بروكسل

أول مارس ٢٠٠٧م

كان يومَ أحد، مدينة بروكسل في إجازة، شوارعها خاليةٌ تمامًا، الأبواب والنوافذ مغلقة، وأنا أمشي وحدي في المساحات المفتوحة الممدودة، كأنما أملك المدينة والكون كله. تحت الشمس الدافئة الحنون أمشي، أفرد ذراعيَّ وأحتضن الشمس كأنما صدر أمي. بالأمس كانت الثلوج تغطي الأرض والأشجار والبيوت والسيارات، ذابت الثلوج وتلاشت تحت قوة الشمس المشرقة، تُذكِّرني بقوة أمي أو جدَّتي، حين كانت تتمرد على أي سلطةٍ تُهدِّدها، ثم تشرق كالشمس في انتصارها على برودة العالم.

تحرَّرتُ من معطفي الصوفي الثقيل، فتحتُ صدري للدفء والطمأنينة. كم تلقَّى ظهري الطعنات من الأهل والأصدقاء أكثر من الأعداء والغرباء! أخلع سترتي، أكشف عن الجروح في ظهري والكدمات، تداويها أشعة الشمس برفقٍ كأنامل أمي، تلتئم الجروح وتعود عظام ظهري قويةً مستقيمة، تتلاشى التقوُّسات القديمة والتشوُّهات، وأمشي تحت الشمس وأمشي، إلى آخر العمر أمشي، تشرب عيناي خضرة الشجر كأرضٍ بور شققها الظمأ، أملأ صدري بهواء نقي، أطرد الغبار الأسود والتراب.

من بعيد، من الجنوب الشرقي وراء البحر تزحف سحابةٌ قاتمة، تُذكِّرني بالسحابة السوداء فوق مدينتي القاهرة لسكانها الفقراء، المقهورة على مدى القرون بالغُزاة، من الخارج والداخل، يتعاونون في السر، ويتبارزون في العلن، يتنافسون على امتلاك الأرض والماء والهواء، يفرضون الحجاب على العقل باسم التعليم والولاء لله وللوطن، يقتلون باسم الله ويسرقون عرق الناس وينجحون في الانتخابات بالأغلبية الساحقة ٩٩,٩٩٪.

توقفتُ أمام بابٍ مفتوح تعلوه بالحروف اللاتينية كلمة «بابل» أهي مدينة بابل في العراق القديم؟ حيث بلبل الله ألسنة أهلها حتى لا يفهم بعضهم البعض الآخر، ويتفرقون دون إكمال بناء برج بابل؟ هذا البرج كاد يخترق السحب. تجمَّع أهل بابل في وحدةٍ قوية متماسكة متفاهمة، وبدءوا بناء البرج، أصبح البرج يُهدِّد العرش الإلهي في السماء. قرر الله بلبلة ألسنة الناس فتوقَّف العمل والبناء. أصبح اسم المدينة بابل، جاءت القصة في كتاب الله المقدَّس، أصبحت المدينة امرأةً زانية تعصي أوامر الله وتدعو الناس إلى الوحدة والعمل البناء، لإكمال البرج الصاعد إلى السماء، لكن الله فرَّقَهم فانهزموا. المرأة الفاضلة لم تقترف جريمةً سوى حبها لمدينتها وأهلها، سوى تصميمها على الوحدة والعمل لبناء البرج. تم إلصاق تُهمة الزنى بها في الكتاب المقدس، تم تصويرها على شكل وحشٍ له سبعة قرون يركبه الشيطان، لكنَّ جنود الرب الأعظم منها تضربها بسيف الله فيسيل دمها ويغرق السماء والأرض.

شدني العنوان «بابل» لأدخل من باب السينما، ربما امتلك المخرج المكسيكي (أليخاندرو جونزاليس إينارتو) الوعي والشجاعة، لتبرئة المرأة المدينة، من التهمة الأزلية الزائفة، ومعه كاتب السيناريو المكسيكي (جويلير مو آرباخا) مع موسيقى وألحان (جوستانو سانتا أولالا)، مع ممثلين وممثلات من المكسيك والمغرب واليابان وأمريكا. جرت أحداث الفيلم في هذه البلاد، دفعتُ عشرة يورو في التذكرة، جلسَت إلى جواري امرأةٌ بيضاء الوجه ترتدي قبعة ومعطفًا أسود. ابتسمَت لي وقالت: رأيتُ هذا الفيلم ثلاث مرات دون أن أفهمه، لكنه أعجبني كثيرًا لا أعرف لماذا. قلتُ لها: أحيانًا نفهم الأشياء بقلوبنا أكثر من عقولنا، لكن الفن الجيد نفهمه بالعقل والقلب معًا. وضحكت السيدة وقالت: ربما في هذه المرة الرابعة أفهمه بعقلي وقلبي، لكن قلبي يا سيدتي يؤمن بالله والمسيح. رغم أن عقلي يرفُض الكتاب المقدس، ضحكتُ وقلتُ: هذا الانفصام بين قلوبنا وعقولنا موروث منذ سبعة آلاف عام.

