مقدمة

استشراف العولمة الثقافية

بينما كنت أكمل مراجعة هذا الكتاب في أواخر ٢٠٠٦م وأوائل ۲۰۰۷م، حدثت عِدَّة تطورات في مناطق كثيرة من العالم يمكن اعتبارها دليلًا على العولمة الثقافية:

  • قُرْب نهاية العام ٢٠٠٦م كانت الحكومة الإيرانية تُحاوِل تقييد سرعة التحميل من أجهزة الكمبيوتر؛ لتقليص الزَّحْف الثقافي الغربي وغيره من المؤثِّرات غير الإسلامية على البلاد.

  • كان أحد هذه التطورات المُقلِقة مشهد إعدام صدام حسين، الذي سرعان ما انتشر في أرجاء العالم بعد ساعات قليلة من الحدث، وذلك عن طريق الإنترنت ومُنظَّمات إعلامية عالمية.

  • في يناير ٢٠٠٧م أثار عرض بريطاني من عروض تليفزيون الواقع (الأخ الكبير Big Brother) تعليقات كثيرة، وحظي بتغطية عالمية تَركَّزتْ حول الاضطهاد العرقي وإساءة معامَلة فتاة هندية من قبل زملائها في المسكن (وكانوا من الإنجليز البيض)، الأمر الذي أثار أزمة سياسية بين الحكومتين الهندية والبريطانية، أدَّت إلى مخاوف في بريطانيا من أن يضر ذلك بِسُمعَتها في العالم.
  • في ذلك الوقت كان فيلم «آخر ملوك اسكتلندا» الحاصل على عدة جوائز قد ظَهر، وهو فيلم — من موضوعه إلى إخراجه — ربما يكون نموذجًا للعولمة الثقافية مُطبَّقة. الفيلم عن الديكتاتور الأوغندي السابق إيدي أمين Idi Amin، الذي قام بدوره الممثل الأمريكي الشهير فورست ويتاكر Forest Whitaker، وتم تصويره في أوغندا وتمويله وتوزيعه عالميًّا، وأخرجه مخرج بريطاني، وشارك فيه أَطقُم من الممثلين والفنيين من عدة دول، وطبيب اسكتلندي مُتخَيل.
  • في «ميديم Midem» المؤتمر السنوي لصناعة الموسيقى العالمية في كان، الذي عُقِد في يناير ۲۰۰۷م، دار حديث عن التَّخلِّي عن إدارة الحقوق الرقمية — وهي التكنولوجيا التي تمنع طَبْع عدد غير محدود من النُّسخ الرقمية لأغانٍ أو أفلام أو فيديو — لأسباب تتراوح بين تقييد مبيعات التحميل أو التحايل عليها؛ وهو تَطوُّر من شأنه أن يجعل الموسيقى متاحة عالميًّا.
  • وعلى نحو أكثر جدية، نشرت هيئة التغيرات المناخية التي يشارك فيها عدد من الحكومات (Intergovernmental Panel on Climate Change) في فبراير ۲۰۰۷م، تقريرًا كشف عن مدى خطورة ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، وهو ما أدَّى إلى تصاعُد النداءات الدولية لإعادة النظر في الثقافة الاستهلاكية ودعم أفكار الكوزموبوليتانية وحماية البيئة في العالم.
  • هذه الأمثلة حدثت في فترة تتراوح بين شهرين وثلاثة أشهر، إلا أنها ليست غريبة عن عصرنا؛ وفي هذه المرحلة أيضًا هناك أمثلة أخرى عديدة على ما تقوم به الحكومات الوطنية في محاولة لتقليص أو تقييد المؤثرات الثقافية الخارجية والعالمية؛ وأمثلة على الصراع بين الصناعات الموسيقية لكي تتماشى مع أذواق وسلوك المستهلكين، وعلى الأفلام ذات الطبيعة الكوزموبوليتانية، وعلى عمليات الإعدام وقطع الرءوس وغير ذلك من الفظائع التي تنقلها مواقع الإنترنت … وهكذا. هذه النوعية من التطورات وما تثيره من قضايا هي محل اهتمام هذا الكتاب الذي يعد — باختصار — مُقدِّمة للعولمة الثقافية وما يصحبها من قضايا جدلية وأسئلة مركزية بالنسبة لموضوعنا؛ مثل: ما العولمة؟ وما الثقافة؟ — وبالطبع — ما طبيعة العلاقة بين الثقافة والعولمة؟

