإمبراطورية العثمانية، التي تتوقف سلامتها على بقائهما في كنفها وتحت رعايتها، لم يكن محببًا إلى قلب محمد علي، بقدر ما كان لباشويته من محبة في قلبه، والثابت قطعًا أنه إنما يحكم مصر بفضل ما لديه من قوة فحسب، وهو دائب على اتخاذ كل الوسائل التي تضمن له بسط سلطانه في مصر وتأكيده.»

وبعث محمد علي إلى الآستانة في ٦ مايو يقول: إنه قد وصله أمر الباب العالي «بشأن مباشرة فتح الحرمين الشريفين هذه السنة، ودفع الخارجي؛ أي الوهابي عنهما، وأن الباب العالي قد عين يوسف ضيا باشا والي جدة وحلب حالًّا، والصدر الأعظم سابقًا، قائدًا عامًّا للحجاز، باستقلال تام، وتفويض كامل، لا جدل فيه ولا مناقشة، على أن يزحف سليمان باشا والي بغداد عن طريق الأحساء والدرعية، وأن يتحرك محمد علي من مصر على جدة وينبع، بالمخابرة مع حضرتي المأمورين المشار إليهما»؛ ولذلك فهو يمتثل لإرادة السلطان العثماني، ويؤكد أن غايته إنما هي خدمة هذه المصلحة الخيرية، ملبيًا لرغائب القائد العام، الذي يضع نفسه تحت أوامره بموجب الأوامر العلية الصادرة إليه، ويختم رسالته بإظهار استعداده للحركة، بمجرد أن يبلغه تحرك المأمورين المشار إليهما.

وحدث في هذه الأثناء أن جاء إلى مصر جماعة من حجاج المغاربة وغيرهم في طريق عودتهم إلى بلادهم، يحملون معهم عريضة من أهل مكة والمدينة يشكون فيها من سوء معاملة سعود بن عبد العزيز لهم ولسائر الحجاج، ومنعه ذكر اسم السلطان في الخطبة، ورفعه لستار الكعبة (الكسوة الشريفة) واستبداله بها عباءة سوداء، مكتوب عليها لا إله إلا الله، سعود خليفة الله، وأخبر هؤلاء أن غرض سعود من كل ذلك، إعلان خلافته على المسلمين للعالم أجمع، توطئة لإعلان نبوته في آخر الأمر، وقد استنجد أهل مكة والمدينة في عريضتهم بمحمد علي؛ لإنقاذ الحرمين الشريفين وإنقاذهم.

وقد انتهز محمد علي فرصة ورود هذه العريضة ليكتب إلى الباب العالي مرة أخرى في ١٦ مايو يتنصل من الذهاب إلى الحجاز، ويحاول في الوقت نفسه تطمين الباب العالي على ولائه له، ومنع غضبه عليه، من جراء تسويفه ومماطلته، فقال: إن استنجاد أهل مكة والمدينة به، ورغبته في إنهاء سيطرة الوهابيين وتخليص الحرمين الشريفين، إلى جانب نزوله على إرادة الباب العالي، كل ذلك جعله مصممًا على الخروج إلى الحجاز تصميمًا مبعثه الغيرة والحمية الإسلامية، والإيمان العميق، حتى إنه «تجهز للخروج وصار على وشك إكمال استعداداته، ولكنه لما كان لم يصله خبر صحيح عن تحرك يوسف ضيا باشا، القائد العام للحجاز، أو سليمان باشا والي بغداد، فقد جرؤ هو؛ أي محمد علي على تسطير هذه الرسالة يستفسر عما آلت إليه المأمورية المذكورة وما تم بشأنها، متسائلًا عما إذا كانت الدولة قد شُغلت من جديد بأمر خاص بعلاقاتها مع الدول الأجنبية، أم حدث التأخير لحكمة ما، ولكنه يجد لزامًا عليه أن يبلغ الباب العالي أنه صار متهيئًا للزحف، ولا يؤخره سوى انتظار المهمات والأشياء التي كان قد بعث سابقًا يرجو إرسالها إليه، ثم انتظار وصول الخبر عن قيام يوسف ضيا وسليمان باشا بزحفهما على الحجاز.» وقد استحث الباشا في ختام رسالته الباب العالي، ليرسل إليه بكل سرعة المهمات التي طلبها، وإصدار أمره إلى يوسف ضيا وسليمان باشا بالزحف دون إمهال والسماح لمحمد علي بالزحف للمبادرة بتطهير الحرمين الشريفين، وتفريج كربة أهلهما.

ولكن بدلًا من أن يمده الباب العالي بالمال والمهمات التي طلبها، صار هذا الأخير يكلف الباشا بدفع مبالغ من المال لأفراد معينين، كهبة سلطانية أو كمعاشات أو على سبيل المعاونة لهم، كما صار يطلب إليه إرسال الصناع المهرة في قلفطة السفن إلى ترسانة القسطنطينية، من الإسكندرية ورشيد ودمياط، ثم بعض المهمات من مخلفات الحرب التي تركها الإنجليز بالإسكندرية عند جلائهم عنها من أزمنة بعيدة، وقد اعترض الديوان العثماني على بيع ملح البارود للتجار الأجانب، وطلب في أبريل ومايو ١٨٠٩، أن يرسل الباشا إلى ترسانة القسطنطينية عشرة آلاف قنطار منها، على حساب الخزانة المصرية، وعلاوة على ذلك، فقد طالب الديوان العثماني في الشهر نفسه بإرسال «الزجرية»، وهذه ضريبة كانت قد فُرضت على الأنبذة و«العرقى» وسائر المشروبات الروحية التي تُباع في القاهرة، وضواحيها، وكذلك على الزبيب والبلح وغير ذلك من الفواكه التي تُستخرج منها هذه المشروبات، على أن تُرسل حصيلتها إلى القسطنطينية، وكانت قد فُرضت هذه الضريبة منذ نوفمبر ١٨٠٥، ولم يصل الباب العالي شيء منها، وطلب الباب العالي تحقيقًا في ذلك، وإرسال المتحصل منها على وجه السرعة.

أضف إلى هذا كله، أن الباب العالي صار يلح في ضرورة إرسال الغلال ومختلف الأغذية إلى القسطنطينية، بسبب المجاعة المنتشرة بها، وقد تقدم كيف أن الباشا كان ضنينًا بإرسال غلاله إليها، للأسباب التي عرضناها، فلم يرسل إلا كميات قليلة، ومع أن الباب العالي كان قد أراد إرسال كميات من السكر والأرز والبن والحبوب إلى المطابخ السلطانية منذ ديسمبر ١٨٠٨، على حساب الخزانة المصرية، فقد اضطر لإعادة الطلب في أبريل ثم في ديسمبر من العام التالي، كما أمر الباشا بتخفيض أثمان الأرز وسائر أصناف الحبوب المجلوبة من مصر؛ حتى لا يتغالى التجار الجشعون في رفع أثمانها عند بيعها في القسطنطينية، كما طالب بالرسوم الجمركية المتحصلة في الإسكندرية ومن قريتي عيد وشوارق التابعتين للإسكندرية، وذلك عن العامين الهجريين: ١٢٢٣، ١٢٢٤ (٢٨ فبراير ١٨٠٨–٥ فبراير ١٨١٠)، «وعهد إلى الباشا من الآن فصاعدًا بتأدية هذه المهمة؛ لأن السلطان يريد أن يلفت نظر الباشا إلى أن وصول هذه المبالغ إلى خزانة ترسانة القسطنطينية أمر ضروري ولا نُدحة عنه، نظرًا للنفقات الجسيمة التي تقتضيها تهيئة السفن الحربية التي أُرسلت هذا العام إلى البحر الأبيض، وبعدد أكبر كذلك إلى البحر الأسود.»

على أنه كان مما أزعج الباشا إزعاجًا كبيرًا مطالبة يوسف ضيا باشا، والباب العالي له، بمبلغ جسيم من المال في يوليو ١٨٠٩، من أجل المصلحة الخيرية؛ أي الحرب الوهابية، وتفصيل ذلك، أن يوسف ضيا كان أيام وجوده بهذه البلاد أثناء (حملة ١٨٠١) المعروفة لإجلاء الفرنسيين عنها، قد وضع ترتيبًا بالاتفاق مع أعيان البلاد ومشايخها، بمناسبة إعادة النظر في حصص الالتزام وتقاسيطها، والأراضي الرزق الأحباسية، صار له بمقتضاه إيراد لنفسه على تقاسيط الالتزام، وأوراق الإقطاعات والفراغات التي آلت بفضلها بعض الحصص بالفراغ إلى الملتزمين، وهي التي نزل عنها لهم أرباب الاستحقاق فيها، نظير أن ينال المفرغ قدرًا من المال معجلًا ومؤجلًا، وقد دخل هذا الإيراد الذي اختص به الصدر الأعظم نفسه تحت بابي ما صار يُعرف بقصر اليد وخرج القلم، ولكنه غادر هذه البلاد، دون أن يحل شيئًا مذكورًا منها، ثم لم يرده شيء من هذا الإيراد في السنوات التالية، وظل الحال على ذلك حتى تعين يوسف ضيا لقيادة الحملة المزمع إنفاذها إلى الحجاز، وصار في حاجة ملحة إلى هذه الأموال المتأخرة لإنجاز استعداداته، فطالب بها الآن، وأيده الباب العالي في طلبه.

وعلى ذلك، فقد حضر سلحداره إلى القاهرة في ٢٨ يونيو ١٨٠٩، «وعلى يده مرسوم مضمونه طلب ما كان أحدثه يوسف ضيا حين كان بمصر»، وقد طالب يوسف ضيا بهذا الإيراد عن المدة من عام ١٢١٦ (١٨٠١) إلى عام ١٢٢٤ (١٨٠٩)، فكان حساب ذلك ٢٨٠٠ كيسًا «قلمية الكشوفية» عن هذه السنوات المذكورة، ثم إن الباب العالي أضاف في الوقت نفسه إلى هذا المبلغ، ألف كيس «إمدادية تجهيز السفر الحربي» لحملة الحجاز المزمعة، فبلغت القيمة المطلوبة ٣٨٠٠ كيس، وكان هذا مبلغًا جسيمًا.

ولم يكن من المنتظر أن يرضى محمد علي بدفع هذا القدر الجسيم، وهو الذي ما فتئ يشكو من قلة المال في خزائنه، ويلقى صعوبات شديدة في جمع ما يكفي منه لسد نفقات الإدارة، ودفع مرتبات الجند، وإنفاذ حملاته ضد البكوات المماليك، ويطلب من الباب العالي — كما شهدنا — إمداده بالمال والمهمات كي يستطيع إعداد الحملة المزمع إرسالها إلى الحجاز؛ ولذلك فقد صار الباشا يتدبر الأمر، لسؤال الباب العالي إعفاءه من دفع هذا المبلغ، ولقد كان لهذه المسألة آثار أخرى خطيرة، من حيث إنها كانت السبب المباشر فيما وقع بين محمد علي والسيد عمر مكرم من اصطدام انتهى بنفي هذا الأخير من القاهرة، على نحو ما سيأتي ذكره.

وأما محمد علي، فقد بادر بتسطير رسالة طويلة إلى الباب العالي في ١٤ يوليو ١٨٠٩ يعتذر فيها من عجزه عن دفع هذا المال المطلوب، ويوضح أسباب هذا العجز، فقال: «إن سلفه خورشيد أحمد باشا، كان وقت أن اقتضت المصلحة سفره إلى بلاد الروم (تركيا) مفصولًا من الولاية، مدينًا بثلاثة آلاف كيس، متأخر مرتبات الجند، وقروضًا استدانها من مختلف التجار، وتعهَّد محمد علي بوفاء هذه الديون، بمقتضى صكوك أُعطيت لأصحابها، توجب عليه سدادها، محافظة على شرف الوزارة، ودفعًا لوقوع ثورة، وحرصًا على عدم تعريض هذا الوزير (أحمد خورشيد) للفضيحة على أيدي أرذال الناس، فكان بفضل ذلك أن استطاع محمد علي إنقاذ الوزير المذكور، وإرساله إلى الديار الرومية، على أنه منذ إرساله، لم يتسع للباشا الوقت، ولم يكن في ميسوره الشروع في سداد هذه الديون.

ثم كان مما زاد في حيرة الباشا استيلاء الإنجليز على الإسكندرية، وما صار يخشاه من تأثر البكوات المماليك بمساعي هؤلاء الغزاة ومسايرتهم لهم، وقد وقع الغزو فجأة، في وقت كان الباشا قد بدأ يستعد لقتال البكوات للانتهاء من أمرهم، ودفع شرورهم بالقوة الممزوجة بالحكمة والتعقل والروية، وقد اضطر بسبب ذلك إلى الإنفاق والبذل ومنح العطايا الكثيرة سواء كان هذا الإنفاق لدفع مرتبات جند الباشا نفسه، أم لدفع مرتبات الجند الذين أمر الباب العالي بإرسالهم من صيدا والشام إلى مصر، مما ترتب عليه أن تضاعفت ديونه.

زد على ذلك ما اقتضاه الأمر بعد فتح الإسكندرية وجلاء الإنجليز عنها من إبعاد رؤساء الجند الساعين في إثارة الفتنة والفساد في مصر، وذلك صونًا للمصلحة، مما استلزم إعطاء هؤلاء علوفاتهم؛ أي مرتباتهم وسائر مخصصاتهم المتأخرة، نقدًا.

وعلاوة على ذلك، فإن لدى محمد علي عددًا كبيرًا من الجند، من أصناف الدليلان (الكشافة) والتفنكجيان (الرماة) والسكبان (جند الحرس)، والعربة جيان (المدفعية والحوذية) والشالوبة (أنفار المراكب)، يتكلفون ما قيمته ثلاثة وعشرين ألف كيس من الإيرادات المتحصلة من مصر، ولا نُدحة عن وجود هذا العدد الكبير من الجند، ثم إنفاق هذا القدر الجسيم من الإيراد عليهم؛ لأن مصر مطمح أنظار الدول الأجنبية، ناهيك بما تتطلبه مأمورية الحرمين الشريفين التي عُهد بها إلى محمد علي، من وجود هؤلاء الجند الكثيرين.

