تحليل العولمة الثقافية

على الرغم من الجدال الواسع الذي أثارته العولمة، وعلى الرغم من التعريفات والتوصيفات الكثيرة التي قدمها الكتاب في محاولة لشرحها، تبرز أمامنا ثلاث موجات للتحليل والاستشراف. هذه الموجات سوف نقوم بتلخيصها الآن ثم نتناولها بالتفصيل على مدار الكتاب، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من العولمة والثقافة.

(١) الموجة الأولى من أساليب استشراف وتناوُل العولمة

يَعتَبِر مُنظِّرو الموجة الأولى أو «المُعَولِمون الأوائل» التطورات المعاصرة والعمليات الكوكبية بمثابة حالة أو مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني (انظر: Greider, 1997; Guéhenno, 1995; Julius, 1990; Ohmae, 1990; Wriston, 1992).١ إنهم يكتبون عن بزوغ اقتصاد عالمي متكامِل مع التركيز على الأسواق المفتوحة وانهيار الحدود القومية، والإنتاج يُنْظَر إليه باعتباره عملية عالمية واضحة في الحجم المتنامي للتجارة العالمية، وحراك رأس المال والمعلومات والبشر، والمعدلات العالية للاستثمار الأجنبي المباشر، والأهمية المتزايدة للمؤسَّسات متعدِّدة الجنسيات والمؤسَّسات العابرة للحدود القومية. إلى جانب وجود متضمنات ثقافية عميقة تُسهِم في أمور مثل «الموسيقى العالمية»، فإن هذه التطورات تُمثِّل تحديات خاصة للدولة-الأمة؛ حيث إنها تقيد استقلالية الحكومات الوطنية في أن تسعى من أجل إدارة سياسية واقتصادية مستقلة؛ وجود بعض دعاة العولمة، مثل الكاتب الياباني كينيشي أوهماي Kenichi Ohmae (١٩٩٠م)، الذين يتوقعون أفولها.
هذا التحدي الذي يواجه الدولة-الأمة واضح بشدة في المجال الثقافي؛ حيث توجد دول تبذل قصارى جهدها للسيطرة على تَدفُّقات الثقافة العالمية والمعلومات، وهو ما ينطبق حتى على الأنظمة السُّلْطوية. حتى دولة الحزب الواحد الصينية، كما سنرى، لا تستطيع مراقبة أو حجب استخدام تليفزيون الأقمار الصناعية أو الإنترنت في مجالها، كما تؤكد تكنولوجيا المعلومات والاتصال الكونية أن المواطنين الصينيين على صلة أكبر ببقية المجتمع العالمي، ويتبع ذلك بالتأكيد زيادة إمكانية الوصول إلى وجهات نظر أخرى بشأن الأخبار والشئون العالمية، والحقيقة أن بيجين لم تَعُد فقط عاجزة عن احتكار المعلومات، بل إنها تبدو عاجزة كذلك عن التعامل مع حجم عمليات قَرصَنة وتوزيع الأفلام الأجنبية وبرامج التليفزيون داخل أراضيها، في عصر العولمة، ليست المؤثرات الثقافية وحدها هي التي تُمثِّل مشكلة للحكومات الوطنية أو القومية، فمثل تلك المصاعب يمكن أن ينشأ من المنتجات الثقافية المحلية، حدث على سبيل المثال بالقرب من نهاية عام ٢٠٠٦م، أن لجأت العسكرية الأمريكية إلى مُنتِجي المسلسل الأمريكي «٢٤» الذائع الذي يُوزَّع عالميًّا، لكي يُخفِّفوا مشاهد تعذيب الشرطي الفيدرالي «جاك بارور» بسبب الضرر الذي يُلْحِقُه ذلك بسمعة أمريكا في الخارج (Buncombe, 2007).

