تاكي بومب

برهان رياضي

لم يكن نفور البروفيسور سِيرد منِّي بالشيء الغامض؛ فقد كنتُ طالب الرياضيات الوحيد الضعيف في فصلٍ شديد التفوق في علم الرياضيات. كان السيد العجوز يقصد حجرة المحاضرات كل صباح في حماسة، ولا يُغادِرها إلا كارهًا. ولمَ لا، أوَليس من دواعي البهجة أن يجِد المرء سبعين شابًّا يُفضِّلون — فُرادى ومُجتمِعين — رموز الرياضيات على رموز العشق والقبلات، والانهماكَ في مسائل التفاضُل على الانغماس في الملذَّات؛ ويَرَون الهالات المحيطة بنجوم السماء أكثرَ جاذبيةً من أجساد النجمات الفاتنات على خشبة المسارح الاستعراضية؟

وهكذا سارت الأمور على ما يُرام بين أستاذ الرياضيات وطُلَّاب السنة قبل الأخيرة بجامعة بولِيب. كان ذلك الحكيم يرى في كل شابٍّ من أولئك السبعين نواةً مُحتملة للابلاس أو ستورم أو نيوتن جديد. كان يتلذَّذ بمهمَّة قيادتهم عبرَ أودية القطاعات المخروطية الساحرة، وعلى ضفاف أنهار حساب التكامُل الساكنة. وعلى سبيل المجاز، لم تكن «مسألته» عويصة؛ فما كان عليه سوى مُعالجة العوامل، وحذف الكميَّات المجهولة، والرفع إلى أُسٍّ أعلى، لضمان الاحتفال بالنصر في يوم الامتحان.

لكنَّني كنت عامِلَ تشويش بالنسبة له؛ كنت كميَّة مجهولة مُربِكة تسلَّلَتْ بطريقةٍ ما إلى عمله، وراحت تُهدِّد تهديدًا خطيرًا بإفساد دقَّة حساباته. كم كان منظرًا مُؤثِّرًا أن يرى المرءُ عالِم الرياضيات المهيب وهو يتوسَّل إليَّ ألَّا أُفرِط في إهمال قواعد استخدام ظِل تمام الزاوية، أو وهو يُنبِّهني — وعيناه تكادان تفيضان بالدمع — إلى خطورة الاستخفاف بالإحداثيَّات الرأسية. ولكن بلا أي جدوى. كانت النظرياتُ الرياضيةُ المنقوشةُ على السِّوارِ الذي أَرتدِيه أكثرَ مما كان بِرأسي منها.‎‎ ولم يحدُث قبل ذلك قطُّ أن استُخدِم الطباشير في الشرح بمِثل هذه الكثرة من أجل نتيجة في مثل هذا التواضُع. ولهذا فقد حدَث أن اختُزل فيرنس الثاني إلى صفرٍ في تقدير البروفيسور سِيرد. لقد كان يَعتريه — عندما ينظُر إليَّ — كلُّ ما يمكن أن تقذِفه شخصية غير جبرية من رُعب في القلوب. وقد رأيتُه يدور حول ميدان كاملٍ ليتجنَّب مُلاقاة شخص لا تتمتَّع روحه بالحسِّ الرياضي.

لم تكن الدعوات تُوجَّه إلى فيرنس الثاني لزيارة منزل البروفيسور سِيرد. كان سبعون طالبًا من طلَّاب الصف يتناولون الطعام والشراب في وفودٍ حول مُحيط مائدة الشاي في بيت البروفيسور. أما الطالب الحادي والسبعون فلم يعرف شيئًا عن مَفاتن تلك المائدة الإهليلجية المثالية، ولا عن الباقتَين المُتماثِلتَين من زهور الفوشية وزهور الغُرنوقي الموضوعتَين بدقَّة مُبهرة عند بؤرتَيها.

لم يكن هذا، بكلِّ أسف، بالحرمان الهيِّن؛ ليس لأنَّني كنت شديد التَّوق إلى قِطَع فطائر الليمون اللذيذة التي تصنعُها زوجة السيد سِيرد؛ ولا لأنه كان لحبَّات الدُّراق الشبيهة بالكرة التي كانت تُتقِن تعليبها أيُّ إغراء بيِّن؛ ولا حتى لأنَّني كنت أشتاق لسماع حديث المائدة المَرِح للبروفيسور عن المعادلات ذات الحدَّين، وأمثلته التوضيحية الهاذرة للمُفارقات المنطقية العويصة. إنَّ تفسير الأمر بعيدٌ كلَّ البُعد عن كل هذا. فلقد كان لدى البروفيسور سِيرد ابنة. فقبل عشرين سنة، عرض البروفيسور على الآنسة التي أصبحت الآن مدام سيرد مسألة الزواج منه، ثم أضاف إلى فرضية هذا الزواج نتيجة صغيرة لاحِقة بعد مُدة ليست بالطويلة، وجاءت تلك النتيجة في صورة فتاة.

كانت آبسيسا سِيرد (ويعني اسمُها: الإحداثي السيني) مُتناسِقة الهيئة تمامًا كتناسُق دائرة المهندس المعماري جوتُّو، ومجرَّدةً عن العيوب كذلك، كتجرُّد الرياضيات البحتة التي يُدرِّسها والدها عن التطبيق. كان الربيع في طريقه لاستخراج جذور النباتات التي تجمَّد ماؤها من الأرض، حين وقعتُ في غرام تلك النتيجة الطبيعية. وسرعان ما تَبيَّن لي بوضوحٍ أنها هي نفسها كانت مهتمةً بي بدورها.

سيكتشف القارئ الحصيف تقريبًا كلَّ العوامل اللازم توافُرها في حبكةٍ درامية مُحكَمة. فلقد قدَّمنا بطلةً للقصة واستنتجْنا بطلَها، ورسمْنا شكل والدٍ ذي ميولٍ عدائية وفقًا لأكثر النماذج استحسانًا وتوافُقًا عليه. لا ينقُصنا سوى تحريك أحداث القصة، أو الحدَث غير المُتوقَّع الذي سيحُلُّ تعقيدات السَّرد. ويُمكنني أن أَعِد — وأنا أشعُر بارتياح كبير — بتجديدٍ مِثالي في هذا السياق، بتقديم حدَثٍ غير مُتوقَّع لم يُقدَّم للجمهور من قبلُ قط.

إنَّ القول إنَّني لم أسعَ للوصول إلى رضا الوالد الصارم في مُثابرة مُضنية سيكون انتقاصًا من قدْر الذكاء العادي؛ لأنه لم يسبِق قبل ذلك قطُّ أنْ صبر بليدٌ على تكريس نفسه للرياضيات أكثر ممَّا فعلتُ أنا؛ ولا حدَث قطُّ أن حقَّق الإخلاص في العمل جزاءً في مثل هذه الضآلة التي حققتُها. لذلك استعنتُ بخدمات مُعلِّم خصوصي. لكن توجيهاته لم تلقَ نجاحًا أكبر ممَّا حقَّقتُ من قبل.

