الفصل الأول

الأفكار الكبرى

في السماء كما على الأرض

قبل نيوتن، كان علم الفلك قائمًا، ولكن لم يكُن لعلم الفيزياء الفلكية وجود. وإذا صدقت الرواية، فقد نشأ علم الفيزياء الفلكية عندما رأى نيوتن تفاحةً تسقط في بستانه في وولثورب، وتوصَّلَ إلى فكرة مذهلة مفادها أن القمر يسقط بالطريقة نفسها التي تسقط بها تلك التفاحة. أي إن الأجرام السماوية، مثل القمر، لا تتحرَّك في مسارٍ إلهي مُحدَّد عَبْر السموات كما افترض السابقون لنيوتن، بل تخضع للقوانين الفيزيائية نفسها التي تخضع لها التفاحة البسيطة، التي ستصبح غدًا نصف ثمرة أسقطَتها الرياح على الأرض لا يهتم أحد بالتقاطها.

تكمن قوة هذه الرؤية الكاشفة في أنها تجعل بالإمكان تطبيق القوانين الفيزيائية التي توصَّلنا إليها في المختبرات من أجل فهم الأجرام في أقاصي الكون. وبذلك تُمكِّننا بصيرة نيوتن من السفر بعقولنا عبر الفضاء الكوني الشاسع الذي لا يمكن إدراكه لنرى ثقبًا أسود هائلًا في مركز مجرَّة بعيدة استقبلَت التلسكوبات الراديوية إشاراتٍ خافتة منها.

وضع نيوتن أسس الفيزياء الفلكية من زاويةٍ أخرى محورية؛ إذ أظهر أنه من الممكن الوصول إلى توقُّعاتٍ كمية دقيقة استنادًا إلى قوانينَ فيزيائية مُحدَّدة على نحوٍ مناسب. وبهذا لم يقتصر دوره على تقديم تفسيرٍ فيزيائي متماسك للملاحظات التي سبق أن أُجريَت، بل إنه «تنبَّأ» أيضًا بنتائج ملاحظات يمكن إجراؤها في المستقبل. وفي سبيل تحقيق ذلك، كان عليه أن يخترع رياضياتٍ جديدة — التفاضل والتكامل المتناهي الصغر — ويستخدم لغتها لتلخيص القوانين الفيزيائية. ومنذ عصر نيوتن، اتخذَت معظم القوانين الفيزيائية شكل المعادلات التفاضلية. تُعرَّف المعادلة التفاضلية الدالة عن طريق تحديد معدَّل تغيرها. وتمثل المعادلة التفاضلية الجوانب العامة لوضعٍ فيزيائي مُعيَّن، بينما تمثل الشروط المبدئية المطلوبة لاسترجاع الدالة الجوانب الخاصة بحدثٍ مُعيَّن. على سبيل المثال، مسار القذيفة المُطلَقة من بندقية يمثِّله حل معادلة نيوتن ، التي تُختصَر عادةً إلى وتربط معدَّل تغيير السرعة ( ) (التسارع) بالقوة ( ) المؤثِّرة. تنطبق معادلة نيوتن على جميع القذائف وكل التفَّاحات المتساقطة، وعلى القمر. إنها معادلةٌ عامة. تختلف مسارات القمر، والقذائف، والتفَّاحات بسبب اختلاف شروطها المبدئية؛ إذ يبدأ القمر بعيدًا عن مركز الأرض ويتحرك بسرعة فائقة، بينما تبدأ القذيفة من سطح الأرض وتتحرك ببطء أكثر، وتبدأ التفاحة أيضًا بالقرب من سطح الأرض، ولكنها تكون في البداية في حالة سكون. تعطي هذه الشروط المبدئية المختلفة، عند تطبيقها على معادلةٍ واحدة شاملة، ثلاثة مساراتٍ مختلفة تمامًا. بهذه الطريقة، أصبحَت الرياضيات التي اخترعها نيوتن وسيلة لتحديد القواسم المشتركة بين الأحداث المختلفة، وما يميز بعضها عن بعض.