(١) استشراف لتمييز وتأطير العولمة الثقافية

على مدار الكتاب سوف يكون تركيزنا على الطبيعة المُعقَّدة والتَّعدُّدية والمتفاوتة للعولمة الثقافية، مع محاولة لتوضيح أن هناك أبعادًا متعددة للعولمة تعكسها تواريخها وعملياتها وصيغ ترابطها المختلفة١ وكما سيتضح لنا، فإن التَّعقُّد والتَّعدُّدية وتعدُّد الأبعاد كلها تبدو واضحة عندما يتعلَّق الأمر بالثقافة؛ ومن الأهمية بمكان أن نعرف أن عمليات العولمة ليست بمعزل عن الثقافة أو الثقافات؛ إذ إن الثقافة والثقافات هي التي تُشكِّل هذه العمليات وذلك ضمن مؤثرات أخرى، وبالقدر نفسه لن تكون الثقافات مُحصَّنة ضد عمليات العولمة، بل إنها هي التي تُعبِّر عنها ولو جزئيًّا على الأقل، أضف إلى ذلك أنه بينما تقوم العولمة بتنشيط وتنمية الثقافة وتمزيقها في الوقت نفسه، فإن الثقافة يُمكِن أن تكون أكثر الطُّرق مباشرَة في ممارستنا للعولمة. في استكشافنا لطبيعة هذه العلاقة المتداخلة، سيكون تركيزنا على كيفية مواجهة جماعات ومجتمعات مختلفة لكل الأشكال التعددية للتواصل الكوني في محاولة لإفقادها قُوَّتها؛ وفي المقابل سيجعل ذلك من السهل علينا أن نحدد النقاط والمواقع، حيث تكون العلاقة بين الثقافة والعولمة انعكاسية وجدلية، أو تتخذ صيغة مختلفة أو شكلًا آخَر؛ وعليه فسوف نستخدم هنا استشرافًا أو أسلوبًا للتناول من أَجْل تمييز وتأطير العولمة الثقافية. على نحو أكثر تحديدًا، سوف نَدَّعي أن القوى الثقافية المحركة للعولمة تنبثق من التفاعل المتبادَل بين عدة عمليات وتدفقات وشبكات وروابط، يتم فهمها وممارستها والإضافة إليها، من فاعلين وقوى في سلسلة من بيئات ومَواقع محلية، ثقافية وسياسية واجتماعية مختلفة. هذه الأطر قد تكون إقليمية أو قومية أو محلية، دينية أو صناعية أو تاريخية … إلخ، بينما مدى وطبيعة ارتباطنا بهذه الأشكال من العولمة مهمة بالمثل، وكنتيجة لهذا التفاعل بين كل تلك القوى والجماعات المختلفة داخل هذه الأطر المختلفة — أيضًا — ربما يكون علينا ألا ندهش لكون التعقد وعدم التجانس هي السمات السائدة في حقبة العولمة التي نعيشها. يضاف إلى ذلك أن الأفراد والجماعات والمجتمعات سيكون لها ثقافاتها وتواريخها التي — حتمًا — ستشكل طبيعة تفاعلها مع الجوانب المختلفة للعولمة، وتعمل على توليد استجابات متنوعة؛ والحقيقة أنه في حالة الأفراد فإن طبيعة هذا التفاعل سوف تعتمد بالإضافة إلى ذلك — ومن بين أشياء أخرى — على الخلفية الاجتماعية والتعليمية والعمل والمزاج الشخصي إلى جانب المعرفة وفَهْم المرء للعولمة٢ على سبيل المثال، ذلك السيل الجارف من الصور والمعلومات المنهمر من الميديا الغربية، ربما يكون هو الوسيلة الأهم والأبرز التي يُترجِم بها المسلمون العولمة ويفهمونها، كما أن الوطنيين قد يربطون بين تدفقات المهاجرين الذين يُهدِّدُون ثقافتهم الأصلية والعولمة، وتكون ردود فعلهم على هذا الأساس، ينبغي إذن عدم النظر إلى العولمة نظرة تجريدية؛ إذ إننا نمارس عملياتها بطرق ملموسة.
هكذا يمكن أن نقول إنه بدلًا من مُجرَّد الاعتماد على نظريات وتفسيرات عامَّة، فإنَّ فَهْم العولمة الثقافية يَتطلَّب منا التركيز على تداخُل وتفاعُل الكوني والمحلي في داخل الأطر المختلفة، والحقيقة — كما سنبين — أن تَطوُّرات العولمة تزيد الأمور تعقيدًا وبذلك تقوى الحاجة إلى إظهار هذا التمييز؛ فعلى سبيل المثال نجد أنه نتيجة لزيادة تَدفُّقات البشر والصور والأصوات والرموز في ظل العولمة المعاصرة، تَتغيَّر أُطُرنا المكانية أو محلياتنا على نحو مستمر، بينما تُؤكِّد تكنولوجيا المعلومات والاتصال العالمية — وخاصة عدم تكافؤ الفرص في الوصول إليها — الفروق الواضحة في المشاركة في الشبكات العالمية والعابرة للحدود القومية؛ وبالمثل فإن بعض الناس سوف يستخدمون الطائرات النفاثة ويتنقلون في أرجاء الكرة الأرضية ويتعرفون على أماكن مختلفة أكثر من غيرهم. باختصار … نحن نسكن فضاءات اجتماعية وثقافية مُعقَّدة ونعمل في أُطر وسياقات مُتعدِّدة ومتغيِّرة، ولكي نجمع كل هذا التنوع في كبسولة واحدة سيكون من الملائم أن ننظر إلى العولمة الثقافية بصيغة الجمع؛ أي باعتبارها عولمات ثقافية؛ ولتجسيد هذا المفهوم للعولمة الثقافية وإقامة الدليل عليه، سنُقدِّم في كل فصل عدة أمثلة رغم أن الكتاب لن يعرض لدراسات حالة، حيث تَم تناوُل ذلك في مصادر أخرى، انظر على سبيل المثال: Eade, 1997, Hany and March, 2001; Hopper, 2006; Monaci et al., 2003; Xavier Inda and Rosaldo, 2002.

