الفصل العشرون

شبح ديكارت

أُدرجت كتابات ديكارت في «قائمة الكتب المحرم قراءتها» من قبل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية عام ١٦٦٣، وظهرت بعد وفاته ادعاءات باستبعاده الرب من دراسته للعلوم الطبيعية، واليسوعيون الذين تجشم ديكارت عناءً كبيرًا من أجل استرضائهم كانوا في طليعة المطالبين بحظر أعماله. وكان قرار حظر أعمال ديكارت عام ١٦٦٣ الأول ضمن سلسلة من قرارات الحظر، التي بلغت ذروتها عام ١٦٩١، في حظر ملكي يمنع تدريس أي شيء عن الفلسفة الديكارتية في أية مؤسسة في فرنسا. وبعدها ببضعة عقود، حلت فيزياء نيوتن محل فيزياء ديكارت. وفي فرنسا وغيرها من البلدان بدأت في الظهور تفسيرات منقحة لميتافيزيقا ديكارت، وشروحات منطقه وأخلاقه.

وطوال العقدين التاليين لوفاة ديكارت أو نحو ذلك، صارت صفة «الديكارتي» تطلق على كل من يتسق مع برنامج «الفلسفة الكاملة» الذي رسم ديكارت خطوطه العريضة في مقدمته للنسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة». قال ديكارت في المقدمة إن الأجزاء الثاني والثالث والرابع من «مبادئ الفلسفة» تحتوي على كل الأفكار الأكثر عمومية في الفيزياء (٩ب:١٦)، ولكن الحاجة ما زالت ماسة لبيان علم كامل للمادة الملموسة. وتضمن «مبادئ الفلسفة» صياغات لقوانين الطبيعة، ونظرية كونية، أو وصفًا لبنية العالم المادي وتكوُّنه، وشرحًا «للعناصر» أو الأجسام الأشهر على الأرض وخواصها، لكن فيما يتعلق «بالأجسام الخاصة»؛ ألا وهي المعادن والنباتات والحيوانات، والأهم من ذلك الإنسان، فما زال هناك الكثير الذي يمكن قوله.

قال ديكارت إنه لاستكمال تلك النواقص، كانت الحاجة تستدعي مشاهدات وتجارب كثيرة جدًّا وباهظة التكلفة بالنسبة لشخص واحد (٩ب:١٧). وكانت هذه هي التجارب والمشاهدات التي أخذ «الديكارتيون» الأوائل على عاتقهم تنفيذها. وإذ انشغلوا بالعمل على قوانين الحركة كما جاء بيانها في الجزء الثاني من «مبادئ الفلسفة»، ونظرية دوامات المادة في الجزء الثالث، ومبدأ المادة الدقيقة في الجزأين الثالث والرابع؛ حاول العلماء، أمثال جاك روهو وبيير ساليفان في فرنسا، ويوهانز كلاوبيرغ في هولندا وألمانيا، سدَّ الفراغات في فيزياء ديكارت، لكن برنامجهم البحثي تراجع عندما صحح نيوتن انحرافات خطيرة في نظرية ديكارت للجاذبية، ونظريته لحركة الكواكب ومواضعها؛ نيوتن الذي اكتشفتْ نظريتُهُ، المختلفة كليًّا والتي لا يمكن إنكارها، وجود قوة معينة (قوة الجاذبية الكونية) والتي لم يستطع ديكارت استيعابها.

في الوصف الذي ذكره ديكارت لكيفية تلقين المرء نفسه الفلسفة في مقدمة النسخة الفرنسية من «مبادئ الفلسفة»، قال ديكارت إنه قبل التعامل مع الفيزياء، ينبغي أن ينغمس المرء في الميتافيزيقا، وقبل التعاطي مع الميتافيزيقا ينبغي على المرء أن يمارس المنطق:

أنا لا أعني المنطق الذي يجري تدريسه بالمدارس؛ لأن هذا النوع تحديدًا ليس إلا أسلوبًا جدليًّا يعلم طرقًا تساعد المرء على شرح ما يعرفه بالفعل للآخرين أو حتى التحدث والنقاش — دون إصدار أحكام — حول أمور لا يعلم عنها شيئًا … بل أعني المنطق الذي يُعلِّمنا توجيه عقلنا للكشف عن الحقائق التي نجهلها.