كان مُعلِّمي الخصوصي يُدعى جون ماري ريفارول. كان مُواطنًا ألزاسيًّا مُتفرِّدًا؛ فعلى الرغم من اسمه الفرنسي، كان ألمانيَّ الطبع تمامًا؛ لقد كان فرنسيَّ المولد والجنسية، لكنه تلقَّى تعليمه في ألمانيا. كان في الثلاثين من عمره؛ أما مهنته فهي المعرفة غير المحدودة؛ والخطر المُحدِق به هو الفقر؛ وأما سرُّه الدفين، فكان شغفًا غالبًا ولكنه من طرفٍ واحد. كانت أعوَصُ مبادئ العلم التطبيقي لُعَبَه، وأعمقُ تعقيدات العلم التجريدي أدواتِ لهوِه. كانت المسائل، التي قُدِّر لها سلفًا أن تكون ألغازًا بالنسبة لي، جليةً له كجلاء المياه الصافية لبحيرة تاهو. ربما تُفسِّر هذه الحقيقة ما كان في علاقتي به — بوصفها علاقةً بين مُعلِّم وتلميذه — من إخفاق؛ وربما لا يرجع ذلك الإخفاق إلَّا لغبائي المُطبِق. لقد ظلَّ ريفارول يتسكع في ضواحي الجامعة سنواتٍ عديدة؛ حيث كان يُوفِّر احتياجاته القليلة عن طريق الكتابة للمجلَّات العلمية، أو من خلال مساعدة أمثالي من الطلاب ممَّن عُرِفوا بغزارة أموالهم ونُدرة أفكارهم، وكان يطبخ ويدرُس وينام في عُلِّيته المُستأجَرة، وكان يقوم بتجارب غريبة بمُفرده تمامًا.

لم يمرَّ وقت طويل حتى بدأنا نكتشف أنه حتى هذا العبقري الغريب الأطوار لم يكن قادرًا على زراعة الذكاء في عقلي القاصر؛ لذا دفعَني اليأس إلى الكفِّ عن الكفاح. سنَةٌ تعيسة مرَّت عليَّ مُتثاقِلة. كانت سنةً كئيبة، وما كان يُدخِل البهجةَ عليها إلا التقائي بآبسيسا بين الحين والآخر؛ إنها آبي سيدةُ أفكاري وفتاة أحلامي.

كان يوم التخرُّج يقترِب بخُطًى حثيثة. كان مُزمَعًا أن أنطلق قريبًا مع بقية زملائي في الصف، لإدهاش الجموع المُنتظِرة وإدخال البهجة عليهم. لكن البروفيسور بدأ يتجنَّبني أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وأظن أن التقاليد فقط هي التي منعَتْه من بناء مُعاملته إياي على أساسٍ من الاشمئزاز الصريح المُعلَن.

وأخيرًا، وفي غمرة التهوُّر الذي بثَّه اليأس في نفسي، قررتُ أن أُقابِله، أن أتوسَّل إليه، أن أُهدِّده إذا لزم الأمر، وأن أُخاطِر بحظوظي كلِّها في مُجازَفةٍ يائسة واحدة. كتبتُ له رسالةً فيها شيء من التحدِّي، وذكرتُ فيها ما أطمح إليه. وإرضاءً لغروري، رأيتُ من الحصافة أن أُمهِله أسبوعًا يتعافى فيه من الصدمة الأولى لتلك المُفاجأة المُرعِبة، على أن أتوجَّه بعدها لزيارته كيما أعرِف مصيري.

كدتُ أُمرَض من فرْط القلق خلال أسبوع الترقُّب هذا. لقد كان في البداية أملًا جنونيًّا، ثم استحال إلى يأسٍ أكثر تعقُّلًا. في مساء يوم الجمعة، عندما عرَّفتُ بنفسي عند باب منزل البروفيسور، كنتُ أشبهَ بشبحٍ مهزولٍ وهامدٍ ومُنهَكٍ للغاية، لدرجة أنَّ الآنسة جوكاستا، شقيقة البروفيسور سِيرد العزباء القاسية الملامح، أدخلتْني إلى المنزل وفي عينَيها نظرة رثاء، واقترحَتْ عليَّ كوبًا من مشروب النعناع البري.

كان البروفيسور سيرد في اجتماعٍ في الكلية. هل سأنتظِر؟

نعم، وحتى نهاية العمر، إنْ لزِم الأمر. الآنسة آبي؟

كانت آبسيسا قد ذهبت إلى وييلبرو لزيارة إحدى صديقاتها في الدراسة. طلبَتْ منِّي العزباء المُسِنَّة أن أجلس وأستريح، ثُم غادرَت إلى تلك الأماكن الغريبة التي ألِفت جوكاستا السير فيها يوميًّا.

أستريح! لكنني جلستُ على كرسي كبير غير مُريح ورحتُ أنتظِر، كنتُ في تلك الحالة النفسية المُتناقِضة المألوفة عادةً في مثل هذه اللحظات الحاسمة، مُتوجِّسًا من كلِّ خطوةٍ خشيةَ أن تُؤذِن بقدوم ذلك الرجل الذي كنتُ أرغب في رؤيته من بين جميع الرجال.

جلستُ أنتظر لما لا يقلُّ عن ساعة، وبدأ النعاس يغلِبني.

وأخيرًا جاء البروفيسور سيرد. جلس أمامي في ظُلمة الغسَق، وخُيِّل إليَّ ساعتَها أن عينَيه كانتا تُومِضان في ابتهاجٍ خبيث وهو يقول لي بجفاء:

«إذن أيُّها الفتى، أتظنُّ أنك أهلٌ للزواج بابنتي؟»

أخذتُ أُتأتِئ ببعض السخافات عن تعويضِ ما ينقُصني من الجدارة عن طريق العاطفة، وعن مُستقبلي الواعد، وعائلتي، وأشياء من هذا القبيل. وسرعان ما قاطعني البروفيسور قائلًا:

«لقد أسأتَ فهمي يا سيِّدي. إن جوهرك مجرَّدٌ تمامًا من تلك الإدراكات والمهارات الرياضية التي هي الأُسس الموثوقة الوحيدة لشخصيَّة المرء. إنك خلوٌ من علم الرياضيات.

إنك أهلٌ للخيانة، والمكائد، والمفاسد. كما قال شكسبير. إنَّ قوَّتك الإدراكية المحدودة لا تستطيع أن تستوعِب ولا أن تُقدِّر عقلًا وافِر الذكاء. إنَّ بينك وبين ابنة سيرد أكبر فرقٍ قد يتصوَّره إنسان؛ إنه فرقٌ، إن جاز لي القول، كذاك الذي بين كميَّاتٍ مُتناهية في الضخامة وكميَّة مُتناهية في الصِّغَر. يا إلهي، إنَّني لأجسُر حتى على القول إنك لا تفهم مسألة الرسولَين التي وضعها كليرو!»