وهنا أكرر أن الاهتمام الأساسي لهذا العمل هو تناول المجادلات الرئيسية المحيطة بهذا الموضوع.

(٢) أهمية المعايير التي نستخدمها في تعريف العولمة

هناك كثير من الأفكار والآراء في هذا الكتاب، لعل من أهمها أن مصدر كثير من الخلافات حول العولمة كامِن في مفاهيمها العامة والمعايير المستخدمة لفهمها وتعريفها؛ ونتيجة لذلك يبدو مَن يكتبون في هذا الموضوع وكأنهم يكتبون عن أشياء مختلفة. في جزء كبير منه، ينبع ذلك من حقيقة أن المجادلات الأكاديمية لها أساليبها المختلفة في تناوُل العولمة ودراساتها. في داخل علم الاجتماع مثلًا نجد ربطًا بين العولمة والحَداثة، بينما يميل الاقتصاديون إلى تناولها في علاقتها بالرأسمالية والاقتصاد العالمي، وفي العلاقات الدولية نجد العولمة — حتمًا — مُرتبِطَة بمؤسَّسات الحكم العالمية؛ بالإضافة إلى ذلك هناك — بشكل عام — تقسيم بين العلوم الاجتماعية إزاء هذا الموضوع مثل علم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، والعلاقات الدولية، والإنسانيات.٣ من منظور الدراسات الثقافية، على سبيل المثال، تعتقد «جانيت وولف Janet Wolff» (١٩٩١م) أن العلوم الاجتماعية تُقدِّم تفسيرًا غير كافٍ، وقاصرًا في تحديده للثقافة وعمليات العولمة، وفي المقابل فإن بعض نماذج العلوم الاجتماعية للعولمة لا تَظهر كثيرًا في إطار الدراسات الثقافية. على سبيل المثال دراسات الهجنة في حقبة العولمة هذه، نادرًا ما تعترف بوجود تفسيرات شكوكية عن العولمة، مثل تلك التي يُقدِّمها «بول هيرست Paul Hirst»، «وجراهام طومسون Graham Thompson» (١٩٩٦م) اللذان نتناولهما في القسم التالي؛ وعلى أية حال، فقد واجه هيرست وطومسون انتقادات شديدة لتغليبهما الجانب الاقتصادي على البعد الثقافي للعولمة.

(٣) العولمة المختلف عليها والحاجة إلى استشراف متعدد المجالات المعرفية

ما سبق طرحه يُلقِي الضوء على موضوعين إضافيين في هذا العمل، هما بالتحديد: الطبيعة المختلَف عليها للعولمة كما هي منعكسة في الجدال حول وجودها وتاريخها وطبيعتها ومسارها أو مساراتها المستقبلية، ثم الحاجة إلى انتهاج أسلوب متعدد المجالات المعرفية عند بحثها؛ وفي حالة الأمر الثاني يمكن القول ببساطة إنه ليس هناك مجال معرفي واحد يمكن أن يشملها أو يُقدِّم تفسيرًا كافيًا لأبعادها وتجلياتها وتأثيراتها المختلفة، ومن الأهمية بمكان، وباعتبار عمليات العولمة الثقافية لا تعمل بمعزل عن أبعادها الأخرى وإنما متداخلة متفاعلة معها، فإننا نستخدم هنا أسلوبًا للاستشراف أو التناول متعدِّد المجالات المعرفية، مثلًا: درسنا للعولمة الثقافية لن يكون كاملًا ما لم نعترف بإمكانيات وقدرات فاعلين رئيسيين (مثل: تكنولوجيا المعلومات والاتصال في الميديا والمنظمات الدولية وحكومات وطنية بعينها) على تشكيل عملياتها، وقوى مثل الرأسمالية والعقلانية لكي تدفعها، وأن ذلك بدوره يتطلب تضمين التحليلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في بحثنا؛ وفي هذا السياق نرى أن الرأسمالية — دون شك — مُؤثِّر قوي يُثري وينشط الكثير من جوانب العولمة بما في ذلك بعدها الثقافي، على الرغم من أن العلاقة ليست مباشرة بالضرورة.

