خاتمة

عولمات ثقافية

ما العولمة الثقافية إذن؟ ما طبيعة العلاقة بين الثقافة والعولمة؟ ما المتضمنات التي تنطوي عليها العولمة لفهمنا للثقافة؟ هذه الأسئلة كلها سوف نتناولها من خلال التقريب بين المجادَلات والقضايا الرئيسية لهذا الكتاب.

(١) العولمة الثقافية: تحديات تحليلية

بدايةً، ينبغي التَّعرُّف على ما أصبح واضحًا — وأتمنى أن يكون قد أصبح كذلك — على امتداد هذا العمل، وبالتحديد أن العولمة الثقافية تقدم لنا عددًا من التحديات التحليلية وخاصة المجال الواسع للموضوع وكون العلميات الكونية لم تنتشر بعدُ في كل أجزاء العالم، وأنها حتى في تلك الأماكن التي وصلت إليها لم يكن ذلك بشكل مُتَّسِق، هذا الوضع يخلق بدوره عددًا من المشكلات عندما نتأمل كيف تؤثر أشكال التواصلية الكونية في الثقافات الكونية أو تسهم في أنماط الصراع الثقافي، وكلها أمور ينبغي تحليلها في عملية التقمص التي نقوم بها. لا بد كذلك من أن نضع في اعتبارنا أن المحلي يمكن أن يكون له صدًى كوني، فالتذكارات الثقافية والنصوص والأشكال المادية الأخرى — على سبيل المثال — يمكن أن تتجاوز ثقافات وأماكن بعينها ويكون لها مقبولية لدى العامة وتؤثر فيهم؛ ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن للعولمة تاريخًا طويلًا وإن كان غير منتظم. وكما رأينا في الفصل الأول، فإن أسس مرحلتها الحالية قد وُضِعَت في مراحل سابقة، على الرغم من أنه كانت هناك جوانب من العولمة المعاصرة تؤكد تَمايُزها عن المراحل الأخرى، بما في ذلك الحجم غير المسبوق للتحرك الثقافي والتمازج المتزايد والتطورات التي تفرز تحدياتها التحليلية الخاصة: بيد أن الأهم هو أن تعريف العولمة الثقافية أبعد من أن يكون واضحًا كما سنبين الآن.

(١-١) العولمة

إذا بدأنا بتحليل مفهوم العولمة الثقافية إلى مكوِّناته، فسرعان ما يتضح أن هناك عدم اتفاق على ما نعنيه أو ما ينطوي عليه بالفعل. التفسيرات تتراوح بين أشخاص يرون العولمة تحدِّيًا يواجه عصرنا (e.g., Blair, 1996)، وآخَرِين يعتبرونها «تُدمِّر التنوع الثقافي والتجارب الشخصية» و«تُحوِّل المواطن إلى مستهلِك» (Touraine, 1997, 68). هذه الطبيعة المختلف عليها للعولمة نجدها منعكسة في أساليب الاستشراف الخاصة التي تنتهجها المجالات المعرفية المختلفة في تناولها لها. وبينما يربط كثير من علماء الاجتماع العولمة بالحداثة وبالمرحلة الحديثة — كما رأينا — فإن كثيرًا من المُؤرِّخين ينظرون نظرة أبعد لتاريخها. هناك كذلك سبب آخر للاختلاف وهو المعيار الذي نستخدمه جزءًا من تعريف كلٍّ منا للعولمة، عندما نَتصوَّر العولمة مثلًا باعتبارها مُجرَّد أشكال مُتعدِّدة من التواصل الكوني المتبادَل، فإن ذلك يعني أنها لا تتضمن علاقات إنسانية عميقة، ويرسخ فهمها باعتبارها عملية تاريخية طويلة المدى على اعتبار أن المجتمعات كانت تتفاعل بهذه الطريقة لزمن طويل. إلا أننا لو نظرنا إلى العولمة باعتبارها أشكالًا متعددة من الاعتماد الكوني المتبادَل، فسيكون ذلك في حاجة إلى نمط مختلف — نوعيًّا — من العلاقات الإنسانية وهو نَمَط من الصعب سبكه والحفاظ عليه. وعلى اعتبار أن السفر والانتقال والاتصال كانت أمورًا صعبة في المراحل الباكرة من التاريخ الإنساني، يمكن أن تكون العولمة — من هذا المنظور — مجرد ظاهرة حديثة.

