الفصل الثالث

النجوم

حتى يومنا هذا، تُعتبر التلسكوبات التي تجمع الفوتونات المرئية أو الفوتونات ذات الأطوال الموجية الأطول قليلًا (فوتونات الأشعة تحت الحمراء) أهم أدواتنا لاستكشاف الكون. في هذه الأطوال الموجية، تهيمن النجوم تمامًا على سماء الليل. نرصد نحو مليار نجم كلٌّ على حدة، كنقاطِ ضوءٍ صغيرة غير محدَّدة، ومليار مليار نجمٍ آخر كنقاطٍ مساهمة في الضوء الصادر من المجرَّات البعيدة جدًّا، لدرجة أنه لا يمكننا تمييز النجوم المنفردة في تلك التجمُّعات النجمية الضخمة التي تُشكل المجرَّات.

لذلك، فإن معظم معرفتنا بالكون مستمدة من دراسة النجوم، وكان أحد أهم إنجازات العلم في القرن العشرين هو فهم كيفية آلية عمل النجوم، وفهم دورات حياتها من نشوئها إلى فنائها.

تكوُّن النجوم

تتشكل النجوم عندما يحدث انفلاتٌ في الكثافة المركزية لسحابة من الغاز البينجمي كما تناولنا في نهاية الفصل الثاني. بعد زيادة الكثافة بمعاملٍ ضخم، بنحو مليون مليون (١٠١٢)، تبدأ الفوتونات التي تنبعث من الذرات والجُزيئات في مواجهة صعوبة في الهروب من السحابة؛ لأن جُزيئات وحُبيبات الغبار تشتِّتها بعد قطع مسافةٍ قصيرة فقط داخل الكتلة الكثيفة من الغاز والغبار. فعندما تضخُّ الهواء في إطارات دراجتك، تسخن المضخة بسبب الشغل الذي تبذله لضغط الهواء بداخلها. بالمثل، عندما تضغط الجاذبية غاز سحابةٍ متقلصة، يُبذَل شغل على الغاز وسيسخن الغاز إذا لم يتمكن من إشعاع الطاقة المكتسبة حديثًا. وبمجرد أن يصبح من الصعب على الفوتونات الهروب من السحابة، لا يمكن إشعاع الشغل المبذول في الضغط في الوقت المناسب، وتبدأ درجة الحرارة في الارتفاع. ولكن حتى مع ارتفاع درجة الحرارة والضغط في مركز السحابة، تزداد قوة الجاذبية المدمرة أيضًا مع سقوط المزيد والمزيد من الغاز في لُب السحابة. والنتيجة هي فترةٌ طويلة من ارتفاع درجة الحرارة والكثافة المركزية. إذا كانت السحابة ضخمةً بما فيه الكفاية، فإن درجة الحرارة والكثافة تكونان في النهاية كافيتَين لإشعال «الاحتراق النووي»؛ أي إطلاق الطاقة عن طريق تحويل الهيدروجين إلى هيليوم، ثم نوَى الهيليوم إلى نوًى أثقلَ مثل الكربون، والسيليكون، والحديد. وسنناقش الاحتراق النووي فيما يلي.

عندما تتعرض سحابةٌ بينجمية لانفلاتٍ زائد في الكثافة، فإنها لا تشكِّل نجمًا واحدًا بل مجموعة كاملة من النجوم. لا نفهم بالضبط كيف يحدث هذا التجزؤ، ولكنها حقيقةٌ تجريبية مهمة. داخل السحابة البينجمية المُشوَّهة، تظهر عدة مناطق ذات انفلات في الكثافة، كلٌّ منها يمكن أن يصبح بذرة لنجمٍ جديد. تختلف معدلات تراكُم الكتلة لهذه البذور اختلافًا كبيرًا، مما يؤدي إلى ظهور عددٍ قليل من النجوم الضخمة، وعددٍ كبير من النجوم المنخفضة الكتلة. تصل كتلة النجوم الأكثر ضخامة إلى نحو ٨٠ كتلةً شمسية، بينما تنخفض كتل نجومٍ أخرى إلى أقل من ٠٫٠١ كتلة شمسية تقريبًا، وهي كتلة يكون عندها النجم خافتًا جدًّا؛ بحيث لا يمكن رصده في أي مرحلة من مراحل حياته.

وبالنظر إلى أن السحابة الأصلية كانت كتلةً متقلبة ومتداخلة من الغاز، تتحرك البذور فيصبح موضع كلٍّ منها متغيرًا بالنسبة إلى الأخرى. أحد مظاهر هذه الحركة هو أن إحدى البذور ستعترض طريق الغاز الساقط في بذرةٍ أخرى، مما يزيد من نموها ويمنع نمو البذرة المجاورة. ومن مظاهر الحركة النسبية الأخرى أن البذور غالبًا ما تدخل في مدارٍ حول بعضها لتُشكِّل ثنائية نجمية.