اعترفتُ بأن مسألة الرسولَين ينبغي أن تُدرَج نوعًا ما خارج حدود قائمة مهاراتي وليس داخلها. لكنَّني تأسَّفتُ على هذا الذَّنب أشدَّ الأسف، واقترحتُ ما قد يُكفِّر عنه. قلتُ بنبرةٍ تفتقر إلى الشجاعة إنَّني أرجو أنَّ ثروتي ربما تكون …

صرخ البروفيسور في نفادِ صبر: «المال! أتُحاول رشوة سيناتور روماني بصفارة؟ يا إلهي، أيُّها الولد، أتتباهى بثروتك التافِهة، التي لو حُوِّلَت كلها إلى فئة المل فلن تملأ عشر خاناتٍ عشرية في عينَي رجلٍ يقيس الكواكب في مداراتها، وتكاد تقترِب مكانته من اللانهاية نفسها؟»

أنكرتُ على الفور أن يكون لديَّ أي نيَّة في إقحام دولاراتي التافهة في الأمر، وواصل البروفيسور كلامه قائلًا:

«لقد فاجأتْني رسالتك بمقدارٍ ليس بالهيِّن. كنتُ أظنُّ أنك آخر إنسانٍ في الوجود قد يتجرَّأ على طلب المُصاهَرة ها هنا. لكن لأنني أهتمُّ لأمرك بصفةٍ شخصية» — ورأيتُ بريق المكر في عينَيه الصغيرتَين مرة أخرى — «ولأنني أهتمُّ أكثر لسعادة آبسيسا، فقد قررتُ أن تنالها؛ ولكن بشروط. بشروط.» أعاد هذه الكلمة، وعلى وجهه ابتسامةُ استهزاءٍ عجز عن إخفائها.

صِحتُ بلهفة جمَّة: «ما هي؟ اذكُرها فقط.»

تابع البروفيسور كلامه، وبدا حديثه المُتأنِّي مُطابقًا تمامًا للنسخة المُحسَّنة من القسوة: «حسنٌ يا سيدي، عليك فقط أن تُثبِت أنك جدير بمُصاهرة أُسرة رياضية عريقة. عليك فقط أن تُنجِز مهمَّةً سأُسنِدها إليك الآن. إنَّ عينَيك تُسائلانِني ما هي. سأخبرك. اكتسِب شُهرةً في هذا الفرع الجليل من فروع العلم النظري، الذي لا تملك سوى الاعتراف بأنك لستَ فيه الآن إلَّا ضعيفًا بالغ الضَّعف. سوف أضع يدَ آبسيسا في يدِك وقتما تأتيني بحلٍّ أرتضيه لمسألة تربيع الدائرة. لا! إن هذا شرط يسيرٌ جدًّا. سوف أخدع نفسي هكذا. فلنقُل مثلًا مسألة الحركة الأبديَّة. ما رأيك في هذه؟ أتعتقد أنها تقع ضِمن نطاق قُدراتك العقلية؟ إنك لا تبتسم. ربما لا تتوافق مَواهبك مع الحركة الأبدية. لقد اتَّضح ذلك للعديد من الناس كذلك. سأمنحك فرصةً أخرى. لقد كنَّا نتحدَّث عن مسألة الرسولَين، وأظنُّ أنك أبديتَ رغبة في معرفة المزيد عن هذه المسألة العبقرية. سوف تنال الفرصة. اتَّخِذ لنفسك مقعدًا في أحد الأيام، عندما لا تكون مشغولًا بشيء آخر، واكتشِف قانون السُّرعة المُطلَقة؛ أقصد قانون الحركة الذي تُقطَع وفقًا له مسافة كبيرة مُتناهية في وقتٍ لا مُتناهي القِصَر. تستطيع أن تُضيف إلى بحثك قليلًا من الميكانيكا التطبيقية، إن شئت. اخترِع طريقةً تنقل الرسول المُتأخِّر على الطريق التي يسير عليها بسُرعة ستِّين ميلًا في الدقيقة. برهِن لي هذا الاكتشاف (عندما تصِل إليه) رياضيًّا، ثم قرِّبه عمليًّا، وستنال آبسيسا. وإلى أن تتمكَّن من هذا، سأكون شاكرًا لك على عدَم إزعاجي أو إزعاجها.»

لم أُطِق سُخريته أكثر من هذا. خرجتُ أترنَّح من الغرفة كالآلة من دون تفكير، ثم خرجتُ من المنزل. حتى لقد نسيتُ قبَّعتي وقفَّازَي. مشيتُ ساعةً في ضوء القمر، ثم بدأت شيئًا فشيئًا أنتقل إلى مزاجٍ أكثر تفاؤلًا. لكن هذا كان بسبب جهلي بعِلم الرياضيات. ولو كنتُ فهمتُ المعنى الحقيقي لما طلَبَه منِّي لأصابني قنوط مُطبِق.

ربما لم تكن مسألة الستِّين ميلًا في الدقيقة هذه مُستحيلة هكذا في نهاية الأمر. على أي حال يُمكنني أن أُجرِّب، رغم أنَّني ربما لا أنجح. وهنا مرَّ ريفارول بخاطري. سوف أسأله. سوف أستعين بمعرفته كيما تُرافِق مُثابَرتي المُتفانِية. وتوجَّهتُ إلى غرفته في الحال.

كان رجل العلوم يسكن في الطابق الرابع، في الجزء الخلفي منه. لم أدخل حُجرته قبل ذلك قط. وعندما دخلتُ كان يملأ كوب جِعَة من قنينة كبيرة مُغطَّاة بالقشِّ ومكتوب عليها «ماء النار».

قال: «اجلِس! لا، ليس على هذا المقعد. إنه «ضابط نفقاتي النثرية».» لكنه تأخَّر بمقدار ثانيةٍ واحدة؛ إذ كنتُ قد ألقيتُ بنفسي في رعونة على كرسي ذي مظهر مُغرٍ. لم يرُعني إلَّا ذراعا هيكلٍ عظميٍّ تمتدَّان من الكرسي وتُطبِقان عليَّ بقبضةٍ جهدتُ عبثًا كي أتخلَّص منها. بعد ذلك امتدَّت جمجمة فوق كتِفي وابتسمَتْ في وجهي ابتسامةَ ودٍّ عريضة مُروِّعة.

أقبل ريفارول لمُساعدتي وهو يعتذِر بشدَّة. وضغط زنبركًا في مكانٍ ما، فأرخى «ضابط النفقات» قبضته الرهيبة. ثم جلستُ بحذرٍ شديد على كرسي هزَّاز بسيط صُنِعت قاعدته من الخيزران، وأكَّد لي ريفارول أنه مكانٌ آمِن.

قال ريفارول: «إن ذاك المقعد بمثابة خطة أُهنِّئ نفسي عليها كثيرًا. لقد صنعتُه في جامعة هايدلبرج، وجنَّبني قدرًا كبيرًا من المُضايقات الصغيرة. إنَّني أُسلِم الأصدقاء المُمِلين والضيوف المُزعِجين لأحضانه. لكنَّني لا ألمس عظيمَ نفعِه في أي مرة بقدْر ما ألمسه عندما يُفزِع أحد أصحاب المتاجر الصغيرة الذين أَدِين لهم بمبالغ تافهة. من هنا جاء اسم التدليل الذي أطلقتُه عليه على سبيل المزاح. إنهم دائمًا ما يُبدون سعادةً كبيرة بتقديم تلك الفواتير المُستحَقَّة ثمنًا لتحريرهم. أتفهم الفكرة جيدًا؟»

بينما راح الألزاسي يُخفِّف تركيز كأس ماء النار، برجِّ نقيعٍ من الجِعَة المُرَّة داخله، ويجرع الكأس المُترَعة باستمتاع بيِّن، كان لديَّ الوقت لاستكشاف الغرفة الغريبة.