(١-٢) الثقافة

الثقافة كذلك مفهوم إشكالي عَصِي على التعريف المحدد، كما تَدلُّنا التصورات المتعددة لها. إلا أننا إذا نظرنا إلى الثقافات باعتبارها كيانات غير متمايزة — كما جادلنا في الفصل الثاني — وأنها تُثري بعضها البعض بمؤثرات مختلفة، يصبح من الملائم أن نتصور الثقافة باعتبارها «عملية مستمرة» وليس شيئًا ثابتًا مستقرًّا، وعلى الرغم من أننا ينبغي ألا نبالغ في أهمية فكرة السفر وسهولة انتقال المؤثرات الثقافية؛ لأن ذلك قد يُعرِّضنا لخطر إهمال عمليات التَّكوُّن الثقافي وأشكال المقاوَمة، ومن ثم عدم فَهْم الفوارق الثقافية، مثال على حالة التوجهات الثنائية هذه ما نراه بالنِّسبة للكرنفال البرازيلي، حيث يسود القلق لدى بعض البرازيليين لأن كرنفالاتهم أصبح يسودها اﻟ DJ، ويسيطر عليها الموسيقيون الأجانب وخاصَّة بموسيقاهم الإلكترونية التي يعتبرونها إهانة للكرنفال الأفرو-برازيلي الحقيقي، ما حدث أن القلق تَصاعَد إزاء هذا الخطر على الهُوِيَّة الثقافية البرازيلية، لدرجة أن عددًا من مدارس السامبا في «ريو دي جانيرو» حظرت اشتراك الأجانب في عروضها الكرنفالية.
في الوقت نفسه، نجد المُدوِّنِين البرازيليين يُشبِّهون الموسيقيين والمُؤَدِّين الأجانب بالغزاة الهولنديين الذين جاءوا إلى بلادهم في القرن السابع عشر (Phillips, 2007). وهكذا يوجد مفهوم عن الثقافة البرازيلية باعتبارها شيئًا فريدًا، جديرًا بالحفاظ عليه رغم أنه — حتمًا — يَتطوَّر في عملية مستمرة، وهذا التدخل الأخير ما هو إلا أحدث مراحل تطوره.

(١-٣) العولمة الثقافية

إذا جمعنا هذين المفهومين (مفهوم العولمة ومفهوم الثقافة) وتَناوَلْنا العولمة الثقافية، فما النتيجة التي نخرج بها من هذه الدراسة عن الموضوع؟ مشكلتنا المباشرة هي أننا مُواجَهون بأشياء كثيرة مستمرة، بما أدَّى ﺑ «أولف هانرز UIf Hannerz (1989b)» أن يصف ذلك ﺑ «المجمع المسكوني الكوني»، ثقافة كونية ذات علاقات ثقافية متبادَلة متداخلة؛ وعلى الرغم من أن ذلك قد يكون توصيفًا دقيقًا للحالة المعاصرة، إلا أنه لا يفسرها؛ ولذا نحن في حاجة إلى التَّعمُّق قليلًا وأن نعترف بأننا لا نستطيع أن نفهم العولمة تمامًا من خلال الموشور الثقافي. وبينما الشكل الثقافي من بين كل أشكال العولمة هو الذي نمارسه على نحو يومي، وبينما هو الأكثر وضوحًا، علينا على الرغم من ذلك أن نضع باعتبارنا جوانبه وأبعاده الأخرى. بهذا المعنى، فإن الأشكال الاقتصادية والسياسية للعولمة أقل سهولة في اكتشافها، رغم أن ذلك لا يعني أن ممارستنا لها ملموسة على أي نحو بدرجة أقل، إن قرار استثمار تتخذه شركة عابرة للحدود القومية بمركزها الرئيسي في طوكيو مثلًا، يمكن أن يكون له تأثير مباشر على فرص وآفاق العمالة … ويتبع ذلك تأثير في أساليب حياة عُمَّالها في كثير من مناطق العالم. الأكثر أهمية من ذلك — كما رأينا — أن أبعاد العولمة هذه متداخلة باستمرار، وعليه فإن ذلك يَتطلَّب استشرافًا مُتعدِّد المجالات حتى عندما يكون تركيزنا على العولمة الثقافية. على سبيل المثال، كثير من المُنتَجات الثقافية التي نقابلها بدءًا من برامج التليفزيون وانتهاء بالسلع الاستهلاكية، هي كلها نتاج الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية للعولمة، وإذا تناولنا البعد السياسي للعولمة على سبيل المثال، فسنجد ذلك موجودًا في اتِّساع مؤسَّسات التحكم العالمية وخاصة في شكل الاتفاقيات التجارية التي تمكننا من مواجَهة هذه المنتجات الثقافية. باختصار عمليات العولمة الثقافية ليست بمعزل بعضها عن البعض، جميعها متواشجة أبعاد وعمليات أخرى للعولمة.
أما بالنسبة لطبيعة العلاقة بين العولمة والثقافة، فلا بد من الاعتراف بأن عمليات العولمة لا تعرف الثقافة في المرحلة المعاصرة وإنما هي التي تُشكِّلها بالأساس. بعبارة أخرى، الثقافات، سواء كانت قومية أو دينية أو محلية … أو غير ذلك، لها تاريخ ويتم سَبْكها في مجمل المساعي الإنسانية كما يُثريها انهماكنا في عمليات العولمة وتأثُّرنا بالتدفقات الثقافية. على الرغم من ذلك، إذا كان علينا أن نحدد تأثير مثل هذه التدفقات، فسنكون بحاجة للاعتراف بالقلق؛ حيث إن استخدام الاستعارات على هذا النحو يمكن أن يُبقِي نقاشنا مُجرَّدًا وعامًّا. لكي نعالج هذه المشكلة علينا أن نقوم بتشريح هذه التدفقات لكي نعرف مُكوِّناتها (أفكار – صور – أصوات – رموز – بشر – رأسمال – منتَجات)، وما إذا كانت كونية - أو محلية أو إقليمية في طبيعتها، وأن نضع في اعتبارنا مستوياتها المختلفة من حيث مداها وحجمها. عملية الاستقصاء هذه سوف تكشف لنا بالتأكيد عن الأصول المتعددة والمتنوعة للتدفقات الثقافية المعاصرة، وكذلك عن طبيعتها ذات الاتجاهات المتعددة، وهذا بدوره يساعد في زعزعة فكرة وجود ثقافة كونية واحدة موحدة (الفصل الرابع). حتى إذا قبلنا أنه سيكون هناك دائمًا لاعبون وقوى دائمة تُثري هذا الجانب من العولمة الثقافية، فإن ذلك لا يستبعد إمكانية وجود تدفقات موازنة إلى جانب قوى مقاومة. في هذا السياق، فإن الهجرة والسفر وتكنولوجيات المعلومات والاتصال تؤدي إلى مؤثرات ثقافية من قبل العالم غير الغربي تخترق الغرب وتشكل الثقافة بناء على ذلك سواء أكان ذلك في شكل موسيقى أو أزياء أو مسرح أو غير ذلك من الممارسات الثقافية. يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من الكُتَّاب يعتبرون التدفقات والعمليات الخاصة بالعولمة تعمل على طمس الهويات الثقافية الموجودة، وتُولِّد هويات أكثر تعقيدًا، وهو ما تعكسه الهجنة والتعددية العرقية والثقافية (انظر: Nederveen Pieterse, 2004: Garcia Cancilini, 1995).