حتمية الترابط

كان جيمس كليرك ماكسويل، الابن الوحيد لمحامٍ ثريٍّ من إدنبرة، يتمتع بموهبةٍ كبيرة في الرياضيات والفيزياء منذ صغره، وقد قدَّم إسهاماتٍ رئيسية في نظرية الغازات والحرارة وديناميكا حلقات زحل، ولكن إنجازه الأعظم تمثَّل في توسيع قوانين الكهرومغناطيسية باستخدام التفكير النظري البحت. تصوَّر ماكسويل تجربة تشمل دائرة كهربائية يمُر بها تيارٌ متردد، وتحتوي على مكثف، وهو جهاز يتكون من لوحَين معدنيَّين تفصل بينهما طبقةٌ رقيقة من مادةٍ عازلة، ربما تكون في بعض الأحيان طبقةً فراغية. يتدفَّق التيار إلى أحد اللوحَين، فيُكسبه شحنةً موجبة، ويخرج من اللوح الآخر، شاحنًا إياه بشحنةٍ سالبة. طبَّق ماكسويل على هذه الدائرة قواعد حساب المجال المغناطيسي المتولد من الدائرة، التي وضعها أندريه-ماري أمبير. في عام ١٨٦٥، أظهر أن هذه القواعد تعطي نتائجَ مختلفة تمامًا بناءً على طريقة تطبيقها، ما لم يكن هناك تيارٌ يمُر بين لوحَي المكثف عَبْر المادة العازلة. قاده هذا الاكتشاف إلى فرضية مفادها أن المجال الكهربائي المتغير زمنيًّا يُولِّد «تيار الإزاحة». رياضيًّا، شكَّل تيار الإزاحة المُفترض حدًّا إضافيًّا في المعادلة التفاضلية التي تربط التيار الاصطلاحي بالمجال المغناطيسي الذي يُولِّده.

كانت النتيجة المذهلة للحد الإضافي في المعادلة أنه أتاح للمجالات الكهربائية والمغناطيسية أن يدعم كلٌّ منهما الآخَر دون الحاجة إلى وجود شحنات؛ فحتى ذلك الحين، كان المجال الكهربائي هو ما يحيط بجسمٍ مشحون، والمجال المغناطيسي هو ما يحيط بسلك يحمل تيارًا. لكن مع الحد الإضافي، أنتج المجال الكهربائي المتغير زمنيًّا مجالًا مغناطيسيًّا متغيرًا زمنيًّا، وكان مايكل فاراداي قد أثبت بالفعل أن مثل هذا المجال المغناطيسي يُولِّد مجالًا كهربائيًّا متغيرًا زمنيًّا. ومن ثَم، أصبح المجال المغناطيسي يُعيد توليد المجال الكهربائي الأصلي دون حاجة إلى وجود شحنات! هل يمكن أن يكون هذا الاستنتاج المذهل صحيحًا، أم أن الحد الإضافي في المعادلة كان خطأً غبيًّا؟

استطاع ماكسويل حساب سرعة انتشار التذبذبات المترابطة للمجالات الكهربائية والمغناطيسية في الفضاء الفارغ، ووجد أن هذه السرعة تتوافق، في حدود أخطاء القياس، مع سرعة الضوء المَقيسة. استنتج ماكسويل أن الحد الإضافي كان صحيحًا وأن الضوء كان في جوهره تذبذبات مترابطة ومتجددة بين المجالات الكهربائية والمغناطيسية. وبالنظر إلى أن الطول الموجي للضوء كان معروفًا بكونه قصيرًا للغاية (حوالي ٠٫٠٠٠٥ملم)، فإن تردُّد التذبذبات يجب أن يكون مرتفعًا للغاية. أما التذبذبات ذات التردُّدات المنخفضة، فترتبط بموجاتٍ ذات أطوالٍ موجية أطول. في عام ١٨٨٦، تمكَّن هاينريش هيرتز من توليد هذه الموجات «الراديوية» واستشعارها.

بهذا، قدَّم ماكسويل تفسيرًا جديدًا لظاهرة قديمة، وهي الضوء، وتنبأ بظاهرة جديدة كليًّا من خلال تطبيق قوانين الفيزياء التقليدية في تجربة فكرية، كما رأى أن القوانين تحتاج إلى تعديل لضمان «اتساق النظرية». كانت هذه خطوةً رائدة في مسار العلم.

إلى أبد الآبدين

نحن نعتقد أن قوانين الفيزياء لطالما كانت صحيحة دائمًا؛ فلدينا أدلةٌ قوية على أنها أصبحَت صحيحة بعد دقيقة واحدة تقريبًا من بداية الكون قبل ١٣٫٨ جيجا (مليار) سنة مضت. وظلَّت صحيحة مع تطور الكون من كرة نارية متفجرة مرورًا بعصر بارد ومُظلِم إلى نشأة النجوم والمجرَّات الأولى، التي تُدرَس الآن بواسطة التلسكوبات الضخمة. ولا تزال صحيحة حتى وقتنا هذا.