ومع أن الإيرادات المتحصلة من هذا القطر الآن، لا تكفي لسد نصف هذه النفقات الكثيرة، طالما بقي الصعيد غير خاضع لسلطان الباشا فقد اقتضت المصلحة إعطاء الأراضي الواقعة قبلي إقليم البهنساوية للأمراء المصرية (البكوات المماليك)، وفضلًا عن عدم الانتفاع بها، يتحمل محمد علي نفقات أخرى بسبب ما يبذله للبكوات من مال؛ حيث إنهم صاروا الآن في خدمته؛ ولأن في ذلك ضمانًا لجلب الغلال من الصعيد، وهذه لا مناص من جلبها وادخارها مع غيرها من المؤن، لصالح مأمورية الحرمين الشريفين التي عهد بها إليه الباب العالي، وبحسبان أن فيضان النيل في هذه السنة سوف يكفي لري الأراضي بهذا القطر.

ويعتزم الباشا إنفاذ الجند إلى الحجاز والزحف على جدة وينبع، بمجرد أن يتحقق لديه أن في وسعه أن يطمئن اطمئنانًا كاملًا من ناحية الفرنسيين؛ نظرًا لأنه قد بلغه أنه لم يَعُد لهؤلاء مجال لمد فتوحاتهم والتسلط على بلدان أخرى في أوروبا بعد تغلبهم على النمسويين في الحرب.

وأن ما يقوم به محمد علي من إعداد ما تحتاجه حملته المزمعة على الحجاز، من خيول وبغال وجمال، وقِرَب للماء، وأكياس وغلال، وما يتكلفه هذا كله من نفقات، يوازي في أهميته وضرورته المحتمة، ما يبذل الباب العالي من جهد في قتاله مع الدول الأجنبية وما يتحمله من نفقات بسبب ذلك.

وصفوة القول حيث إنه؛ أي الباشا قد غرق في الدين حتى أذنيه، فمن الواضح الجلي أنه يتعذر عليه — بل ومن المستحيل — تحصيل المبلغ المطلوب وإرساله، وهو لذلك يسأل ولي النعم (السلطان) عفوه وصفحه الجميل، وإعفاءه من هذا التكليف.»

وقد أدرك محمد علي أن تباطؤه في الخروج إلى الحجاز، ثم تقاعسه عن إمداد الباب العالي بحاجته من الغلال، وسائر أنواع الحبوب للمعاونة على كسر حدة المجاعة في القسطنطينية، أو بما يلزم ترسانة القسطنطينية من مهمات، لمؤازرة تركيا في مجهودها الحربي، ثم أخيرًا امتناعه من إرسال «قلمية الكشوفية، وإمدادية تجهيزات السفر الحربي»، لمساعدة يوسف ضيا على الخروج بحملته إلى الحجاز، أدرك محمد علي أن ذلك كله من شأنه أن يغيِّر عليه الباب العالي، وأنه وإن كان قد حرص على ترديد عبارات الخضوع والولاء، فالواقع أنه يقف موقف العصيان من الدولة والتمرد على السلطان العثماني، وأنه لا مناص من تبلور علاقاته مع الباب العالي، إن عاجلًا أو آجلًا، بصورة لا بد مفضية إلى الاصطدام، إذا استمر التسويف واستطالت المماطلة.

وقد تنازع محمد علي في هذه المرحلة عاملان محددان: الإقبال على نجدة الدولة، أو الانصراف إلى تحقيق مشروع استقلاله الذي سبق الحديث عنه، وكان معنى الإقبال على نجدة الدولة، سد مطالبها التي لا تفرغ، وإرهاق موارده المحدودة، وهو الذي كان في أزمة مالية مزمنة للأسباب التي كثيرًا ما أشرنا إليها، وحرمانه من تلك الأرباح الوفيرة التي يجنيها من تجارة القمح، وتكليفه ما لا طاقة له به وقتئذٍ من أجل إنفاذ جيش كبير لإخماد حركة الوهابيين في الحجاز، في وقت لما يفرغ فيه من نضاله المستميت مع البكوات المماليك الذين يهددون بخصومتهم العنيدة باشويته ذاتها، وذلك كله دون أن يكون لديه ضمان ما، بأن الباب العالي سوف لا يقلب له ظهر المجن، ويقصيه من باشويته، بينا أن تحقيق مشروع الاستقلال بنيل الحكم الوراثي في مصر، ينهي كل مخاوفه من ناحية الباب العالي، ويزيد من دعم حكومته ويمكِّن سفائنه — وقد بدأ محمد علي ينشئ أسطولًا تجاريًّا، بمناسبة الاستعداد لحملة الحجاز المزمعة يعمل في البحرين الأبيض والأحمر — من نقل تجارته وغلاله عبر البحار بأمان تحت راية وجاقه، ولا تتعرض لمصادرة أعداء الباب العالي لها؛ لأن الباشا في وسعه — على الرغم من الحرب الدائرة بين الدولة العثمانية والدول الأجنبية — أن يعلن حياده، وفضلًا عن ذلك، فقد كان من مزايا عدم الاستجابة لرغبات الباب العالي، أن يتوفر الباشا أولًا وقبل كل شيء على إنهاء عصيان البكوات المماليك، وإخضاعهم لسلطان حكومته، فيدخل الصعيد بغلاله الوفيرة في حوزته، فتنشط تجارته وتكثر أرباحه تبعًا لذلك، وينبسط سلطان باشويته على الأقاليم الداخلة في نطاقها، فتقوى هذه الباشوية، وتتدعم أركانها، بالدرجة التي تساعده على الاستقلال الذي ينشده.

ثم إن انصرافه عن مقاومة الحركة الوهابية، من شأنه أن يزيد هذه الحركة استفحالًا، لا سيما وقد انهزمت جيوش الدولة على أيدي الوهابيين، ورسخت أقدام هؤلاء، وكثرة إغارتهم على أملاك الدولة المتاخمة لهم، وبدأ يتغلغل نفوذهم في اليمن، وقد يكون الوهابيون إذا عظمت قوتهم مصدر خطر على باشويته، وهم الذين ما فتئوا يبثون الدعوة في مصر ذاتها، منذ أن استولوا على مكة فلغط الناس في خبر الوهابي واختلفوا فيه، فمنهم من جعله خارجيًّا وكافرًا، وهم المكيون ومن تابعهم وصدَّق أقوالهم، وطائفة من التجار الذين استولى الوهابي على قوافلهم، وعطَّل تجارة البن من مخا خصوصًا باستيلائه على السفن المحملة به من اليمن، ومن الناس من قال بخلاف ذلك لخلو غرضه، وما إن وصل الخبر مع ركب الحجاج العائدين إلى القاهرة في يونيو ١٨٠٣ بسقوط مكة المكرمة في أيدي الوهابيين، حتى صار الناس يتناقلون هذا الخبر ويتحدثون فيه سرًّا فيما بينهم، على نحو ما لاحظ «مسيت» وقتئذٍ، وأثبت الشيخ الجبرتي صورة ما جاء في أوراق تتضمن دعوة الوهابي وعقيدته، وقد ظلت الأنباء تترى بعد ذلك عن انتصارات الوهابيين في الحجاز، وإغارتهم على أملاك الدولة في أطراف العراق والشام وفلسطين واليمن، وكان آخر هذه ما أبلغه محمد علي نفسه إلى الباب العالي من استيلائهم على قلعة المويلح.

ولكن استفحال حركة الوهابيين، كان من شأنه كذلك أن يشتت جهود الدولة ويضعفها ويقعد بها عن مناوأة محمد علي إذا هي شاءت مناوأته، ويعجزها عن حربه وقتاله إذا هي أرادت إقصاءه من باشويته، واضطر الباشا إلى الاصطدام معها وقتالها، وفضلًا عن ذلك، فقد كان من رأي محمد علي أن الوهابي في شق عصا الطاعة على الدولة لم يأتِ أمرًا إدًّا، بل قد خطا الخطوة التي يفكر الباشا نفسه في خطوها، وأنها إذا تحرجت العلاقات بينه وبين الباب العالي لدرجة انقطاعها وإعلان الباشا لعصيانه السافر وتمرده، لأفاد هذا الوضع المستحدث في إنشاء صلات تجارية وثيقة مع الوهابي، وكان من بين الحوافز على إنشاء أسطوله التجاري في السويس توقع هذا الاحتمال نفسه.

ولم يكن محمد علي قطعًا يريد في هذه المرحلة إنفاذ جيش إلى الحجاز، بل إن هذه الاعتبارات جميعها، كانت مبعث ذلك المسعى الذي بدأه مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين وقتئذٍ، من أجل الظفر بتأييد دولتي إنجلترة وفرنسا لمشروع استقلاله، فقد استأنف مفاوضته مع الأولين منذ سبتمبر ١٨٠٨، وهي المفاوضة التي أسفرت في آخر الأمر — في مايو ١٨١٠ — عن عقد تلك المعاهدة التجارية التي رفضت الحكومة الإنجليزية التصديق عليها، بينما هو قد تحدث إلى «دروفتي» منذ أبريل ١٨١٠ في موضوع استقلاله.

بيد أن فشل هذه المفاوضات من جهة، واندفاع محمد علي في حرب مع الباب العالي، من المقطوع به من جهة أخرى أنه لن يخرج منها ظافرًا، لمعارضة الدول له، ولأنه كان في وسع المماليك أن يفيدوا منها للم شعثهم والتألب عليه من جديد بالرغم من انتصاره عليهم في معارك اللاهون والبهنسا في يوليو وأغسطس ١٨١٠، قد جعل الباشا يتريث في الأمر، ووجد أن لا نُدحة له في النهاية عن تهيئة جيشه وإكمال استعداداته للخروج إلى حرب الوهابيين، ولقد كان من مزايا استرضاء الباب العالي إمكان الحصول من صاحب السيادة الشرعية عليه على ذلك الوضع الذي أخفق في نيله عن طريق التحالف أو الاتفاق مع إنجلترة وفرنسا.

وعلى ذلك، فقد بادر بعد التماس إعفائه من دفع المبالغ المطلوبة منه، برسم قلمية الكشوفية، وإمدادية تجهيزات السفر الحربي يؤكد للباب العالي صدق رغبته في إنفاذ الجيش إلى الحجاز، ويَعِد وعدًا قاطعًا بإرسال كميات كبيرة من الغلال إلى ميناءي السويس والقصير، مع بضعة آلاف من الجند المهيئين لهذه الحملة، وذلك سواء كان واليا الشام وبغداد قد قاما بالمعاونة المطلوبة منهما أم لم يفعلا ذلك، ثم إنه ينبئ الباب العالي بتجهيزاته البحرية من أجل بناء السفن اللازمة لنقل الجند والعمل في البحر الأحمر، ومن بين هذه الفرقاطة التي عُرفت باسم أفريقية والتي عهد إلى قبطانها إسماعيل جبل طار بالذهاب بها إلى مالطة ثم إلى إنجلترة، لتسليحها ثم الدخول بها بعد ذلك إلى البحر عن طريق رأس الرجاء الصالح والدوران حول أفريقية، ثم إن الباشا لم يلبث أن وسَّط قبو كتخداه في الآستانة للاتفاق مع السفير الإنجليزي هناك بصدد شراء سفينة إنجليزية من مالطة للعمل في البحر الأحمر، ولما كان هذا الأخير قد اقترح عوضًا عن الشراء إعارة إحدى سفن الإنجليز من الهند بطاقمها؛ لأن حكومته ترفض بيع سفائنها، فقد اعترض الباب العالي على ذلك، وقر الرأي على جلب هذه السفينة من جزر بحر إيجة أو المواني العثمانية أو أخذها من الأسطول العثماني نفسه، على أن يتأكد لدى الباشا فعلًا بمشاورة المختصين أن في استطاعة هذه السفينة إتمام رحلتها حول أفريقية دون صعوبة.

وعلاوة على هذا الاهتمام الذي أبداه الباشا لإكمال استعداداته البحرية، فقد خفَّف شيئًا من مطالبه الأولى من الباب العالي، وقصر هذه الآن على عدد من عربات المدافع وقليل من المهمات الأخرى من ذخائر الحرب، ولما كان محمد علي يشك في إخلاص الشريف غالب، فقد أشار على الدولة أن تستوثق من نواياه نحوها فتبعث إليه بكتاب بالعربية تستفسر منه عما إذا كان في عزمه الممانعة في دخول جند محمد علي إلى الحجاز أو أنه سوف يؤازرهم؟

وكان لما ظهر من جدية استعدادات الباشا — لا سيما فيما يتعلق بإنشاء السفائن اللازمة لنقل الجيش إلى جدة وينبع، ثم وعده بإنفاذ الحملة سواء خرج واليا الشام والعراق أم لم يخرجا، ثم إشارته على الدولة بالكتابة إلى الشريف — أحسن الأثر في نفس السلطان العثماني، فبدأت من ثَم تزول هواجسه من ناحية محمد علي وتتحسن العلاقات بين الفريقين تحسنًا ملموسًا، كان من أثره أن اختار السلطان رسولًا ذا مكانة لحمل فرمان التثبيت في الولاية عن عام ١٨١٠ إلى القاهرة، كما اهتم الباب العالي بإنجاز المهمات التي طلبها الباشا لإرسالها إليه بكل سرعة.

فبادر سليم ثابت، أحد وكلاء الباشا في القسطنطينية، يبلغه منذ ٢٠ مارس، بأن المهمات التي يطلبها الباشا، لا سيما القنابل يجري شحنها من ميناء قولة لإرسالها أولًا بأول مع السفن الذاهبة إلى مصر، ومن هذه مركب القبطان ديمتراكي الأنزلي، على وشك الإقلاع، بعد أن استأجرتها الدولة تنقل إلى مصر إحدى عشرة قنبلة وعشر عربات للمدفعية الخفيفة، ويرجوه (في ٢٥ مارس) أن يعيد هذه السفينة محملة بالغلال إلى القسطنطينية.