(١-٤) مشكلة الكوني-المحلي

تحليل التدفقات الثقافية ومحاولة تحديد تأثيرها المحتمل، عملية أكثر تعقيدًا ممَّا يبدو إلى الآن؛ وذلك لأننا مواجَهون على نحو مستمر بما وصفه «رولاند روبرتسون» ﺑ «الاختراق المتبادَل» بين الكوني والمحلي، وهكذا فإن الكوني يُثْرَى بالمؤثرات المحلية والعكس صحيح، كما أن هناك مصالح وجماعات تُشجِّع مثل هذه العلاقة المتبادَلة بنشاط، وكما هو معروف جيدًا فإن نشطاء حماية البيئة مستمرون منذ سنوات في حثِّنا على أن «نُفكِّر كونيًّا ونعمل مَحلِّيًّا». والشركات العالمية — بالمثل — تواصل عملها من أجل إضفاء الطابع المحلي على ما هو كوني وتكييف منتجاتها بما يُناسب الأسواق المحلية، لكن حتى بدون مثل هذا التشجيع والتحفيز فإن الأفراد والجماعات — بوازع من أنفسهم — يسبغون الطابع «المحلي» على الأشياء والأصوات والرموز التي تكون التدفقات الثقافية في النهاية (الفصل الرابع).