بداية، هناك الآن تَوجُّه لتعريف أنماط مختلفة من الرأسمالية (وبخاصة النموذج الأنجلو ساكسوني الذي تُوجِّهُه السوق) بأنها تمارس نفوذًا أكبر من غيرها على العولمة (انظر الفصل الخامس)، والواقع أن هذا النمط بالتحديد هو ما يُسْتَشْهَد به كأحد أسباب الانخفاض التدريجي في القيلولة الإسبانية، مع نقاد يزعمون أن ثقافة إسبانيا المتوسطية التي كانت تميل إلى الاسترخاء النِّسْبي أصبحت، شيئًا فشيئًا، مُحِبَّة للعمل وفردانية بسبب ضغوط المنافَسة في سوق رأسمالية مُعولَمة؛ ولكن سكوت لاش Scott Lash، وجون أوري John Urry@ (١٩٨٣م، ١٩٩٤م) يُعَقِّدان الأمور أكثر من ذلك بقولهما إن الرأسمالية قد خرجَت بالفعل من شَكلِها القومي المجتمعي المُنظَّم لتصبح غير منظمة وكونية في الوقت نفسه، وتَتميَّز باقتصادات شديدة الحركية والتعقيد (من ناحية العلامات والناس)؛ وباعتبارها لاعبًا أساسيًّا مسيطرًا في تشكيل العولمة الثقافية، فإن الولايات المتحدة متهمة عادة بالقيام بهذا الدور. على نحو أكثر تحديدًا، كان الانتقاد الشديد في الفترة الحديثة يُوجَّه إلى إدارة «جورج دبليو بوش George W. Bush» لاستخدام القوة الأمريكية في نشر مفهومها للحرية والديمقراطية في العالم، إلا أن حجم الفوضى والعنف في العراق إثر الحرب الأخيرة، بالإضافة إلى الانتقادات الدولية التي ولَّدَتْها هذه المرحلة، يُوحِي بشكل قاطع أن استخدام القوة لا يستطيع أن يضمن النفوذ الثقافي الكوني. ذلك كله يعني (كما سنرى في الفصل الرابع) أن هناك وجهات نظر مختلفة حول ما إذا كانت الرأسمالية والقوة الأمريكية أو أي مُؤثِّر آخر يمكن أن يفرز ثقافة كونية واحدة؛ والحقيقة أنه سوف تَتضِح لنا على مَسار هذا الكتاب إشكالية القول بأن العولمة الثقافية تحكمها قوة أو سلطة خاصة؛ وذلك لأنه ينبغي النظر إلى العولمة الثقافية، على نحو أكثر دقة، كظاهرة متعددة المركز، تسهم فيها سلسلة من المصادر والقوى والمؤثرات، على الرغم من ذلك يبقى أننا في استشرافنا أو تناوُلنا للعولمة من خلال تَفحُّص ودراسة تَوجُّهاتها وتجلياتها الثقافية، ينبغي ألا نغفل عن رؤية الصورة الأعرض، وأبعادها الأخرى.
١  في كثير من الأدبيات الحديثة التي تتناول هذا المجال هناك تأكيد على تعددية أبعاد العولمة وجماعيتها، ونشير في هذا السياق إلى صدور مجلة أكاديمية جديدة عام ٢٠٠٤م بعنوان: Globalization.
٢  كمثال جيد على هذا النمط من التحليل والاستشراف انظر: Massimiliano Monaci et al., 2003 الذي يتناول مشروعًا بحثيًّا استمر ثلاث سنوات في ميلانو والمنطقة المحيطة بين ۱۹۹۸م و۲۰۰۰م، عن كيفية تَصوُّر واستجابة الفاعِلِين المحلِّيِّين في عدد من المجالات المهنية (مدرسون – فنانون – صحفيون – رجال أعمال – مديرو شركات كبرى) للعولمة.
٣  هي نقطة جدال حول إذا ما كان مثل هذا التمييز الدقيق يمكن أن يكون بين الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وهناك في الواقع العملي تداخُل كبير بين المجالات المختلفة وهو ما يُمثِّل هذين التقسيمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