ثم إن سليم ثابت كتب إليه في ٢٠ مارس، لبيان الأثر الطيب الذي أحدثه اهتمام الباشا بمسألة الحرمين الشريفين، أن هذا الاهتمام قد أكسبه رضاء السلطان، وأنه عند توفيق الباشا في هذه الخدمة الخيرية الجليلة، سوف تترى عليه الإنعامات الكثيرة عند انتهاء حسن خدمته للدولة. بل إن الباب العالي لم يلبث أن عهد إليه بتفويض كامل بمهمة إنقاذ الحرمين مستقلًّا عن واليي الشام والعراق، كما بعث إليه بصورة من الكتاب الذي سطَّره للشريف غالب بن مساعد ومفتيي المذاهب الأربعة والسادة وكافة القبائل وعشائر العربان، وجميع الأهلين المسلمين، وقد نعت هذا الأمر العالي، الموشح بالخط الشريف محمد علي نعوتًا عظيمة، فبعث الباشا في ١٦ أبريل ١٨١٠، يقدم فروض الولاء والشكر للسلطان، وينبئ الباب العالي، بأنه عين لحملة الحجاز، صفوة من رجاله، الحائزين لرتبة رياسة بوابي دار السعادة بالديوان العثماني: صالح آغا (قوش)، وحسن آغا محافظ دمياط، وسليمان آغا محافظ رشيد، وغيرهم من الرجال المحنكين، على رأس سبعة آلاف جندي من الترك والأرنئود المتمرسين في الحروب، وعين قائدًا عامًّا أو «سر عسكر» للحملة ولده طوسون أحمد باشا، على أن يكون مدير مهمات الجيش السيد طاهر أفندي، وهو صاحب خبرة بشئون الحجاز لسابق خدمته الطويلة به، كما أبلغ الباب العالي، بمناسبة إخفاق الوساطة لدى السفير الإنجليزي لشراء إحدى السفن من مالطة، أنه لم تعد له حاجة بها وبغيرها من السفن التي يمكن إحضارها من جزر بحر إيجة أو المواني العثمانية أو أسطول الدولة؛ حيث إن ميناءي دمياط والإسكندرية صارتا تذخران بالأخشاب من كل نوع، وأنه قد تم في بولاق تجهيز الأخشاب اللازمة لصنع إحدى وعشرين سفينة، تحمل الجمال هذه الأخشاب إلى السويس؛ لتركيب السفن بها، وأن إسماعيل جبل طار أو البشكطاش (جبل النار) قد صار إنفاذه — مع الفرقاطة أفريقية — إلى مالطة، في طريقه إلى البحر الأحمر بالدوران حول رأس الرجاء الصالح، وأنه قد اعتزم إرسال مهمات الحملة في هذه السفن وغيرها من نوع «الداو» التي استولى عليها في البحر الأحمر، وذلك مع قسم من الجيش، بينما يذهب القسم الآخر بطريق البر، يدفعه إلى فعل ذلك، إشادة السلطان بمناقبه ونعته بالحيدري الشيم.

وهكذا صفت الأمور بين الباشا والباب العالي، وبدا أن الأول معتزم حقًّا وصدقًا إنفاذ الحملة إلى الحجاز، ولو أنه كان من الواضح أن استرضاء الباب العالي كان جزءًا من الخطة التي رسمها الباشا لنفسه وقتئذٍ، والتي صار مدارها الحرص على علاقات المودة والصداقة مع الباب العالي، في الوقت الذي لم تسفر مساعيه لدى الوكلاء الإنجليز والفرنسيين عن النتيجة المرجوة، وكان مما شجع محمد علي على التعهد بإنفاذ جيشه لقتال الوهابيين فور فراغه من استعداداته التي يسير فيها بكل همة، أنه كان كبير الأمل في إنهاء خلافاته قريبًا مع البكوات المماليك، ووعد إبراهيم بك وزملاؤه بالحضور من الصعيد إلى القاهرة، ليضعوا أنفسهم تحت إشرافه ومراقبته، اعترافًا منهم بسلطان حكومته عليهم، كما سيأتي ذكره في موضعه.

ولكن الجو لم يلبث أن اكفهر مرة أخرى، وشاب بعض الكدر العلاقات بين الباشا والباب العالي عندما عمد هذا الأخير إلى خلع يوسف كنج باشا من ولاية الشام، وولى مكانه سليمان باشا الكرجي والي عكا وصيدا، فجمع سليمان حكم هاتين الولايتين في يده، ونشأت من ذلك مشكلات عدة، وصار محمد علي يلح في رجاء الباب العالي إعادة يوسف كنج إلى منصبه وعزل سليمان باشا، لا سيما بعد أن ثبت أن لهذا الأخير صلات مع البكوات المماليك، وقد ظلت مسألة يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي هذه موضع أخذ ورد طويلين، حتى استطاع الباشا استئصال شأفة البكوات في مذبحة القلعة المعروفة، فانتفى الخطر من جهتهم، وصار لا يخشى من ناحية اتصال فلولهم بسليمان باشا، وحتى ظفر الباشا كذلك بوعد صريح من الباب العالي بتقرير الباشوية الوراثية في مصر، إذا هو أنفذ جيشه إلى الحجاز، وانتصر هذا الجيش على الوهابيين.

بيد أن الوصول إلى هذه النتائج التي حصل عليها الباشا، كآثار مباشرة لقضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي، لم يكن سهلًا هينًا، بل كادت تتحرج بسبب هذه القضية العلاقات بين الباشا والباب العالي، لولا تغلب الحكمة من الجانبين فيرضى الأخير من جهة، بأن يقطع على نفسه عهدًا بجعل الحكم وراثيًّا في أسرة محمد علي، ولو أنه جعل عهده هذا مشروطًا بنجاح الحملة المصرية، ويصح عزم الباشا من جهة أخرى على إنفاذ حملته إلى الحجاز بعد أن قر رأيه على الاتجاه صوب الشرق نهائيًّا؛ لما في ذلك من مزايا، ينتفع بها في توطيد أركان باشويته.

(١٠) قضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي

وتفصيل خبر هذه القضية وتتبع آثارها، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بذلك التطور الذي ساعد على تكييف سياسة محمد علي، ورسم خطوطها، وهو التطور الذي شهدنا أولى مراحله تبدأ بمراقبة محمد علي للأمور، ودراسة الأوضاع السائدة في البلاد، ووزن القوى المتناحرة فيها لا سيما منذ أن صار أحد قائدي الأرنئود الكبيرين، واشترك في الحوادث التي أفضت إلى طرد محمد خسرو باشا من الولاية، ثم لا يزال هذا التطور ينتقل من مرحلة إلى أخرى أثناء المناداة بولاية محمد، وأثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ثم أثناء حملة «فريزر» حتى إذا ظهرت مسألة الحرب الوهابية، كان قد صار الغرض الأوحد من سياسته هو الظفر بالحكم الوراثي في مصر، سواء تحقق ذلك، برغم أنف الباب العالي — وقد تبين لمحمد علي أنه يتعذر عليه فعل ذلك؛ لعدم تأييد الدولتين (إنجلترة وفرنسا) لمشروع استقلاله — أم جاء بموافقة صاحب السيادة الشرعية عليه، وهو أمر اعتقد الباشا أن من الميسور تحقيقه إذا نجح في استرضاء الباب العالي، على أنه مما تجدر ملاحظته أن بروز قضية يوسف كنج وسليمان باشا في هذه المرحلة، كان بسبب ما انطوت عليه هذه القضية من حقائق متصلة بوضع باشويته في علاقاتها مع مقر السلطنة، كولاية من ولايات الدولة العثمانية، للسلطان العثماني شرعًا وقانونًا مطلق التصرف في مصير ولاته عليها، يبقيهم في مناصبهم بها أو يعزلهم عنها، ثم بسبب الملابسات التي لابستها، من حيث صلة باشويته بالولايات العثمانية الأخرى المتاخمة لها، وهي صلة لا محيد عن خضوعها لأثر الحوادث الطارئة في هذه الولايات عليها، نقول إن بروز هذه القضية كان من أحسم العوامل التي جعلت الباشا يتجه بنظره من هذا الوقت المبكر صوب الشرق؛ أي صوب الشام.

حقيقة تنازعت الباشا الرغبة في التوسع نحو الغرب، وظهرت آثار هذه الرغبة عندما تزوج محمد علي في مايو ١٨١٢ من أرملة أحمد باشا القره مانلي الذي أخرجه أخوه يوسف باشا حاكم طرابلس الغرب من حكومة أو باشوية بنغازي في عام ١٨٠٥، فلجأ إلى مصر، ولم تكن هذه المرة الأولى التي فعل فيها ذلك؛ حيث كان قد لجأ إلى الإسكندرية وأقام بالصعيد بعض الوقت في العام السابق، وقد عاش الآن بالإسكندرية ثم تُوفي بها بعد ست سنوات، فتزوج الباشا من أرملته، وأغدق على إخوتها العطايا، وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته في ٢٠ مايو ١٨١٢ يعلق على هذا الحادث بأن ما فعله الباشا إنما يحمل على الاعتقاد بأنه ما تزوج هذه الزيجة إلا من أجل تحقيق مأربه، وهو غزو برقة، التي امتلكها ملوك مصر القدماء في الزمن الغابر.

ولكن هذا الاتجاه نحو الغرب كان حدثًا عابرًا، فقد أقر «سانت مارسيل» نفسه في رسالته السالفة بأنه من المعروف أن أطماع باشا مصر، هي إنشاء حكومته على غرار حكومات وجاقات الغرب، إذا شاءت الدول العظمى تأييد أهدافه، وفضلًا عن ذلك، فإنه ما أن أُثيرت قضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي، وتوسط محمد علي لدى الباب العالي لإرجاع يوسف كنج إلى ولاية دمشق، وإلحافه في عزل سليمان باشا، حتى راح «دروفتي» يوضح لحكومته في ١١ نوفمبر ١٨١٠ بواعث هذا المسعى، فقال: إن محمد علي يبغي من إعادة باشوية دمشق إلى يوسف كنج، وضع قدمه في الشام، وتحقيقًا لهذه الغاية يريد كذلك تنصيب ولده طوسون باشا على ولاية صيدا وعكا، بدلًا من واليها سليمان باشا، ثم يستطرد «دروفتي» فيقول: ومع أن مساعيه في صالح يوسف كنج لم تَلقَ قبولًا لدى الباب العالي فإن ذلك لا يمنع الاعتقاد بأنه من المحتمل أن ينفِّذ الباشا خططه التي يبغي منها امتلاك سوريا. ثم عاد «دروفتي» في ١٩ أبريل ١٨١١ يتحدث عن غايات محمد علي فقال: «إنه؛ أي القنصل الفرنسي، علم أن الباشا كلَّف قبو كتخداه في القسطنطينية أن يجس نبض وزراء السلطان العثماني في احتمال ظفره بالاستقلال الذي يريده، وفضلًا عن ذلك، فهو؛ أي محمد علي، يبغي دائمًا الحصول على باشوية الشام، وذكر لي ذات يوم أن هذا لن يكلفه سوى سبعة أو ثمانية ملايين قرش يدفعها لخزانة السلطان»، بل إن «دروفتي» ساورته الشكوك من ناحية الغرض الذي يبغيه الباشا من استعداداته العسكرية، فقال في كتابه إلى حكومته في ٥ يونيو ١٨١١: «إن الباشا منذ عودته من الإسكندرية في ٣٠ مايو، قد اختص بكل عنايته الجيش الذي يتهيأ بقيادة طوسون باشا لقتال الوهابيين، ولكن كل الاستعدادات التي أُجريت تدل على أن هذا الجيش سوف يقطع الصحراء للذهاب إلى سوريا، والحقيقة أن غرض هذه الحملة الصحيح لا يزال سرًّا يكتمه الباشا، الذي لا يترك حتى في هذا الأمر ذلك النظام الذي درج عليه في سياسته من حيث التأني والتمهل والتسويف، ثم العمل حسبما تقتضيه الظروف.»

وكان بعد أن سيَّر الباشا حملته فعلًا ضد الوهابيين، أن كتب «دروفتي» في نشرته الإخبارية عن حوادث شهر أكتوبر ١٨١١، أن الباشا لا يزال يرفض التخلي عن مشروع إرجاع يوسف كنج إلى حكومة دمشق؛ «ليضع بهذه الوسيلة قدمه في سوريا، ولقد جعله الباب العالي يرجو إمكان هذا الترتيب بمجرد نجاحه في طرد الوهابيين من الحرمين الشريفين.» وفي نشرته الإخبارية عن حوادث النصف الأول من شهر ديسمبر عام ١٨١٢، كتب «دروفتي» أن بدو الصحراء التي تفصل سوريا عن مصر قد نهبوا قافلة غنية في طريقها من السويس إلى القاهرة، فبعث محمد علي يهدد سليمان باشا بالحرب، إذا لم تَعُد المنهوبات وتُسوى المسألة تسوية مرضية، كما بعث برسول إلى القسطنطينية يشكو سليمان باشا، وقد بدر من الباشا في هذه المناسبة أنه لما يتخل بعدُ عن مشروع مد سلطانه إلى سوريا.

وهكذا ارتبطت قضية يوسف كنج وسليمان باشا بمشروعات محمد علي السياسية والتي صارت وقتئذٍ حملة الحجاز ذاتها من أهم أركانها؛ لأن الاتجاه صوب الشرق يحمل معنى دعم باشويته على أساس الحكم الوراثي الذي يريده ويسعى من أجله، ولأن نجاحه في إعادة يوسف كنج إلى حكومة دمشق ثم تنصيب ولده طوسون باشا في ولاية صيدا وعكا، وطرد سليمان باشا من هذه الأقاليم المتاخمة لباشويته، يمكِّنه من مد سلطانه إلى سوريا، وفي ذلك كله تعزيز وتقوية لباشويته المصرية.

