بين الدين والسياسة

٢٧ نوفمبر ٢٠٠٨م

أشرقَت شمس الخريف كالمعتاد في مدن الجنوب الشرقي للمحيط الأطلنطي، ومنها مدينة أطلانطا عاصمة ولاية جورجيا حيث أعيش منذ عامَين وأكثر.

يشتد الدفء وتشرق الشمس كما قالت «أندرونيكا»؛ لأن يوم الخميس الأخير من نوفمبر كلَّ عامٍ هو عيد الشكر لله والمسيح، يرسل الله والمسيح الشمس إلينا لأننا نقدم لهما الشكر في عيد الشكر. هكذا تقول أندرونيكا وهي تبربش بعينيها. تُذكِّرني البربشة بحركة العينَين لكثير من رجال ونساء الأديان في كل البلاد، وهذه التمتمة وتلاوة بعض الآيات المقدسات من الكتب الدينية السائدة. أندرونيكا عضوةٌ متحمسة للكتلة المسيحية السائدة تحت حزام الكتاب المقدس في الجنوب.

أحب أن أُشاكسها:

لماذا يا أندرونيكا يشكر الأمريكيون الله والمسيح الخميس الأخير كل نوفمبر؟

سألتُها قبل أن تسافر إلى أُسرتها في نيويورك بالأمس؛ فعيد الشكر هو عيدٌ أمريكي بحت، لا يشاركهم الأوروبيون أو المسيحيون في العالم هذا الشكر (كما يحدث في عيد الكريسماس أو عيد ميلاد المسيح)، هو عيدٌ عائلي بحت، يحتفل به أفراد العائلة وحدهم دون ضيوفٍ أجانب أو من خارج العائلة.

سافر الجميع منذ الأمس إلى عائلاتهم في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح الحي الجامعي (يُسمُّونه الكامباس) لي وحدي. تبدو الوحدة نعمةً لا يحظى بها إلا من ينشدها، وكنت أنشد الوحدة منذ طفولتي. كرهتُ الضجيج الناتج عن الزحام، في البيت كان العدد كبيرًا والزحام شديدًا، أشد منه الزحام في المدرسة والشارع ومكان العمل وأي مكانٍ آخر يذهب إليه الإنسان: النادي، السينما، المسرح، القطارات، الأوتوبيسات، المراحيض العامة، حتى المدافن والقبور مزدحمة بالموتى، وكم شقيتُ في العمل سنوات الشباب والكهولة لأشتري مقبرتي دون شريك. نعم، كرهت الشريك منذ طفولتي، مثل الآلهة العظام في التاريخ لا يقبلون الشركة أو المشاركة أو الشراكة حسب لغة خبراء التنمية الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة.

كانت القرية في طفولتي هادئة لكنها أصبحت أكثر ضجيجًا من المدينة، فوق كل بيت من الطين النيِّئ أو كوخ من التبن المعجون بالروث مكبر صوت (ميكروفون) يصرخ ليلَ نهارَ بأصواتٍ لا يمكن التقاطها من شدة ارتفاعها، منها التواشيح والدعوات، والابتهالات في المآتم أو الكوارث، ومنها الطبول والرقص والغناء في حفلات الزواج أو الطلاق. نعم شهدتُ في قريتي حفلًا أقامته زوجةٌ حصلَت على الطلاق، بعد خمسة عشر عامًا من الدوَخان على المحاكم. قالت لي هذه الزوجة التي تربطني بها صلة الرحم: الطلاق نعمةٌ يا دكتورة. الوحدة خيرٌ من جليس السوء.

كم من أزواجٍ وزوجات يعيشون معًا في تعاسة خوفًا من الوحدة، مع أن الوحدة نعمة، لا يعرف قيمة الوحدة إلا من يعيشها، نحن نخاف الوحدة مثل الموت لأننا لا نعرفهما؛ لأننا لا نعيشهما. تمهلتُ وأنا أمشي أستمتع برحيق الخريف، رائحة أوراق الشجر الساقطة تفرش الأرض بألوان الطيف، أدوس عليها برفق أخشى أن تموت تحت قدمي، أُحس بها تتحرك مثل كائناتٍ حية، مثل الأسماك الصغيرة الفضية الذهبية في بحيرةٍ صافية يلمع قاعها تحت الشمس.