بدأ الفيلم وساد الصمت في القاعة، ينطق الممثلون والممثلات في الفيلم بلغاتهم المحلية، في المكسيك، والمغرب، واليابان والولايات المتحدة الأمريكية، اللغة المحلية مع اللكنة الشعبية مما بلبَلَنا نحن المشاهدين للفيلم، رغم الترجمة أسفل الصور المتحركة بسرعة، لا نكاد نقرأ الترجمة حتى يتغير المشهد، هل أراد المخرج أن يُبلبِل عقول الناس كما فعل الإله في كتابه المقدس؟ أحداث الفيلم أخذتنا إلى قصةٍ مفكَّكة متناقضة، تعتمد على الإثارة الجنسية للذكور، تتملق التقاليد الشعبية البالية تحت اسم احترام التراث والخصوصية الثقافية أو الهوية الأصلية، بما في ذلك تدخين الحشيش بواسطة عجائز النساء في قرى المغرب، وعادات منذ العبودية كالختان والحجاب، وانجذاب جنسي ذكوري فحولي إلى بناتٍ صغيرات بلهاوات.

أثار الصبي المغربي في الفيلم إعجابنا بذكائه وشخصيته القوية بالنسبة لأخيه الأكبر، ومهارته في الرماية وإطلاق الرصاص، ليس فقط على الذئاب التي تأكل غنمه بل أيضًا على الأتوبيس السياحي الأمريكي، وكذلك إصابته الهدف وقتله رجل البوليس الذي قتل أخاه الأكبر. كان هذا الصبي المغربي الفقير البطل المأساوي في الفيلم، حتى اللحظة الأخيرة حين سلم نفسه للبوليس بعد أن انتقم لأخيه المقتول، حتى في لحظة ممارسته للعادة السرية، بيده من تحت سرواله المغربي الفضفاض، كانت له يدٌ قوية ثابتة الإرادة، قادرة على منحه اللذة الجنسية، بقدْرِ ما هي قادرة على إطلاق الرصاص وإصابة الهدف.

تذكرتُ في هذه اللحظة مشهدًا في فيلمٍ آخر؛ طابور من الجنود في الجيش الأمريكي، كلٌّ منهم يقبض على قضيبه المنتصب بيد، وباليد الأخرى يقبض على البندقية، الترابط بين القوة الذكورية على الغزو الجنسي والغزو العسكري. التمرد الجنسي للفتاة اليابانية في فيلم بابل تمردٌ سلبي بائس غير محترم، تمردٌ سطحي يقودها فقط إلى خلع ملابسها، والوقوف عارية في الشرفة العالية، أمام عيون ناطحات السحاب في سوق طوكيو الحرة، قممها مدببةٌ مثل كل أبراج الرأسمالية، تخرق عيون الآلهة في السماء.

بدت الفتاة ضحية نظامٍ عالمي طبقي ذكوري، لكن الضحايا لا ينالون الاحترام بل الشفقة، والفارق كبير بين الشفقة والاحترام. نال الصبي المغربي الاحترام لأنه اختار المقاومة، وقرر أن يكون قاتلًا وليس مقتولًا كأخيه الأكبر، لم يصور لنا المخرج امرأةً واحدة مقاتلة تستحق الاحترام، كلهن ضحايا فقيراتٌ من الطبقات الدنيا في المغرب والمكسيك، أو من الطبقات الأعلى، أمريكيات ويابانيات. لا تكون المقاومة أو الشجاعة أو القتال إلا عند الرجال، حتى رجل البوليس الياباني، الذي تسير إليه الفتاة عارية، تُقدِّم له جسدها كاملًا في استسلامٍ كامل، يجعله المخرج إنسانًا يقاوم الغرائز ويتعفف. يترفَّع رجل البوليس عن الاستسلام لشهوة الجنس، ربما إشفاقًا على الفتاة الصغيرة أو على أبيها المتهم بتجارة الأسلحة؛ ربما إرهاقًا من عمله البوليس القاسي؛ ربما لأنه متزوج من امرأة يحبها؛ ربما كان يمارس الجنس مع الرجال وليس النساء. المهم أن هذا الرجل البوليسي نال الاحترام، أما الفتاة فقد نالت الشفقة دون احترام.