ومما يُعقِّد الأمور أكثر من ذلك أن «المحلي» الذي يتخذ بالفعل أشكالًا عدة (دولة-أمة، جِيرة، تراث … إلخ) من المُرجَّح أن يكون أكثر تَنوُّعًا داخليًّا عن قبل، نتيجة للاتصالية الزائدة مع بقية العالم وحركية الثقافات الجديدة وانتقالها إلى ثقافتنا المحلية، وهي نقطة تنطبق حتى على الدولة-الأمة ذات الأنظمة والتقنيات الخاصة لتنمية التماسك واللُّحمة الاجتماعية. «دورين ماسي Doreen Massey» (٢٠٠٥) تكتب عن التعدديات الداخلية الفاصلة للمكان، وترى أننا نحتاج أن نفكر في التواصل بدلًا من المكان بالنسبة للتفاعل الإنساني، على الرغم من أنه ينبغي عدم إغفال حقيقة أن هذه الروابط مرنة وديناميكية في ظل ظروف العَولَمة المعاصرة وأن من الصعب أن نُجمِّدها في مكانها. الأثر التراكمي لهذه التطورات يجعل «روبرت هولتن Robert Holton» (٢٠٠٥) يعتقد أن وحدتنا للتحليل يجب ألا تظل هي القومي المحلي أو الكوني، وإنما المحلي الكوني فحسب وهو ما يتطلب استخدام محلية/كونية منهجية.
ربما تبدو فكرة وجود علاقة ثنائية بين الكوني والمحلي قديمة في ظل الظروف المعاصرة، والحقيقة، كما رأينا في الفصل الثاني، أن تطورات مثل القوميات العابرة للحدود إنما تزيد الأمور تعقيدًا بإبرازها الروابط التي تتقاطع عَبْر هذه الثنائية. ليس التمايز الكوني المحلي هو الواقع فقط تحت ضغوط التطورات العولمية المعاصرة، فالشيء نفسه ينطبق على فكرة الوطن والخارج، الداخلي والخارجي، العام والخاص. يُضاف إلى ذلك أن الجمع بين التطورات التكنولوجية والتَّحوُّلات في طبيعة الإنتاج الرأسمالي تنطوي على كثير من الشَّخصنة، عندما يتعلق الأمر بكيفية ممارستنا للتدفُّقات الثقافية. هذا يعني مثلًا أن الموسيقى والبرامج التي تقوم بتحميلها من الإنترنت، والمجموعات المتزايدة من برامج التليفزيون التي نختارها، وقنوات الأقمار الاصطناعية التي نشترك فيها، والصحف الرقمية، ومصادر المعلومات الأخرى التي نشترك لكي نتلقاها، كل ذلك يأتي نتاجًا لأذواقنا الخاصة. من هنا فإن التَّباين الثقافي يتأكد، بناء على حقيقة أن الأفراد أنفسهم هم المنغمسون على نحو متزايد في تشكيل الكثير من خبراتهم الثقافية. مثل هذا التَّحوُّل يُولِّد انعكاسية، حيث يصبح الفرد أكثر وعيًا بعمليات الإنتاج والاستهلاك الثقافي ودورهما داخل هذه العمليات، ولكن بالإضافة إلى أن ذلك يعني أن تَنوُّع الاستجابات على المستوى المحلي سوف يزيد تفسيره لهذه الظاهرة مع اتباع المزيد والمزيد من الناس لمثل هذا الأسلوب في الحياة. لكثير من الأسباب السابقة، هناك جدل الآن حول ضرورة أن نقلع عن اعتبار المحلي نقطة التوقف التي يصل إليها الانتشار الكوني (Nustad, 2003)، وأن نتحرك إلى ماهو أبعد من ثنائية الكوني المحلي (Nustad, 2003) على الأقل، فكرة أن الكوني يَتكوَّن من «تعددية من المحليات» (Morley and Robins, 1995)، أو كون المحلي مفهومًا علائقيًّا مدينًا بوجوده لعلاقته بالكوني؛ فكرة إشكالية. وحيث إننا جادلنا هنا بأن الثقافة يتم تَصوُّرها باعتبارها عملية مستمرة، مؤسَّسة على شبكات من المعنى والحركة التعددية، فقد يكون من غير الضروري أن نُصبِح مشغولين أكثر من اللازم بتحديد ما هو كوني وما هو محلي، بعبارة أخرى، ينبغي ألا نفكر بالثقافة في علاقتها بأماكن مُعيَّنة، وخاصَّة أننا في مسيرتنا اليومية نتحرك حاملين معنا ثقافتنا، منغمسين في تدفقات وعمليات كونية عابرة للحدود في أُطر مختلفة (الفصل الثالث). لذا هناك الكثير في حياتنا المتصلة ثقافيًّا لا يعتمد على المكان. هناك مُستمِعو الموسيقى العالمية وأتباع الأديان والمشاركون في الحركات الاجتماعية باعتبارهم أمثلة. لذا، لتحديد بعض الصلات والروابط الموجودة بين العولمة والثقافة، نحن في حاجة لتفحص كل الظروف والوسائل التي يُسهِم فيها وبها الأفراد والجماعات والمؤسَّسات ويشاركون في التدفقات والعمليات المختلفة للعولمة، كل منهم بثقافته وتاريخه. الناس ليسوا سلبيين جالسين في أوطانهم في انتظار التدفقات الثقافية الكونية، إنهم يُسهِمون فيها بإيجابية، وهذا واضح على نحو خاصٍّ لدى جماعات الهجرة والشَّتات العابرة للحدود القومية. حتى المستقرون في أماكنهم وغير المُترحِّلِين يتواصلون كونيًّا كلما استخدموا الكمبيوتر والإنترنت وتراسلوا بالبريد الإلكتروني … وإن كان ذلك بمعنى محدود. كما أنهم يُصبِحون جزءًا من الميديا وتدفُّقات الاتصال في كل مرة يتركون فيها التليفزيون والراديو ويقومون بإجراء اتصالات تليفونية دولية في أي لحظة. إذن، إلى جانب مُنظَّمات (مثل الأمم المتحدة)، وأحداث كبرى (مثل الأولمبياد)، ومؤسَّسات قوية (مثل المؤسسات الإعلامية المتعددة الجنسية)؛ ستكون هناك طُرق وقنوات عدة يُسهم فيها ومن خلالها الناس العاديون في التواصلية الكونية. ويعني ذلك كذلك أن هناك معنًى مزدوجًا لفكرة الإطار في المرحلة المعاصرة: الظروف المُحدَّدة التي يعمل فيها الأفراد والجماعات؛ ولكن أيضًا، الإطار الكوني الرئيسي للأشكال الأوسع من التواصلية.