(٢) الموجة الثانية من أساليب استشراف وتناوُل العولمة

هناك وجهات نظر شديدة الانتقاد للوضع العَولَمي بين مُنظِّري الموجة الثانية الذين يُدْعَون — غالبًا — بالمتشككين، فكثير من اليساريين على سبيل المثال يَعتبرون العولمة امتدادًا أو توسُّعًا للرأسمالية العالمية وينكرون أنها تُمثِّل مرحلة جديدة (Burbach et al., 1997; Sklair, 2002) بينما يؤكد كُتَّاب، انطلاقًا من التقليد الواقعي؛ أن النظام العالمي مستمر في خضوعه لدول بعينها، قوية اقتصاديًّا وعسكريًّا أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية. (Gilpin 1987)، وهناك آخرون مثل: «بول هيرست»، و«جراهام طومسون» مِمَّن يُلقُون الضوء على الأساطير التي أصبحت مرتبطة بالعولمة. اعتمادًا على أبحاثهم، يؤكد هؤلاء أن الاقتصاد العالمي أبعد من أن يكون مُعولمًا في واقع الأمر، فالتجارة والاستثمار والتدفقات المالية مُركَّزة في ثالوث أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية، ويبدو أنها سوف تبقى كذلك؛ ولذا فهم مُقتنِعون بأن الأنسب هو الحديث عن «التثليث» أكثر من العولمة. ويجادل «هيرست»، و«طومسون» أيضًا بأن الشركات العابرة للحدود القومية نادرة نسبيًّا وأن مُعظَم الشركات متمركز محليًّا، ربما لأن الانتقال إلى مكان آخر مُكلِّف، كما يعترفان بوجود تطورات معينة في تدفقات التجارة والأفراد والتمويل والاستثمارات الرأسمالية عَبْر المجتمعات في المرحلة المعاصرة، ولكنهما يشيران إلى سوابق تاريخية مثل الفترة من ١٨٧٠–١٩١٤م، حيث يزعمان أن الاقتصاد العالمي كان أكثر دولية فيها عمَّا هو عليه الآن. «هيرست»، و«طومسون» بالتالي يستنتجان أن التوجهات المعاصرة يمكن أن توصف — على نحو أفضل — بأنها عملية تدويل اقتصادي أكثر منها عَولَمة متقدِّمة بالكامل.
إذا كان المتشككون على حق، فإن ذلك يمكن أن يثير الشكوك حول مدى التغير الثقافي المعاصر. وببساطة، إذا كانت البنية الأساسية العالمية لم توجد بعد سواء في شكل رأسمال عالمي أو شركات أو تجارة، فليس هناك الكثير، إذن، الذي يمكن أن يبقى على الهياكل الثقافية العالمية؛ بينما إذا أخذنا مثال «الموسيقى العالمية» الذي أوردناه قبل ذلك فيما يتصل بالموجة الأولى من أساليب استشراف العولمة، فإن بعض النقاد ينكرون أنه يمثل هيكلًا ثقافيًّا محددًا بأسلوبه الخاص أو صوته المميَّز، ناظرين إليه باعتباره مجرد استراتيجية تسويقية، تضم سلسلة واسعة من الموسيقى المتنوعة وتروج لها. وبالمثل، بالعودة إلى مثال الصين، نجد أنه على الرغم من كل النقاش حول التدفقات الثقافية الكونية والعابرة للحدود القومية، يواصل الحزب الشيوعي الصيني سيطرته المُحكَمة على الميديا. الصين مثلًا يوجد بها أكثر من ٢٥٠٠٠ جريدة ومجلة، ولكن السلطة هي التي تقرر ما إذا كان لأى منها أن يتناول القضايا السياسية الحساسة، وهي التي تُوجِّهُها لكي تفعل ذلك. الدولة؛ كذلك، تُراقِب التغطية التليفزيونية للأخبار وتُحدِّد الموضوعات المحظور تناولها، ورغم وجود عدد كبير من القنوات الأرضية في الصين فإن الدولة أو الحكومات الإقليمية هي التي تديرها كلها؛ والحقيقة أن سيطرة الدولة تصل إلى درجة أن تصدر «إدارة الدولة للراديو والسينما والتليفزيون» التعليمات للمذيعين ومُقدِّمي البرامج بالكفِّ عن تقليد الأساليب الغربية في المظهر والتناول، بما في ذلك التوقُّف عن استخدام كلمات إنجليزية: (Watts, 2004)، والمعروف بالإضافة إلى ذلك أن الصين تُشوِّش على إذاعة الموجة القصيرة لمقدمي الأخبار الأجنبية، كما تقوم بشكل روتيني بحجب الوصول إلى الإنترنت وبخاصة مواقع Falun Gong، وجماعات حقوق الإنسان وبعض المؤسَّسات الإخبارية الأجنبية، بيجين كذلك لا تبدو بدون سُلطة أو نفوذ عندما تتعامل مع بعض القوى المُحرِّكة وراء الإنترنت كما فعلت بالنسبة لآلة البحث على Google، ففي سنة ٢٠٠٦م بعد أن أغلق الصينيون خدماتها في بلادهم، وافق أصحاب Google على طلب بيجين منع إمكانية استعادة ما تَراه معلومات حساسة سياسيًّا؛ مثل مذبحة ميدان «تيانان من» في ١٩٨٩م، وما حدث هو أن «جوجل» كان عليها أن توافق على رقابة ذاتية إن كانت تريد أن تستمر في العمل في الصين.