في أماكنَ أخرى، تدخل مجموعاتٌ كاملة من البذور في مدارات حول بعضها لتُشكِّل عنقودًا من النجوم المترابطة بفعل الجاذبية. ولكننا سنرى في الفصل السابع تحت عنوان «انحراف بطيء» أن العناقيد النجمية الصغيرة ليست مستقرة، وتميل إلى التطور إلى نظام ثنائية وسلسلة من النجوم الفردية.

مع تزايد كتلة البذور وبدء تشكُّلها كنجوم، تزداد أهمية إنتاجها من الطاقة النووية أكثر فأكثر للغاز في المناطق ذات الكثافة المنخفضة من السحابة الأصلية. وتبدأ النجوم الأكبر كتلةً في إشعاع الفوتونات فوق البنفسجية، التي تُسخِّن الغاز المنخفض الكثافة كما رأينا في الفصل الثاني. في الفصل الرابع، سنرى أن النجوم الشابة محاطةٌ بأجسامٍ من الغاز المداري يُطلَق عليها الأقراص التراكمية، وأن هذه الأقراص تطرد نفاثاتٍ من الغاز على طول محاور دورانها. تصطدم هذه النفاثات بالغاز المنتشر في الجوار وتُسخِّنه. نتيجةَ كل هذا النشاط للنجوم الشابة، يحدث أنه بعد فترةٍ قصيرة من انفلات الكثافة في مواقعَ محدَّدة من السحابة، يُسخَّن معظم الغاز في السحابة ويُدفَع بعيدًا. ومن ثَم، من سحابة تحتوي على ١٠٤ كتلات شمسية من الغاز، على سبيل المثال، لن يتشكَّل سوى نحو ١٠٠ كتلة شمسية من النجوم. تتيح «كفاءة تكوين النجوم» المنخفضة هذه للمجرَّات مثل مجرَّتنا استمرار تشكيل النجوم بمعدلٍ ثابت تقريبًا طوال عمر الكون؛ لأنها تعني معدلًا منخفضًا لتحويل الغاز بين النجوم إلى نجوم.

الاندماج النووي

تتألف الذرات من نواةٍ صغيرةٍ موجبة الشحنة محاطة بإلكترون أو أكثر يتحرَّك في مدارات تبعد نحو متر عن النواة. تحتوي النواة على معظم كتلة الذرة رغم أن قطرها لا يتجاوز متر. عندما تتصادم ذرتان، تتشوَّه مدارات الإلكترونات بحيث يتغير توزيع الشحنة السالبة المحيطة بكل نواة، وتتأثر النوى بقوًى كهروستاتيكية تحرفُها عن مساراتها المستقيمة الأصلية. النتيجة هي أنه حتى تصادم الذرتَين مباشرة من غير المُرجَّح أن يؤدي إلى تصادم النوى أنفسها؛ لأن سرعاتها ستعكسها القوى الكهروستاتيكية قبل أن تُتاح للنوى فرصة الالتقاء. نوعًا ما، تُوفِّر إلكترونات الذرة تغليفًا متطورًا مضادًّا للصدمات للنواة، يحمي النواة بعناية في جميع الاصطدامات، باستثناء أكثرها شدة.

مع ارتفاع درجة الحرارة في مركز النجم قيد التكوُّن، تتحرك الذرات بسرعة أكبر وأكبر، ويزداد عنف اصطداماتها باستمرار. تُنزَع الإلكترونات تمامًا خارج الذرات، فتصبح المزيد والمزيد من النوى عارية. لا يزال من غير المُرجَّح أن تتصادم النوى في اتصالٍ مادي لأنها، كأجسام موجبة الشحنة، تتنافر كهروستاتيكيًّا. ولكن في النهاية تصبح الاصطدامات عنيفةً لدرجة أن بعض النوى المتصادمة تتلامس فعليًّا. وهنا تبدأ التفاعلات النووية في الحدوث.

تُطلِق التفاعلات النووية طاقةً أكبر بمليون مرة من التفاعلات الكيميائية التي تُزوِّد أجسامنا وسياراتنا بالطاقة. لذا فإن إطلاق الطاقة من خلال التفاعلات النووية في لُب السحابة هو بمثابة نقطة تحول. فسرعان ما تستقر الكثافة عند القيمة التي تطلق عندها التفاعلات النووية الطاقة بمعدَّل يساوي تمامًا معدَّل تسرُّب الحرارة نحو الخارج عَبْر الغِلاف الغازي الضخم؛ فإذا كان معدل إطلاق الطاقة أقل بقليل من معدل تسرُّبها، ينخفض الضغط المركزي، وينهار لُب السحابة، وترتفع درجة الحرارة والكثافة، ويزداد معدل التفاعلات النووية. وفي المقابل، إذا كانت التفاعلات النووية تطلق الطاقة بسرعة أكبر من قدرتها على التسرب، يرتفع الضغط المركزي، ويتمدد لُب السحابة، وتنخفض درجة الحرارة وكذلك معدل التفاعل النووي. وهكذا، يوفر إطلاق الطاقة النووية آلية استقرار ذاتية للنجم.