كان يقع في أركان الغرفة الأربعة على التوالي مِخرطةُ معادن، ثم ملف الحثِّ الكهربي الذي طوَّره رومكورف، ثم مُحرِّك بخاري صغير، وأخيرًا نموذج أوتوماتيكي لحركة النظام الشمسي تدور أجزاؤه دورانًا مهيبًا. كانت المناضد، والأرفُف، والمقاعد، والأرضية تحمِل مجموعةً غريبة من العُدَد، والمُعوَجَّات، والمواد الكيميائية، وخزانات استقبال الغاز، وأدوات دراسة فلسفة الطبيعة، والأحذية العالية الساق، والقوارير، وصناديق الياقات الورقية القابلة للنزع، وكتبًا صغيرة للغاية وأخرى ذات أحجامٍ غير معقولة. كان ثمَّة تماثيل نصفية من الجصِّ لأرسطو، وأرشميدس، وأوجست كونت، بينما راح فيَّاد ضخم ناعس يطرف بعينَيه كي يطرُد النوم عنهما ‎وهو جاثم فوق جبين مارتن فاركوار تابر الرقيق. قال مُعلِّمي: «إنه دائمًا ما يجثم هناك عندما يعتزم النوم. إنك طائر ذو ذكاء غير عادي. نومًا هادئًا.»

كان ثمَّة خزانةٌ بابها مُوارَبٌ رأيتُ من خلاله شيئًا يُشبِه هيئة الإنسان مُغطًّى بملاءة. فرصدَني ريفارول وأنا أنظر.

فقال: «سيكون هذا أروع أعمالي. إنه كَون مُصغَّر؛ إنسان آلي، لكنه حتى الآن لم يكتمِل إلا جزئيًّا. ولمَ لا؟ لقد أنشأ ألبرتوس ماجنوس تمثالًا بارعًا في مناقشة علم ما وراء الطبيعة وتفنيد آراء المدارس الفلسفية الأخرى. وهكذا فعل سلفستر الثاني، وكذلك روبرتوس جريتهيد. وصنع رودجر بيكون رأسًا نحاسيًّا يستطيع الكلام وإلقاء خُطب. لكن أول ما ذكرتُ من هذه المُخترعات قد تحطَّم؛ إذ امتلأ توماس الأكويني غضبًا من بعض قياساته المنطقية فحطَّم رأسه. إنَّ الفكرة منطقية تمامًا. إنَّ النشاط العقلي سيخضع يومًا ما لقوانين مُحدَّدةٍ كتلك التي تحكم النشاط البدَني. فلماذا لا أُنجِز تمثالًا يستطيع إلقاء خطبٍ رائعة مُبتكَرة كالتي يُلقيها الدكتور أولشن المُبجَّل، أو ينظُم الشِّعر بتلقائية مِثل بول آنابيست؟ إنَّ إنساني الآلي يستطيع بالفعل حلَّ بعض مسائل الكسور الاعتيادية كما يستطيع تأليف السونيتات؛ وإني لأرجو أن أُعلِّمه الفلسفة الوضعية.»

أخرج ريفارول من بين فوضى مُمتلكاته المُربِكة غَليونَين وعبَّأهما بالتَّبغ، ثم ناوَلني أحدَهما.

ثم قال: «وها أنا ذا أعيش هنا وأتمتَّع بقدرٍ لا بأس به من الراحة. عندما يَبلى مِرفقا مِعطفي أذهب إلى الخيَّاط فيأخذ مقاساتي ويصنع لي غيره. وعندما أُحِسُّ بالجوع أتمشَّى إلى محل الجزار وآتي برطلٍ أو نحو ذلك من شرائح اللَّحم إلى المنزل، والتي أطهوها على نحوٍ جيِّد تمامًا في ثلاث ثوانٍ على لهب الأوكسي-هيدروجين هذا. أما إذا عطشت، فربما أُرسِل في طلب قنينة من ماء النار. لكنَّني أملؤها، أملؤها عن آخِرها. إنَّ رُوحي أسمى من أي معاملة مالية حقيرة. إنني أحتقر دولاراتك القذِرة، ولا أُمسِك البتَّة ما يدْعونه أوراقًا نقدية.»

سألته: «لكن ألا تنزعج أبدًا من الفواتير؟ ألا يُكدِّر الدائنون عليك حياتك؟»

قال ريفارول لاهثًا: «الدائنون! لم أتعلَّم كلمة كهذه في لُغتك الفائقة الروعة. إن من يسمح للدائنين بتكدير رُوحه إنما هو من مُخلَّفات حضارة مَعيبة. ما فائدة العِلم إذا لم يكن بمقدوره تقديم النفع لرجلٍ لدَيه معاملات مالية جارية؟ انتبِه لما سأقوله. عندما تدخل أنت أو أي شخص آخر من الباب الخارجي، يُصدِر هذا الجرس الكهربائي الصغير صوتًا يُنبِّهني. إن كل خطوةٍ من خطواتكم المُتتابعة على درجات سُلَّم السيدة جريملر إنما هي بمنزلة جاسوس ومُخبِر ساهر على مساعدتي. أول درجة تُوطأ بالأقدام، وهي الدرجة الجديرة بالثقة، سرعان ما تُرسِل لي برقية بأوزانكم. لا شيءَ أسهل من هذا. إنها كأي ميزان ذي منصَّة سواء بسواء، والوزن يُدوَّن هنا على هذا القرص المُدرَّج. أما الدرجة الثانية فتُسجِّل حجم قدَم ضَيفي. وتُسجِّل الثالثة طوله، والرابعة لون بشرته، وهكذا. وعندما يصِل إلى قمَّةِ المجموعة الأولى من درجات السُّلَّم يكون قد أصبح تحت يديَّ هنا وصفٌ دقيق للغاية له، وهامش من الوقت للتفكير والتصرُّف. أتفهمني؟ الأمر واضح تمامًا. إنما هي ألف باء ما لديَّ من العلم.»

قلتُ: «إنني أفهم كل هذا، لكنَّني لا أفهم كيف يُساعِدك. إن العلم بقُدوم أحد الدائنين لن يُسدِّد فاتورته. إنك لا تستطيع الفرار إلَّا إذا قفزتَ من النافذة.»

