فكرَة عَامة عَن الأدَب العَرَبي

قد انتهى بي البحث في الأدب العربي وتتبع روحه في أهم نواحيه إلى فكرة شائعة فيه شيوع النور في الفضاء لا يشذ عنها قسم من أقسامه ولا ناحية من نواحيه، وهاته الفكرة هي أنه أدب مادي لا سمو فيه ولا إلهام ولا تَشَوُّف إلى المستقبل ولا نظر إلى صميم الأشياء ولباب الحقائق، وأنه كلمة ساذجة، لا تعبر عن معنى عميق بعيد القرار ولا تفصح عن فكر يتَّصِل بأقصى ناحية من نواحي النفوس، وفراشة جميلة ترفرف بين الزهور الحالمة ولا تجسر على الدنو من سراديب الجبال وأعماق الكهوف والأودية … حتى إن الباحث فيه ليجهد نفسه في التنقيب عن ذلك الفن الذي يقرأه وهو خاشع، ويسمعه وهو مصيخ بكل ما في روحه من شوق، وبكل ما في قلبه من شغف، كأنه يستمع إلى الوحي من لسان القدرة الأزلية، ذلك الفن السماوي الذي يشعر حين قراءته باتساع أفق الحياة في نفسه وبانفساح رقعة الإحساس في قلبه، حتى ليكاد يسمع هدير العواطف بين جنبيه وخرير الحياة في عروق الكون، فيعييه البحث ويطلحه السعي ثم لا يجني من وراء ذلك غير الألم المرهق واليأس العقيم.

على أنني حين أقول هذا الذي قد يراه بعض الناس خطيئة لا تغفر، لا أنكر أن الأدب العربي قد أجاد أيَّما إجادة فيما تخصص فيه من وصف المظاهر البادية وما بينها من تخالف أو تآلف أو تشابه أو تنافُر، بل ربما فاق كثيرًا عن الآداب الأخرى في هذا الصدد. ولا أقول إن الأدب العربي جامد ميت لم يمثل منازع تلك الشعوب التي عاش بينها تمثيلًا صحيحًا ولا قدم لها غذاءها الروحي الذي تتطلبه أهواؤها ومشاعرها؛ لأن الأدب العربي كان في جميع العصور التي تحدثنا عنها أدبًا حيًّا صحيحًا فياضًا بكل ما تصبو إليه آمال تلك الشعوب من صور الحياة ومثلها المختلفة، ولولا أنها وجدت فيه المشرب العذب الذي تستمرئه طباعها وتسيغه لَمَا اعترفت به وأقبلت عليه ذلك الإقبال؛ فقد كان الأدب الجاهلي بدويًّا محضًا تسمع فيه رنة الصوت البدوي الأجش الذي لا يعرف رقة الختل ولا نعومة المدنية الكاذبة، وتلمح في أعطافه روح البداوة المتوثبة الجائشة، بكل ما فيها من عزة وادِّعَاء، وشدة الطبع البدوي العتيد الذي لا يعرف خفضًا ولا هوادة، وكان الأدب الأموي على قسمين يمثلان الحياة الأموية تمثيلًا واضحًا جليًّا: قسم يصور هذه الحياة العابثة المخلدة إلى البطالة واللهو، وقسم يمثل هذه الحياة الجادة العابسة التي تتلقفها الأهواء السياسية والدعوات الحزبية المتباينة، وكان الأدب العباسي لاهيًا ماجنًا خليعًا في عنفوان المجد العباسي وشرخ الحضارة الإسلامية، ثم حائرًا متشككًا مضطربًا تعصف به الرياح النكب والظلمة الداجية في أواخر القرن الثالث وما بعده؛ لأن الحياة الإسلامية كانت حياة رعب وشك، وكان الأدب الأندلسي مستهترًا مسرفًا في اللذة والمجون لأن الأمة الأندلسية كانت صبية لاعبة تمرح بين الرياض والجداول.