تنتفض ورقة الشجر الحمراء بلون دم الغزال، الانتفاضة النهائية، هذا الرحيق الأخير قبل الرحيل، تتركز خلاصة الحياة في هذا الشذا لحظة الموت!

الذين لم يعرفوا الوحدة لم يعرفوا قمَّة الوداع المُبدِع للأشياء الساقطة في الطريق، وإن كان ورقةَ شجرٍ صغيرة تلفظ نفسها الأخير، أو سِحلية تبرق عيناها متألقة تحت الضوء قبل الذوبان في الأرض. لا يعشق الوحدة إلا من يعيشها مثل الحب، وقد سألتني أندرونيكا ذات يوم: ألا تشعرين بالوحدة وأنت هنا في الغربة بعيدًا عن الوطن والأهل؟ وقلتُ لها: الوحدة أحد الأوهام مثل الموت، لولا جمال الموت ما كانت الحياة جميلة، لولا روعةُ الوحدة ما كان عمق التأمل والإبداع والخلق والتقدم. لكنكِ يا أندرونيكا لم تردِّي على سؤالي: لماذا الشكر في عيد الشكر؟ وقالت أندرونيكا: أعترف لك يا دكتورة أنني أشعر بالغربة وسط عائلتي في نيويورك أكثر من هنا في أطلانطا؛ هنا أشعر أنني قريبة من الله والمسيح، أبي وأمي وأخواتي في نيويورك لا يؤمنون ولا يذهبون إلى الكنيسة، ولا يشكرون الله والمسيح في عيد الشكر! الشكر لهما واجب!

- لماذا يا أندرونيكا؟

- لأن الله والمسيح نصرا المهاجرين الأوائل الذين جاءوا إلى أمريكا!

– على مَن انتصر المهاجرون الأوائل؟

وتسكت الفتاة التي تحمل شهادةً عالية في التاريخ الأمريكي، ثم تقول: انتصروا على السكان الأصليين!

– وهل إبادة السكان الأصليين بواسطة المهاجرين عملٌ إنساني يستحق الشكر يا أندرونيكا؟

تسكت أندرونيكا طويلًا ثم تقول: بالطبع لا لكن الله والمسيح لا يساندان إلا القضايا الإنسانية العادلة.

– ألا ترين في كلامكِ يا أندرونيكا بعض التناقُض؟

– نعم، هناك تناقُضٌ يا دكتورة لكن التاريخ متناقض والحياة أساسها التناقُض، ثم إن النصر يكون دائمًا للأرقى من الأجناس البشرية، تصوري لو أن الهمج والبرابرة انتصروا على الأوروبيين؟ لولا انتصار أوروبا على غيرها من البشر لما حدثت النهضة الفكرية والعلمية التي نعيشها اليوم، لماذا نتكلم في أمريكا اللغة الإنجليزية؟ لأن الإنجليز الذين هاجروا إلى أمريكا تغلبوا على غيرهم من المهاجرين الآخرين.

– تغلبوا بماذا يا أندرونيكا؟

– تغلبوا بالعلم والذكاء والتقدم.

– سألتُها: هل هذه هي دراستُكِ للتاريخ؟

قالت: نعم. كان الإنجليز أول من جاءوا إلى أمريكا وتمكَّنوا من السيطرة على الآخرين وأصبحَت اللغة الإنجليزية هي السائدة.

رغم دراستها للتاريخ لم تعرف أندرونيكا أن التاريخ يكتبه المنتصرون دائمًا، وأن الإنجليز لم يكونوا أول المهاجرين إلى أمريكا. جاء أوائل المهاجرين إلى أمريكا من فرنسا عام ١٥٦٤م، سبقوا الإنجليز بخمسين عامًا إلى شاطئ النخيل في فلوريدا، هربوا من الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت التي أغرقت أوروبا بالدماء منذ عام ١٥٦٠م. كان الفرنسيون أول من أقاموا عيد الشكر لله والمسيح في أمريكا لنجاتهم من الحرب في فرنسا، وأَنشئوا مستعمرةً كاثوليكية باسم كارولين، لكن الله والمسيح نصرا البروتستانت على الكاثوليك، تم ذبح الفرنسيين في كارولين بتهمة الإلحاد، وسقط من التاريخ الأمريكي تحت زحف الإنجليز دورهم: المهاجرون الفرنسيون الذين بدءوا عيد الشكر، لكن لسوء حظهم ما إن شكروا الله والمسيح على إنقاذهم من الموت في فرنسا حتى تم ذبحهم في أمريكا مع مئات الفرنسيين الذين نجَوا من السفن الغارقة. يغرق تاريخ المسيحية في أوروبا وأمريكا بالدم المراق خلال الصراع على الحكم والثروة بين الكاثوليك والبروتستانت، لأكثر من قرنَين من الزمان.