وتفصيل خبر يوسف كنج، أنه استطاع بعد حياة حافلة بالمغامرات — يخدم تارة أحمد باشا الجزار، وتابعه سليمان باشا الكرجي الطرف الثاني في هذه القضية، وتارة أخرى عبد الله باشا العظم — استطاع أن يظفر بولاية الشام خلفًا لعبد الله العظم، فلم يلبث في الحكم إلا قليلًا، حتى علا ذكره فأقام العدل وأبطل المظالم، واستقامت أحواله، وشاع أمر عدله النسبي في البلدان، فثقل أمره على غيره من الولاة وأهل الدولة لمخالفته طرائقهم، فقصدوا عزله وقتله، وكان سليمان باشا ممن تربصوا به الدوائر، وطمعوا في ولايته، وقد واتت سليمان الفرصة، عندما توانى يوسف كنج في الخروج بجيش لقتال الوهابيين، وإنقاذ الحرمين الشريفين، تلبية لأوامر الباب العالي، وسهل على خصومه تأليب الديوان العثماني عليه، وأصاخ البابُ العالي السمعَ لسعايتهم، فاعتقد أن يوسف كنج قد انحاز إلى جانب الوهابيين، وآثر نفعه الخاص على مصلحة الدولة، ثم حدث أن هاجم الوهابيون الشام في بداية عام ١٨١٠، فعجز كنج يوسف عن دفعهم، فدخلوا حوران وعجلون، واكتفى يوسف باشا بتحصين «مزيريب» — وتقع إلى الجنوب من دمشق — وقفل راجعًا إلى عاصمة ولايته، وصار يطلب النجدة من سليمان باشا بعكا، والأمير بشير الشهابي بلبنان لمقاومة الوهابيين وطردهم، فكان لهذا الحادث أسوأ الوقع في دوائر الباب العالي.

فقد رسخ الاعتقاد الآن، بانضمام يوسف كنج إلى الوهابيين قلبًا وقالبًا، وقرَّر الباب العالي عزله من ولاية الشام، وإسناد المنصب إلى سليمان باشا، ولما كانت قد استطالت مماطلة محمد علي وتسويفه وتأخره في الخروج بينما استفحل شر الوهابيين، وزادت سطوتهم؛ فقد قرَّر الباب العالي كذلك، أن يأمر باشا القاهرة أمرًا حاسمًا قاطعًا، بإنفاذ جيشه إلى الحجاز، لا سيما وأنه قد بعث إليه بجانب من المهمات التي يريدها، ويستمر إرسال باقي هذه المهمات إليه دون انقطاع، واختار الباب العالي لهذه المهمة المزدوجة «قزلار آغا» ويُسمى عيسى آغا، وصفه الشيخ الجبرتي بأنه: «أسمر اللون حبشي مخصي لطيف الذات، متعاظم في نفسه، قليل الكلام.»

فقصد قزلار آغا إلى عكا يحمل فرمانًا بعزل يوسف كنج وضم ولاية الشام إلى سليمان باشا والي صيدا وعكا، بدعوى أن يوسف باشا قد نبذ الطاعة، وتباطأ في إرسال جنده إلى بلاد العرب، ودبَّر سليمان باشا خدعة يستطيع بها إخراج يوسف كنج من الشام، وأخذَ حكومتِها منه، فعمل على ترويج إشاعة كاذبة بأن الوهابيين قد اقتربوا ثانية من مزيريب، ثم خرج على رأس جيشه لملاقاتهم، ودعا في الوقت نفسه زميله والي الشام، يوسف كنج، إلى الخروج لصد العدو ودحره، فصدَّق يوسف باشا الخبر ولبَّى الدعوة، ولكنه ما إن خرج من دمشق، حتى قصد سليمان إلى دمشق بكل سرعة ودخلها، وأبرز فرمان توليته عليها، وأعلن أنه حاكمها، فأُسقط في يد يوسف كنج، ولكنه أبى الإذعان وصمَّم على المحاربة، ولكنه انهزم، ونهب جنده متاعه وانفضوا من حوله، وأهدر الباب العالي دمه، ثم إنه صار يتنقل من مكان إلى آخر، ثم ما لبث أن كتب إلى محمد علي يستأذنه في اللجوء إليه، فأذن له، فحضر إلى دمياط في أوائل سبتمبر ١٨١٠، وأرسل محمد علي لملاقاته طاهر باشا، ووصل يوسف كنج القاهرة في ١٣ سبتمبر، ونزل بقصر شبرا وضربوا لحضوره مدافع، ثم أنزله الباشا بمنزل يطل على بركة الأزبكية وعيَّن له ما يكفيه، وأرسل إليه هدايا وخيولًا، وما يحتاج إليه.

وأما قزلار آغا، فقد وصلت القاهرة الأخبار منذ ٢ أغسطس ١٨١٠ بحضوره من طرف الدولة وعلى يده أوامر وخِلعة وسيف وخنجر لمحمد علي باشا، وصحبته أيضًا مهمات وآلات مراكب، ولوازم حروب لسفر البلاد الحجازية، ومحاربة الوهابيين، وكان محمد علي متغيبًا عن القاهرة، ومشغولًا في حربه مع البكوات المماليك في الصعيد؛ حيث انتصر عليهم عند جسر اللاهون في ٢٠ يوليو، وكان يستعد للالتحام معهم في المعركة التي شتتت شملهم في الشهر التالي عند البهنسا، ولكن رجال حكومته في القاهرة احتفوا بعيسى آغا عند وصوله احتفاءً طيبًا، وقد وصل هذا شبرا يوم ١١ أغسطس فعملوا له هناك شنكًا وحراقات وتعليقات قبالة القصر الذي أنشأه الباشا بساحل شبرا، وخرجوا لملاقاته ثم عملوا له موكبًا عظيمًا وطلع إلى القلعة، وضربوا عند طلوعه إلى القلعة مدافع، وأحضر قزلار آغا خِلعة من القسطنطينية لإسماعيل بن محمد علي، فعملوا ديوانًا بالقلعة، وألبسوها لابن الباشا، وجعلوه باشا مير ميران … وضربوا شنكًا ومدافع.

ولكنه سرعان ما تبين أن قزلار آغا — على غير مألوف عادة رسل الباب العالي — يرفض كل ما يريد رجال الباشا أن يقدموه له من هدايا، بل وأبى أن ينزل بالمنزل الذي أعده الباشا لسكناه، وكان هذا التحفظ الشاذ دليلًا على أن الأوامر التي أتى بها رسول الباب العالي في هذه المرة كانت صارمة شديدة ولا يحتمل تنفيذها أي إمهال، وأن على الباشا أن يخرج بجيشه سريعًا إلى الحجاز، فبادر محمد علي بالعودة إلى القاهرة، ووصلها في ١٧ سبتمبر، وراح يؤكد للآغا أنه مهتم جِد الاهتمام، ومن زمن طويل بانتزاع الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، وأنه تعهد بالقيام بهذه المهمة منفردًا من بضعة شهور خلت، ولم يطُل مقام قزلار آغا فغادر القاهرة إلى القسطنطينية في ٢٩ سبتمبر، ولكن قبل سفره كان الباشا قد بدأ يسعى لدى الباب العالي، لاستصدار عفو السلطان عن يوسف باشا، وإرجاع ولاية الشام إليه، وعزل سليمان باشا عنها، ثم إبعاده إن أمكن من عكا وصيدا كذلك.

ولم يكن هناك بعد انتصار محمد علي على البكوات المماليك في معركتي قنطرة اللاهون والبهنسا الأخيرتين، ما يدعو لإرجاء إنفاذ جيشه إلى الحجاز؛ حيث انتفى الآن أكبر مسوِّغ استند إليه الباشا حتى هذا الوقت في إرجاء حملته ضد الوهابيين؛ لأن الباب العالي كان قد أجاب مطالبه، وبدأ يبعث إليه بالمهمات وأدوات الحرب التي يريدها، أضف إلى هذا أن محمد علي نفسه كان قد صمَّم فعلًا على تلبية أوامر السلطان، للأسباب التي عرفناها، ولكن ظهور مسألة يوسف كنج وسليمان باشا، أدخل تغييرًا جديدًا على الموقف، حمل الباشا على التريث حتى ينتهي إلى أمر في هذه القضية.

ومما تجدر ملاحظته، أن محمد علي لم يكن يريد أن يتخذ من هذه المسألة مجرد ذريعة تُضَم إلى ذرائعه الأخرى التي توسَّل بها سابقًا لإرجاء تنفيذ أوامر الباب العالي، بل إنه كان صحيح العزم على تسوية قضية يوسف كنج وسليمان باشا التسوية التي تكفل له الاطمئنان على باشويته، قبل إخراج أكثر قوات جيشه من البلاد وإرسالهم إلى أرض الحجاز البعيدة، ولقد كان من نتائج مسعى الباشا لتحقيق هذه الغاية، وعدُ الباب العالي له — كما أسلفنا — بمنحه الحكم الوراثي في باشويته عند انتصاره على الوهابي.

وتتضح جدية مسعى محمد علي في إرجاع ولاية الشام إلى يوسف كنج من الأسباب التي استند عليها في المطالبة بعزل سليمان باشا الكرجي، وتأمين الدولة له؛ أي لمحمد علي، من شروره، وأما هذا المسعى فقد بدأ وقزلار آغا لا يزال في القاهرة، فكتب محمد علي إلى الباب العالي في ٢٥ سبتمبر ١٨١٠ رسالة طويلة، يلتمس ليوسف باشا العفو من السلطان إلغاء عقوبة الإعدام التي صدرت عليه، وإطلاقه والإفراج عنه، وتوجيه إيالة الشام إليه.

وتضمنت هذه الرسالة شكوى محمد علي من سليمان باشا، وكانت شكوى مريرة، بدأها بقوله: إن هذا الأخير ينتمي إلى نفس الجنس الذي ينتمي إليه المماليك في مصر؛ ولذلك فهو بحكم هذه الصلة يهوى مساعدتهم قدر استطاعته، وقد كانت له بمحمد بك الألفي صلة وثيقة، والأخير في حياته كان أقوى البكوات خصومة لمحمد علي، ويعزو الباشا لمكائده السبب في إغراء البكوات: شاهين الألفي وزملائه الذين كان محمد علي قد نجح في الاتفاق معهم في العام السابق وحضروا مستأمنين يعيشون في القاهرة — على نحو ما سوف يأتي ذكره مفصلًا — «فأسكنهم بها محمد علي بالاستئمان والصلح على أن يلتحقوا بخدمته، فكان سليمان باشا هو الذي دعاهم إلى العصيان، بتلقينه دروس الفتنة والفساد لهؤلاء (البكوات) في رسائله إليهم، التي صار يحضهم فيها على التمرد، ويحرك فيهم الفتنة، مبعث ذلك فساد رأيه ثم رغبته في تعطيل محمد علي عن القيام بالمهمة التي أُسندت إليه؛ أي إنقاذ الحرمين الشريفين، الأمر الذي ترتب عليه كذلك، اضطرار محمد علي إلى تحمل نفقات كثيرة بسبب استئنافه للنضال والحرب مع المماليك. وفضلًا عن ذلك، فقد دأب سليمان باشا على تحرير الشكاوى في حق هذا الخادم المطيع؛ أي محمد علي، إلى الدولة العلية، وإلى أولياء الأمور (بالباب العالي) دون أن يكون لهذه الشكاوى أصل أو سبب.»

ثم استطرد الباشا يقول: «ولكنه قد تمكن من إزالة غائلة المماليك بحد السيف ولله الحمد، بفضل ما يملكه من قوة وقدرة في ظلال جلالة السلطان، وأعطى المناصب التي كانت أُعطيت للمماليك إلى رجال حكومته، فكان ما فعل سليمان باشا من حيث تحريك الفتنة والحض على العصيان، مبعثَ خير في النهاية، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.

ومع ذلك، فلا يعني هذا انتفاء الخطر من ناحية سليمان باشا؛ إذ يتوقع محمد علي عند إرسال ولده طوسون أحمد باشا مع جنده المشاة المعينين للذهاب بطريق البحر إلى جهة الحرمين الشريفين، وعند سفر محمد علي قريبًا بطريق البر، بعد ذهاب ولده؛ يتوقع محمد علي قطعًا أن يعود سليمان باشا إلى مألوف عادته القديمة، فيعمل على تحريك الفتنة، ويدأب على إلحاق الأذى به؛ حيث إنه عاجز كل العجز عن الذهاب إلى الحجاز، وإن كان قد طلب الباب العالي منه ذلك؛ لأنه لا جند ولا قوة لديه، ومع أنه يجب على محمد علي أن يمضي في مهمته غير عابئ بفتن سليمان باشا لاعتقاده أن من عمل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها، إلا أن المصلحة تقتضي أن لا يترك خلف المنتدب لمهمات جسيمة لم يتيسر لأحد القيام بها منذ خمس سنوات، وعشر سنوات، وعشرين سنة، مَن يقوم بتحريك الفتنة ضده، ويعمل على إفساد الأمور عليه، ولا أن يكون مثل هذا الرجل في جواره، حتى يهدأ خاطره ولا ينصرف ذهنه إلا للمهمة المكلف بها.

وعلى ذلك، فإذا دُفع المشار إليه؛ أي سليمان باشا، وأُزيل من جواره، ووجِّهت إيالة الشام إلى يوسف باشا كنج، مع التفضل بالصفح عن ذنبه والعفو عنه، وإبقاء وزارته؛ دخل الاطمئنان إلى قلب الباشا وتسنَّى إنجاز مأمورية الحجاز بكل سرعة.

وليس مبعث ما يسأله محمد علي سوى ما تستلزمه طبيعة المهمة المكلَّف بها، من حيث ما يجب لتسهيلها من دفع عوامل الشر عنه، ولم يكتب ما كتب لغرض نفساني ضد سليمان باشا أو لتحيز في جانب يوسف باشا، آية ذلك أنه ما كتب شيئًا منذ أن ولِّي الوزارة في شأن هذين، سواء كان خيرًا أم شرًّا، إلا ما أملته الوقائع الصحيحة، وقد توسط الآن في الشفاعة ليوسف باشا كنج حسبةً لله؛ نظرًا لأنه يدين بالعبودية لجلالة السلطان، ولا ذنب له، وتعرَّض لغضب جلالته، بسب ما افتراه عليه خصومه زورًا وبهتانًا، وحيث إن يوسف باشا قد التجأ إلى محمد علي ويُعدَّه مسموع الكلمة، وموضع اعتبار لدى الدولة العلية، يرجو محمد علي أن يقبل السلطان شفاعته، وقد قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.