فأنا إذن عندما أقول ذلك عن الأدب العربي لا أزعم أنه لا يلائم أذواق تلك العصور ولا أرواحها، ولكنني أقول إنه لم يعد ملائمًا لروحنا الحاضرة ولمزاجنا الحالي ولأميالنا ورغائبنا في هذه الحياة، فقد أصبحنا نرى رأيًا في الأدب لا يمثله ونفهم فهمًا في الحياة لا نجده عنده ونطمح بأبصارنا إلى آفاق أخرى لم تحدثه بها أحلامه ولا يقظاته. لقد أصبحنا نتطلب أدبًا جديدًا نضيرًا يجيش بما في أعماقنا من حياة وأمل وشعور، نقرأه فنتمثل فيه خفقات قلوبنا وخطرات أرواحنا وهجسات أمانينا وأحلامنا، وهذا ما لا نجده في الأدب العربي القديم. لقد أصبحنا نتطلب أدبًا قويًّا عميقًا يوافق مشاربنا ويناسب أذواقنا في حياتنا الحاضرة بما فيها من شوق وأمل … وهذا ما لا نجده في الأدب العربي ولا نظفر به؛ لأنه لم يُخلق لنا نحن أبناء هذه القرون وإنما خُلق لقلوب أخرستها سكينة الموت، أما نحن فما زلنا بعدُ من أبناء الحياة؛ ولهذا فلا ينبغي لنا أن ننظر إلى الأدب العربي كمثل أعلى للأدب الذي ينبغي أن يكون، ليس لنا إلا احتذاؤه ومحاكاته في أسلوبه وروحه ومعناه، بل يجب أن نعدَّه كأدب من الآداب القديمة التي نعجب بها ونحترمها ليس غير. أما أن يسمو هذا الإعجاب إلى التقديس والعبادة والتقليد فهذا ما لا نسمح به لأنفسنا، لكل عصر حياته التي يحياها، ولكل حياة أدبها الذي تنفخ فيه من روحها القشيب.

يجب علينا أن لا ننظر إلى الأدب العربي إلا تلك النظرة المعجبة لا غير حتى يمكننا أن نتخذ لنا أدبًا قويمًا فيه ما في الحياة الحاضرة من عمق في الفكر وسعة في الخيال ودقة في الشعور، أما أن نتخذ الأدب العربي الذي عرفنا خُلُوَّهُ من مثل هاته الأمور مثلَنا الأعلى الذي ننسج على منواله، فذلك هو الخمول وذلك هو الموت الزؤام. لقد أصبحنا نتطلب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشباب، ومن يتطلب الحياة فليعبد غده الذي في قلب الحياة … أما من يعبد أمسه وينسى غده فهو من أبناء الموت وأنضاء القبور الساخرة … لقد أصبحنا نتطلب الحياة … ولكن لنعلم قبل ذلك أننا جياع عراة، وأن تلك الثروة الطائلة الضخمة التي أبقاها لنا العرب لا تشبع جوعنا ولا تسدُّ خلتنا. لعلنا إن شعرنا بفقرنا وعرانا تحركت فينا عوامل العزة الإنسانية فطفقنا نعمل بعزم وقوة ما نستر به سواعدنا العارية ونطعم به أرواحنا الجائعة ممَّا نحوكه بأنفسنا ونستخرجه بأيدينا من مصانع الحياة …

فلا خير في أمة عارية تكتم فقرها … ولا خير في شعب جائع يُظهر الشبع … وشَرٌّ من كل ذلك أمة تقتني أثوابها من مغاور الموت ثم تخرج في نور النهار متبجحة بما تلبس من أكفان الموتى وأكسية القبور …!

ذلك رأيي في الأدب العربي، أقوله بكل صراحة وجلاء دون أن أغمغم به أو أجمجم، ولا يغض من الأدب العربي شيئًا أنه مادي لا شيء فيه من عمق الخيال وقوة التصور؛ لأن هذا منشؤه الروح العربية التي أَمْلَتْ هذا الأدب وألقت عليه هذا اللون الخاص، وإنما الذي يغض مِنَّا — معشر التونسيين — هو أن نتخذ من هذا الأدب الذي لم يخلق لنا ولم نخلق له غذاء لأرواحنا ورحيقًا لقلوبنا لا نترشف غيره.