(١-٥) العامل البشري والعولمة الثقافية

وجود العناصر البشرية في صميم عملية التَّقصِّي التي نقوم بها، يتطلب أن نضع تَصوُّرنا للعولمة في الاعتبار، وهو أمر تُثْريه الأيديولوجيات والحوار الدائر أي خطاب العولمة. يَتطلَّب الأمر كذلك أن نقوم بتحليل كل ما يدل على بزوغ وعي كوني، كثيرون منا — بالطبع — ممن يسهمون في التواصلية الكونية لن يكونوا واعين دائمًا بأننا نفعل ذلك، رغم الكشف هنا عن أن أحد الملامح المُميِّزة لعصرنا هو أن الناس منخرطون في علاقة أكثر انعكاسية مع العلميات السائدة. يضاف إلى ذلك أن تَبنِّي هذا النمط من الاستقصاء الذي نجادل به هنا، من المُرجَّح أن يكشف عن أن الناس لديهم أنماط مختلفة من العلاقة مع التدفقات والعمليات الخاصة بالعولمة — سلبي، انعكاسي، غير مكترث، معارض … إلخ — بما يُعبِّر عن ظروفهم الخاصة وأطر عملهم (التي تُثْرى بهذه المواجهات)، وأن هناك أشكالًا أخرى كثيرة من الانغماس في عمليات العولمة والاستجابة لها، مثل محاولة الحفاظ على الثقافات القومية أو توليد تَوجُّهات كوزموبوليتانية وأساليب حياة مثل تلك التي تناولناها هنا. ذلك كله دليل على الطبيعة المُعقَّدة للعلاقة بين العولمة والثقافة، ويُؤكِّد أن العولمة الثقافية مُتشابِكة ومتنافِرة وجمعية في آنٍ؛ ولذا لا بد مِن تَصوُّرها باعتبارها «عولمات ثقافية» بصيغة الجمع. يتبع ذلك أن الأمر يُصبح إشكاليًّا سواء حاولنا تحديد النتائج الثقافية للعولمة كما فعل «هولتن Holton» (٢٠٠٠)، و«باربر Barber» (١٩٩٦)، «هنتنجتون Huntington» (١٩٩٧)، أو مناقشة السببية في علاقتها بالعولمة، كما لو كانت عاملًا مستقِلًّا له دافعيته وأجندته الخاصة، الحقيقة أن هناك في أدبيات العولمة اعترافًا متزايدًا بالطبيعة المُعقَّدة لهذا الموضوع، يَتَّضِح في التَّحوُّل نحو البحث الإمبيريقي والتحليلات على المستوى الصغير للفاعلين وللعناصر المُشارِكة في العمليات الكونية والعابرة للحدود القومية، وتَجنُّب التنظير العام على المستوى الأكبر؛ ففي الصحف الأكاديمية مثل Global Networks نجد دراسات مُوسَّعة عن الشبكات الكونية والممارَسات العابرة للحدود والمهاجرين والمؤسَّسات التجارية والمهنية، والمنظمات العالمية غير الحكومية، والمجتمعات الإلكترونية. هذا النوع من الأبحاث يجري كذلك داخل المؤسَّسات لفحص الأساليب التي تتواصل وتتفاعل مع مؤسَّسات وكيانات أخرى، وفي هذا السياق نجد أن «مارتن كارنوي Martin Carnoy»، و«مانويل كاستلز Manuel Castells» (٢٠٠١) قد قامَا بتطبيق مثل هذا الأسلوب في الاستشراف على الدولة-الأمة، وعلى أساس استنتاجاتهما صاغَا فكرة الدولة الشبكة. التدفقات الكونية بالمثل، يتم فحصها نقديًّا مع التأكيد على كيفية تقاطعها مع المؤسَّسات ودرجة الاختراق الكوني-المحلي المتبادَل وكيفية استمرار الاستقرار في ظروف المرونة والسيولة (e.g., Street, 2003).
تراكميًّا، تحليل الشبكات الكونية والمجتمعات الإلكترونية والاتصالات العابرة للحدود المختلفة، يُقدِّم لنا رؤية ثاقبة، أكثر تفصيلًا وتعقيدًا للأساليب التي تَتطوَّر بها العمليات الثقافية، وكيف تُثري حياتنا الشخصية ومجتمعاتنا، وكيف أنها تُغيِّر مفاهيمنا عن الزمان والمكان. كما تُقدِّم كذلك دليلًا إضافيًّا عن المصادر والعمليات المُتعدِّدة التي تُسهِم في العولمة، وخاصَّة كيف يعمل الأفراد والجماعات على نحو متزايد ولأسباب عدة (اقتصادية وأسرية وتكنولوجية وشخصية وثقافية) بأسلوب كوني وعابر للحدود القومية. بالإضافة إلى ذلك فإن التحليل يُبيِّن أنه بينما توجد مؤثِّرات قوية واضحة تُولَد عمليات العولمة، مثل الرأسمالية، إلا أنه ليس هناك قوة واحدة متكاملة تُعبِّر عنها، وعليه لن يكون من الحكمة أن نختزل مثل هذه الظاهرة في مؤثِّر واحد، حيث سيؤدي ذلك إلى عنف في التعبير عن مجموعة من الدوافع الإنسانية وراء مثل هذا النشاط. يُضاف