واختتم الباشا رسالته بتكرار الرجاء في دفع سليمان باشا الذي يجزم محمد علي يقينًا أنه يسعى في المفاسد المفضية إلى الشرور، والتي يتسبب عنها انشغال البال أثناء قيامه بمهمة الحجاز، ويرجو إبعاده من جواره، مع إصدار العفو عن يوسف باشا كنج وإطلاقه، ومحو عقوبة الإعدام عنه وتوجيه إيالة الشام إليه، وأنه؛ أي محمد علي، لم يكن فيما سطَّره لا متحيزًا ضد سليمان باشا ولا متجنيًا عليه، فضلًا عن أنه لم يكن مدفوعًا بعوامل نفسانية ضد هذا الأخير لا سبب ولا موجب لها.»

وعاد محمد علي في ٣٠ سبتمبر يكرر رجاءه في العفو عن يوسف باشا وإرجاع ولاية الشام إليه، وإبعاد سليمان باشا من جواره، فذكر نفس الحجج التي ذكرها في رسالته السابقة، مبينًا أن بقاء سليمان باشا على حدود باشويته، يثير الفتن ويحبك خيوط المؤامرات ضده، ويعطل خروجه إلى الحجاز، مع ما يترتب عليه التأخير في إنهاء مهمة الحرمين الشريفين، واستشراء فتنة الوهابيين في بلاد العرب تبعًا لذلك، من ضرر عظيم لا يقتصر أذاه على محمد علي، بل يلحق بالدولة بأسرها، وأكد الباشا أنه سوف يقوم بإنجاز هذه المهمة وحده ودون انتظار أية معاونة من أحد، بمجرد أن يقبل الباب العالي رجاءه.

ومع أن الباشا ظل مهتمًّا في إكمال استعداداته لحملة الحجاز، وجلب سفن الداو أو الضاو إلى ميناء السويس لنقل الجند، فقد استمرت قضية يوسف كنج وسليمان باشا تحتل مكانًا ظاهرًا في تفكيره، وكان لا يسعه إنفاذ جيشه إلى الحجاز، وخطر البكوات المماليك لا يزال ماثلًا، طالما بقي سليمان باشا يراسلهم، ويحضهم على جمع فلولهم، واستئناف القتال مع الباشا، والثابت أن الخطر المباشر، قد طغى في هذه الفترة على التفكير في أي غرض آخر، بعيد أو قريب، استهدفه الباشا من حملته المزمعة على الحجاز.

وقد شفع محمد علي وساطته في حق يوسف كنج لدى الباب العالي، ببذل المال الكثير في القسطنطينية، ونشط كتخداه محمد نجيب وسائر وكلائه، يسعون بكل همة لاستصدار العفو عن يوسف كنج وإرجاعه إلى ولايته، فكتب أحد هؤلاء، سليمان أفندي، منذ ١٩ سبتمبر يطمئن محمد علي بأن المساعي مبذولة لهذه الغاية، ولكن جهود هؤلاء الوكلاء لم تأتِ بنتيجة لتمسك الباب العالي بموقفه، وبدلًا من أن يقبل هذا وساطة محمد علي بعث يأمر محمدًا عليًّا برمي رقبة يوسف باشا، وجاء في أمره هذا إليه (في أكتوبر سنة ١٨١٠)، أن الباب العالي كان قد عهد إلى يوسف كنج بالولاية على مقاطعات غنية كثيرة، مثل دمشق وطرابلس الشام، لقاء أن يقوم بمحاربة سعود بن عبد العزيز وطرده من الحرمين الشريفين، ولكن يوسف كنج لم يفكر إلا في مصلحته الخاصة، ولم يهتم بهذه المسألة، بل إنه لم يلبث أن اتحد مع الوهابي، مع ما في ذلك من خروج على الشريعة الإسلامية، ولما كان السلطان قد علم أن يوسف باشا قد ذهب إلى محمد علي لاجئًا، فقد أصدر أمره إلى هذا الأخير أن يبعث إلى القسطنطينية بأقصى سرعة رأس يوسف كنج مقطوعًا.

وفي ١١ أكتوبر من العام نفسه، كتب أحمد شاكر من القسطنطينية إلى محمد علي، يوضح الأسباب التي جعلت أبواب الشفاعة ليوسف باشا والتماس العفو عنه مغلقة، وينبِّه بإرسال الأمر الصادر إلى الباشا بقطع رأسه وإرساله إلى الدولة، وهو الأمر السالف الذكر، فذكر أحمد شاكر أن سبب غضب الباب العالي على يوسف باشا، هو كسله وتراخيه في مسألة استخلاص الحرمين الشريفين من الوهابيين، فصدر فرمان من السلطان بإعدامه؛ حيث اعتبر مسلك يوسف كنج مخالفًا للدين والشرع؛ ولذلك فقد صارت أبواب الشفاعة مسدودة، بل وأصدر السلطان أمره إلى الباشا برمي رقبته، ولا معدَى عن تنفيذ هذا الأمر نظرًا لما ظهر من استهجان لوساطة الباشا وشفاعته في حق يوسف كنج.

فكان هذا الفشل صدمة لمحمد علي ومخيبًا لآماله، حتى إن «دروفتي» الذي استطاع أن ينفذ إلى سريرة الباشا، بحكم صلاته الوثيقة به من وقت وصوله إلى الولاية، وأحاديث الباشا الكثيرة معه عن مشروعاته وأهدافه، لم تفته ملاحظة أن وساطة محمد علي لم تقابل بترحاب في القسطنطينية، مما أحدث أثرًا سيئًا في نفسه، لما سوف يترتب على رفض إرجاع يوسف كنج إلى باشوية دمشق من تعطيل لأطماع محمد علي في سوريا، ولو أن هذا الأخير — كما استطرد «دروفتي» في رسالته التي نقل فيها هذا الخبر إلى حكومته في ١١ نوفمبر — يتذرع (لتبرير وساطته) بدعوى أن قسمًا من الفرسان السوريين في جيشه، والذين خدموا سابقًا تحت قيادة يوسف كنج أيام ولايته في الشام، يرفضون السير ضد الوهابيين ما لم يرجع يوسف كنج إلى باشويته.

ولكن هذه الصدمة ما كانت لتثني محمد علي عن عزمه، وهو الذي قر رأيه على إنفاذ جيشه إلى الحجاز، بل كانت على العكس من ذلك مبعث نشاط جديد لاستئناف المسعى لدى الباب العالي بكل همة، ولما كان الديوان العثماني من جهته لا يسعه الاستغناء عن خدماته، ويبغي القضاء على الوهابي، ولا يوجد من الولاة في الدولة من يستطيع إنفاذ جيش قوي، وكامل العدة لهذه الحرب، التي اعتبرتها الدولة العثمانية حربًا دينية، فقد تضافرت العوامل التي ساعدت على انفراج الأزمة.

(١١) الباب العالي يعد بالباشوية الوراثية

فقد مضى محمد علي في استعداداته، ولكنه اشترط شرطًا أساسيًّا لخروجه شخصيًّا إلى الحجاز، لضمان نجاح الحملة المزمعة، أن يعفو السلطان عن يوسف كنج، وأن يعزل سليمان باشا من ولاية الشام، فكثرت المراسلات بين القاهرة والقسطنطينية في الشهور الستة التالية، تبين في أثنائها لمحمد علي أن الأمور قد تحرجت بينه وبين الباب العالي بسبب تأخر خروج جيشه إلى الحجاز، لدرجة أنه صار حتمًا عليه أن يرسل هذه الحملة لقتال الوهابيين، سواء أجاب الباب العالي مطلبيه (العفو عن يوسف كنج وعزل سليمان الكرجي) أم لم يجبهما، وهذا إذا شاء عدم الاصطدام معه وإعلان الثورة عليه، وهو ما لم يكن في وسعه ولم يكن في صالحه — للظروف والأسباب التي عرفناها — أن يفعله، ولقد كان من أثر تحرج الأمور بينه وبين الديوان العثماني في هذه الفترة، أن قر رأي محمد علي على درء خطر مكائد سليمان باشا عنه، ومعالجة مسألته بالوسائل التي في وسعه هو اللجوء إليها، طالما بقي الباب العالي مصرًّا على بقاء سليمان باشا في ولايتي الشام وصيدا، ولا يريد عزله من حكومة دمشق، فكان هذا العزم مبعث الكارثة التي حلت بالبكوات المماليك في مذبحة القلعة، ثم إنه كان مما جعل محمد علي يُنزل بهم هذه الكارثة المروعة، أن الباب العالي — كتسوية لقضية يوسف كنج وسليمان باشا — وعد محمد علي بإجابته إلى المطلب الذي نشده دائمًا، وظل ركن الزاوية في سياسته بأسرها في هذه الفترة، إنشاء الحكم الوراثي في باشويته.

ثم إنه تبين في أثناء هذه الشهور الستة للسلطان كذلك، أن محمد علي بالرغم مما بدا منه من لجاجة في قضية يوسف كنج وسليمان باشا، قد صح عزمه فعلًا على القيام بحملة الحجاز، فقطع شوطًا بعيدًا في الاستعداد لهذه الحملة، وأرسل قطع أسطوله من بولاق لتركيبها في السويس لنقل الجند، كما شرع في شحنها بالمؤن والذخيرة، فلم يكن هناك معدًى إذن، لضمان نجاح هذه الحملة من نزول الباب العالي شيئًا من موقفه، لا سيما وقد اشترط محمد علي لذهابه بنفسه إلى الحجاز مع جيشه إجابة مطالبه، فكان وعد الباب العالي بإعطائه الحكم الوراثي أولًا ثم كان عفوه عن يوسف كنج ثانيًا، بل ووعد الباب العالي بتنصيب يوسف كنج واليًا على جدة، كتسوية نهائية لمسألته.

وكان من الواضح أنه إذا نجح محمد علي في حملته ضد الوهابيين، زاد قدمه رسوخًا في باشويته، بحيث يتعذر على سليمان باشا مناوأته، لا سيما بعد أن يجرده من الأداة التي استخدمها في تحريك الفتنة في مصر (البكوات المماليك)، وبحيث يستطيع محمد علي تجديد المسعى في مسألة يوسف كنج، ومن أجل الظفر بالباشوية الوراثية، مقصده الأول دائمًا إذا أخلف الباب العالي وعده.

واستُؤنفت المراسلات بين محمد علي والباب العالي، بكتاب بعث به إليه في ١٨ أكتوبر ١٨١٠، محمد عارف أحد وكلاء الباشا في القسطنطينية، يستنهض همته في موضوع الحرمين الشريفين، ويذكر له أن ما ظهر من تصميم الباشا على محاربة الوهابيين، قد قُوبل بالدعوات الطيبات الصالحات من شيخ الإسلام، الذي سطَّر كتاب ثناء وتقدير للباشا، ولكن الباشا بقي متمسكًا بمطلبه (عزل سليمان باشا من إيالة الشام)، وعاد يؤكد في ٣ نوفمبر، أن سليمان باشا لا يني يتراسل مع البكوات المماليك، بالرغم من عداء هؤلاء المستمر لمحمد علي، حتى إنه اضطر إلى قتالهم، وإعمال السيف فيهم وقال إنه يسوءه أشد الاستياء أن يكون الباب العالي قد كلفه بمأمورية إنقاذ الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين مستقلًّا ومتعهدًا بهذه المصلحة الجسيمة وحده بينما تجري المكاتبات في الوقت نفسه بين سليمان باشا وبين البكوات المماليك، وتقوم بين الفريقين صداقة اشتُهر أمرها بين الناس، كما صار معروفًا للجميع أن هناك مراسلات بين سليمان والبكوات، ثم قال محمد علي: «إن سليمان باشا لا يبغي من مصادقته للبكوات وتراسله معهم سوى الحيلولة دون تمكين محمد علي من القيام بهذه المأمورية الحجازية، وأن سليمان لن يحجم عن بذل كل ما يملك في هذا السبيل؛ حتى ينتقم منه، لا سيما وأن مئات من الأشقياء (المماليك) صاروا يقيمون الآن بولاية السودان فارين من مصر، ومع أن هناك خلافًا بينهم فيما يجب أن يفعلوه: أيذهبون إلى تونس ومنها يبحرون إلى فرنسا، أم يذهبون إلى الوهابيين عن طريق الحبشة، أم ينضمون إلى سليمان باشا، فيذهبون عن طريق الجبل (على طول شاطئ البحر الأحمر) على ظهور الإبل إلى القدس، فقد استحسنوا جميعًا الرأي واستصوبوه، وقرروا الذهاب إلى سليمان باشا.»

وقد أنذر محمد علي في رسالته هذه «أنه إذا اتضح له أن البكوات قد صح عزمهم فعلًا على الذهاب إلى سليمان باشا فإنه لا محالة سوف يسلط عندئذٍ قواته على جهة العريش وغزة، ويرسل إلى تلك الجهات قدرًا من العساكر البدو ليقطعوا السبيل على المماليك، ثم إنه لما كان واضحًا أن الباشا المذكور سليمان لا يقتصر على كل حال على الاشتغال بخاصة نفسه، بل سوف يتصدى بعد سفر محمد علي من مصر إلى الحجاز، ويعمل لنشر المفاسد، وإرباكه حتى يوقعه في الغلط، فإن بقاء سليمان في ولايته سوف يعطل خروج محمد علي في جيشه ضد الوهابيين؛ ولذلك فإنه يعود فيطلب مكررًا ضرورة عزل سليمان باشا من إيالة الشام.»

وفي ٢٥ نوفمبر عاد محمد علي يكتب مرة أخرى إلى الباب العالي: «أن حاجته لإبعاد سليمان باشا من ولاية الشام قد باتت أمرًا ظاهرًا ظهور الشمس في رائعة النهار؛ لأن لديه من المعلومات الوثيقة ما يجعله يجزم قطعًا بأن سليمان سوف يجترئ على باشويته وقت سفره في الحجاز، وأما إذا لم يبعد سليمان باشا من إيالة الشام فسوف يضطر محمد علي إلى البقاء في مصر، ويكتفي فقط بإرسال العساكر المرتبين بحرًا بالضرورة، وهو لا يدري حينئذٍ إذا كان من المنتظر أن ينجح هؤلاء في تحقيق المهمة المكلفين بها والوصول إلى الغرض المنشود؛ أي هزيمة الوهابيين واستخلاص الحرمين الشريفين منهم، أم يكون الفشل نصيبهم.»