ذلك رأيي في الأدب العربي وفي موقفنا تجاهه، أقوله لأنه الحق وإن كنت أعلم أنه سيُغْضِبُ طائفة كبيرة ممن يُؤْثِرُونَ الحياة في أكناف الدهور الغابرة، حيث السكينة التي لا تصم الآذان والسبات الذي لا يستفز الحياة، ولكنني في غنية عن سخط هاته الطائفة من الناس وعن رضاها؛ لأنها تقدس كل ماضٍ وتعبد كل قديم لا لأن فيه حقًّا ونورًا ولكن لأن رداء القدم يكسبه مهابة الماضي وجلال التاريخ. أنا في غنية عن مثل هذه الطائفة من الناس، وحسبي أني أعلنت حقيقة أرضيت بها نفسي وأرضيت بها الحق وذويه، ولكن لكي لا يبقى ريب في قلوب هاته الطائفة التي ستنكر عليَّ هذا الرأي أقول: نبئوني يا سادتي! هل تجدون في العربية من يحدثكم عن تلك المعاني العميقة التي هي أعمق من الموت وأشد سعة من الحياة، تلك المعاني القوية النافرة التي تلوذ بأودية الفكر وشعاب الخيال؟ كلا! ولكنكم واجدون من يستطيع أن يحدثكم بكل أسلوب وصوت عن تلك المعاني الساذجة والأفكار الداجنة التي أَلَمَّ بها العرب في بداوتهم الأولى وأدركوها قبل أن تلمس أفئدتهم جذوة الحق وتذهب بأوهامهم تيارات الحياة.

نبئوني يا سادتي، هل تجدون في العربية من يستطيع أن يحدثكم عن هاته العواطف العنيفة التي تهز أسس الحياة هزًّا، هاته العواطف المتنافرة التي تنطلق فينا باسمة مستبشرة وادعة، أو مذعورة باكية متفجعة أو جامحة مزمجرة ناقمة؟ كلا! ولكنكم واجدون من يستطيع أن يُنَضِّدَ لكم من المجازات الزائفة والكنايات المتكلِّفة ما تعجز عن بعضه جِنُّ سليمان، مما لا علاقة له بالروح ولا رَحِم بينه وبين خيال الحياة.

خبِّروني يا سادتي! أي شاعر عربي يستطيع أن يحدثكم حديثًا مغريًا جميلًا عن الحب، عن هذا المعنى العميق العريق في النفس الإنسانية الذي يهز المشاعر ويؤجج نيران الحياة؟ بل أي شاعر عربي يستطيع أن يحدثكم حديثًا شعريًّا صادقًا عن نشوة الحب وسكرة المشاعر … تلك السكرة الخالدة التي تستغرق النفس وتتغلغل بها في صميم الوجود أيان يترنم الحق وتخر أمواج الحياة؟ وأي شاعر عربي يقتدر أن يحدثكم عن الأمل؟ هذا الكأس السماوي المورد الذي تترشف منه الإنسانية التائهة رشفات المسرة وسلسبيل الوجود؟ وأي شاعر عربي يقتدر أن يصور لكم معنى الأمومة الحانية الرءوم، هذا المعنى الكبير الذي ينبسط كالبحر في عمق وسعة وسكون …؟ أو يريكم مثلًا حيًّا من مُثُلِ الحياة الإنسانية الضائعة، كان يريكم موقف النفس البشرية ما بين العواطف المتباينة، تدعوها هذه وتُهِيبُ بها تلك، أو يريكم هجسات القلوب وخلجاتها، وأحلام النفوس الناشئة الواقفة على عتبة القدر تحلم بما خلف الغد البعيد؟

هل تجدون يا سادة واحدًا بين شعراء العربية يستطيع على أن يتحدث إليكم عن مثل هاته الأشياء القوية الغامضة، وإن استطاع فهل يقدر أن يرسم لكم منها صورة مغرية ساحرة أو يعطيكم منها معنى شيقًا جميلًا صادقًا هو أدنى إلى الحقيقة مما عاداه؟ كلا، فأنتم لا تجدون مثل هاته المعاني في الأدب العربي بحال؛ وذلك لأنه أدب مادي محض لا يعرف من عالم الخيال إلا أضواءه الأولى وغيومه الناشئة.