الكتل النجمية الرئيسية

يستقر الآن النجم الذي تزيد كتلته على ٠٫٠٨ كتلة شمسية في مرحلة الاحتراق النووي. فالنجوم التي تزيد كتلتها على ٠٫٠٨ كتلة شمسية ولكنها أقل من نحو ٠٫٥ كتلة شمسية تحرق الهيدروجين محولةً إياه إلى الهيليوم ولكن لا يمكنها إشعال الهيليوم. أما النجوم ذات الكتلة الأولية في النطاق من ٠٫٥ إلى ٨ كتلة شمسية، فتحرق الهيدروجين ثم الهيليوم، ولكن لا يمكنها إشعال الكربون. والنجوم ذات الكتلة الأولية التي تزيد على ٨ كتل شمسية ولكنها أقل من ٥٠ كتلة شمسية تقريبًا، فتحرق الكربون محولةً إياه إلى سيليكون ثم تحوِّل السيليكون إلى الحديد. نوَى الحديد هي الأكثر ترابطًا؛ لذا لا يمكن الحصول على الطاقة عن طريق تحويل الحديد إلى أي عنصرٍ آخَر؛ حيث تشكِّل نوَى الحديد الرماد النووي.

تصبح النجوم التي تزيد كتلتها على ٥٠ كتلةً شمسيةً غير مستقرة وتنفجر قبل أن تصل إلى مرحلة حرق السيليكون. نعلم أنها تصبح غير مستقرة، ولكننا لسنا متأكدين من النتائج النهائية لعدم الاستقرار هذا. نعتقد أن معظم كتلة النجم تنطلق إلى الفضاء بين النجوم، ولا تترك سوى ثقبٍ أسود كدليل على وجود النجم يومًا ما.

تصبح النجوم ذات الكتلة الأولية الأقل من ٠٫٠٨ كتلة شمسية ساخنة بما يكفي لحرق الديتيريوم وتحوله إلى هيليوم. الديتيريوم هو نظير للهيدروجين حيث تتألف نواته من بروتون مرتبط بنيوترون وليس من بروتون حر. نشأ الديتيريوم مثل الهيدروجين في الانفجار العظيم وتستَنفِدُه النجوم. إنه أقل وفرةً بنحو مرة من الهيدروجين العادي؛ لذا فإن النجم لا يستغرق وقتًا طويلًا لاستنفاد هذا الوقود. يُطلق على الجِرم الذي لا يحرق سوى الديتيريوم اسم القزم البني. عندما يُستهلك الديتيريوم، سيبرد الجِرم ليصبح قزمًا أسودَ يكاد يكون غير مرئي.
fig3
شكل ٣-١: الإضاءة موضحة عموديًّا بوحدات الإضاءة الشمسية كدالة لدرجة حرارة السطح المؤثِّرة (أو الفعَّالة) بالكلفن للنجوم ذات الكتل الأولية المختلفة. يُظهِر العدد الكبير عند الطرف الأيسر من كل منحنًى كتلة النجم بوحدات الكتلة الشمسية. بينما في النسق الأساسي، يوجد النجم بالقرب من النقطة الموجودة عند الطرف الأيسر من منحناه. وينتقل بعيدًا عن هذه النقطة عندما يكون قد حوَّل معظم الهيدروجين في لُبه إلى هيليوم.
المرحلة الرئيسية في حياة النجم الذي تزيد كتلته على ٠٫٠٨ كتلة شمسية هي احتراق الهيدروجين في لُبه. بما أن ثلاثة أرباع السحابة البينجمية الأصلية تألفَت من الهيدروجين، فإن هناك الكثير من الوقود للاحتراق في هذه المرحلة، بالإضافة إلى أن حرق الهيدروجين يطلق طاقةً أكبر لكل نيوكليون (نيوترون أو بروتون) مقارنةً بأي وقودٍ نووي آخَر. لقد كانت الشمس تحرق الهيدروجين في لُبها لمدة ٤٫٦ مليارات سنة، ولا تزال في منتصف العملية. لأسبابٍ ستصبح واضحة عندما نتناول العناقيد النجمية في الفصل الثالث، نسمِّي النجم الذي يحرق الهيدروجين في لُبه نجمًا من «النسق الأساسي» (الشكل ٣-١).
كلما كان النجم أكبر كتلة، استنفد مخزون الهيدروجين في لُبه أسرع، وكان عمره في النسق الأساسي أقصر. النجوم الضخمة مُفرِطة الاستهلاك؛ فكلما زاد مخزون الوقود لديها عند نشأتها، أفلسَت أسرع بسبب استهلاكها لذلك الوقود. يوضح الشكل ٣-١ هذه الحقيقة من خلال إظهار إضاءات النجوم ذات الكتل المختلفة كدالة لدرجة حرارة السطح. خلال مرحلة النجم في النسق الأساسي، يتحرك بين النقطة الممثلة بالنقطة على الطرف الأيسر من منحناه في هذا الرسم البياني والنقطة الواقعة على المنحنى المُميَّزة بالعدد ٢. يمثل العدد الكبير كتلة النجم بالكتل الشمسية. التدرج العمودي لوغاريتمي؛ ومن ثَم هناك عامل مليون في الإضاءة بين نقاط النسق الأساسي للنجوم التي كتلتها ٠٫٦ كتلة شمسية و٢٠ كتلة شمسية. ومن ثَم، بينما سيظل نجم بكتلة ٠٫٦ كتلة شمسية في النسق الأساسي لمدة ٧٨ مليار سنة، ما يقرب من ستة أضعاف عمر الكون، سيبقى نجم بكتلة ٢٠ كتلة شمسية في النسق الأساسي لمدة ٨٫٥ ملايين سنة فقط.
يوضح الشكل ٣-١ حقيقةً أساسيةً أخرى، وهي أن درجة حرارة سطح النجم في النسق الأساسي تزداد مع كتلته. لذلك تكون النجوم الضخمة مضيئة، وساخنة، وذات أعمارٍ قصيرة، بينما تكون النجوم ذات الكتل الصغيرة ضعيفة الإضاءة، وباردة، وذات أعمارٍ طويلة. عندما تسخن قطعة من المعدن بشدة، فإنها تتوهج أولًا باللون الأحمر الباهت، ثم تصبح صفراء وبيضاء، وإذا استطعتَ رفع حرارتها أكثر، فستتوهج باللون الأزرق. لذا فالنجوم الساخنة زرقاء بينما النجوم الباردة حمراء. يُظهِر الشكل ٣-١ أن جميع النجوم الزرقاء كبيرة، وقد رأينا أن النجوم الكبيرة ذات أعمارٍ قصيرة. لذلك فالنجوم الزرقاء هي نجومٌ شابة دائمًا.