(٩ب:١٣-١٤)

تشكل لدينا بالفعل انطباع عن هذا «المنطق» من تعليقات سابقة على «قواعد لتوجيه الفكر» والمبادئ الأربعة الواردة في الجزء الثاني من «مقال عن المنهج». بعد وفاة ديكارت، وتحديدًا عام ١٦٦٤، أصدر أنطوان أرنولد وبيير نيكول كتابًا بعنوان «المنطق أو فن التفكير»، تبنيا فيه «قواعد لتوجيه الفكر» الذي لم يُنشر في حياة ديكارت، بل عُثِرَ عليه ضمن أوراقه بعد مماته، وتوسعا في تلك القواعد. لم يكن أرنولد ونيكول وحدهما من بين أنصار ديكارت اللذان حاولا عرض المنطق «الجديد»، كما لم يكونا من بين الأوائل الذين أقدموا على ذلك؛ فقد حاول يوهانز كلاوبيرغ، الذي ورد ذكره بالفعل فيما يتعلق بالحركة الديكارتية في الفيزياء، أن يُقْدِم على الخطوة نفسها.

fig8
شكل ٢٠-١: جمجمة ديكارت بمتحف الإنسان بباريس.1

ويمكن قراءة أعمال الفلاسفة والعلماء وعلماء اللاهوت الآخرين المعاصرين لتلك الفترة أيضًا باعتبارها إسهامات في برنامج ديكارت الذي لم يستطع استكماله. أصدر أرنولد خولينكس — فيلسوف فلمنكي — أطروحة عن الأخلاق تتسق مع المنهج الديكارتي عام ١٦٥٥. وهناك أيضًا قائمة طويلة من الفلاسفة — بمن فيهم خولينكس — ممن حاولوا إيضاح الصعوبات الكثيرة الموجودة في ميتافيزيقا ديكارت. وشغلت المشكلات المتعلقة بالأفكار، والعلاقة بين العقل والجسد، المعلقين الأوائل، وكذا نظرية ديكارت عن العِلِّية، والنظرية الميتافيزيقية للعلاقة بين المادة والسمة. كان أرنولد ونيكولا ماليبرانش وسايمون فوتشر أبرز الشخصيات في المناظرات التي تمت حول الميتافيزيقا الديكارتية إثر وفاة ديكارت مباشرة. وطور لايبنتس وسبينوزا أنظمة كان من المقرر أن تكون، من أوجه بعينها، أكثر ديكارتية بكثير — أي أكثر اعتمادًا على الاستنباط — من أنظمة ديكارت نفسه. وفي بريطانيا، رفض جون لوك الفرضية الديكارتية بأن العقل لديه قدرات وأفكار فطرية، والتي تعد من أسس نظرية ديكارت المعرفية، لكنه تقبل نظرية الأفكار. وبعد أن تأثر جورج بيركلي وديفيد هيوم بماليبرانش، انضما إلى زمرة نقاد ومنقحي النظرية الديكارتية الخاصة بالمادتين، وبمبدأ العلية في إثبات المادة الملموسة. وتعتبر أعمال هؤلاء الكتاب جميعًا أقرب إلى دراسات عن ديكارت في عصرنا الحالي منها إلى أعمال لفيزيائيين وعلماء أخلاق ديكارتيين؛ ذلك أن ديكارت الذي ما برح يمثل هوسًا لدى الناس هو مجرد شبح فيلسوف، لا فيزيائي ولا طبيب ولا معلم للأخلاق.

وفيما خلا الذين أثنوا على الفرضية الديكارتية بأن العقل لديه قدرات وأفكار فطرية في علم اللغويات، يتفق أغلب الفلاسفة المعاصرين المتحدثين بالإنجليزية على الحاجة إلى أن نصرف شبح ديكارت. ومما يستشهد به على قوة الفلسفة الديكارتية أن محاولات طمسها ما زالت جارية إلى الآن. وما زال الفلاسفة يُعَبِّرون عن رفضهم لنظرية الأفكار لديكارت والازدواجية الديكارتية، ورأيه أن العلم يجب أن ينطلق من مبادئ بديهية، وإيمانه بأن الاعتبارات المعرفية تمثل جوهر الفلسفة. وهناك نظام في هذه الأفكار، مما يساعد على شرح قدرتها على البقاء؛ فقد تم التوصل إليها جميعًا في سياق تنفيذ مهمة واحدة، ألا وهي إثبات أن الفهم الرياضي للعالم المادي أكثر حيادية من أي فهم توحي به الحواس، وأن العقل البشري قادر على صياغة هذا التصوُّر الأكثر حيادية. ولا شك أن أسلوب ديكارت في إثبات هذه الأمور حافل بالمفاهيم المغلوطة. هذا ما أثبتته أجيال من النقاد. لكن النقد لم يكن ليستمر ما لم تكن مهمة ديكارت تأسر ألباب الفلاسفة؛ فهم ما زالوا مهووسين بأعماله، وما برحوا يميلون إلى الجدل بشأن الأفكار التي يمكن أن يكون هناك فهم موضوعي أكبر لها. وما يجعل هذه المجادلات ممكنة هو التصوُّر الواضح الذي لدينا الآن عن طبيعة العالم «المادي». والنسخة الأولى التي لدينا عن هذا التصوُّر تُنْسَب إلى ديكارت. وهذا ما يجعل من الصعب علينا جدًّا أن نصرف شبحه.

هوامش

(1) Courtesy of Musée de l’Homme, Paris.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