وقالت أندرونيكا: هذه صراعاتٌ سياسية ليس لها علاقة بالدين المسيحي الذي يدعو إلى المحبة والتسامح وإعطاء خدك الأيسر لمن يضربك على خدك الأيمن. أنا أشعر بالراحة والسلام حين أذهب إلى الكنيسة وأستمع إلى تلاوة الإنجيل وأحاديث القسيسة ماريون. أصبحتِ المرأة تحتل مثل الرجل منصب القس المقدس في الكنيسة؛ لأن المسيح لم يفرق بين الرجال والنساء، وهذا هو السبب أن المرأة الأمريكية تساوت مع الرجل في جميع القوانين. أنا أشعر أنني يمكن أن أصبح رئيسة أمريكا مثل باراك أوباما، لكني أُفضِّل أن أصبح قسيسة في الكنيسة هنا في أطلانطا مثل سيستر ماريون. هذه المرأة قديسة أتعرفينها يا دكتورة؟ ألَمْ تسمعي عنها؟ إنها على صلة بالله والمسيح. يتقبل الله والمسيح دعاءها لإنقاذ المحرومين من الأب والأم، وقد تقبل الله دعاءها العام الماضي أيام الجفاف وأنزل المطر على أطلانطا وجورجيا! أصبح صوت أندرونيكا يشبه صوت مجذوب قريتي الأبله المليء بالقمل، حين كنتُ طفلة في الأربعينيات من القرن الماضي، وكانت جدتي الفلاحة تضربه بالعصا وتضحك عليه قائلة إنه بلا عقل لأنه يؤمن بالخزعبلات، كما أنه حرامي أيضًا يسرق أكفان الموتى ويبيعها في السوق مدعيًا أنه أحد أولياء الله.

لا أنسى صورة كبيرة للقسيسة «باستور ماريون كروم» رأيتها في جريدة النيويورك تايمز (١٤ نوفمبر ٢٠٠٧م) تتقدم مئات الرجال والنساء في قلب مدينة أطلانطا عاصمة ولاية جورجيا، في صلاة لله والمسيح طلبًا لإنزال المطر، هذا حدث في أمريكا في القرن الواحد والعشرين.

وقالت أندرونيكا: تقبل الله والمسيح صلاتها ونزل المطر بعد أيامٍ قليلة، بالضبط يوم عيد الشكر الماضي الخميس ٢٢ نوفمبر ٢٠٠٧م. هذا يومٌ تاريخي هنا في أطلانطا يا دكتورة؛ لأن الأمطار هطلت من السماء بأمر الله والمسيح، بعد شهورٍ عسيرة طويلة من الجفاف وانحباس الماء، ليس للزرع فقط بل مياه الشرب لنا نحن البشر، في أطلانطا على الأقل خمسة ملايين من السكان يشربون الماء القادم من بحيرة لانيز، وهي منخفضٌ تتبخر منه المياه عامًا وراء العام، إن غاب المطر عدة شهور قد يعم الجفاف، وقد تلجأ حكومة ولاية جورجيا المحلية إلى عمل بطاقات لتوزيع الماء على الناس، إذا غضب الله والمسيح على سكان جورجيا ولم ينزل المطر.

تذكرتُ بطاقات التموين لتوزيع السكر والزيت في بلادنا على الفقراء والطبقات العاملة، ما زلت أحتفظ في سجل تاريخ مراهقتي ببطاقتي التموينية للحصول على حصتي المقررة كل شهر من الصابون والزيت والسكر والأرز. كنتُ أمشي من شقتي الصغيرة بالدور الخامس في شارع مراد بالجيزة إلى بقالة «اليماني» على ناصية الشارع حاملةً حقيبةً كبيرة من القماش الدمُّور، داخلها أكياس وزجاجات بلاستيك فارغة، أعود بها ثقيلةً على ذراعي خفيفة على قلبي. كانت سعادتي للحصول على حصتي المشروعة من التموين أكثر من سعادة الحب أو الجنس غير المشروع.