يعكس الرابط بين ألوان النجوم ودرجات حرارتها جزءًا مهمًّا في الفيزياء. وذلك أن «الجسم الأسود» يمتص أي فوتون يصدم به ويصدر طيفًا خاصًّا من الإشعاع لا يعتمد إلا فقط على درجة حرارة الجسم وليس على تركيبته. يُطلق على هذا النوع من الإشعاع اسم «إشعاع الجسم الأسود». كتقريبٍ أوَّلي، النجم هو جسمٌ أسود، ويصدر إشعاع الجسم الأسود في درجة حرارة غلافه الضوئي.

الحياة بعد النسق الأساسي

بمجرد استهلاك الهيدروجين في لُب النجم، يحدث احتراق الهيدروجين في غِلافٍ كروي حول لُب الهيليوم وتزداد كتلة اللُّب، وتتقلَّص وتصبح أكثر سخونة. في الشكل ٣-١، يتحرك النجم بسرعة إلى حدٍّ ما من النقطة ٢ إلى النقطة ٦ على مساره، ونرى أنه خلال هذه المرحلة تزداد الإضاءة، بينما تنخفض درجة حرارة السطح. تزداد الإضاءة بشكلٍ أكبر في النجوم المنخفضة الكتلة، ذات الإضاءات المنخفضة في النسق الأساسي، ويزداد الانخفاض في درجة حرارة السطح بشكلٍ أكبر في النجوم الضخمة، ذات درجات الحرارة العالية في النسق الأساسي. في الواقع، تتشابه جميع النجوم التي وصلَت إلى النقطة ٦ على مساراتها في درجة الحرارة، التي تبلغ ألفَي كلفن.

السبب في انخفاض درجة حرارة السطح مع ارتفاع الإضاءة، هو أن الفيض المتزايد للطاقة النووية الناشئ من قشرة الهيدروجين المحترقة ينفخ الغاز المُغلِّف للنجم ليصبح كتلةً غازية منتفخة ومتأرجحة يقل فيها انتقال الطاقة عن طريق انتشار الفوتونات إلى الخارج منه عن طريق الحمل الحراري. الحمل الحراري هو العملية التي يُسخِّن بها المِشعاع الغرف؛ حيث يرتفع الهواء الساخن الملامس للمِشعاع، ويحل محله الهواء الأكثر برودة، الذي ينزل على الأسطح مثل زجاج النوافذ والجدران الخارجية التي تكون شديدة البرودة. تؤدي إعادة هيكلة الغلاف إلى كتلة حِمل منتفخة إلى تكبير الغلاف الضوئي للنجم، وهو المجال الذي يصدر معظم ضوء النجم. يمكن للغلاف الضوئي المنتفخ أن يشع حتى الإضاءة المتزايدة بدرجة حرارة أقل من ذي قبل. بما أن النجوم في مرحلة النسق الأساسي أصغر مما ستصبح عليه بمجرد أن تستنفد الهيدروجين في اللُّب، فإنها يُطلَق عليها اسم «النجوم القزمة»، وسوف تتطور إلى نجوم «عملاقة حمراء».