وقد انطوى هذا التحذير على تهديد خفي بأن الباشا قد يعدل في آخر لحظة عن إنفاذ الحملة كلية؛ حيث إنه قد صار مشكوكًا في نتيجتها إذا هي ذهبت بدونه.

وعلاوة على ذلك، فقد اختار محمد علي هذا الوقت بالذات، ليعرض «مشروع استقلاله» بصورة واضحة محددة على القسطنطينية، ويطلب إعطاءه وضعًا مماثلًا لوضع وجاقات الغرب، فبعث إلى كتخداه محمد نجيب في ٢٤ نوفمبر ١٨١٠ برسالة مطولة، تحدث فيها عن هزائم جيوش الدولة على يد الروس، والتي كان من أثرها أن اضطر السلطان إلى طلب النجدة من نابليون، ثم استطرد من ذلك إلى عرض مشروع استقلاله، وذكر مزاياه، والفائدة التي تعود من تحقيقه على الدولة ذاتها، فقال: «ولقد وجدت الوسيلة التي يمكن بها خدمة الدولة وقد سبق لي أن ذكرتها لكم — مخاطبًا نجيب أفندي — وهي أن يعلن الباب العالي إيالة مصر حرة، في نفس الوضع الذي لوجاق الجزائر والوجاقات الأخرى؛ فإنه إذا حدث قيام حالة حرب بين الإنجليز والإمبراطورية العثمانية، فسوف يكون في وسعي البقاء بمنأى عن هذه الحرب، وأظل على صلات طيبة مع الإنجليز، وأستطيع حينئذٍ الحصول على خمس أو عشر سفن كبيرة، أرفع عليها علم الوجاق المصري فأجعل هذه السفن تطوف في البحر الأبيض، ولن ألقى صعوبات ما في تموين أهل القسطنطينية بالغلال وسائر أصناف الحبوب، وبالذخائر المصرية، وسوف أعمد إلى شحنها بكميات وفيرة من هذه المواد، وأبعث بهذه السفن المحملة إلى القسطنطينية دون انقطاع، ومن ناحية أخرى فلن تصادف مهمة استخلاص الحرمين الشريفين المسندة إليَّ أية صعوبات تعطلها، فسوف يقوم بها الباشا فورًا، وهو مطمئن إلى نجاحه في هذه المهمة، حتى إذا انتهت مهمة الحرمين الشريفين، يعمد جلالة السلطان إلى سحب هذا الوضع الذي أُعطي لإيالة مصر، وتعود هذه إلى الوضع الأدنى الذي كان لها، كمقاطعة عادية من مقاطعات الدولة فحسب، وما نحن وأهل هذه البلاد إلا عبيدًا لمولانا صاحب الجلالة.»

وهكذا، كان من الواضح مما جاء في هاتين الرسالتين، أن الباشا بما أبداه من تشكك في نجاح الحملة إذا خرجت بدونه، وبما تقدم به الآن من طلب صريح، يبغي منه رفع ولايته إلى مرتبة الوجاقات قد صار يلوح بأن إنفاذ جيشه إلى الحجاز مرتهن بإجابته، ليس إلى مطلبه الخاص بعزل سليمان باشا من إيالة الشام فحسب، بل وإعطائه الحكم الوراثي في مصر كذلك.

ولقد كان لهذا التهديد الخفي أسوأ الوقع في دوائر الباب العالي، ونشط المعارضون لمطالب محمد علي ينشرون دعاية مسممة ضده، وأذاع بعض بطانة السلطان العثماني عن مطالب محمد علي، إن تلك إلا حجج ودعاوى، لا يبغي منها الباشا سوى المماطلة والتسويف، وأنه لن يخرج لحرب الوهابيين، ولو بذل له السلطان ملك الدنيا بحالها، ولقي وكلاء الباشا نصبًا وتعبًا في دفع هذه الاتهامات عن مولاهم، وراحوا يحذِّرونه مغبة إرجاء إرسال ابنه طوسون باشا قائد الحملة العام إلى السويس وإلى ينبع، كما صاروا يحذِّرونه من اتخاذ صلات سليمان باشا بالبكوات المماليك ذريعة للتخلي عن الحملة أو للإبطاء أكثر مما وقع في إنفاذها، وفضلًا عن ذلك، فقد راحوا من ناحية أخرى يبذلون كل ما وسعهم من جهد وحيلة لالتماس العفو السلطاني ليوسف كنج، وإنهاء مسألته بصورة تبعث على الرضى وتحفظ سمعة محمد علي الذي أخذ على عاتقه أمام الملأ التوسط فيها، ثم إنهم كدوا وكدحوا حتى يظفروا من الباب العالي بجواب شافٍ للمسألة التي أثارها جديًّا الآن محمد علي، وهي رفع إيالة مصر إلى مرتبة الوجاق على نمط وجاقات الغرب، وعلى أساس تقرير الوراثة في باشويته، ولقد تبين لهؤلاء الوكلاء أثناء مساعيهم هذه أن الأمل عظيم في نجاحها، على الأقل بالدرجة التي تكفل قدرًا كبيرًا من الرضى، لو أن الباشا أنفذ جيشه إلى الحجاز بكل سرعة.

وعلى ذلك، فقد بادر محمد عارف ومحمد نجيب بالكتابة إليه من القسطنطينية في ٨ ديسمبر يستحثانه على إرسال ولده طوسون باشا إلى السويس، ويؤكدان له «أن وصول هذا الخبر إلى الآستانة يُحدث أثرًا كبيرًا في دوائر الديوان العثماني، ويكون مدعاة لبِشْر وفرح عظيمين، وبخاصة لأن هناك كثيرين ممن يعارضون إجابة مطالب الباشا، ويزعمون أن من العبث توقع قيام محمد علي بهذه الحملة؛ لأنه لو أُعطي الباشا الدنيا بأسرها لما تحرك إلى الحجاز، ولما أرسل أحدًا في هذه المهمة.»

وفي ٢٠ ديسمبر ١٨١٠ بعث إليه محمد نجيب برسالة على غاية من الأهمية، يوضح له جسامة الأخطار التي ينطوي عليها تردده في إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ويُبلغه شدة تذمر الباب العالي وشكواه المريرة مما يظهر له من مماطلة من جانب الباشا في هذه المسألة، ولهذه الرسالة بفضل ما تضمنته آثار خطيرة، من حيث إنها جعلت الباشا يحزم أمره نهائيًّا على إنفاذ الحملة الوهابية دون أي إبطاء من جهة، واتخاذ الإجراءات التي اعتقد وجوبها، وكان في قدرته هو اتخاذها محليًّا لتجنيب باشويته شرور سليمان باشا واجتراءه عليها أثناء غيبة جيشه في بلاد العرب البعيدة، وأما نص هذه الرسالة بتاريخ ٢٣ ذي القعدة ١٢٢٥ و٢٠ ديسمبر ١٨١٠ فكان الآتي:

من محمد نجيب إلى مولاي صاحب الدولة محمد علي

لم أقصِّر في تبليغ جميع إرادات وإفادات أفندينا محمد علي كما أمر … وقد حدث ذات ليلة أن دعاني أحد عظماء الدولة لمقابلته في عزلة، ودام الاجتماع بيننا أربع ساعات متصلة، فقال هذا العظيم: يا نجيب أفندي، دعنا نطرح الرسميات جانبًا في هذه الجلسة، ونتكلم بصراحة ووضوح، فإنك لم تترك شيئًا إلا قلته لنا ولغيرنا، في صالح حضرة والي مصر، إما كتابة وإما مشافهة، ولكن إني أسألك ماذا فعل المشار إليه لتنفيذ أية إرادة أصدرتها الدولة العلية إليه؟ لقد أهمل أوامرها جميعها، وهو وزير منذ ست سنوات، لقد اكتفى بأن صار يعد بإرسال ستين ألف كيلة من الحنطة وبضع مئات من أكياس النقود إلى مولانا السلطان صاحب الشوكة، وذلك في العام الماضي فقط، ولا يمكن أن تكون هذه الخدمة في خلال ست سنوات مبعثًا للرضى والاطمئنان.

ثم إن محمد علي — كما استمر هذا العظيم يقول — كان قد وعد منذ ثلاث سنوات بإرسال خمسمائة كيس نقدًا لإعانة الجهاد (ضد الوهابيين) ثم طلب أن يستبدل بها إرسال ذخائر، فصُرح له بذلك، ولكن لم يظهر لهذه الذخائر أي أثر إلى الآن، وبالرغم من مضي أكثر من ثلاث سنوات على إحالة مسألة الحرمين الشريفين إلى عهدته، فقد ظل يتخلص دائمًا من القيام بهذه المهمة، فيقول سأذهب هذه السنة، أو سوف أذهب في السنة القادمة، ولم نلمس أثرًا يدل على وجود أية نية لديه في هذا الشأن، بل كان كل ما شهدناه هو المماطلة والتسويف فحسب، وقول «لعل» و«ليت».

ومع أنه تعهد قطعًا في العام الماضي وأكد الكلام بأنه سوف يخرج إلى الحجاز بعد ثمانية شهور دون انتظار لما يفعله واليا الشام وبغداد، ودون أن يطلب مليمًا واحدًا، أو حتى ما يساوي المليم من الدولة العلية، وبالرغم من الإغداق عليه بالمهمات والإدارات الكثيرة، وفي وقت الضيق هذا (الذي تمر به الدولة)، ثم إعلاء قدره، وتلطيف خاطره بهذه الصورة التي لم يسبق لها مثيل، من جانب الطرف الهمايوني الأشرف بتفضيله بإرسال وكيل الخزينة الهمايونية له، فإنه لم ينفذ وعده بحجة الأمراء (البكوات) المماليك.

فهل تعتقدون أن مسألة هؤلاء البكوات، مسألة ذات خطورة حقيقة، أم أنتم تحسبون أنكم تستغفلون الدولة العلية بذلك؟ نعم إن نقض البكوات لعهدهم أمر واقع ومسلم به، ولكن لماذا لم يرسل محمد علي رأسين أو ثلاثة رءوس مقطوعة إلى مقر سياسة السلطنة العثمانية، وعلى الأخص بعد خيانة شاهين بك الألفي الذي أنعم عليه محمد علي بإنعامات كثيرة؟ ولماذا أحضره إليه الباشا مرة بعد أخرى، ثم أكرم وفادته في المرة الأخيرة أكثر مما فعله معه في المرة الأولى؟ وهل يمكن إذا فكرنا في الأمر قليلًا أن يقبل العقل ما فعله الباشا؟ أوليس هذا دليلًا على أن ما فعله محمد علي نوع من التواطؤ مع الأعداء؟

لقد جرى ما جرى، ولنضرب الآن صفحًا عنه، ولكن الباشا بالرغم من تعهده في عريضته للباب العالي هذه المرة في أثناء توجهه لمحاربة البكوات، وهي العريضة التي قال فيها: إنه سينهي مسألة البكوات في ظل الدولة، وإنه لن ينقض عهده أيضًا فيما يتعلق بالمسألة الحجازية حتى إنه ترك كاتب ديوانه في مصر (القاهرة)، لإنجاز الاستعدادات اللازمة، حتى إذا عاد من محاربة المماليك خرج فورًا بجيشه إلى جهات الحجاز، ودون أن يجعل هذا الجيش يدخل القاهرة، بالرغم من هذا كله، صرف الباشا نظره عن وعده، كأنه لم يكسب شيئًا من هذا القبيل، وكأنما لا علم له بشيء من ذلك جميعه، ثم راح يعلق حركته وتوجهه إلى الحجاز على عزل والي الشام سليمان باشا.

فيا عزيزي نجيب أفندي، بماذا يضره والي الشام؟ أيجوز أن نتحاشى وزيرًا شجاعًا جبارًا كسليمان باشا بسبب أمور طفيفة كهذه؟ لقد أرسل حضرة سليمان باشا في العام الماضي، وفي وقت حاجتنا وضيقنا مؤنًا تزيد على المائة والخمسين ألف كيلة من الحبوب، عدا ما أرسله من نقود تزيد على الألفين والخمسمائة كيس، وعلاوة على ذلك، فإنه منذ أن نصِّب واليًا لصيدا، حرص أعظم الحرص على عدم التذرع بشتى الأعذار والدعاوى للتخلص من الطلبات التي طُلبت منه، وعلى عدم تأخير مصالح اليوم إلى الغد، كما حرص على الظفر بالرضى الشاهاني، وهو يستعد الآن لإنجاز ما يلزمه للتوجه إلى الأقطار الحجازية حسب تعهده.

ولكن حضرة الباشا محمد علي اعتذر دائمًا عن إجابة شيء مما طُلب منه، وقبلت الدولة اعتذاره عن تأخره في هذه المسألة الخيرية (الحجازية)، ورضيت بإرساله الستين ألف كيلة من الحنطة، والخمسمائة كيس من النقود، وهذا مع العلم بأنه من المشكوك فيه أنه سوف يرسل حتى ذلك، وأما الوزراء العظام وسائر الأمراء الكرام، فقد بادروا بتقديم إعانة الجهاد، مرة ومرتين وثلاث مرات … (وهم كذلك) رغم حاجتهم للمساعدة من الدولة، بسبب حروبهم المستمرة ضد الأعداء، منذ ثلاث سنوات، قد باعوا فراءهم وسروجهم، واستدانوا مبالغ طائلة من المال، وبعثوا بذلك كله للدولة …

لقد كنا طلبنا من حضرة الباشا محمد علي إرسال خمسمائة كيس نقدًا، ليس في لغة الآمر، ولكن في رجاء المتسول وضراعته، وعلى أن ينال في نظير ذلك حصة من إيرادات أية جهات أو أقاليم يريدها؛ أي إننا لم نطلب شيئًا من غير مقابل، فحصلنا منه على أعذار منوعة، ثم طلبنا مقدارًا من المال يتبرع به الأهالي، كل فرد حسب قدرته، بدلًا من هذه الأكياس، ولكنه لم يفعل، بل إنه لم يقرأ على الأهالي الفرمان الذي وصله …

ونحن ما أوضحنا حاجتنا، والتمسنا المساعدة من حضرة الباشا، إلا لاعتقادنا بأنه وزير الدولة الصادق، ومع هذا فلو أننا أعطينا هذا الفرمان إلى أي فرد من أهل مصر، مهما بلغت ضآلة شأنه، وقلنا له خذ هذا الفرمان واذهب إلى مصر، واجمع من أهل الإسلام ومن محسوبي الدولة العلية، ما تستطيع أن تجمعه من الفضة أو النقود، من غير أن يعلم بذلك حضرة والي مصر، ثم ابعث إلينا بما تجمعه، لكان ميسورًا أن تصلنا مئات الأكياس من النقود.