(٣) الموجة الثالثة من أساليب استشراف وتناوُل العولمة

هناك بالمثل طائفة من الآراء بين مُنظِّري الموجة الثالثة حول العولمة؛ نجدها في كتابات أمثال «أنتوني جيدنز Anthony Giddens» (١٩٩٠م)، و«جيمز روزينو James Rosenau» (١٩٩٧م) الذين يعرفون بالتحويليين، كُتَّاب من هذا النوع يؤكدون الطبيعة غير المسبوقة للتدفقات الاقتصادية والسياسية والثقافية الجارية، ومستويات التواصل الكوني المتبادَل نتيجة لقوى الحداثة مجتمعة (ibid., 10). العولمة، بالتالي، لا تقودها الرأسمالية فقط وإنما — أيضًا — التصنيع والدولة-الأمة، والتطورات التكنولوجية، والنزعة العلمية، والتفكير النقدي … إلخ، ومن هذا الموضع يكون النظر إلى العولمة باعتبارها قوة أو عملية تحويلية قوية مُعقَّدة وغير نهائية بالضرورة، مسئولة عن إحداث تغيير كبير داخل المجتمعات والنظام العالمي (ibid., 7). هذا التناول الخاص يثير بالتالي قضية العلاقة بين العولمة والحداثة، وهو الموضوع الذي يتردد كثيرًا في أدبيات العولمة. إذا كانت الحداثة والعولمة، من منظور ثقافي، مرتبطتَين ببعضهما فهل ينبغي فَهْم العولمة باعتبارها مشروعًا غربيًّا بالأساس بسبب الأصول الأوروبية للحداثة؟ باختصار، هل العولمة غربية؟ عند «جيدنز» العولمة «إحدى النتائج الأساسية للحداثة»، وإن كان يعارض الربط بين العولمة والغَرْبَنَة، مجادِلًا أن الأولى «تقدم أشكالًا جديدة من الاعتماد العالمي المتبادل» (١٩٩٠م، ١٧٥). وفي المقابل فإن نظرية النظم الدولية تُقِيم هذه الصلات وتُعادِل العولمة بانتشار المؤسسات الغربية والرأسمالية (Amin 1996, 1997; Wallerstein, 1974, 1980). من منظور آخر يرى «رولاند روبرتسون Roland Robertson» (١٩٩٢م) أن العولَمة تسبق الحداثة، على الرغم من أن التحديث قادر على المساعدة في الإسراع بالعولمة وبأوروبا الموجودة في قلب هذه العمليات، بينما يعتبر «مارتين ألبرو Martin Albrow» العصر العولمي قد حل بالفعل محل العصر الحديث، بما يعني أن الكونية قد خلقت الحداثة. ولكن «جون طوملينسون John Tomlinson» يرى أن مفهوم الحداثة الكونية يظل أسلوبا مقنعًا لفهم تواصلنا الحاضر شديد التعقيد (1999a: 70). هذه المواقف المختلفة سوف يتم تناولها بالتفصيل في هذا الكتاب وسيكون هناك تركيز على التطورات غير الغربية (كون الرأسمالية لم تعد ظاهرة غربية)، ومفهوم الحداثات المتعددة، وكيف يمكن أن تكون العولمة قد سبقت «الحداثة» وأسهمَتْ فيها، بالإضافة إلى طبيعة الغرب وأوروبا المُركَّبة، وذلك لكي نَتجنَّب استشرافًا ذا نزعة مركزية أوروبية، وللخروج بِفَهْم أكثر دِقَّة عن العولمة الثقافية.
على أية حال، كما ذكرنا عاليه، هناك الكثير في تحليلات الموجة الثالثة للعولمة عن مجرد الوضع التحويلي، حيث نجد «كولن هاي Colin Hay»، و«ديفيد مارش David Marsh» مثلًا يوضحان مسألة تجنب تصور العولمة كعملية سببية ذات تأثيرات محدودة، ويؤكدان بدلًا من ذلك المرونة وتعددية العمليات والمصادفة والمقاومة والصراع … إلخ، ويُجادلان بأن العولمة هي ما يحتاج إلى تفسير (٢٠٠١م، ٦)، وعلى نحو أشمل، بداخل تفكير الموجة الثالثة هناك دَور أكبر للعوامل البشرية