ولكنكم واجدوه وأكثر منه عند آداب الأمم الأخرى. ها هي نشوة الحب الشاملة تترنم في قلب لامرتين، فلنستمع إليها حينما غمرته بفيض من سعادة الحب وغبطة القلب جعلته يستغرق في هذا العالم الرائع استغراق الصوفي الصميم في ربه.

… كنت أفتح ذراعي للهواء والماء والفضاء كأني أريد أن أعانق الطبيعة أشكرها على أن تجلت بأنوارها وأسرارها وحياتها وجمالها في هذه المرأة الفاتنة، وكنت أجثو على الصخور والشوك دون أن أحس وأركع على شفير الهاوية دون أن أرى وأرفع صوتي بالكلام المبهم يطغى عليه صخب الأمواج الهادرة فيذهب، وأغوص في رقيع السماء اللازوردية بنظراتي الدائبة الثاقبة لأكشف فيها عن وجود الله نفسه. أنا لم أعد قط إنسانًا وإنما كنت تسبيحة هائمة وتحية دائمة أصيح وأغني وأبتهل وأصلي وأذكر وأشكر بالفيض والإلهام لا بالنطق والكلام، فمشاعري ثملة فرحة ونفسي هائجة مرحة وجسمي ينتقل من هاوية إلى لُجَّةٍ غير ذاكر هيولاه ولا معتقد بالزمان ولا بالمكان ولا بالموت.

وهكذا فجَّر الحب في قلبي ينابيع الغبطة وأيقظ في نفسي راقد العواطف، وجلَّى لعيني مسارح الخلود!

فهل سمعتم شاعرًا عربيًّا ممن تعرفون يتحدث عن نشوة الحب بمثل هذا الحديث القوي المشتعل الذي تسمع فيه رنة السكر وغُنَّة السعادة وغمغمة النفس الساهية في غيبوبة الحلم؟ أم هل رأيتم شاعرًا عربيًّا تتجلى روحه في مثل ما تجلت فيه روح لامرتين من هذا الرداء السحري الشفاف الذي ينم عمَّا خلفه، كضباب الصباح؟

هل سمعتم من فم المجنون أو قيس ابن ذريح أو جميل أو ذي الرمة أو ابن ربيعة أو امرئ القيس حديثًا صادقًا لذيذًا عن نشوة الحب كهذا الحديث؟ إنكم لم تسمعوا مثل هذا الحديث لا من هؤلاء ولا من غيرهم من شعراء العربية، ولماذا هذا؟ هل لأنهم لم يَتَذَوَّقُوا نشوة الحب ولم تلعب بأعطافهم حميا الصبابة؟ لا، فهم تذوقوا الحب كما تَذَوَّقَهُ لامرتين، ولكن الروح العربية لا تستطيع أن تنظر إلى الأشياء كما تنظر إليها الروح الغربية في عمق وتؤدة وسكون؛ لأنها مادية تقنعها النظرة العجلى التي تعلق بالسطح دون الجوهر واللباب، فالأدب العربي قد تحدث عن الحب ولكنه لم يستطع أن يتحدث عنه في جوهره، بل تحدث عنه في أعراضه ولوازمه، وتحدث عن الأمل ولكن بطريقة توهمك أنه لا يتحدث عنه، فقال الشاعر العربي عن الحب:

هل الحب إلا زفرة بعد زفرة
وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع العين، يا مي! كلما
بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو

وحاول ابن الفارض أن يتكلم عنه فما وُفق، واضطر إلى أن يلجأ للطريقة العربية التي سار عليها آباؤه الأولون منذ العصور الغابرة، أراد أن يتحدث عنه بغير ما ألِفَ العرب فقال: «هو الحب» … ولكنه عجز عن أن يتمه على ما أراد، فقال كما ألِفَ العرب أن يقولوا:

هو الحب، فاسلم بالحشا، ما الهوى سهل،
فما اختاره مُضنًى به وله عقل

وتكلم الأدب العربي عن الأمل فقال الطغرائي:

أعلل النفس بالآمال أرقبها
«ما أضيق العيش لولا فسيحة الأمل!»