على الرغم من أن قوانين الفيزياء ظلَّت ثابتة على مدار ١٣٫٨ جيجا سنة، فقد تغير الكون بشكلٍ يفوق التصوُّر. وهنا نجد مرةً أخرى التمييز النيوتني بين قوانين الفيزياء الذي يتجسَّد في المعادلات التفاضلية، التي تظلُّ دائمًا صحيحةً في كل مكان وزمان، وبين الظواهر التي تَصِفُها هذه القوانين، والتي يمكن أن تتغير تمامًا بسبب التغير الجذري في الشروط المبدئية التي تُحل المعادلات بناءً عليها.

بما أن قوانين الفيزياء صالحةٌ في كل جزء من أجزاء الكون، فبمقدورنا السفر في أذهاننا إلى المجرَّات البعيدة. ولأن قوانين الفيزياء صالحة في كل الأوقات، فيمكننا السفر في أذهاننا إلى بداية كل شيء. فالطابع الشامل والأبدي لقوانين الفيزياء يجعل بمقدورنا أن نصبح، في خيالنا، مسافرين عَبْر الزمكان.

الفيزياء الفلكية هي تطبيقُ قوانين الفيزياء على كل ما يقع خارج كوكبنا. ولذا، فإن هذا العلم وليد العلوم الأخرى، لكنه يتفوَّق عليها جميعًا في نطاقه.

في البدء كانت الكلمة

الكون زائل، بينما قوانين الفيزياء أبدية. فقد كانت موجودةً قبل بداية الكون، وهي التي شكَّلَت بنيته. لا يمكن أن تُجرى تجربة بعينها بالطريقة نفسها دومًا، لأن العالم الواقعي يتغيَّر باستمرار. فاليوم أبرَدُ من الأمس، وهذه الحقيقة ستُؤثِّر في سير التجربة إلى حدٍّ ما. المجال المغناطيسي للأرض يُغيِّر اتجاهه باستمرار، وهذا سيُؤثِّر في التجربة بكيفيةٍ ما. الشمس تكبر في العمر وتزداد سطوعًا، والقمر يبتعد عن كوكب الأرض، وهذه الحقائق ستُؤثِّر على التجربة بطريقةٍ ما. في العالم الحقيقي لا شيء يبقى على حاله، ولكن في عالم عقل الفيزيائي هناك قوانين تمثل حقائق أبدية، لا تتغير أبدًا. هذا الثبات ليس وليد الصدفة وليس خداعًا؛ بل هو اختيارٌ مُتعمَّد. فالفيزيائي لا يشعر أنه استوعب ظاهرةً ما تمامًا إلا إذا أرجعها إلى قانونٍ أبدي لا يتغير.

إذا قمنا بجمع كل مُعدَّاتنا وشحنها إلى بلدٍ آخَر، إلى دائرة عرض أخرى، فستُجرى التجربة على نحوٍ مختلف، إلى حدٍّ ما؛ لأن المجال المغناطيسي للأرض سيكون مختلفًا في الموقع الجديد، ولأن مجال الجاذبية الأرضية سيكون مختلفًا، ولأن الموقع الجديد سيكون أكثر حرارةً أو أكثر برودة، ولأن فيض الأشعة الكونية في المختبر سيكون مختلفًا. ولكن قوانين الفيزياء ستبقى هي ذاتها بالقَدْر نفسه من الدقة. مرَّةً أخرى، ثبات قوانين الفيزياء هنا وهناك وفي كل مكان هو اختيارٌ متعمَّد؛ لأننا لن نهدأ حتى نستطيع أن نعزوَ أي اختلاف في كيفية سير التجربة في الموقع الجديد، مقارنةً بالموقع القديم، إلى اختلاف في الظروف التي تؤثِّر في الحل، الذي نحتاج إليه لتلك القوانين الفيزيائية الثابتة والشاملة.

هذا الإصرار على تفسير الظواهر، استنادًا إلى قوانينَ ثابتة في كل مكان وزمان، لا يمكنه فقط أن يجعل بالإمكان السفر عَبْر الزمان والمكان في الكون والعودة إلى أبعد الأزمنة. بل يزوِّدنا أيضًا بثلاثة أسلحةٍ قوية لنأخذها معنا في رحلاتنا. تُسمى هذه الأسلحة الطاقة، والزخم، والزخم الزاوي.