ضحك ريفارول بهدوء، وقال: «سأخبرك. ستعرِف ما الذي يُصيب أي شيطان مسكين يأتي لطلَب المال مني؛ من رجل العلم. هه هه! إن هذا من دواعي سروري. لقد عكفتُ لسبعة أسابيع على إنجاز «قامع المُقتضِين» الخاص بي. هل تعلم؟» وأردف هامسًا في ابتهاج: «هل تعلم أنَّ ثَمَّة فجوة مُمتدَّة عبر مركز الأرض؟ إن علماء الفيزياء كان يُخامِرهم شعور بوجودها منذ زمن بعيد، وكنتُ أنا أول من اكتشفَها. لعلك قرأتَ كيف اكتشف رويجنز، الملَّاح الألماني المُستكشِف، في جزر كيرجولين لاند هُوة سحيقة عجَز فادنٌ طولُ حبله أربع عشرة مِائة قامة عن سبْر غَورها. إن تلك الفجوة، يا سيد توم، لا قاع لها! إنها تمتدُّ من أحد سطحَي الأرض إلى السطح الذي يُقابِله في طرفها الآخر. إنها مُمتدَّة على طول قُطر الأرض. لكن أين تقع البقعة المُقابِلة الأخرى؟ إنك واقف فوقها. لقد عرفتُ هذا بمحض الصُّدفة. كنتُ أحفر عميقًا في قبوِ السيدة جريملر، لكي أدفن قطًّا مسكينًا كنتُ قد ضحَّيتُ به في تجربة كهروكيميائية، وعندَها أخذتِ الأرض تتفتَّت تحت المِجراف وتهبط في فراغٍ أسفل منها، فوجدتُ نفسي واقفًا مشدوهًا على شفير مَهوًى مُنفغِر الحواف. ألقيتُ زنبيل فحم فيه؛ فهوى إلى أسفل، وأخذ يهوي ويهوي، ويقفز ويرتد. وخلال ساعتَين وربع الساعة عاد زنبيل الفحم هذا إلى الأعلى مرة أخرى؛ فأمسكتُ به وأعدْتُه إلى السيدة جريملر الغاضبة. فكِّر للحظةٍ فقط. لقد هوى زنبيل الفحم إلى الأسفل، وأخذَت سرعته تزيد أكثر فأكثر، حتى وصل إلى مركز الأرض. وقد كان سيقِف هناك، لولا الزَّخم المُكتسَب. وبعدما جاز المركز أصبح يتَّجِه نسبيًّا إلى الأعلى، باتجاه سطح الكرة الأرضية المُقابِل. وهكذا، ومع فقدان سرعته، أخذت حركته تتباطأ تدريجيًّا حتى وصل إلى ذلك السطح. وهناك توقَّف لحظة ثم سقط عائدًا مرة أخرى، قاطعًا ثمانية آلاف ميلٍ ونيفًا حتى وصل إلى يدَيَّ. ولولا أنَّني تدخلتُ، لَكرَّر رحلته مرة بعد مرة؛ كلُّ رحلة بامتدادٍ أقصر من التي قبلها، مثل اهتزازات البندول المُتناقِصة، حتى يصِل في النهاية إلى توقُّف أبدي في منتصف الكرة. إنني لا أتوانى في وضع أيٍّ من مثل هذه الاكتشافات الكبرى حيِّز التطبيق العملي. لقد كان «قامع المُقتضِين» الخاص بي وليدَ هذا الاكتشاف. باب مسحور، أمام باب حجرتي مباشرة، وزنبرك هنا، وأحد الدائنين واقف فوق الباب المسحور؛ هل يلزمني قول المزيد؟»

ألمحتُ في رفقٍ قائلًا: «لكن أليس هذا قاسيًا بعض الشيء؟ أن تُورِّط شخصًا تعيسًا في رحلة أبدية من وإلى جزر كيرجولين لاند، دون لحظة تحذيرٍ واحدة.»

«إنني أمنحهم فرصة. عندما يصعدون في المرة الأولى أنتظر عند فوهة المَهوى وفي يدي حبل؛ فإذا ما كانوا عقلاء واختاروا الوصول إلى اتِّفاق، أقذف لهم الحبل. وأما إذا لقُوا حتفهم، فهذا خطؤهم.» ثم أضاف وعلى فمه ابتسامةٌ حزينة: «إن المركز فقط آخِذ في الانسداد حتى آخره بالدائنين لدرجة أنني أخشى أنه قريبًا لن يكون أمامهم أي اختيار.»

في تلك اللحظة كنتُ قد كوَّنت رأيًا إيجابيًّا عن قدرات مُعلِّمي؛ فلو كان بمقدور أي إنسانٍ أن يُرسِلني إلى الفضاء في يُسر وبسرعة مُطلَقة، لَكان ريفارول ذلك الإنسان. عبَّأتُ غليوني بالتبغ وقصصتُ عليه القصة، وأخذ يُصغي إليَّ بانتباهٍ يزينه الوقار والحِلم، وراح، على مدى ثلاثين دقيقة مُتواصِلة، ينفُث دخان غليونه في صمت. وأخيرًا تكلَّم.

«لقد ارتدَّ سِحر ذلك الصِّفر الهرِم عليه. لقد خيَّرك بين مسألتَين يراهما مُتعذِّرتَين على الحل. لكنهما ليستا كذلك. إن مسحة الذكاء الوحيدة التي أظهرها مقلوب الظلِّ العجوز هذا هي قوله إن تربيع الدائرة في غاية السهولة. لقد كان مُحقًّا. كان من الممكن أن تنال به محبوبتك في خمس دقائق. لقد ربَّعتُ الدائرة قبل أن أتخلَّص من سراويل الطفولة المُكشكَشة؛ وسوف أُريك الطريقة، لكن هذا سيكون استطرادًا، وأنت لستَ في حالةٍ تسمح بسماع استطرادات؛ لذا فإن فرصتنا الأولى تكمن في الحركة الأبدية. والآن يا صديقي العزيز، سأقول لك بصراحة إنه على الرغم من أني أنجزتُ هذه المُعضِلة الشائقة، فإنني لا أُفضِّل أن أُسخِّرها لمصلحتك. إنَّ لي قلبًا أيضًا يا سيد توم. إن أجمل بنات جِنسها رفضَتْني. إن مَفاتنها الناضجة نوعًا ما ليست من نصيب جون ماري ريفارول. لقد قالت لي بقسوةٍ إن سِنَّها يُحتِّم عليَّ أن أنظر إليها بعين الابن لا بعين الخاطب. هل الحُبُّ مسألة سنٍّ أم مسألة خلود الحبِّ نفسه؟ لقد طرحتُ هذا السؤال على باردة المشاعر الجميلة جوكاستا.»

علَّقتُ في دهشة قائلًا: «جوكاستا سيرد! عمَّة آبسيسا!»

قال في حُزن: «هي بعينها. لن أُحاوِل إخفاء أني وهبتُ قلبي البِكر للآنسة جوكاستا‎. أعطِني يدك يا رفيقي في الحُزن ورفيقي في الحُب!»

أسرع ريفارول إلى مسح دمعةٍ غير شائنة عن وجهه، ثم استأنف حديثه قائلًا:

«إن أملي الوحيد يكمُن في اكتشاف الحركة الأبدية هذا؛ فسوف يمنحني الشهرة والثروة. أمِن المُمكن أن ترفُض جوكاستا هاتَين؟ إذا كان هذا ممكنًا، فليس ثَمَّ سوى الباب المسحور وجُزر كيرجولين لاند!»

طلبتُ منه على استحياء أن يُريني آلة الحركة الأبدية. لكن رفيقي في الحُزن هزَّ رأسه رافضًا.

وقال: «في وقتٍ آخر. يكفي الآن القول إنها شيء قائم على أساسٍ مِن مُحاكاة لسان المرأة. لكنك تُدرِك الآن لِمَ علينا التعويل في حالتك على الشرط البديل: السرعة المُطلَقة. يُوجَد العديد من الطُّرق يُمكن من خلالها إنجاز هذا، نظريًّا. بواسطة الرافعة على سبيل المثال. تخيَّل رافعة لها ذراع بالغةُ الطول وأخرى بالغة القِصر. سلِّط قوةً على الذراع الأقصر وستتحرك هذه الذراع بسرعة كبيرة. لكن طرف الذراع الطويلة سيتحرك بسرعة أكبر بكثير. والآن استمرَّ في تقصير الذراع القصيرة وإطالة الذراع الطويلة، وعندما تقترب من جعل فرق الطول بينهما غير مُتناهٍ، فستصل، بذلك، بالذراع الطويلة إلى السرعة المُطلَقة. سيكون من الصعب إثبات ذلك عمليًّا للبروفيسور. يجِب أن نبحث عن حلٍّ آخر؛ سيُمعِن جون ماري في التفكير. مُرَّ عليَّ بعد أسبوعَين. طابت ليلتك. لكن انتظِر! هل معك مال؛ نقود؟»

«أكثر بكثيرٍ ممَّا أحتاجه.»