فيا صديقي نجيب أفندي، لنفرض جدلًا أن إقليم مصر ليس للدولة العلية، وإنما تملكه دولة أخرى، فهل إذا اعتزمنا إرسال شخص بكتاب إلى مصر، وطلبنا قدرًا من المال لإعانتنا في وقت الضيق، أكان يفشل في مهمته؟ كلا؛ لأن مصر وقتئذٍ سوف تهب لمساعدتنا … وهكذا لدينا أشياء كثيرة أخرى للكلام فيها، ولكن ما الفائدة من ذكرها؟

وفضلًا عن ذلك، فإن حضرة الباشا محمد علي إذا اهتم بمسألة الحرمين الشريفين وسعى لإدخال السرور على نفس مولانا السلطان فإنه يكون كمن قدَّم للدولة كل ما ذكرته، وعلى ذلك، فسوف نقبل جميع مطالبه، ويكون مقربًا ومرضيًّا عنه أكثر من سائر الوزراء، وموضع لفتات وإنعامات الذات الشاهانية التي لا نهاية لها، والتي يعجز اللسان عن بيانها، وسوف ترون ذلك بأعينكم حين وقوعها.

ذلك كان حديث رجل الدولة العظيم مع قبو كتخدا الباشا، وقد أكد محمد نجيب على الباشا أن واجب المصلحة، ومقتضى الوقت والحال يدعوه إلى المبادرة بإنفاذ جيشه إلى الحجاز، حتى يبلغ القسطنطينية بسرعة نبأ وصول طوسون باشا ودخوله إلى ينبع.

ووجه الأهمية في هذه الرسالة، عدا بيان وجهة نظر الباب العالي في مسألة البكوات المماليك، مما سوف نتكلم عنه في موضعه، أنها كانت تتضمن تهديد الباشا بعبارات لا يمكن أن تخفى دلالتها على أحد، بالتدخل — تحت ستار استنفار المسلمين للجهاد ضد الوهابيين — في شئون باشويته فورًا؛ أي تفويض أركان تلك الباشوية التي يبذل محمد علي قصارى جهده لدعمها من عدة سنوات، مما يتعذر عليه دفعه أمام سلاح الدين الذي يشهره الباب العالي في وجهه، وكان الباب العالي قد وجَّه فرمانًا في أواخر يونيو وأوائل الشهر التالي من نفس هذا العام (١٨١٠) إلى محمد علي باشا، وقاضي مصر والقضاة ورؤساء الجند، والأعيان ومن إليهم، يطلب فيه التبرعات للجهاد، وقد جاء في هذا الفرمان أن السلطان كان قد عرَّفهم في فرمان سابق أغراض الروس الصحيحة الذين احتلوا «شوملة» و«وارنة»، وشرعوا يزحفون على القسطنطينية، ولما كانوا قد هددوا بحرق أبواب العاصمة إذا لم تُجَب مطالبهم، فقد انعقدت جمعية عامة في جامع السلطان محمد للتشاور في الأمر، وبناء على قرارها أعلن السلطان الجهاد، وتجنيد كافة المسلمين، وحيث إن الدولة في أزمة مالية، فقد وجب على كل مسلم التبرع، بقدر حميته الدينية، للخزينة العامة، معاونة منه في هذا الجهاد، بمقتضى الفتوى التي صدرت في هذا الموضوع، والتي بعث منها السلطان صورة طي فرمانه هذا، وقد أمر السلطان أن يحصل التبرع في مصر، لا سيما من جانب أغنياء القوم بها، ولكن هذا الفرمان «لم يُقرأ، ولم يُنفذ» في مصر، كما شكا الآن الباب العالي، وقد يعمد هذا إلى إرسال أحد مندوبيه لجمع التبرعات سرًّا فيحرك الباب العالي الفتنة ضد محمد علي تحت ستار الدعوة للجهاد.

أضف إلى هذا، أن الثناء على سليمان باشا لبذله قصارى جهده في معاونة الدولة، ووصفه بالبسالة والإقدام، والتفاني في خدمة الدولة، كان ينطوي على التهديد من طرف خفي بإمكان إسناد باشوية مصر إلى سليمان باشا، وقد يستطيع هذا بالاتفاق مع الباب العالي، انتهاز الفرصة السانحة لتدبير إخراج محمد علي من مصر، كما فعل مع يوسف كنج باشا، الذي يسعى محمد علي الآن في إرجاعه إلى ولايته المغتصبة منه، ولا سبيل إلى نكران هذا الخطر؛ لأن سليمان باشا كان في وسعه الاتحاد مع البكوات المماليك، الذين برغم هزائمهم الأخيرة، كانوا لا يزالون يسعون للذهاب إلى سليمان باشا الكرجي والانضمام إليه.

على أنه إلى جانب هذه التهديدات، تضمنت هذه الرسالة ما يبعث على الأمل، في استجابة الباب العالي لمطالب الباشا، عندما لوحت بأنه إذا اهتم محمد علي بمسألة الحرمين الشريفين، ووصلت القسطنطينية الأنباء بأن طوسون باشا قد بلغ ينبع، وافق السلطان على ما يريده محمد علي، من حيث العفو عن يوسف كنج، ورفع الباشوية المصرية إلى مرتبة الوجاقات؛ أي إعطاء الحكم الوراثي لمحمد علي.

فلم يعد هناك معدًى حينئذٍ — لكل هذه الاعتبارات التي ذكرناها — عن أن يحزم الباشا أمره على إنفاذ جيشه إلى الحجاز دون إبطاء آخر، ولقد كان لهذا القرار الذي اتخذه محمد علي، إثر ورود هذا الكتاب إليه، نتيجة أخرى هامة، هي أنه نبتت من هذا الحين فكرة الإجهاز على البكوات المماليك بأية وسيلة، إذا تيقن لديه استحالة الاتفاق معهم، والاطمئنان إليهم.

وفي الشهور الثلاثة التالية سارت الأمور سيرًا حثيثًا، لتصفية المسائل المعلقة بين محمد علي والباب العالي، فقد استمر يستحثه وكلاؤه في القسطنطينية على إخراج جيشه إلى بلاد العرب، وأجاب الباب العالي مطالبه رويدًا رويدًا، وإن كان ظل متمسكًا ببقاء سليمان باشا في إيالة الشام، ولكن خطر سليمان، كانت قد زالت حدته عندئذٍ، بسبب إقدام الباشا على الفتك بأدواته البكوات المماليك في مذبحة القلعة.

فقد كتب إليه محمد نجيب في ٩ يناير ١٨١١ يسرد المساعي التي قام بها، وما قدمه من حجج وبراهين في مناقشاته مع رجال الخاصة السلطانية، ومع سائر كبار الدولة، لتأييد مطالب الباشا، بصدد مسألة الشام والمسائل الأخرى، ويؤكد أنه لم يقصر في تنفيذ تعليمات الباشا في شأن هذه المسائل جميعها. «ولكن حيث إن خروج الجيش لإنقاذ الحرمين الشريفين قد تأخر، فقد اغتنم خصوم محمد علي هذه الفرصة وراحوا يقولون للسلطان: هل رأيتم يا مولانا كيف أن ربيب نعمتكم محمد علي باشا لا يقصد الذهاب إلى الحرمين، بل مراده تنظيم شئونه بالصورة التي تعود بالنفع على مصلحته الذاتية فحسب، لقد كان في وقت ما يتخذ من مسألة المماليك ذريعة لعدم الذهاب إلى الحجاز، واستمر على ذلك ردحًا من الزمن، ولكنه الآن قد بدأ يجد من مسألتي الشام (وإبعاد سليمان باشا عن ولايتها)، ويوسف باشا كنج (واستصدار العفو عنه، وإرجاعه إلى حكومة دمشق) ذريعة جديدة، ولن يفيد شيء في حمله على الخروج إلى الحجاز، حتى ولو أنهيت هاتان المسألتان في صالحه.» وقد اعتذر محمد نجيب عن تكرار القول في هذا الموضوع الذي سبق أن ذكره للباشا، ولكن الذي اضطره لتسطير ذلك، هو شدة حزنه وألمه لما بلغت به الحال في القسطنطينية، وراح يحلف الأيمان لمحمد علي «أن كل مسألة من مسائل الباشا سوف يجري إنجازها بما يفوق كثيرًا ما ينتظره محمد علي، ولكن ذلك كله متوقف على الدافع القوي الذي ييسر إنجازها: قيام طوسون باشا في أقرب وقت ووصوله إلى ينبع.» وقد اختتم محمد نجيب هذه الرسالة بقوله: «وعليه، فإني أستحلفكم يا سيدي بالله وبجاه رسوله الكريم أن تأذنوا بإنجاز مطلوبنا هذا؛ أي إنفاذ الجيش إلى الحجاز، وعندئذٍ لكم أن تطلبوا ما تشاءون، وإذا اتضح لكم أن مطالبكم هذه لا تُجاب، فلكم أن تفعلوا حينئذٍ ما تريدونه.»

وأما محمد علي فقد راح من ناحيته يدفع عن نفسه اتهامه بأنه ما يريد عزل سليمان باشا عن ولاية الشام إلا لأغراض نفسانية، فلا سليمان الباشا بالرجل الذي نال من رفعة الشأن أو تحلى بالصفات النبيلة، التي تبعث على الحسد منه، ولا محمد علي بالرجل الذي لم يحظَ تحت رعاية السلطان، بالنعم الجليلة واللفتات السامية، والتوجهات السنية مما لم يسبق أن حظي أحد غيره بمثلها، حتى ينفَس على سليمان باشا مركزه ومنصبه. ثم بسط محمد علي السبب الذي يدعوه لطلب عزله، وهو لا يخرج عما سبق ذكره: اتصال سليمان باشا بالبكوات المماليك، واقتناع محمد علي بأنه مصمم على الكيد له وإثارة الفتنة عليه بمجرد خروجه إلى الحجاز.

وكان في رسالته التي ضمَّنها دفاعه هذا، وبعث بها إلى محمد نجيب في ١٦ يناير ١٨١١، أن ذكر محمد علي مرة أخرى، أنه لن يستطيع مغادرة مصر، ومرافقة الحملة الموجهة إلى الحجاز، ما دام سليمان باشا في ولاية الشام، وبخاصة بعد أن بعث سليمان «يقول لبقايا المماليك من الأشقياء القليلين الذين طُردوا وأُجلوا إلى بلاد السودان: لا تأسفوا فإني سوف أريحكم قريبًا إن شاء الله.» ثم أخذ الباشا يقول: «فإن كان المطلوب إنجاز المصلحة الحجازية على الوجه التام وكما ينبغي، فلتبذل الهمة لذهابي، بصرف العناية إلى صرف المشار إليه سليمان باشا عن إيالة الشام، وأما إذا كان لا ضرورة لسفري — ولا أدري إذا كان من الممكن أن يتم الأمر على يد العسكر المهيئين للذهاب والذين سوف أرسلهم بطريق البحر، أم يتعذر إنقاذ الحرمين الشريفين من غير ذهابي — فلا يجب أن يُعزى إلينا أي تقصير إذا فشلت الحملة؛ فقد جاء في الأمثال: «ألف عامل ورئيس واحد»، وعند العلم يتوقف ذهابي على دفع المشار إليه عن إيالة الشام، كما أفدت مرارًا حسبة لله.»

وفي كتاب آخر، في ٢٦ يناير ١٨١١، دافع محمد علي عن تهمة المماطلة والتسويف التي أُسندت إليه، وكون أن هناك جماعة لدى الباب العالي — كما أبلغه وكلاؤه — تزعم «أن والي مصر لا يقوم بمهمة الحرمين الشريفين، آية ذلك ما أبداه قديمًا، ولا يزال يبديه من حجج يعتل بها، متعلقة بمسألة البكوات المماليك، إلى غير ذلك من الدعاوى والأعذار الأخرى، والتي لا يمكن أن يكون مقصده منها إلا ترك الوقت يمضي دون أن يفعل شيئًا، فقال إن العمل جارٍ بهمة لإعداد السفن اللازمة لنقل الجند من السويس، وإنه قد أبحر عدد من السفن إلى جهات مواني جدة وينبع واليمن لجلب سفن (الداو أو الضاو) منها إلى القصير، وإنه يعتزم الذهاب بنفسه إلى السويس للإشراف على الاستعدادات النهائية، حتى إذا أُكملت أنفذ ابنه طوسون باشا دون أي إمهال على رأس الجند المرسلين بحرًا إلى أرض الحجاز، وفضلًا عن ذلك، فهناك ما ينهض دليلًا على أنه لم يكن القصد مما ذكره سابقًا وأشار به على الباب العالي، التسويف والمماطلة، فقد ذكر الشريف غالب نفسه أن مأمورية إنقاذ الحرمين مأمورية جسيمة، لا تتم بمجرد الحركة من مصر وحدها فحسب، بل يقتضي لإنجازها، بل ويلزم لنجاحها، الحركة والزحف من الجهات الثلاث: مصر والشام والعراق، باتفاق مع حاكمي دمشق وبغداد، فلو كان غرض محمد علي عدم القيام بالحملة، وإضاعة الوقت وتفويت الفرصة، لتعلل بأعذار أخرى، غير مسألة المماليك، أجدر بالاعتبار، كأن يقول مثلًا: إن واليي بغداد والشام، كليهما أقدم منه في منصب الوزارة وأغنى، فمتى تحركا تحرك هو في أثرهما، ومع أن هذه الدعوى — إذا ذُكرت — تتفق مع ما يذكره ويشير به الشريف غالب، فقد امتنع محمد علي عن سلوك هذا الطريق، بل تهيأ للخروج إلى الحجاز دون طلب أية مساعدة مالية، ولا انتظار لإعانة أو لنجدة من ناحيتي الشام وبغداد، وتعهد بالقيام بهذه الخدمة الجليلة وحده، وتكفل بها عن رغبة صادقة منه في خدمة دينه ودولته لوجه الله تعالي.»