في كل من الإنجاز والإسهام في عمليات العولمة (انظر: Holton, 2005)، وهو ما يضيف بدوره إلى أهمية إدراكنا للعولمة والأفكار السائدة عنها وما يحيط بها من جدال. في هذا السياق نجد «أنجس كاميرون Angus Cameron»، و«رونين بالان Ronen Palan» (٢٠٠٤م) في تحليلهما لخطاب العولمة يؤكدان التأثير الذي يمكن أن تمارسه السرديات التقليدية على الأفراد والحكومات والأعمال، وبمعنى آخر هناك بُعد تَخيُّلي عن العولمة يمكن أن يُؤدِّي إليها بالفعل مُخلِّفًا آثارًا مُعيَّنة لتصبح نبوءة تتحقق ذاتيًّا.
وبما أن التأكيد في هذا الكتاب على التعقد وتعددية الأبعاد وعدم الاتساق والعامل البشري وعلاقة ذلك كله بالعولمة، فإن أسلوب التناول المُتَّبع هنا يأتي مُتَّسقًا مع تحليلات الموجة الثالثة، على أن نقطة البداية في هذا الكتاب أكثر مباشرة، حيث ننظر إلى العولمة باعتبارها أشكالًا مُتعدِّدة من الترابط والتواصل العالمي، مع الأخذ بالاعتبار كُلًّا من تاريخها الطويل (لأن مثل هذا السلوك يمكن أن نجده في المراحل الباكرة؛ انظر الفصل الأول)، وإمكانيات حدوث تغيرات في طبيعتها وشكلها في زماننا. في هذا السياق، سيكون التأكيد على أن المرحلة الحالية من العولمة مألوفة بالنسبة للكثيرين ممن تناولوا هذا الموضوع وإن كان التعبير عن ذلك يجيء بطرق مختلفة. على نحو خاص هناك تأكيد شديد على العولمة باعتبارها مرحلة جديدة في تنظيم الزمان والمكان؛ «ديفيد هارفي David Harvey» (١٩٨٩م) مثلًا ينظر إلى هذا التغير باعتباره شكلًا من «ضغط الزمان والمكان معا»، حيث الفضاء ينكمش أو يتآكل نتيجة للتطورات الحديثة (مثل السفر بالطائرات النفاثة)، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة، والعمليات الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة، ونتيجة لذلك تتزايد سرعة إيقاع الحياة. بالإضافة إلى ذلك يبلور «أنتوني جيدنز» فكرة التباعد الزماني المكاني ليصف «انخلاع العلاقات والصلات الشخصية» من محليات أو أُطُر بعينها، بما يعني أن العلاقات الاجتماعية «تمتد» عَبْر مسافات، وتمدد عوالمنا الظاهراتية من المحلي إلى الكوني، وكما سنرى في الفصل الثالث فإن استمرار الانقسام الرقمي العالمي يثير الكثير من الأسئلة عن المدى الذي تحول به التكنولوجيا العلاقات الإنسانية وكذلك مفهومنا عن الزمان والمكان. وبالعودة إلى الجدال الأوسع الذي يطرحه هذا الكتاب، نقول إنه إذا كانت المرحلة المعاصرة من العولمة تمثل توسعًا غير مسبوق في أشكال عدة من التواصل الكوني، يكون من المرجح إذن أن تحول خبراتنا الاجتماعية والثقافية، ولهذا السبب، عند تناول الجدل الذي أصبح مرتبطًا بالعولمة الثقافية، سيكون الاهتمام بتحديد طبيعة ومدى هذه التحولات الثقافية.
١  نستخدم هنا مصطلح المُعَولِمين Globalists لِيعبِّر عن رأي في إطار استشراف عريض للعولمة، ويُطلِق عليهم كُتَّاب آخَرُون مُسمَّيات؛ مثل: strong globalizers، أو globalizers، أو hyperglobalizers، أو مُجرَّد المُؤيِّدِين للعولَمة والمُدافعين عنها، وهذه المُسمَّيات كلها مُستخدَمة بالتَّبادُل هنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