أما القس «الباستور أوك سوو بارك» فكنتُ أرى صورته طوال العام ٢٠٠٧م في جريدة النيويورك تايمز، على رأس مقاله الكبير شبه الأسبوعي، يحتل صفحةً كاملة، يتحدث فيها عن المعجزات السماوية الناتجة عن صلاته المنتظمة. كنتُ أتابع هذه المقالات باندهاش، كيف تُنشر هذه الأوهام على الناس في أمريكا في القرن الواحد والعشرين؟ أحد هذه الأوهام المنشورة في النيويورك تايمز (١٠ سبتمبر ٢٠٠٧م) أن القس أوك سوو بارك كان يقيم مركزًا يلجأ إليه بعض المحتاجين، فوق جبل ديدوك، وأنه مع المئات مِن الناس بذلوا الجهود وآلاف الدولارات والعمال والمهندسين وأدوات العلم لحفر الأرض بحثًا عن ينبوع ماء، دون جدوى؛ لم تكن هناك قطرة ماء رغم أن الحفر توغل في بطن الأرض عميقًا جدًّا. وأخيرًا لجأ القس أوك سوو بارك للصلاة والدعاء لله أن يرسل الماء، وفجأة بعد الصلاة! هوب! انبثق الماء من بطن الأرض كالنافورة! ويختم القس مقاله الطويل مؤكدًا على أن الإيمان والصلاة أكثر فاعلية من أدوات العلم.

وقد أردتُ أن أسأل هذا القس سؤالًا ملحًّا: لماذا يا سيدي لم تلجأ للصلاة منذ البداية قبل إنفاق الجهود العلمية والأموال على عمليات الحفر في الأرض؟

أصحاب العقول وأصحاب الذقون

منذ أيامٍ قليلة، خلال الشهر الماضي (أكتوبر ٢٠٠٨م) صدر قرار من الفاتيكان بطرد قسيسٍ أمريكي أفنى من عمره ستة وثلاثين عامًا في خدمة الدين (اسمه روي بورجيوس) أقسى عقاب يمكن أن يناله قسيس. حتى القساوسة من الرجال الكبار، الذين اغتصبوا أطفالًا لم يتعرضوا لهذا العقاب! فماذا كانت جريمة هذا القس؟

كانت جريمته أنه وافق على صعود المرأة في الكنيسة إلى منصب القسيس! أعطاه رجال الفاتيكان فرصة للندم أو الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه لينجو من العقاب، إلا أن هذا القس الذي قارب السبعين عامًا رفض التراجع ورفض الندم، وردَّ على الفاتيكان قائلًا بصوتٍ عالٍ غير هيَّاب:

من أنتم يا رجال حتى تدَّعوا أن الله منحكم منصب القسيس ولم يمنحه للنساء؟

لقد خدم هذا القسِّيس «روي» الدين المسيحي في بلادٍ متعددة، وسافر في حملات تبشيرية إلى بوليفيا والسلفادور، عاد منهما إلى بلده أمريكا ليناضل ضد التفرقة، من أجل السلام والعدالة الاجتماعية. جمع من حوله آلاف النساء والرجال، يعارضون التسليح والحروب، ينادون بإلغاء الفروق بين البشر، وقال القس روي للصحف:

حين جاءني الخطاب في ٢١ أكتوبر من الفاتيكان شعرت بالغثيان. ثم أفاق القس من غُمَّته وردَّ على الخطاب قائلًا: لن أندم! يشعر رُوي بالقوة في مواجهة الفاتيكان، فهو ليس وحده في هذه المعركة، معه أعدادٌ كبيرة من النساء والرجال في أوروبا وأمريكا منذ عام ٢٠٠٢م، بعد أن بدأت النساء داخل الكنائس يُنظِّمن أنفسهن في قوةٍ سياسية مناهضة للتدين التقليدي الذكوري، وحصلَت بعض النساء على منصب القسيس في بعض الكنائس في أوروبا، وقد اتهم البابا حينئذ تلك الكنائس بالردة والخروج على المعلوم من الدين، وأعلن البابا يوحنا الثاني قائلًا:

لقد اختار المسيح الرجال فقط ليكونوا قساوسة؛ لهذا لا يحق لأي كنيسةٍ إعطاء هذا المنصب المقدس للنساء!