في عام ١٩١٥، أثبتَت إيمي نويثر نتيجةً حاسمة. وهي أنه إذا ظلَّت القوانين التي تحكم ديناميكا نظامٍ ما ثابتةً عند نقل النظام أو تدويره، فإنه أثناء حركته أو دورانه ثمَّة كمية يمكن حسابها من موقعه وسرعتِه الحاليَّين ستبقى ثابتة. ونقول إن للنظام «كمية محفوظة». الكمية المحفوظة الناتجة عن ثبات القوانين في كل مكان هي الزخم، والكمية المحفوظة الناتجة عن عدم تأثر النظام باتجاهه، سواء كان من الشرق إلى الغرب، أو من الشمال إلى الجنوب، أو أي اتجاه آخَر، هي الزخم الزاوي. وامتدادًا لنظرية نويثر، إذا بقيَت الديناميكا ثابتةً على مَرِّ الزمن، فإن هناك كميةً محفوظة أخرى وهي الطاقة. وهكذا، فإن الطبيعة الشاملة والأبدية لقوانين الفيزياء تؤدي إلى ظهور ثلاث كمياتٍ محفوظة مهمة، وهي الزخم، والزخم الزاوي، والطاقة. يساعد ثبات هذه الكميات كثيرًا عندما نحاول فهم نظامٍ ربما يكون بعيدًا جدًّا أو في الماضي السحيق.

في عام ١٩٣٠، اقترح فولفجانج باولي وجود جُسيماتٍ أطلق عليها اسم «النيوترونات» تحمل الزخم والطاقة بعيدًا أثناء التفاعلات النووية. جاءت فرضيتُه هذه ردَّ فعلٍ على أدلةٍ تجريبية أظهرَت بوضوحٍ عدم حفظ الطاقة والزخم. ومن ثَم اقترح وجود جُسيماتٍ غير مرئية تضمن حفظ الطاقة والزخم. لسنواتٍ طويلة، كانت النيوترونات مجرد فرضية، حتى رُصدَت أخيرًا عام ١٩٥٦. ويصعُب رصدُها لأن مقاطعها العرضية صغيرة جدًّا، نحو م٢، على أن تتفاعل مع أي شيء. في لغة الفيزياء الكلاسيكية، هذا يعني أن النيوترينو سيتصادم مع جُسيمٍ آخَر فقط إذا مَرَّ على مسافةٍ قريبة تصل إلى نحو م = م من مركز ذلك الجُسيم، وهي مسافة أصغر ﺑ ١٠٠ مليون مرة من حجم البروتون. في الواقع، تجعل ميكانيكا الكم تحديد موقع الجُسيمات بدقةٍ كبيرة أمرًا غير ذي معنًى؛ لذا فإن الدلالة الحقيقية للمقاطع العرضية الصغيرة جدًّا للنيوترونات هي أن احتمالية تفاعلها ضئيلة للغاية. ومع ذلك، تلعب النيوترونات دورًا مهمًّا في تشكيل بِنية الكون.

ما يحدث في السماء أكثر مما يحدث على الأرض

بدأت قصتُنا مع نيوتن الذي جعل القمر جزءًا من الأرض بإخضاعه لقوانين الديناميكا العادية. في ثلاثينيات القرن العشرين، أعاد الفلكي السويسري الغريب الأطوار فريتس زفيكي التركيز على السماء إلى حدٍّ ما بقوله إنه «إذا كان شيءٌ ما يمكن حدوثه، فسيحدث». أي إن «أي شيء» يمكن حدوثه وفقًا لقوانين الفيزياء سيحدث في مكانٍ ما في الكون، وبالأدوات الصحيحة وبقليل من الحظ يمكننا أن «نرى» حدوثه. يشير مبدأ زفيكي إلى أنه من المثمر التفكير بجدية في مسألة ما إذا كانت الأجسام الغريبة والأحداث الغريبة ممكنة من حيث المبدأ. إذا كانت معرفتك بالفيزياء جيدة، فستتمكن من حساب الكيفية التي ستبدو عليها الظواهر المرصودة لهذه الأجسام أو الأحداث، وربما حتى يمكنك تقدير مدى تكرارها. ثم يمكنك تشجيع الراصدين على البحث عن هذه الأحداث.