عند النقطة ٦ في الشكل ٣-١ يشتعل الهيليوم في لُب النجم. في النجوم التي تزيد كتلتُها على اثنين كتلة شمسية تقريبًا، يكون الاشتعال هادئًا، ولكن في النجوم الأقل كتلةً يشتعل الهيليوم إلى حد الانفجار، ويصدر ما يُسمى «وميض الهيليوم». تؤدي الطاقة المنطلقة إلى نبضٍ عنيف في غِلاف النجم ويُقذَف جزءٌ كبير من الغِلاف إلى الفضاء بين النجوم. في النجوم ذات الكتلة الأكبر من اثنين كتلة شمسية، تعمل الآلية التنظيمية الموصوفة سابقًا في هذا الفصل بشكلٍ منتظم ويبدأ احتراق الهيليوم بهدوء. يتسبب بدء احتراق الهيليوم في اللُّب في انخفاض الإضاءة قليلًا ويصبح النجم أزرق قليلًا.

فترة حياة النجم التي يحرق فيها الهيليوم في لُبه بهدوء هي ثاني أطول فترة في حياة النجم بعد فترة النسق الأساسي. النجوم ذات الكتلة الأولية التي تصل إلى ٢٫٥ كتلة شمسية تقضي جميعها تقريبًا ١٣٠ مليون سنة في هذه المرحلة. في الكتل الأكبر، تتناقص هذه الفترة بسرعة مع الكتلة، وبالنسبة إلى نجم بكتلة ٢٠ كتلة شمسية، لا تتعدى ٠٫٦ مليون سنة.

بمجرد احتراق الهيليوم في اللُّب، يتحول إلى غلاف حول اللُّب الكربوني، بينما يستمر احتراق الهيدروجين في غلافٍ خارجي، وسرعان ما تزداد إضاءة النجم. يتضخم غلاف النجم بشكلٍ كبير، وتُطرد أجزاءٌ كبيرة من الغلاف إلى الفضاء البينجمي بسبب عدم الاستقرار المتكرر. خلال هذه الفترة، تفقد هذه النجوم معظم كتلتها الأصلية بفعل رياحٍ قوية ومتزايدة القوة. عندما يتدفَّق الغاز إلى الخارج، يبرد، وتتكثف العناصر التي تشكِّل موادَّ صلبة ذات نقاط انصهار عالية مكوِّنة حُبيباتٍ غبارية، مما يجعل هذه النجوم شبيهةً إلى حدٍّ كبير بمداخن مصانع العصر الفيكتوري.

تتحول معدلات الطرد إلى عملية انفلات؛ لأنه مع انخفاض كتلة النجم، تتناقص قوة الجاذبية التي تستطيع الاحتفاظ بالغاز مقابل ضغط الإشعاع في الغلاف. علاوةً على ذلك، تزداد إضاءة النجم؛ ومن ثَم ضغط الإشعاع مع تناقص كمية الغاز التي تغطي اللُّب الساخن بشكلٍ كبير، ويمكن تشبيه ذلك باختفاء الطبقة العازلة التي تحبس الحرارة داخل المنزل. في النهاية، يرتفع الجزء السفلي من الغلاف؛ حيث كان حرق الهيليوم، ويصبح الغلاف غلافًا متمددًا من الغاز حول النجم الذي يُضيئُه بقوة اللُّب الذي أصبح الآن مكشوفًا. يتأين الغلاف بفعل الفوتونات من اللُّب ويتوهج بشدة، وقد أصبح هذا الجِرم الآن «سديمًا كوكبيًّا» (الشكل ٣-٢).
fig4
شكل ٣-٢: السديم الكوكبي مسييه ٥٧.

في اللُّب، توقفَت التفاعلات النووية، مما يؤدي إلى تبريدها تدريجيًّا. وقد أصبح النجم أحد النجوم القزمة البيضاء التي نجح شاندراسيخار في شرح فيزيائها في أثناء رحلته من بومباي (المذكورة في الفصل الأول).

النجوم التي تزيد كتلتها الأولية على ٨ كتل شمسية تُشعل الكربون وتُحوله إلى سيليكون، ثم تُشعل السيليكون وتُحوله إلى حديد. وبما أن الحديد لا يمكن إحراقه، تُضطَر هذه النجوم إلى الانكماش لتعويض الحرارة المفقودة من اللُّب؛ ومن ثَم إطلاق طاقة الجاذبية. لسوء الحظ، عندما ينكمش جسمٌ ذاتي الجاذبية، ترتفع درجة حرارته المركزية، وهذا الارتفاع في الحرارة سرعان ما يثبت أنه قاتلٌ للنجم؛ إذ يشتعل فجأة ويتحول إلى كُرةٍ نارية، ليصبح مستعرًا أعظم.