ولكن الباحث يمر بهذا البيت ولا يدري أن قائلها تَكَلَّمَ فيها عن الأمل، لأنه في الحقيقة تكلم عن أثره في الحياة، أما عن الأمل نفسه فلم يقل شيئًا. وتلك هي طريقة الأدب العربي في التكلم عن هاته المعاني العميقة التي تؤدي إلى أعماق الخيال، لا يتكلم عنها في صميمها بل يتكلم عنها في أعراضها وآثارها البادية المدركة، بل إنه يتبع هذا السبيل في تكلمه عن جميع الأشياء سواء منها ما يدركه البصر وما يحجبه الضمير، وهذا ما دعاني لأن أقول إن الأدب العربي أدب مادي لا سمو فيه ولا إلهام، وأنه ينبغي لنا إن أردنا أن ننشئ أدبًا حقيقًا بالخلود والحياة أن لا نتبع الأدب العربي في روحه ونظرته إلى الحياة لأنها لم تعد صالحة للبقاء في مثل هاته العصور التي تتوثب يقظة وانتباهًا.

فالشاعر العربي إذا عَنَّ له مشهد جميل اسْتَخَفَّ نفسه واستفز شعوره، عمد إلى رسمه كما أبصره بعين رأسه لا بعين خياله، فأعطى منه صورة واضحة أو غامضة على حسب نبوغه واستعداده ولباقته في الرسم والتصوير، دون أن يكشف عمَّا أثاره ذلك المشهد في نفسه من فكر وعاطفة وخيال، كأنما هو آلة حاكية ليس لها من النفس البشرية حظ ولا نصيب، فهو كالمصور الفوتوغرافي لا يهمه إلا التقاط الصور والأشباح وإظهارها كما هي، دون أن يرسم معها صورة من نفسه ولونًا من شعوره، تاركًا للمشهد وحده أن يثير في نفس الناظر ما يثير، حتى إذا ما تصرف فلا يعدو التزويق والتنميق حتى يبدو الرسم جميلًا خلابًا يستهوي الأفئدة ويختلب النفوس. تلك هي الطريقة العربية في تناول الأشياء والنظر إليها، إلا أفرادًا قلائل شَذُّوا عن هاته الطريقة في بعض أشعارهم كابن الرومي وأبي تمام والبحتري، أما الشاعر الغربي فإنه يفتح أمام القارئ مغاليق نفسه ليريه ما أهاجه بها المنظر من عاطفة راكدة ووجدان كمين، ويجعله يلمس بقلبه ذلك الوتر الذي اهْتَزَّ في أعماق نفسه فملأ جوانبها بالأنغام وأهاج بها سواكن الأحلام، ثم هو إزاء ذلك إما أن يصف المنظر ويسبغ عليه من الخيال الجميل حُلَّةً ضافية مشبوبة متأججة، وإما أن يسكت عن المشهد تاركًا لمخيلة القارئ الحرية في تصوره وانتخاب المثل العليا إليه. وهذا هو علة ما نحسه من أن الصوت الغربي أقوى دويًّا وأبعد رنينًا من الصوت العربي الخافت الضعيف؛ لأن الصوت الغربي هو لحنان مزدوجان في آنٍ واحد: لحن يتصل بأقصى قرار في النفس، ولحن متصل بجوهر الشيء وصميمه. أما الصوت العربي فليس مصدره النفس ولا جوهر الشيء، ولكن مصدره الشكل واللون والوضع، وشتان بين القشرة واللباب!

والشاعر العربي إذا ما أراد أن يبسط فكرة من أفكاره ألقاها في بيت فرد أو جملة واحدة إن استطاع، ثم انْهَلَّ بوابل من الأفكار المتتابعة بحيث تكون القصيدة كحدائق الحيوان فيها من كل لون وصنف، أو كالأرض المقدسة التي يحشر فيها الناس من كل أوب وصوب ومن كل فئة وقبيل، وتكون الأفكار منبثة في صعيد واحد، متماسكة بعضها من الرءوس والبعض الآخر من الأذناب، كما في معلقة طرفة وزهير ومجمهرة عدي بن زيد ولامية الطغرائي وكثير من قصائد المتنبي وغيره من شعراء العربية.