المثال الكلاسيكي لهذا النهج هو تحديد النجوم القزمة البيضاء. في عام ١٩٣٠، قام سبرامنين شاندراسيخار برحلة طويلة من بومباي إلى ساوثهامبتون للعمل في جامعة كامبريدج. خلال الرحلة، تساءل عن كيفية تأثير ميكانيكا الكم الجديدة والمثيرة للجدل حينها في النجوم. وأثبت أن نجمًا، مثل الشمس، عندما ينفَد وقوده، سيبرد وينكمش إلى حجمٍ صغير للغاية — ستتقلَّص الشمس في ذلك الوقت إلى حجم الأرض — وأن الضغط الذي يحافظ على هذا الجِرم الثقيل للغاية من الانهيار تحت قوة الجاذبية الشديدة هو تجسيدٌ واضح لمبادئ ميكانيكا الكم؛ فعلى الرغم من أن النجم سيكون باردًا، فإن إلكتروناته ستتحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء؛ لأن عدم تحركها بهذه السرعة سيجعل أقلَّها طاقةً يخرق مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج، الذي يتطلب أن يكون للإلكترون ذي الموقع المُحدَّد إلى حدٍّ كبير زخمٌ غير مؤكَّد للغاية. علاوةً على ذلك، يمنع مبدأ استبعاد باولي شغل إلكترونَين للحالة الكَمِّية نفسها؛ لذا يتعين على معظم الإلكترونات شغل حالات طاقة عالية؛ لأن الحالات التي تتجنب التعارض مع مبدأ هايزنبرج مشغولة بالكامل.

عندما وصل شاندراسيخار إلى كامبريدج متحمسًا لنظريته الرائعة، شعر بصدمةٍ كبيرة عندما رفضَتها الشخصية البارزة في علم الفيزياء الفلكية، البريطاني السير آرثر إدنجتون، معتبرًا إياها هُراءً. لم يقبل إدنجتون مبدأ زفيكي، ولم يقبل أن فيزياء الكم، تلك النظرية الغامضة التي وُضعَت لشرح (إلى حدٍّ ما ولكن بطريقةٍ غير مُتقَنة) سلوك الذرات، تنطبق على النجوم بأكملها. لكن شاندراسيخار كان على حق، وهناك عددٌ كبير من هذه النجوم الباردة الفائقة الكثافة بالقرب من الشمس، التي تُحافظ على استقرارها بفضل تأثيرٍ فيزيائي يعتمد بالكامل على ميكانيكا الكم.

في الفصلَين الثالث والثامن، سنتناول أمثلةً أخرى على التنبؤات الناجحة بأشياء مدهشة أمكن الوصول إليها باستخدام الفيزياء بطريقةٍ إبداعية. يتحقَّق مبدأ زفيكي لأن الكون شديد الضخامة والتنوُّع، لدرجة أن الطبيعة مرَّت بعددٍ هائل من الظروف التي يمكن أن تنشأ فيها ظواهرُ مختلفة. كوكبنا مكانٌ مثير للاهتمام، لكنه محدود، وإذا كنتَ تريد فهم العالم المادي، فإن عليك في بعض الأحيان أن تنظر بعيدًا عنه إلى السماء.