أسطح النجوم

تتناقص كثافة الغاز في النجم باستمرارٍ من المركز إلى الخارج، ويكون ذلك تدريجيًّا في البداية ولكن بسرعةٍ متزايدة، على الرغم من أن الكثافة لا تنخفض أبدًا إلى الصفر تمامًا. مع تقلص الكثافة، تزداد المسافة التي يمكن للفوتون المعتاد أن يقطعها قبل أن تُبعثره الذرة أو تمتصه. عند نصف قُطرٍ معيَّن، تصبح هذه المسافة فجأةً مشابهةً للمسافة التي تنخفض فيها الكثافة إلى النصف، ويتمكن العديد من الفوتونات من الهروب من نصف القُطر هذا إلى ما لا نهاية. الخصائص المرصودة للنجم تحددها بشكلٍ كبير الظروف الفيزيائية في الغلاف الكروي لنصف القُطر هذا؛ أي الغلاف الضوئي (الشكل ٣-٣).

تهرب الفوتونات ذات التردُّدات المختلفة من النجم عند أنصاف أقطارٍ تزداد مع ميل الفوتونات للتشتُّت بفعل الإلكترونات الحرة. بعض الفوتونات تمتلك ميلًا غير عادي للتشتُّت؛ لأنها تتناغم مع تذبذبات ذرة أو جُزيء شائع، وتظل هذه الفوتونات محبوسة حتى تصل إلى أنصاف الأقطار الأكبر.

fig5
شكل ٣-٣: الطبقات الخارجية للشمس. يأتي ضوء الشمس من الغلاف الضوئي. وتصل درجة حرارة البلازما الشمسية إلى الحد الأدنى في الجزء السفلي من الغلاف اللوني. في المنطقة الانتقالية، تقفز الحرارة من ١٠ آلاف كلفن تقريبًا إلى أكثر من مليون درجة. يمتد الإكليل الشمسي الشديد السخونة بعيدًا جدًّا، ويمكن رصده بسهولة خلال الكسوف الشمسي الكلي.

لذلك تختلف إضاءة النجم باختلاف الطول الموجي، ويحتوي طيف النجم على خطوط طيفية. يوفر شكل هذه الخطوط معلوماتٍ عن تدرُّجاتٍ نصف قطرية في الكثافة ودرجة الحرارة حول الغلاف الضوئي. لذلك يبذل علماء الفلك جهودًا كبيرة للحصول على أطيافٍ عالية الجودة لعددٍ كبير من النجوم. فغالبًا ما تحدُّ دقة استنتاج كتلة النجم، ونصف قطره، ودرجة حرارته، وتركيبته الكيميائية استنادًا إلى طيفه من قدرتنا على حساب طيف الضوء المنبعث من نجم ذي كتلة ونصف قطر معينَين، وغيرها من الخصائص بالدقة المطلوبة.

الأكاليل النجمية

تنخفض درجة حرارة المادة في الشمس على نحوٍ متواصل من المركز إلى أعلى الغلاف الضوئي — السطح المرئي — حيث تصل إلى نحو ٤٥٠٠ كلفن. ثم، بشكلٍ مذهل، تبدأ في الارتفاع، في البداية ببطء ثم بسرعةٍ فائقة — ففي «المنطقة الانتقالية»، التي لا يتجاوز سُمكها ١٠٠كم، تقفز الحرارة من نحو ١٠ آلاف كلفن إلى أكثر من مليون كلفن (الشكل ٣-٣). وبما أن الحرارة تنتقل دائمًا من المادة الأكثر سخونة إلى المادة الأكثر برودة، فلا بد أن الإكليل هو ما يُسخِّن الشمس، وليس العكس. إذن، ما الذي يُسخِّن الإكليل؟ هل هو الفضاء الخارجي؟

يحمل الحِمل الحراري كثيرًا من الحرارة المتولدة في لُب الشمس في المرحلة الأخيرة من رحلتها إلى السطح. ترتفع فقاعاتٌ من الغاز الساخن من مسافة ٢١٠ ألف كم تحت الغلاف الضوئي، وتستقر فيه وتبرد هناك بإشعاعها إلى الفضاء. وأخيرًا، تعود ليُعاد تسخينُها تحت السطح. على الرغم من أن الحِمل الحراري عمليةٌ رأسية في الأساس، لا يتحرك الغاز في الغِلاف الضوئي أفقيًّا قبل سقوطه. لذا يُحدِث الحِمل الحراري دورانًا غير مستقر للغاز.

الغاز عالي التأيُّن في الشمس مُوصلٌ كهربائي شبه مثالي؛ لأن الإلكترونات الحرة العديدة تتحرك بسهولة استجابةً لأي مجالٍ كهربائي ضئيل. تتماسك خطوط المجال المغناطيسي داخل السائل المُوصل وتتحرك معه، مما يؤدي إلى مغنطة غاز الشمس. لذلك، فإن الاضطرابات العشوائية التي تُحدثها تيارات الحِمل الحراري على سطح الشمس تعمل باستمرار على تمديد وتشابك خطوط المجال المغناطيسي المُدمَجة في الغاز.

تعمل خطوط المجال المغناطيسي بطريقةٍ مشابهة للأشرطة المطاطية؛ حيث يكون هناك توتُّر على طول خط المجال، وإذا تمدَّد خط المجال بسبب التدفق، يزداد المجال قوة ويزداد التوتر الناتج عنه. في هذه الحالة، يبذل السائل شغلًا على المجال؛ أما إذا انكمش خط المجال، فيبذل المجال شغلًا على السائل.