إلى ذلك أن الأطر المختلفة التي يعمل فيها الأفراد والجماعات، مثل المؤسَّسات التي يُوجدون بها، والمحليات، وأماكن العمل، والمناطق والدول، سوف تُثْري عملهم، هناك تعقيد آخر وهو أن تأثير هذه الحياة الثقافية والاجتماعية يتراكم وتصبح مُكوِّناته مُعتمَدة بعضها على البعض بشكل متبادَل؛ والحقيقة أن مثل هذه التَّوجُّهات لا تنطبق فقط على الأفراد والجماعات، ولكن كذلك على المؤسَّسات والأحداث والشبكات والتدفقات، جاعلة من الصعب تحديد الظاهرة الكونية الحقيقية. في حالة كأس العالَم على سبيل المثال، بينما يتم تسويق كرة القدم باعتبارها لعبة العالم كله (كونية)، نجد أن الدورة لا تضم سوى ٣٢ دولة (دولية)، كما نجد أن الفِرَق والمُشجِّعين يُعبِّرون عن وطنيتهم (قومية)، كما نجد أن كثيرًا من سياسات الإشراف والتنظيم وغير ذلك من الترتيبات تعتمد على أشكال مختلفة من التعاون الإقليمي والعابر للحدود القومية، وهكذا فإن ما قد يبدو ظاهرة كونية، إنما يتمثل بالفعل في المَزْج أو الاعتماد المتبادَل بين عدة عوامل غير كونية. تفتيت ما هو كوني إلى عناصر أو أجزاء مكونة مكملة لبعضها، يمكن تطبيقه كذلك على مؤسَّسات ومنظَّمات؛ مثل الأمم المتحدة، وثقافات مثل الإسلام … وحتى على حركات مثل «القاعدة» (الفصل السادس)، ما يعنيه ذلك إذن هو أن الظواهر التي تورد باعتبارها دليلًا على العولمة، أو العولمة الثقافية ليست كونية بالضرورة، سواء في مداها الإقليمي أو نتائجها؛ ولكن بتناولها معًا نجد أنها مستوَيات وأشكال واسعة من التواصلية والاتصالية عبر الكرة الأرضية (Holton, 2005: 13).
التوصيف المذكور أعلاه ليس من المُرجَّح أن يَلقى قبولًا عامًّا وخاصَّة فيما يَتعلَّق بالعولمة الثقافية. في نظر كثير من المُعلِّقين، المجال الثقافي للعولمة أكثر «تَعولُمًا» من المجالات السياسية والاقتصادية أو المادية لها (e.g., Waters, 1995)؛ ذلك لأن العولمة الثقافية — في جزء منها — مُكوَّنة من تبادلات رمزية — اقتصاد العلامات والرموز — الذي يتراوح بين الإعلانات وجمع وتحويل البيانات؛ على أنه وكما رأينا، حتى في المرحلة المعاصرة، فإن مؤسَّسات مثل الدولة-الأمة، والحكومات الوطنية، وعلى مستوى الأفكار، الأصوليات الثقافية والقوميات العرقية؛ كل ذلك يساعد في تقييد انتشار التدفقات الثقافية، وليس مجرد الأفكار والصور ما ستحاول الحكومات أن تُقيِّده، وإنما أيضًا حركة الناس، من خلال وَضْع تشريعات خاصَّة بالهجرة والمواطَنة. نحن إذن في حاجة إلى مُعادَلة التأكيد على الحركية التي يمكن أن نجدها في بعض التفسيرات (e.g., Urry, 2000)، بالاعتراف بالقيود العملية الموجودة في الحياة اليومية.
على نحو أشمل، هناك خطر أن نصبح أكثر تَعلُّقًا بتحديد ما هو كوني وما هو ليس كذلك؛ وبوجود الزَّعم هنا بأن الكثير مما يحدث يتضمن مستويات وأشكالًا من الاختراق المتبادل والتأصيل، إلى جانب عدم اتساق التدفقات الثقافية، فقد يعني ذلك أننا سنجد القليل مما يمكن اعتباره كونيًّا بالفعل، أو متجانسًا بالمعنى الثقافي، هذا إذا وجدنا شيئًا بالمرة. ما زالت هناك بالطبع تَغيُّرات مهمة تحدث وبدرجة تجعلنا في حاجة للاعتراف بها وأن نأخذها بالاعتبار. في هذا السياق إذا تَخلَّيْنا عن اعتبار العولمة حالة نهائية، سرعان ما سيتضح، كما بَيَّنَّا من قبل، أن هناك تَطوُّرات وعمليات كثيرة سوف يسهم تأثيرها التراكمي في المزيد من التواصلية في العالم، وإن لم تكن بالضرورة ذات طبيعة كونية. الأكثر ملاءمة إذن، النظر إلى «العولمة الثقافية» باعتبارها مُصطلحًا أو مفهومًا شاملًا، يصف التطورات الدولية والعابرة للحدود القومية والإقليمية والمحلية والكونية، ذات البعد الثقافي؛ كما يصف التطورات المضادة مثل أشكال التماسك الثقافي. يتبع ذلك أن العولمة الثقافية ليست حالة واحدة متكاملة، وإنما هي مجموعة متعددة الجوانب والأبعاد، من عمليات وتَوجُّهات مترابطة مُتبادلة الاختراق والتغلغل، وهذا — مرة أخرى — يُدعِّم فكرة تَصور الأمر بصيغة الجمع (Holton, 2005)؛ أي إن الموجود «عولمات ثقافية» وليس «عولمة ثقافية».