ملاحظة عن الوحدات

تناسب الوحدات العلمية القياسية، الكيلوجرامات، الأمتار، الثواني … إلخ، تجارب الحياة اليومية، ولكن استخدامها في الفيزياء الفلكية يتطلب أرقامًا كبيرةً جدًّا. فبالنسبة إلينا، وحدة الكتلة الأكثر ملاءمة هي الكتلة الشمسية ( )، وتساوي ٢٫٠٠ × ١٠٣٠كجم، حيث ١٠٣٠ هي اختصار لواحد يليه ٣٠ صفرًا.
عند النظر في الأنظمة الكوكبية، تكون وحدة الطول الأكثر ملاءمةً هي الوحدة الفلكية (AU)، وهي متوسط المسافة بين الأرض والشمس؛ فالوحدة الفلكية الواحدة تساوي ١٫٥٠ × ١٠١١ أمتار؛ أي ١٥٠ مليون كيلومتر. على مقياس المجرَّة أو الكون، فإنه حتى الوحدة الفلكية تُعد صغيرةً جدًّا على أن تكون وحدةً عملية، ووحدة المسافة هي الفرسخ الفلكي، وهو المسافة التي يظهر فيها النجم الثابت بالنسبة إلى الشمس، عند رصده من الأرض، يتحرك في السماء بمقدار ثانيةٍ قوسية كل ربع سنة (الشكل ١-١). باستخدام حساب المثلثات، نجد أن الفرسخ الواحد يساوي ٢٫٠٦ × ١٠٥ وحدات فلكية = ٣٫٠٩ × ١٠١٦م. تقع النجوم الأقرب على بُعد فرسخٍ واحد تقريبًا، ويبعد مركز مجرتنا بمقدار ٨٫٣ × ١٠٣ فراسخ = ٨٫٣ كيلوفراسخ (kpc)، وفي المتوسط تُوجد مجرةٌ مضيئةٌ واحدة كمجرتنا في كل ١٠ ميجافراسخ مكعبة (Mpc3) تقريبًا.
fig1
شكل ١-١: الفرسخ الفلكي هو المسافة التي تُشكِّل عندها المسافة بين الأرض والشمس (الوحدة الفلكية الواحدة) زاوية مقدارها ثانية قوسية واحدة (١ / ٣٦٠٠ درجة).
وحدتنا الزمنية المعتادة هي السنة (السنة الواحدة = ٣٫١٦ × ١٠٧ ثوانٍ)، على الرغم من أننا نتعامل عادةً مع مقاييسَ زمنية أطول؛ إذ تتطوَّر النجوم على مدى ملايين أو مليارات السنين. لذا، نكتب غالبًا ميجا سنة Myr للإشارة إلى ملايين السنين أو جيجا سنة Gyr للإشارة إلى مليارات السنين؛ حيث الجيجا سنة الواحدة تساوي ١٠٠٠ ميجا سنة، أي تساوي ١٠٩ سنوات.
ويُعتبر الكيلومتر في الثانية (كم/ث) وحدة ملائمةً للسرعة؛ حيث تدور الأرض حول الشمس بسرعة تبلغ نحو ٣٠كم/ث، وتدور الشمس حول مركز المجرة بسرعة تبلغ نحو ٢٤٠كم/ث. إذا تحرك جسم بسرعة واحد كم/ث، فإنه يقطع تقريبًا مسافة فرسخ في مليون سنة أو كيلوفرسخ في مليار سنة. على سبيل المثال، في مليار سنة، تقطع الشمس مسافةً تُقدَّر بنحو ٢٤٠ كيلوفرسخًا بينما يبلغ طول مدارها حول المجرة ٢ باي ( ) × ٨٫٣ كيلوفراسخ = ٥٢ كيلوفرسخًا، مما يعني أنها تُكمل نحو خمس دورات كل مليار سنة.
أما الوحدة القياسية للقدرة، فهي الواط (W) (وهو تقريبًا معدَّل بذل الشغل عند رفع كيلوجرام واحد لمسافة ٠٫١ متر في الثانية). ووحدة الطاقة الملائمة في الفيزياء الفلكية هي الإضاءة الشمسية ( ) وتساوي ٣٫٨٥ × ١٠٢٦ واط. عادةً ما تفرض شركات المرافق رسومًا على الطاقة باستخدام وحدة الكيلوواط في الساعة، أو ما يعادل ٣٫٠ × ١٠٢٨ من الإضاءة الشمسية في السنة. بينما يُولِّد انفجارٌ لمستعرٍ أعظم (انظر الفصل الثالث) في الغاز البينجمي المحيط طاقةً مقدارها نحو ٨٫٢ × ١٠٩ من الإضاءة الشمسية في السنة.
على الرغم من أن الإضاءة الشمسية في السنة هي الوحدة الملائمة لطاقة الأجرام الفلكية، فهي لا تناسب الذرات على الإطلاق. عند دراسة الذرات والجُسيمات دون الذرية، فإن الوحدة الملائمة للطاقة هي الفولت الإلكتروني (eV). الفولت الإلكتروني هو الطاقة المطلوبة لتحريك إلكترون عَبْر فرق جهد مقداره واحد فولت وهو ما يعادل من الإضاءة الشمسية في السنة تقريبًا. وتحمل الفوتونات التي تستَشعرُها أعيُنُنا طاقةً تصل إلى نحو فولتَين إلكترونيَّين لكل فوتون، مما يعني أن الشمس تبعث نحو ١٠٥٣ فوتونات خلال السنة الواحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