أما الشاعر الغربي فإنه يعرض أمام النفس الصورة والأسباب والعوامل التي حرَّكت في نفسه ذلك الرأي بصورة شعرية تحليلية، ثم لا يلقيها كما يلقي الحجر الصلد عاريًا جامدًا، أو كما يلقي الأساتيذ تعاليمهم، ولكنه يلقيها في حلة ضافية من الشعر والخيال.

ولكي يتضح الفرق بين الطريقة العربية والطريقة الإفرنجية في تناول الأشياء والنظر إليها، فإنني أريد أن آخذ قصيدة ابن زريق البغدادي وأتناولها بطريقة تحليلية موجزة وأقابل بينها وبين قطع أخرى للشاعر الإسكوتلندي (أسيان)، يقول ابن زريق في أول قصيدته:

لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت حقًّا ولكن ليس يسمعه

ثم ينصرف فيها واصفًا بؤسه وشقاءه وما عالجه من مغالبة الدهر ومصارعة بأساء الزمن وتجشُّم الاغتراب حتى كأنه (مُوَكَّلٌ بفضاء الله يذرعه)، ثم يتخلص إلى بسط فلسفة القناعة البائسة التي هي لون هادئ من ألوان اليأس وصوت خافت من أصوات القنوط، فيقول: إن من العبث الاسترسال مع المطامع الشرهة والأقدار قد قسمت حظوظ البشر، وإن من (البغي الذي تخشى مصارعه) حرصك في طلب الرزق وأنت تعلم أن الأرزاق قد ذهبت في الناس حظوظًا. وهذا التخلص إلى تلك الفلسفة طبيعي لا تكلُّف فيه، طبيعي ممن كان كابن زريق تَجشَّم ما تجشم وراء بغيةٍ يود أن يسعد بها حبه وقلبه فيتذوق لذة العيش وعذوبة الحياة، ثم عاقته الأقدار وأحبطت سعيه سخرية الدهر. لأن من كان مثله لا بد أن ينهج أحد سبيلين: هذا اليأس الخانع الذي يتظاهر بالطمأنينة والخضوع، أو ذلك اليأس الجامح الذي يتفجر في ثورة قاصفة وتمرد عنيف يعصفان بكل شيء ولا يلويان على شيء.

وليس هذا ما أريد الوقوف عليه من قصيدة ابن زريق، ولكن غرضي وراء ذلك: غرضي هو وصفه ليوم الوداع وما وراءه من حسرات دامية ومشاعر باكية تتوجع، غرضي هو تلك العواطف التي تتفجَّر في جوانب القصيدة متألِّمة متبرمة شاكية، تلك العواطف المشبوبة بنار الألم، وذلك الأسلوب الذي يكسوها هو الذي أريد أن نتعرف منهما مقدار الفرق بين الطريقة العربية والطريقة الغربية. وبعد أن بسط ابن زريق فلسفته القانعة قال:

أستودع الله في بغداد لي قمرًا
بالكرخ، من فلك الأزرار مطلعه
ودعته، وبِوُدِّي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل، ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
بمثل هاته البساطة يستعيد ابن زريق تلك الذكرى الأليمة النائية التي هي كل ما بقي له من ماضيه الجميل! وبمثل هذا الهدوء الفاتر يتلو ابن زريق أول صفحة من مأساة الحب، ويصف أول طعنة في صميم الأمل! وبمثل هذه النفس المطمئنة يقص موقف الفراق بينه وبين من أحب دون أن تنفلت من قلبه أَنَّةٌ، أو تنسلخ من نفسه شعلة من شعل الألم؟ كأنه يقص قصة لم يتزعزع لها قلبه ولا تحطمت لها آماله، وإنما هي قصة وقعت أرزاؤها على غيره وحلت ألواؤها بسواه لولا شيء من المرارة تحس به النفس يتمشى في أجزاء الأبيات. ولكن انظروا كيف يستعرض (أسيان) تلك الذكريات المتفجعة، ذكريات أمسه الذي تلقى فيه أمضى سهم من سهام القدر وتجرع أمر نطفة من نطف العيش، انظروا كيف يقول على لسان (أزمين) لما تذكر مصرع ولديه:

هبي يا رياح الخريف هبي! واعصفي فوق سهول الخلنج العابسة، واصدمي أيتها العواصف رؤوس السنديان، وادْوِي يا سيول الغابة، وتقدمْ أيها القمر خلال الغيوم الممزقة، واحسِرْ عن وجهك الشاحب فترةً بعد فترة، وأعِدْ إلى ذاكرتي تلك الليلة المروعة ليلة دعا داعي الموت ولدي فسقط (أرندال) القوي وهلكت (دورا) العزيزة!