فَقدَ رُوي الكثير من المَيْزات المالية والدينية التي يحظى بها القُسس، لكنه لم يتراجع، وبكى أبوه البالغ خمسة وتسعين عامًا لضياع مستقبل ابنه، لكنه أعلن برباطة جأش:

أعاد الله ابني «رُوي» سالمًا من حرب فيتنام، ومن أحراش بوليفيا والسلفادور، وسوف يحمي الله ابني في معركته الأخيرة ضد الفاتيكان، من أجل المساواة بين الرجال والنساء وإلغاء الفروق كلها بين البشر!

لماذا لا يتحلَّى كل رجال الدين والسياسة بهذه الصفات الإنسانية التي تحلَّى بها رُوي وأبوه؟ لماذا لا يكون الله هو رمز العدل والمساواة لدى كل رجال الأديان؟ لماذا يتحول الله لدى بعض الرجال (وبعض النساء) إلى وسيلة للتفرقة بين البشر، على الأخص بين النساء والرجال؟ لماذا في هذا القرن الواحد والعشرين أصبح الدين أداة للبطش والتكفير والقتل والتفرقة بين الناس؟

في بداية القرن الماضي أدركت جدتي الفلاحة التي لم تدخل المدارس أن ربنا هو العدل عرفوه بالعقل! هل المشكلة في المدارس الرديئة؟ هل تفقد مناهج التعليم الذكاء الفطري لدى التلاميذ والتلميذات؟ هل هي مناهج السياسة؟ أم مناهج التعليم الديني؟ أم إنها الدولة منذ نشوئها تحمي مصالحها وحكامها بالبوليس والدين ونظام التعليم؟ هذا الثالوث المقدَّس الذي قامت عليه الدولة والعائلة الأبوية منذ نشوئهما في العصور العبودية حتى اليوم، في الشرق والغرب والشمال والجنوب.

لم يدرك أوباما أهمية النهوض بالتعليم في أمريكا، لم يحظَ النهوض بالتعليم إلا بالبند الخامس من برنامجه الرئاسي؟ رغم أن التعليم الجيد بالمدارس الجيدة هو الذي رفع أوباما إلى ما هو عليه من قدرةٍ فكرية وثقافية، هذه القدرة التي أقنع بها الجماهير من النساء والشباب، أن الأصوات التي حملَت أوباما إلى كرسي الحكم لم تكن لرجال الدين، بل أصحاب وصاحبات العقول الشابة المتحررة من رواسب الفكر المتخلف والتقاليد البالية. هل يتخلى أوباما عمن حملوه إلى البيت الأبيض ليخدم القوى السائدة في أمريكا من أصحاب الأموال وأعوانهم من أصحاب الذقون في الكنائس؟ هل يخدم أوباما هذه القوى ويُضحِّي بالعدل كما يفعل أغلب الحكام في أغلب الدول منذ نشوء ما عُرف باسم الدولة؟

يُؤكِّد أساتذة التاريخ القديم والحديث أن تفوُّق أوروبا وأمريكا على البلاد الأخرى لم يحدث إلا بسبب النهضة العلمية، وتغلُّب أصحاب العقول على أصحاب الذقون. هنا أتذكر قولة أبي العلاء المعري: سكان العالم قسمان، قسم لهم عقول وليس لهم ذقون، وقسم لهم ذقون وليس لهم عقول! سمعتُ أبي يُردِّد هذه المقولة منذ طفولتي، وكان لا بد لمؤلفات أبي العلاء المعري وابن رشد أن تُدرَّس للتلاميذ والتلميذات في بلادنا، إلا أن هذه المؤلفات مُنعت في مدارسنا، وأخذها الآخرون في أوروبا، ساعدَت مع أمثالها من الكتب المتقدمة أن تحدث النهضة الفكرية في أوروبا ومنها إلى أمريكا. أما نحن فقد أصبحتِ العصا لمن عصى، والحرق في نار الجحيم هو عقاب المفكرين والمفكرات، وأصبح أبو العلاء وابن رشد من الكفار الملحدين، وللحديث بقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