ولكنه قبل وصول هذا الكتاب الأخير إلى الآستانة، كانت جهود وكلائه بها قد أثمرت ثمرتها، وكان مما ساعد على ذلك، أن محمد علي قصر جهوده الآن على إلغاء حكم الإعدام الذي صدر في حق يوسف كنج، والتماس تعيينه في منصب آخر مناسب إذا تعذر إرجاعه إلى ولاية الشام.

وكان نزول محمد علي عن إصراره السابق على إعادة إيالة الشام إلى يوسف كنج خطوة موفقة، من حيث تذليل بعض الصعوبات القائمة، لتمسك الباب العالي ببقاء سليمان باشا في حكومة دمشق، ولكن هذه الخطوة كانت تدل من ناحية أخرى على أن محمد علي، منذ شهر يناير ١٨١١، قد بيَّت النية على التخلص نهائيًّا من المماليك؛ أي تجريد سليمان — وقد اتضح تعذر نزع ولاية الشام منه — من ذلك السلاح الذي خشي محمد علي دائمًا أن يطعنه به في ظهره إذا خرجت جيوشه أو القسم الأكبر منها في حملة الحجاز.

وقد ظهرت آثار هذه الخطوة فيما كتبه إليه أحد رجاله بالقسطنطينية — أحمد شاكر — في ٢٧ يناير ١٨١١، يبلغه أن الباب العالي قد أصدر أمرًا إلى حسن بك متصرف رودس بإرسال الصواري وغير ذلك من الأدوات اللازمة للسفن، والتي كتب الباشا يطلبها من القسطنطينية، كما تفضل الباب العالي بإجابة ملتمس محمد علي الخاص بترقية أحد خدامه — حسن كاشف القبرصي — فأنعم عليه برتبة رئيس البوابين (قبوجي باشبلق)، ويُعلِمه بوصول جواب الشريف غالب، ردًّا على مكاتبة محمد علي له، إلى الآستانة، ثم وصول التماس العفو عن حكم الإعدام الذي صدر على يوسف كنج باشا، وإعطاء هذا الأخير منصبًا مناسبًا. ثم يستطرد أحمد شاكر فيقول: «ولقد كانت الهمة تبذلونها مبعث سرور شامل، ثم إنه (عدا ما سبق ذكره) قد تفضل الباب العالي فأصدر العفو عن جرائم يوسف باشا وإلغاء الأمر الذي كان قد صدر بإعدامه على شريطة أن يظل يوسف باشا مقيمًا بمصر بعد رفع رتبة الوزارة عنه، بحسن توجهات الذات الشاهانية المبذولة نحو دولتكم، وبخاصة لأن صون نفوذكم واقتداركم في مهمة الحجاز التي عُهد بها إليكم، هو ما يريده الباب العالي.» وفضلًا عن ذلك، فقد وعد الباب العالي بإعطاء ولاية جدة إلى يوسف كنج مع إبقاء وزارته بمجرد انتهاء محمد علي من تأدية المهمة التي كُلِّف بها، ونجحت جيوشه في إنقاذ الحرمين الشريفين؛ حيث إن الباب العالي يرى من غير المناسب إسناد منصب ليوسف كنج الآن.

وفي اليوم التالي (٢٨ يناير) يؤكد ما ذكره أحمد شاكر، من حيث انتهاء مسألة استصدار العفو عن يوسف باشا كنج، «وأنه سيجري بعد هذا ما يلزم من ترتيبات ومساعٍ خاصة بالمنصب الذي يلتمس الباشا إعطاءه له من قِبل الدولة، وبغير ذلك من المسائل التي يلتمس الباشا إنهاءها»، ويُؤخذ من رسالة نجيب أفندي هذه أن المسعى لنيل العفو عن يوسف كنج قد تكلف خمسة وعشرين ألف قرش، بعث نجيب أفندي يطلبها، وقال إنه لم يشأ إزعاج خاطر محمد علي بطلبها في أثناء المسعى الذي انتهى إلى هذه النتيجة، وكان في هذه الرسالة كذلك، أن راح محمد نجيب يؤكد ويقسم بالله العلي العظيم أنه ما إن يرد القسطنطينية الخبر بقيام طوسون باشا ودخوله إلى ميناء ينبع في أقرب وقت، حتى يتم إنجاز كل ما يطلبه مولاه محمد علي فورًا، وبصورة تفوق كثيرًا على كل ما يرجوه محمد علي. ويلحف عليه لذلك في سرعة إرسال طوسون باشا إلى ينبع.

على أن الأهم من ذلك كله، أن الباب العالي لم يلبث أن وعد برفع إيالة مصر إلى مرتبة الوجاق، على غرار وجاقات الغرب، فكتب محمد نجيب في ٢٨ يناير ١٨١١، يستحثه مرة أخرى على إرسال جيشه إلى الحجاز، «ويحلف يمينًا لا يحنث فيها أبدًا أنه إذا أنفذ الباشا جيشه إلى الحجاز، ولازمه التوفيق في خدمة الحرمين الشريفين؛ أي إنقاذهما من الوهابيين، فوالله إن طلباته من الباب العالي سوف تُجاب جميعها دون حاجة إلى التماس أو توسط، والله وحده هو العليم بما سوف يحدث من أجل رفع شأنه وإعلاء قدره بالحظوظ الهمايونية والعنايات الملكية الأخرى التي تتضمن جعل إيالة مصر منحصرة في أولاد محمد علي وسلالته الطاهرة، مع توجيه رتبة الخان الرفيعة له.» ثم استطرد محمد نجيب فقال: «ولا يجب أن يساور محمد علي أي شك في حصول ذلك»، وأقسم بالله العظيم أن هذه المسألة موعود بها، واختتم رسالته قائلًا: «وخلاصة القول يا مولاي، تفضلوا ببذل الهمة نحو إنهاء هذه المسألة، وأفرحونا بالبشائر، ثم اطلبوا ما تشاءون، تجدوا كل ما تطلبونه قد تنفَّذ، ولكم أن تفعلوا بي ما تشاءونه إذا امتنع تنفيذ شيء منها.»

وكان هذا الوعد فصل الخطاب، في قضية يوسف كنج وسليمان باشا، فقد وصل ططريان القاهرة في ١٨ مارس ١٨١١، يبشران بالعفو عن يوسف باشا المنفصل عن الشام، وذاع في القاهرة أنه قد قُبِل فيه ترجي باشة مصر وشفاعته، وبعث محمد علي إلى الباب العالي في ٢٠ مارس بقائمة شكر على العفو الصادر عن حضرة يوسف باشا كنج، ورفع عقوبة الإعدام عنه، وعلى الوعد الهمايوني بالتفضل عليه بمنصب ولاية جدة.

حقيقة ظل محمد علي، يلح في الشهور التالية في إرجاع يوسف كنج إلى ولاية الشام، وعزل سليمان باشا عنها، بدعوى أن وجود الأول في دمشق يفيد في معاونة محمد علي وإمداده بسهولة بحاجته من الخيام وغير ذلك من عتاد الحرب، فضلًا عن استطاعة الباشا أن يسند إليه قيادة عدة آلاف من الفرسان مع معيناتهم ليزحف بهم من الشام على الحجاز، في الوقت الذي يجري فيه الزحف من مصر، مما يكفل إنجاز مصلحة الحجاز سريعًا. ولكن الباب العالي ظل مصرًّا على موقفه، وانصرف الباشا لإتمام استعداداته بكل همة، وشرع في إرسال الجند ومهمات الحملة من السويس بالسفن منذ ٣ سبتمبر ١٨١١، قاصدة ينبع، وغادر طوسون باشا بركة الحاج مع فرسانه في ٦ أكتوبر قاصدًا إلى الحجاز بطريق البر.

وبذلك يكون قد انتهى الوجه الأول من سياسة محمد علي، الذي بدأ من وقت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية في سبتمبر ١٨٠٧، وانتهى عند خروج الحملة الوهابية إلى الحجاز في سبتمبر ١٨١١، ولقد كان نشاط الباشا السياسي طوال هذه السنوات الأربع، محصورًا في شيء واحد، دعم أركان الولاية. ومن أهم الوسائل لدعمها الظفر بالباشوية الوراثية، فكان هذا الغرض الأوحد الذي سعى إليه وقتئذٍ، هو العامل الذي أثَّر على تكييف علاقاته مع كل من إنجلترة وفرنسا والباب العالي، بالصورة التي شهدناها، ولقد صادفت الباشا عقبات كثيرة حالت دون تحقيق مشروع استقلاله، مبعثها رفض كل من إنجلترة وفرنسا لأي تغيير يطرأ على طبيعة صلات التبعية التي تربط بين باشوية مصر والباب العالي التي هي من أملاكه، وهو صاحب السيادة الشرعية عليها.

وقد رفض الإنجليز تأييد مساعي الباشا حرصًا منهم على استرضاء الباب العالي، وضمانًا لوقوفه موقف الحيدة — على الأقل — في الصراع الدائر بينهم وبين خصومهم الفرنسيين، ثم تجنبًا لخلق مشكلات جديدة في داخل الدولة، في وقت كان الاعتقاد السائد أنها مترنحة وعلى وشك السقوط والانهيار، ويُخشى إذا نال منها الإعياء بدرجة عجلت بسقوطها فعلًا، وأفسحت المجال للدول الطامعة في أملاكها للإغارة عليها، أن يترتب على ذلك: إما ازدياد قوة روسيا، وإما ازدياد قوة فرنسا، مع ما يترتب على كلا الأمرين من زعزعة التوازن السياسي في أوروبا عمومًا، ثم زيادة متاعب الإنجليز وسائر الأمم المناوئة لسلطان نابليون وسيطرته المنبسطة وقتئذٍ في أوروبا.

وأما الفرنسيون فقد كان مبعث رفضهم، تمسك عاهلهم نابليون بسره الذي دار حول أمر واحد في هذه السنوات، هو محاولة تكميل إمبراطورية الغرب التي أقامها، بإدخال إمبراطورية الشرق تحت سلطانه، فلم يدخل في نطاق هذه السياسة إذًا، تقوية الباشوية المصرية، وهي المقاطعة التي ما فتئ نابليون يرنو ببصره إليها منذ جلاء جيش الشرق عنها في عام ١٨٠١ والتي لم يصرفه عن إنفاذ جيش جديد لغزوها وامتلاكها سوى انشغاله بحروبه في أوروبا، حتى أذنت حملة روسيا في عام ١٨١٢، بانهيار كل مشروعاته الشرقية، فعلًا وحقيقة.

ولقد أفاد محمد علي من انشغال الإمبراطور في أوروبا، من حيث عدم تعرض باشويته لغزو جديد، بعد خروج الإنجليز من الإسكندرية، فاستطاع تدبير شئونه الداخلية بصورة أفضت عند انقضاء هذه السنوات الأربع إلى دعم أركان ولايته، ثم إنه أفاد كذلك من انشغال الإنجليز في حروبهم ضد الإمبراطور، من حيث إنه استطاع إنشاء علاقات المودة والصداقة معهم والإبقاء عليها، وهي العلاقات التي أراد هؤلاء أن تسود بينهم وبينه؛ لحاجتهم إلى غلاله من جهة؛ وليطمئنوا من جهة أخرى على عدم خضوعه للنفوذ الفرنسي، ورضي الباشا أن يستبدل الصداقة والمودة فحسب بالمحالفة التي كان يريدها مع الإنجليز، فتظل علاقاته التجارية معهم؛ كي يكون له منها معين من المال لا ينضب، يعاونه على توطيد سلطانه في باشويته.

وكان الباشا أكثر توفيقًا في علاقاته مع تركيا، صحيح أنه لم يظفر بإعلان باشويته وجاقًا من نمط وجاقات الغرب، ولكنه ظفر بوعد جازم بإعطائه الحكم الوراثي في مصر، إذا هو أنفذ جيشه إلى الحجاز، ونجح في إنقاذ الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، وكان هذا فوزًا ارتضاه محمد علي؛ لأنه كان يساوره الشك بتاتًا في قدرته على هزيمة الوهابيين والنجاح في هذه المهمة التي عهد بها إليه الباب العالي؛ ولأنه كان قد عوَّل على الاتجاه صوب الشرق قطعًا، وكان يعنيه أن ينجح في مهمته.

على أن هناك ملاحظة هامة، هي أنه ما كان يستطيع محمد علي عرض مطالبه على الباب العالي، باللهجة التي ظهرت في شفاعته في حق يوسف كنج، أو في حملته العنيفة التي أثارها على سليمان باشا، وطلب عزله من إيالة الشام، لو أنه شعر بضعف مركزه في ولايته، بل إن مطالبه من الباب العالي — بما في ذلك سؤاله أن يمده بذخائر الحرب، والصواري لسفنه، وغير ذلك من عتاد الحرب — كانت تزيد وتقوى بقدر ما كان يحدث من دعم أركان حكمه في باشويته، فهو قد أنهى الفتن الداخلية، ونجح في تطويع الجيش، وإقصاء رؤسائه المتمردين، وقضى على نفوذ المشايخ وأبعدهم عن شئون الحكم، ونفى متزعم المعارضة السافرة ضده، عمر مكرم، وبدا في وقت ما أنه نجح كذلك في معالجة مسألة البكوات المماليك، وذلك قبل القضاء عليهم نهائيًّا في مذبحة القلعة، وكان كل نجاح يحرزه في هذا الميدان الداخلي، يزيد من اعتداده بنفسه، ومن تقوية يده في علاقاته مع الديوان العثماني؛ ولذلك فقد ارتبطت سياسة محمد الداخلية في هذه السنوات الأربع، ارتباطًا وثيقًا بسياسته الخارجية، وكانت كل منها متممة للأخرى بصورة واضحة.

وأما كيف تسنى للباشا أن يوطد أركان حكومته الداخلية، ويبسط سلطان باشويته حتى يشمل أرجاء هذه الباشوية، فذلك ما سوف نوضحه في الفصول التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