وهكذا فإن التَّمازج الثقافي المتزايد والطبيعة الجمعية للتدفقات الثقافية، وتعقد الاتصالية المتبادَلة بين الكوني والمحلي، وأشكال ومستويات الاعتماد المتبادَل التي حددناها عاليه، كل ذلك يُقوِّي الحاجة إلى التفكير في العولمة الثقافية في علاقتها بالعناصر البشرية والظروف الخاصَّة التي تعمل فيها، وإلا سنكون مُعتمِدِين على الحدس فقط. باختصار، فإن نقطة البداية في بحثنا هذا الأمر، لا بد من أن تكون الاعتراف بأن التدفقات الثقافية والشبكات والأسواق الرأسمالية، إلى غير ذلك من التطورات التي تُولِّد أشكالًا تَعدُّدية من التواصل الكوني، إنما ينشغل بها ويُسهِم فيها الأفراد والجماعات والمؤسَّسات في أطر مختلفة، والمواقف الثقافية هي التي ستُحدِّد الشكل الذي يَتَّخذه التفاعل. وباعتبارنا كائنات ثقافية وفاعلين في مواقع مُعيَّنة، فنحن لسنا سلبيين ولا محايدين، نحن نُبدِع ونُشكِّل ونتفاوض بنشاط لاختيار طريقنا عَبْر هذه العمليات كلها طول الوقت. ينبغي أيضًا مُلاحَظة أن هذا الأسلوب الأنثروبولوجي (أو ذا المركزية الإنسانية) في استشرافنا للموضوع، مُتَّسِق مع نظرية المَوجَة الثالثة للعولمة (انظر: Hay and Marsh, 2001; Holton 2005). وكذلك أساليب الاستشراف العابرة للحدود القومية (انظر: Ong, 1999). يضاف إلى ذلك أن انتهاج هذا الأسلوب يُمهِّد الطريق أمام المزيد من الفهم للعولمة الثقافية والجدل المُصاحب لذلك، بما يُمكِّن من تحديد مدى دِقَّة المزاعم بأن الانغماس في العمليات الكونية يُؤدِّي كذلك إلى المجانسة، والتهجين، والانسحاب الثقافي، والكوزموبوليتانية بين أشياء أخرى. وبالطبع حين نتعهد تحليلات المستوى الأصغر هذه، فقد نكتشف أنه حتى في داخل مجالات مُعيَّنة، يمكن أن نرصد بعض أو كل أنماط السلوك هذه، ولكنَّ المؤكَّد أن أيًّا منها، لا يُقرِّره أي جانب من جوانب العولمة وحده.
على أيَّة حال، ينبغي ألا يكون جُلُّ تركيزنا على التحليلات ذات المستوى الأصغر حتى لا نفقد الرُّؤية للدور الذي تقوم به الاختلافات البنيوية، والأطر التنظيمية الدولية، والمؤسَّسات المسيطرة في التَّطورات والمواجَهات الثقافية، وهو ما يُمكِن تَجنُّبه عن طريق توليف الرُّؤى البصيرة لمجالات معرفية مثل علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، كما أنها تذكرة بضرورة استخدام أسلوب استشراف مُتعدِّد المجالات عند تناوُل هذا الموضوع؛ ومن الطبيعي أن نلجأ إلى مثل هذا الاستشراف عندما نقوم بتحليل الشبكات؛ لكي نضع في اعتبارنا العلاقات الرأسية والأفقية بين تلك الشبكات وبداخل كل منها؛ وكذلك كيف أن عدم المساواة في إمكانية الوصول إلى تكنولوجيات الاتصال الكونية الحديثة يعوق المشارَكة فيها بالنسبة لبعض الأفراد والمجتمعات (الفصل الثالث). بالمثل نجد «زيجمونت بومان Zygmunt Bauman (1998a)» يعين تراتُبِيَّة كونية للحراك، ويميز بين نخبة حركية غنية وفقراء متمركزين محليًّا يجاهدون من أجل المشارَكة في عمليات العولمة. في هذا السياق، فإن تَناوُلَنا للتدفقات الثقافية ينبغي ألا يفقد الرؤية لحقيقة أن الرأسمالية والدوافع الاقتصادية والمالية وراء الكثير من الإنتاج الثقافي، كما أنها وراء اتِّساع صناعة الاتصالات، وتشجع الكثير من الناس على الهجرة، وبالمثل لا بد من أن نعترف بأن بعض التَّدفُّقات ينبع بشكل واسع من مصادر بعينها أكثر من غيرها، مثل تلك التي تنبع من الميديا القوية ومؤسَّسات التسلية والترفيه (مثل: CNN، وMTV، وBBC) بما يُؤكِّد أن بعض الثقافات مكشوفة أمام الثقافات الأخرى، الأمر الذي يَنتُج عنه تفاوُت في قُوَّتها إلى جانب إثراء عملية المُثاقَفة (الفصل الثاني).