«جيِّد! فلنعقد اتفاقًا وشراكة إذن. الذهب والمعرفة؛ العلم والحُب. ما الذي قد تعجز شراكةٌ مثل هذه عن تحقيقه؟ سوف نغزو حصونك يا آبسيسا. إلى الأمام!»

عندما قصدتُ حجرةَ ريفارول، بعد نهاية الأسبوعَين، مررتُ فوق بداية ذلك «الخط الجوي» المُؤدِّي إلى جزر كيرجولين لاند، وقد تملَّكني شيء من الذُّعر، ورحتُ أُراوِغ ذراعَي «ضابط النفقات» المبسوطتَين هربًا منهما. ناوَلني ريفارول كوبًا من الجِعَة، وملأ لنفسه مُعوَجة من مشروبه المُميَّز.

قال ريفارول بعد لَأي: «لنشرب من أجل نجاح تاكي بومب.»

«تاكي بومب؟»

«نعم. ولمَ لا؟ «تاكيو» بمعنى سريعًا، و«بيمبو» أو «بيبومبا» بمعنى يُرسِل. لعلها تُوصِلك سريعًا إلى يوم زواجك. إن آبسيسا لك. قُضي الأمر. متى سنبدأ رحلتنا إلى المُروج؟»

«أين هي؟» هكذا سألتُه وأنا أُفتِّش عبثًا في أرجاء الغرفة عن أي مُخترَع قد يبدو أنه صُمِّم لزيادة احتمالات الزواج.

قال ريفارول: «إنها هنا.» ونقَر على جبينه نقرةً ذات معنًى، ثم تحدَّث حديثًا تعليميًّا مُطوَّلًا.

«إن في الوجود ما يكفي من القوة لمنحنا سرعة ستِّين ميلًا في الدقيقة، أو حتى أكثر من ذلك. كل ما نحتاجه هو معرفة كيفية دمجها وتوظيفها. إن الرجل الحصيف لن يسعى لتوليد سرعة كبيرة من قوة كبيرة. وإنما سيظلُّ يُضيف القوة القليلة إلى القوة القليلة، دافعًا بذلك كلَّ قوة قليلة لمنحِه سرعتَها القليلة، إلى أن يتحوَّل مجموع قوًى قليلة إلى قوة واحدة كبيرة، فتمنحه بذلك جملة من السرعات القليلة؛ أيْ سرعة واحدة كبيرة. ولا تكمُن الصعوبة في تجميع القُوى؛ وإنما في تجميع السرعات تجميعًا مُتطابِقًا. إن قذيفة بندقية المسكيت قد تنطلق مسافة ميل تقريبًا. وليس من الصعب زيادة قوة بندقيات المسكيت إلى ألف بندقية، لكن قذائف بندقيات المسكيت الألف لن تنطلِق أبعد ولا أسرع من قذيفة البندقية الواحدة. عرفت إذن أين تكمُن مُشكلتنا. إنَّنا لا نستطيع إضافة سرعة إلى أخرى بالسهولة التي نُضيف بها قوة إلى أخرى. واكتشافي يقوم ببساطة على استخدام قانون ينتزع زيادة السرعة من كلِّ زيادة في القوة. لكن هذا هو الأساس النظري للتركيب الفيزيائي. لِنكُن عمليِّين أو لندَع الأمر برمَّته.

عندما كنتَ تمشي باتجاه الأمام، في قطار مُتحرِّك، من العربة الخلفية وحتى المُحرِّك، ألم تُفكِّر قطُّ في حقيقة ما كنتَ تفعله؟»

«يا إلهي، نعم، لقد كنتُ في الغالب مُتوجِّهًا إلى عربة التدخين لأُدخِّن سيجارًا.»

«لا، لا؛ ليس هذا! أقصد، ألم يخطر ببالك قطُّ في مثل هذا الموقف أنك قطعًا كنتَ تسير أسرع من القطار؟ إن القطار يمرُّ على أعمدة التلغراف، لِنقُل مثلًا، بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة. وأنت تسير باتجاه عربة التدخين بسرعة أربعة أميال في الساعة. إذن فأنت تمر على أعمدة التلغراف بسرعة أربعة وثلاثين ميلًا. إنَّ سرعتك الكلية هي سرعة المُحرِّك، مُضافًا إليها سرعة تحرُّكك ذاتها. أتفهمني؟»

بدأتُ أعي قليلًا ممَّا قصده، وأخبرتُه بذلك.

«جيد جدًّا. لنتقدَّم خطوةً أخرى. إن ما تُضيفه أنت إلى سرعة المُحرِّك زهيد القدر، كما أن المساحة التي تستطيع تنفيذ ذلك فيها محدودة. الآن تخيَّل محطتَي قطار، ألف وباء، المسافة بينهما على خط السكة الحديدية ميلان. تخيَّل قطارًا عرباتُه كلها مُسطَّحة مكشوفة، العربة الأخيرة منه مُتوقِّفة عند المحطة ألف. طول القطار ميل، تقريبًا. على ذلك تكون عربة مُحرِّك القطار على مسافة ميل من المحطة باء. لِنقُل إن القطار يمكن أن يقطع مسافة ميل في عشر دقائق. إذن فالعربة الأخيرة، لأنَّ أمامها ميلَين لتقطعهما، ستصِل إلى المحطة باء في غضون عشرين دقيقة؛ بينما عربة المُحرِّك، المُتقدِّمة بمسافة ميل، ستصل إلى هناك في عشر دقائق. نفترض أنك قد قفزتَ إلى العربة الأخيرة، عند المحطة ألف، بسرعة مُذهِلة للحاق بآبسيسا، الواقفة عند المحطة باء. لو بقيتَ فوق العربة الأخيرة فستنتظر عشرين دقيقة ثقيلة قبل أن تراها. لكن عربة المُحرِّك تصِل إلى المحطة باء والفتاة الجميلة في عشر دقائق. ستكون رجلًا بليد التفكير، ومُحبًّا غير مُكترِث لمحبوبته، إذا لم تتوجَّه إلى عربة المُحرِّك جريًا على تلك العربات المُسطَّحة المكشوفة، بأسرع ما تستطيع ساقاك أن تحملاك. تستطيع أن تجري مسافة ميل، التي هي طول القطار، في عشر دقائق. ومن ثَم، تصل إلى آبسيسا عندما تصل إليها عربة المُحرِّك، أو خلال عشر دقائق؛ عشر دقائق أبكَر مما لو كنتَ جلستَ في كسل في العربة الخلفية ورحتَ تتكلَّم في السياسة مع عامل المِكبح. لقد اختصرتَ الوقت إلى النصف. لقد أضفتَ سرعتك إلى سرعة القاطرة من أجل غرضٍ ما. أليس كذلك؟»

فهمتُ ما قاله تمامًا؛ أو ربما بصورةٍ أكثر وضوحًا، بسبب تلك العبارة التي ذكرها عن آبسيسا.