مثلها مثل كل النساء في الفيلم، حتى الشغالة المكسيكية الفقيرة، التي كانت تجتاز الحدود لتعمل في بيوت الأثرياء الأمريكيين، أصبحَت ضحية الظلم، استسلمَت لرجال البوليس عند الحدود، وعادت إلى المكسيك منكسرة منكَّسة الرأس. لماذا كانت تبكي وهي عائدة إلى وطنها وأهلها؟ وهي تعانق ابنها في حفل زفافه؟ وهي محوطة بدفء مشاعر الأهل والأحباء في المكسيك؟ هذا الدفء الذي افتقدته داخل حياة الطبقة العليا الأمريكية، ومنهم المرأة الجالسة بجوار زوجها في الأتوبيس السياحي. تركا أطفالهما مع الشغالة المكسيكية في بيتهما الكبير في أمريكا. يدور بينهما حوارٌ بارد عن حياتهما الباردة، بينما يشق الأوتوبيس طريقه بين هضاب المغرب، الزوج يعيش ملذاته الخاصة بعيدًا عن زوجته، لماذا لم تنطلق رصاصة الصبي المغربي في صدر الزوج وليس الزوجة؟

لكن المخرج لا يريد أن يجعل الرجل (رغم فساده الأخلاقي) ضحية للظلم الواقع في العالم، بل المرأة هي الضحية، هي التي تُعاقب برصاصة الصبي المغربي، وهي التي تنزف الدم حتى يتم نقلها بالطائرة إلى المستشفى. لم تحظَ هذه الزوجة إلا بالإشفاق مثل غيرها من الضحايا، أما زوجها فقد أصبح بطلًا وهو يبذل الجهود لإنقاذ زوجته من الموت، رغم ما كان بينهما من جفاء، رغم فظاظته في معاملة الفقراء من أهل المغرب. كان يشخط فيهم كأنهم أُجراء في أرضه، يحثُّهم على الإسراع لإنقاذ زوجته، يتشاجر مع الجميع لتحقيق رغبته، يحاول تعطيل الأتوبيس كله، بكل ما فيه من السياح، الرجال والنساء، بمن فيهم كبار السن، أوشك أحدهم على الموت، فانطلق السائق بالأتوبيس رغم اعتراضات الزوج. بالغ المخرج في حماس الزوج لإنقاذ زوجته، كأنما لم يحبها إلا عندما أشرفَت على الموت، أو أراد التخفيف عن إحساسه بالذنب قبل موتها، بسبب الآلام التي عانتها في الحياة معه.

لا يتعمَّق المخرج في شخصيات الفيلم، بل ينشغل بالشعارات السياسية العامة تحت اسم الإنسانية، أو تصوير قسوة الفقر أو مآسي العولمة الرأسمالية، والسوق الحرة، وتجارة السلاح العالمية، والضحايا الأبرياء لما يُسمى الإرهاب. أحدهم الصبي المغربي الفقير، الذي يقبض عليه البوليس كأنما يقبض على منظمةٍ إرهابية، ربما عَبَّر وجه المرأة المغربية العجوز عن مآسي الفقر، تجاعيد المعاناة محفورة في الجلد والعظم، وصمتها البليغ، بفمها المجعَّد المزموم، وتمرُّدها المكتوم وهي تنفث دخان الحشيش، تمرُّد سلبي بائس عاجز. تحاول، بقراءة بعض التعاويذ السحرية، أن تُنقِذ حياة السائحة الأمريكية، صورةٌ مزيفة عن القدرة الطبية لبعض الآيات المقدسة.

شخصية الأب الياباني، والد الفتاة، تجسد تاجر الأسلحة الدولي، مزيج من القسوة والفساد، هل قتل هذا التاجر زوجته أم إنها انتحرت إنقاذًا لنفسها من الحياة معه؟ هل رأت الفتاة أباها يدفع أمها من الخلف لتسقط من الشرفة العالية؟ هل أفقدَها هذا المشهدُ النطق؟ وجعلها تضيع مع شباب العصر الضائع في حلبات الرقص والمخدرات والجنس؟

كانت الشرفة هي المكان الذي حدثَت فيه الجريمة، فأصبحت المكان حيث تنتقم الابنة من أبيها، لم تمتلك الفتاة من وسائل الانتقام الكامل لكل شيء في العالم إلا العُرْي الجسدي الكامل، أن تخلع عنها كل ملابسها وتقف عارية في الشرفة تصفع بعريها أباها ورجل البوليس، وناطحات السحاب وتجار السلاح، وسوق الرأسمالية ونخاسة العبيد في العصر ما بعد الحديث ومنهم أمها وهي وكل النساء.

لم يقُلِ الفيلم شيئًا من هذه الأفكار التي راودَتْني، وخرجتُ من دار السينما أقول لنفسي: هذا فيلمٌ جيد رغم ما فيه من ثغرات وقيم ذكورية، يكفيه أنه أثار خيالي وجعلني أكتب قصةً أخرى للفيلم وسيناريو آخر لم يخطر على بال المخرج أو الكاتب، ولا علاقة له باسم بابل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