بمثل هاته الكلمات النارية المتضرمة التي يكاد يسمع من خلالها زفير وشهيق الأرواح البائسة يبدأ أسيان ذكرياته، وبمثل تلك البساطة الهادئة يبدأ ابن زريق ذكرياته. وما أبعد الشقة بين الاثنين! فابن زريق لا يعطي إلى الإنسانية صورة صادقة من نفسه ولا لونًا واضحًا من شعوره، وأسيان يلقي إليها بكل ما في نفسه من عواطف وذكر، وبكل ما ثار حول ذكرياته من آلام، وبكل ما عجَّ حول قلبه من غصص وأوجاع. وذلك هو الفارق بين النفسية الغربية والنفسية العربية، فالعربي يوجز في الملاحظة ويوجز في البيان الغربي، إن لاحظ أبى إلا أن يستقصي كل شيء، وإن حدث أبى إلا أن يعطي صورة من نفسه في أفراحها وأتراحها، وفي طهارتها ودعارتها، وفي يأسها وآمالها.

ثم يذهب ابن زريق يبث أوجاعه وحسراته هينة كأنفاس طفل نائم تساوره الأحلام المزعجة، وكلما اطَّرَدَ في القول إلا وخَفَتَ صوته حتى ينتهي نفس القصيدة في هذا الصوت الخافت الذي يعبث به اليأس والأمل والموت:

على الليالي التي ظنت بفرقتنا
جسمين تجمعني يومًا وتجمعه
وإن تغل أحدًا منا منيته
لا بد في غده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبدًا هذا الفرق لنا
فما الذي بقضاء الله نصنعه
فمن قرأ هذا المقطع الأخير شعر بالأسى يتمشى في أجزائه يحاول الانفجار، وبالعَبْرَةِ الحارة تتخلَّجُ في أجفان الشاعر تتطلب الانحدار، وبالزفرة الحارة تحتبس في صدر المكلوم دون أن تجد لها مخرجًا أو مناصًا. أما أسيان فإنه يقول في مثل هذا الموقف فتكاد تسمع من خلال قوله صعقات الحزن وآهات الأسى:

كلموني يا أرواح الموتى من فوق الهضبة ومن أعلى الجبل، كلموني فإنني لا أرتاع ولا أفزع، خبروني أين تلتمسون الراحة؟ أفي الغيران الموشحة والكهوف! أوافكيم فألاقيكم؟ حنانيك يا رب! لا يحمل الهواء صوتًا ولا ترد العاصفة جوابًا، أنا وحدي في وسط الآلام، أنتظر الصباح باكية بدموع الغمام! احفروا القبر يا أصدقاء الموتى، ولا تهيلوا التراب قبل أن تأتي (كلمي)!

مضت حياتي مضى الحلم، وسبق الذين أحبهم فلم أتأخر عنهم؟ هنا أريد الثراء بجانب الأحبة على ضفة الجدول الهادر فوق الصخرة!

حينما يضرب الليل بجرانه على التلعة، وتهب الريح رخاء فوق الخلنج، تجدون هناك روحي مع الهواء تبكي الأحبة وترثيهم، فيسمعني الصائد في كوخه فيفزعه صوتي، ولكن لا يلبث أن يحبه، فإن صوتي سيكون عذبًا رخيمًا في رثاء الحبيبين، لقد كان كلاهما عزيزًا عليَّ!١

وهكذا كانت الروح العربية متكتمة لا تسمح للنور أن يلامس أحلامها، ولا للظلمة أن تعانق آلامها، وأما الروح الغربية فهي متبسطة تلقي بأفراحها وأتراحها تحت أقدام الليل وفوق أجنحة الرياح …

هوامش

(١) أخذنا هذه القطعة عن «قرتر» لجيته الذي ترجمه الأستاذ الزيات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