واصل ريفارول حديثه قائلًا: «إن هذا التوضيح، على بلادة مُستواه، يُؤدِّي إلى مبدأ يمكن تطبيقه على أي نطاق. إنَّ شاغلنا الأول هو المحافظة على ساقَيك وتنفُّسِك. لنفترض أن خط السكة الحديدية الممتدِّ مسافةَ ميلَين مستقيم تمامًا، ولنجعل قطارنا عربة مُسطَّحة مكشوفة واحدة، وليكُن طولها ميلًا، يعلوها قضبانٌ مُتوازِية مُثبَّتة على قمَّتها. ضع مُحرِّكًا صغيرًا زائفًا على هذه القضبان، واجعله يسير جيئةً وذهابًا على طول العربة المُسطَّحة المكشوفة، بينما تُجَر العربة المُسطَّحة المكشوفة على امتداد خط السكة الحديدية المُثبَّت على الأرض. هل فهمت الفكرة؟ سيقوم المُحرِّك الوهمي مقامك. لكنه يستطيع أن يقطع مسافة الميل أسرع منك بكثير. تخيَّل أن قاطرتنا قوية بما يكفي لجرِّ العربة المُسطَّحة المكشوفة مسافةَ الميلَين في دقيقتَين. يمكن للمُحرِّك الوهمي أن يبلغ السرعة نفسها. عندما تصِل القاطرة إلى المحطة باء في دقيقة واحدة، سيصل المُحرِّك الوهمي — الذي قطع مسافة ميل فوق العربة المُسطَّحة المكشوفة — إلى المحطة باء هو الآخر. وهكذا نكون قد دمجنا سرعتَي ذَينك المُحرِّكَين لكي نقطع مسافة ميلَين في دقيقة واحدة. هل هذا هو كل ما نستطيع أن نفعله؟ استعدَّ لتمرين مُخيِّلتك.»

أشعلتُ غليوني.

وواصل ريفارول: «لا يزال خط السكة الحديدية ممتدًا باستقامةٍ مسافةَ ميلَين بين ألف وباء. فوق الخط عربة مُسطَّحة مكشوفة طويلة، مُمتدَّة من ألف إلى مسافة ربع ميل من باء. سنطرح الآن القاطرات العادية جانبًا ونجعل مصدر قوتنا المُحرِّكة سلسلة من المُحرِّكات المغناطيسية المُتراصَّة، مُوزَّعة تحت العربة المُسطَّحة المكشوفة، على امتداد طولها كله.»

«لا أفهم تلك المُحرِّكات المغناطيسية.»

«حسن، إن كلًّا منها مُكوَّن من حدوة حصان حديدية كبيرة، وتتحوَّل جميعها بالتناوب إلى مغناطيس أو لا مغناطيس عن طريق تيار كهربائي مُتقطِّع نابع من بطارية، هذا التيار بدوره تُنظِّمه آلية ساعية. عندما تكون الحدوة داخل الدائرة الكهربائية تتحوَّل بذلك إلى مغناطيس، وتجذب إليها لسانها المُصفِّق بقوة هائلة. وعندما تكون خارج الدائرة الكهربائية، في اللحظة التالية، لا تصير مغناطيسًا، وبذلك تترك اللسان المُصفِّق. أما اللسان المُصفِّق، الذي يتأرجح جيئةً وذهابًا، فإنه يبثُّ حركة دورانية في حدَّافة أو بكَرة، فتنقل الحدَّافةُ هذه الحركةَ الدَّورانية إلى نواقل الحركة التي فوق القضبان. هكذا هي مُحرِّكاتنا. لا جديد في الأمر؛ لأنه قد ثبت بالتجربة إمكانية استخدامها.

إذا وُجِد مُحرِّك مغناطيسي لكلِّ مجموعة من العجلات، فسنكون منطقيِّين إذا توقَّعنا أن نُحرِّك عربتنا الضخمة، وأن نقودها بسرعة ميلٍ في الدقيقة مثلًا.

بالنسبة إلى طرف العربة الأمامي، ولأنه لن يقطع إلا مسافة رُبع ميل فقط، سيصل إلى المحطة باء في خمس عشرة دقيقة. سنُسمِّي هذه العربة المُسطَّحة المكشوفة رقم ١. فوق العربة رقم ١ سنُثبِّت قضيبَين، وسيكون فوقهما عربة مُسطَّحة مكشوفة أخرى، وهي رقم ٢، وستكون أقصر من رقم ١ بمقدار ربع ميل، وسنُحرِّكها بالطريقة نفسها تمامًا. رقم ٢ بدورها ستعتليها رقم ٣، التي ستتحرك بصورة مُستقِلة عن الطبقتَين الواقعتَين تحتها، وستكون أقصر من رقم ٢ بمقدار ربع ميل. يبلغ طول العربة رقم ٢ ميلًا ونصف؛ أما طول رقم ٣ فميل وربع. فوق ذلك، وفي مستويات مُتعاقِبة، سنضع رقم ٤، وطولها ميل واحد؛ ثم رقم ٥، ويبلغ طولها ثلاثة أرباع الميل؛ ثم رقم ٦، وطولها نصف ميل؛ وبعدها رقم ٧، بطول ربع ميل فقط، ثم رقم ٨، وهي عربة ركاب قصيرة، فوق تلك العربات كلها.

كل عربة تتحرَّك فوق العربة الواقعة تحتها حركة مُستقِلة عن جميع العربات الأخرى، وبسرعة ميل في الدقيقة. ولكلِّ عربة مُحرِّكاتها المغناطيسية الخاصة بها. حسن، القطار يتحرَّك والطرف الأخير من كلِّ عربة من العربات مُستنِد إلى مِصدمِ ردِّ قاطراتٍ مُرتفع موجود عند المحطة ألف، أما توم فيرنس، رئيس القطار المُهذَّب، وجون ماري ريفارول، سائق القطار، فيصعدان بواسطة سُلَّم نقَّال طويل إلى العربة السامية رقم ٨. إن الآلة المُعقَّدة تتحرَّك الآن. ماذا سيحدث؟

ستقطع العربة رقم ٨ مسافة ربع ميل في خمس عشرة ثانية وتصِل إلى طرف العربة رقم ٧. في الوقت نفسه ستكون العربة رقم ٧ قد قطعت مسافة ربع ميل في المدة الزمنية نفسها ووصلت إلى طرف العربة رقم ٦؛ وبالمثل رقم ٦، ربع ميل في خمس عشرة ثانية، ووصلت إلى طرف العربة رقم ٥؛ ورقم ٥، إلى طرف رقم ٤؛ ورقم ٤، إلى طرف رقم ٣؛ ورقم ٣، إلى طرف رقم ٢؛ ورقم ٢، إلى طرف رقم ١. وقد قطعت العربة رقم ١ مسافة ربع ميل فوق خط السكة الحديدية الأرضي في خمس عشرة ثانية هي الأخرى، ووصلت إلى المحطة باء. كل هذا حدث في خمس عشرة ثانية. وهكذا، فقد وصلت العربات ١، و٢، و٣، و٤، و٥، و٦، و٧، و٨ إلى مِصدمِ ردِّ القاطرات الموجود عند المحطة باء لتستند إليه في اللحظة نفسها تمامًا. وسنصِل نحن الجالسَين في العربة رقم ٨، إلى المحطة باء عندما تصل إليها العربة رقم ١. بعبارة أخرى، سنقطع مسافة ميلَين في خمس عشرة ثانية. كل عربة من العربات الثمانية، والتي تسير بسرعة ميل في الدقيقة، ساهمت بقطع مسافة ربع ميل في رحلتنا، وأدَّت عملها هذا في خمس عشرة ثانية. والعربات الثمانية كلها أدَّت عملها في وقتٍ واحد، خلال الخمس عشرة ثانية نفسها. وعلى ذلك نكون قد انطلقنا في الهواء بسرعة مُذهِلة نوعًا ما، تُقدَّر بميلٍ في كل سبع ثوانٍ ونصف. هذه هي «تاكي بومب». ألا تستحقُّ الاسم؟»