تتنافر خطوط المجال المغناطيسي المتجاورة التي تسير في الاتجاه نفسه (الشكل ٣-٤). إذا كان المجال المغناطيسي موازيًا للسطح، فإن الضغط الناتج يدفع خطوط المجال القريبة من السطح نحو الأعلى، مبتعدةً عن الخطوط الموجودة في العمق.
fig6
شكل ٣-٤: يكون كل خط من خطوط المجال المغناطيسي تحت توتُّر، ويتنافر مع خطوط المجال المغناطيسي التي تسير في الاتجاه نفسه.
fig7
شكل ٣-٥: تُستنفَد البلازما من قممِ ثلاثٍ من خطوط المجال المغناطيسي المنحنية لأعلى.
fig8
شكل ٣-٦: عندما تتقارب خطوط المجال المغناطيسي التي تتحرك في اتجاهاتٍ متعاكسة، فإن قطاعاتها ذات الاتجاهات المعاكسة يُلغي كلٌّ منها الآخر، مما يؤدي إلى إطلاق الطاقة المغناطيسية واستقرار المجال في نمطٍ جديد يُسمى «إعادة الاتصال».
لا يستطيع الغاز التحرك عَبْر خطوط المجال، ولكنه يستطيع التدفق على طولها، وبمجرد أن يبدأ خط المجال بالانحناء إلى الأعلى، يتدفق الغاز نحو الأسفل مبتعدًا عن قمة الانحناء. يقلل هذا التدفق من الوزن المُلقَى على خطوط المجال المنحنية، ومن ثَم ترتفع أكثر، مما يشجع مزيدًا من الغاز على الانسياب بعيدًا عن القمة، وسرعان ما تبرز حلقةٌ كبيرة من المجال المغناطيسي من سطح الشمس (الشكل ٣-٥). في الوقت نفسه، يتدفق الغاز الكثيف الذي تُغمَر فيه نهايتا الحلقة على سطح الشمس استجابةً لكلٍّ من الحِمل الحراري والدوران المنتظم للشمس، وغالبًا ما تتشابك خطوط المجال التي تُشكِّل الحلقة عندما تتقارب أثناء تحركها في اتجاهاتٍ مختلفة تمامًا. في هذه المرحلة، «يُعاد الاتصال» بالمجال في مكانٍ ما في الإكليل، كما هو مبيَّن في الشكل ٣-٦.
عندما تتصل خطوط المجال، تُستخدَم الطاقة المخزَّنة في المجال المغناطيسي لتسريع الجُسيمات. يصطدم معظم هذه الجُسيمات النشطة بالإلكترونات والأيونات المجاورة، وتفقد طاقتها الزائدة عن طريق تسخين الغاز المجاور. وهكذا، يصبح الغاز في محيط حدث إعادة الاتصال الشديد الحرارة. ومن ثَم، يُحافظ الإكليل على هذه الحرارة العالية بفضل التدفق المستمر للطاقة المغناطيسية من الطبقة المُضطرِبة الموجودة تحت الغلاف الضوئي وعبْر الغلاف اللوني، وهي طبقة من الغاز المنخفض الكثافة يبلغ سُمكها ٢٠٠٠ كيلومتر وتحيط بالغلاف الضوئي (الشكل ٣-٣).

كثيرٌ من الغاز في الإكليل ساخنٌ جدًّا لدرجة لا يمكنه معها البقاء ضمن حدود الجاذبية الشمسية؛ لذلك يتدفق بعيدًا عن الشمس في صورة «رياح شمسية». على بعد نحو ٦٠ ألف كيلومتر من الأرض، تنحرف الرياح بفعل المجال المغناطيسي للأرض. تُسرع الإلكترونات التي اكتسبَت طاقةً هائلة خلال عملية إعادة الاتصال فوق الغلاف الضوئي، وتهربُ إلى الرياح دون فقدانٍ كبير للطاقة، وبعض هذه الجُسيمات تُحتجَز داخل المجال المغناطيسي للأرض. تُشكِّل هذه الجُسيمات أحزمة «فان ألن» الإشعاعية. وتتحرك بسرعةٍ قريبة من سرعة الضوء بين القطبَين المغناطيسيَّين، مما يؤدي إلى إثارة جُزيئات الهواء لتتوهَّج عندما تقترب من سطح الأرض بالقرب من القطب الشمالي، وهذا هو منشأ الشفق القطبي الشمالي.