إن تجارب الناس وانغماسهم في كل ما هو كوني وعابر للحدود، تَتشكَّل بعمق بواسطة العوامل السابقة، ولا بد من اعتبارها جزءًا مُهمًّا من بحثنا، باختصار، بالتأكيد على جدة عصرنا وتَعقُّده، يجب ألا نهمل الأشكال الراسخة من الهيمنة؛ وذلك كله يميل إلى نقطة أوسع لَمسْنَاها في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وهي أننا، تحديدًا، ينبغي ألَّا نبالغَ في قيمة التطورات المعاصرة ودرجة ما يحدث من تَغيُّر، حتى في هذه الظروف المَرنة التي تَتميَّز بالسفر والشبكات والانتقالات والتَّحوُّلات، تظل هناك بنى ومراكز قُوى ومؤسَّسات محتفظة بحيويتها مثل الدولة-الأمة.

وهكذا، ونحن نمضي قُدمًا في القرن الحادي والعشرين، لا نعتبر ذلك مُجرَّد دخول مرحلة جديدة كونية، أو عابرة للقوميات. هذا القرن الجديد سوف يميزه، بالأحرى، ظهور تَوتُّرات مستمرة بين كونية القرن العشرين وتوجُّهات العولمة المعاصرة، كما أن التطورات والمُجادَلات المحيطة بالعولمة الثقافية ستكون جزءًا لا يَتجزَّأ من هذا الموضوع.

للمزيد

  • في رأيي أن الأعمال التي تَمضي قُدمًا بدراسات العولمة وتُسهم في فهمنا للعولمة الثقافية، كلها جزء من الموجة الثالثة لاستشراف العولمة، مثل:

  • Colin Hay and David Marsh’s: “Demystifying Globalization,” (2001).
  • Robert Holton’s: “Making Globalization,” (2005).
  • بالإضافة إلى ذلك هناك: Globalizations، وGlobal Networks وهُما صحيفتان مَعنيَّتان بَتعقُّد هذا الموضوع وتُقدِّمان دراسات حالة مفيدة في هذا السياق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