مع ما أصابني من ارتباك قليل بسبب تعقيد العربات، إلَّا أنَّني فهمت الفكرة العامة للآلة، ثم رسمت رسمًا توضيحيًّا، ففهمتها على نحوٍ أفضل كثيرًا. وقلت: «إن ما فعلته لا يعدو إدخال تحسينات على فكرة تحرُّكي بسرعةٍ أكبر من سرعة القطار عندما كنتُ مُتوجِّهًا إلى عربة التدخين، أليس كذلك؟»

«بالضبط. نحن لا نزال حتى الآن داخل حدود ما يمكن تنفيذه. أما لكي تُرضِي البروفيسور، فبإمكانك أن تضع نظريةً على هذا النمط: إذا ضاعَفْنا عدد العربات، لنُقلِّل بذلك المسافة التي يلزم كل عربة أن تقطعها إلى النصف، فسنُحقِّق ضِعف السرعة؛ فلن يلزم كل عربة من العربات الستة عشرة أن تقطع سوى مسافة ثُمن ميل فقط. ووفقًا لمُعدَّل السرعة المُنتظِمة التي اتَّبعناها، يمكن قطع مسافة الميلَين في سبع ثوانٍ ونصف بدلًا من خمس عشرة ثانية. وفي وجود اثنتَين وثلاثين عربة، ومسافة جزء من ستة عشر جزءًا من الميل لتقطعها، أو فارق عشرين قصبة بين أطوالها، فسنصل بسرعة ميل في أقل من ثانيتَين؛ وفي وجود أربعٍ وستين عربة، لا تقطع كلٌّ منها سوى مسافة عشر قصبات، سنسير بسرعة ميل في أقلِّ من ثانية؛ أيْ سنقطع أكثر من ستِّين ميلًا في الدقيقة! وإذا لم يكن هذا سريعًا بما يكفي في نظر البروفيسور، فقُل له أن يمضي قُدمًا، وليزِد عدد العربات ويُقلِّل المسافة التي يلزم كل واحدة منها أن تقطعها. إذا كان أربع وستُّون عربةً تُنتِج سرعة ميل في الثانية، فاجعله يتخيَّل آلة «تاكي بومب» مُكوَّنة من ستمائة وأربعين عربة، وليتسلَّ بحساب سُرعة العربة رقم ٦٤٠. لكن اهمس في أُذنه فقط بأنه عندما يكون لدَيه عدد لا نهائي من العربات ويكون فرق الطول بينها مُتناهي الصِّغَر، سيكون قد حصل على تلك السرعة المُطلَقة التي يبدو أنه يتُوق إليها. ثم اطلُب يدَ آبسيسا.»

شددتُ على يدِ صديقي في إعجابٍ يُكلِّله الصمتُ والامتنان. ولم أستطع قول أيِّ شيء.

قال ريفارول باعتزاز: «لقد استمعتَ إليَّ في دور المُنظِّر، وسترى الآن المُهندس التنفيذي. سنذهب إلى غرب المسيسيبي ونبحث عن موقعٍ مُستوٍ على نحوٍ مُلائم؛ وسنُشيِّد فوقه نموذجًا لآلة «تاكي بومب». سوف نستقدِم البروفيسور وابنتَه إلى هناك، ولمَ لا نستقدِم أخته الجميلة جوكاستا كذلك؟ سنأخذهم في رحلةٍ تُدهِش المُوقَّر سِيرد كثيرًا. سنجمع بين يد آبسيسا ويدك ونُبارِككما بصيغةٍ جبرية. وستتأمَّل جوكاستا عبقرية ريفارول في اندهاش. لكن أمامنا الكثير لنفعله. يجِب أن نشحن الكميَّات الهائلة من المواد الخام التي ستُستخدم في إنشاء «تاكي بومب» إلى ميناء سانت جوزيف. يجِب أن نستعين بخدمات جيش صغير من العمال لتنفيذ ذلك العمل؛ لأننا سنقهر الزمان والمكان. ربما يجدُر بك مراجعة مَصرفيِّيك.»

هرولتُ إلى الباب في اندفاع. يجِب ألا نتأخَّر. صرخ ريفارول: «توقَّف! توقَّف! لأجل الرب، توقَّف! لقد أطلقتُ الجزار هذا الصباح ولم أُوصد اﻟ…»

لكن كان الأوان قد فات. كنتُ فوق الباب المسحور؛ فانفتح مُحدِثًا دويًّا حادًّا، واندفعتُ إلى أسفل، وأسفل، وأسفل! شعرتُ وكأنني أهوي في فضاء غير مُتناهٍ. أذكُر أنني تساءلت، وأنا أندفع عبر الظلام، إن كنتُ سأصِل إلى جزر كيرجولين لاند أم سأتوقف في المُنتصف. بدا لي الوقت طويلًا وكأنه سيستمرُّ سرمدًا. لكن شيئًا ما أوقف رحلتي فجأة وبطريقة مُؤلِمة.

فتحتُ عينَيَّ فوجدتُ جدران حجرة مكتب البروفيسور سِيرد تحوطُني. كان تحت قدمَيَّ سطحٌ صلب غير ليِّن علمتُ تمام العلم أنه أرضية حجرة مكتب البروفيسور سِيرد. وكان خلفي ذلك الكرسي الأسود الزَّلِق المكسو بنسيجٍ من وبر الجِمال، وقد قذفني بقوة إلى الأمام، مثلما أنقذ الحوت النبي يونس. كان البروفيسور سِيرد بنفسه واقفًا أمامي، وهو ينظر إليَّ وعلى وجهه ابتسامة لا تُوصَف بالبغيضة.

«مساء الخير يا سَيد فيرنس. اسمح لي أن أُساعِدك على النهوض. تبدو مُتعَبًا يا سَيدي. لا عجَب أنْ أخذك النوم لمَّا تركتُك تنتظِر طويلًا جدًّا هكذا. هل أُحضِر لك كأسًا من الخمر؟ لا؟ بالمناسبة، مُذ استقبلتُ رسالتك اكتشفتُ أنك ابن صديقي القديم، القاضي فيرنس. لقد أجريتُ بعض الاستعلامات، ولا أرى ما يمنع من أن تكون زوجًا مُناسِبًا لآبسيسا.»

ما زلتُ لا أستطيع أن أعرف ما الذي كان من شأنه أن يمنع نجاح «تاكي بومب». أتستطيعون أنتم؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