النجوم المتفجرة

في بعض الأحيان النادرة، يمكن أن تعادل إضاءة نجم واحد لمدة أسبوع أو أسبوعَين إضاءة مجرَّة بأكملها تحتوي على ١٠٠ مليار نجم. يُطلَق على هذا الحدث اسم «المستعر الأعظم». في مجرَّة مثل مجرَّتنا، نتوقع أن يظهر مستعرٌ أعظم تقريبًا كل ٥٠ عامًا، وعلى الرغم من ذلك، كان آخر مستعرٍ أعظم رُصِدَ في مجرَّتنا هو ذلك الذي اكتشفه يوهانس كيبلر عام ١٦٠٤، وعُثِرَ على بقايا لمستعراتٍ عظمى انفجرَت في عامَي ١٦٨٠ و١٨٦٨ تقريبًا، ولكن أحداث ظهورها نفسها لم تُرصَد. في فبراير من عام ١٩٨٧، رُصِدَ مستعرٌ أعظم يُدعى SN1987a في سحابة ماجلان الكبرى، وهي مجرَّة صغيرة تمُر حاليًّا بالقرب الشديد من مجرَّتنا وستبتلعها مجرَّتنا في النهاية. وفَّر هذا الحدث للبشرية أفضل فرصة حتى الآن لرصد مستعرٍ أعظم.

تُعتبر المستعرات العظمى أدواتٍ رئيسية في علم الكونيات؛ لأنها يمكن أن تُرصَد على مسافاتٍ شاسعة. ونتيجةً لذلك، خُصِّصَت مواردُ رصديةٌ كبيرة في السنوات الأخيرة لاكتشاف أعدادٍ كبيرة من المُستعرات العظمى وقياسها.

اتضح أن هناك آليتَين مختلفتَين تمامًا يمكن أن تؤديا إلى تكوُّن المستعر الأعظم.

المستعر الأعظم المنهار اللُّب

في اللُّب ذي الكثافة الهائلة للنجوم التي أحرقَت الكربون إلى سيليكون، يتوفر جزءٌ كبير من الضغط الذي يقاوم الجاذبية بواسطة الإلكترونات، التي تُجبَر، وفقًا لمَبدأَي هايزنبرج وباولي (المذكورَين في الفصل الأول)، على الحركة بسرعةٍ أعلى بكثير مما ستكون عليه عند درجة الحرارة نفسها، ولكن بكثافة أقل. ونتيجةً لذلك، تمتلك هذه الإلكترونات طاقةً حركية كبيرة جدًّا لدرجة أنه قد يصبح أكثر فائدةً لها من ناحية الطاقة أن تُحتجز داخل النواة، مما يؤدي إلى تقليل شحنتها وتحويلها إلى نواة العنصر السابق في الجدول الدوري. تقلِّل كل عملية احتجاز من هذا النوع عدد الإلكترونات التي تُسهِم في الضغط المضاد للجاذبية.

مع انكماش اللُّب، ترتفع درجة حرارتها ويزداد متوسط طاقة الفوتونات في إشعاع الجسم الأسود المحيط (المذكور في هذا الفصل تحت عنوان «الحياة بعد النسق الأساسي»). في النهاية، يحتوي هذا الإشعاع على عددٍ كبير من الفوتونات ذات طاقةٍ كافية لتفتيت النواة الذرية إلى أجزاء (تفككها ضوئيًّا). يُسهِم غاز الفوتونات في اللُّب إسهامًا كبيرًا في الضغط الذي يقاوم الجاذبية، وتقلِّل كل عملية تفكُّك ضوئي الضغط بسحب الطاقة من غاز الفوتونات.

ومن ثَم، يصبح النجم على منحدرٍ زَلِق؛ حيث يزيد الانكماش من درجة الحرارة؛ مما يؤدي إلى احتجاز المزيد من الإلكترونات وتفكُّك المزيد من النوى، وهذا يؤدي حتمًا إلى المزيد من الانكماش. خلال بضعة ملِّي ثوانٍ، يكون اللُّب في حالة سقوطٍ حر، وتصبح الكارثة حتمية.

مع ارتفاع الكثافة المركزية، تتفكك النوى الذرية، التي تشكَّلَت ببطء خلال حياة النجم. تتحول معظم الشظايا إلى نيوترونات. وتبدأ النيوترونات الآن في أداء الدور الذي كانت تؤديه الإلكترونات سابقًا؛ إذ تُسهِم إسهامًا كبيرًا في الضغط عن طريق الحركة بسرعةٍ أعلى بكثير مما ستكون عليه عند درجة الحرارة نفسها وكثافة أقل وفقًا لمبدأَي هايزنبرج وباولي. ونتيجةً لذلك، في مرحلةٍ معيَّنة، يرتفع الضغط داخل اللُّب بسرعة مع الكثافة، ويتوقف اللُّب فجأةً عن الانكماش، أو «يرتد».

تقع معظم كتلة النجم خارج اللُّب المدعوم بالضغط، وتسقط بسرعةٍ كبيرة نحو الداخل. النتيجة الحتمية هي صدمة (الفصل السادس) حيث يجري إيقاف المادة الساقطة وتسخينها بشدة.

تصبح درجة الحرارة والكثافة في هذه المرحلة مرتفعتَين للغاية إلى حد أن التصادمات داخل البلازما التي تتكون من الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات تُنتِج وفرةً من النيوترونات. وبما أن النيوترونات تمتلك قطاعات تصادم صغيرة جدًّا (كما رأينا في الفصل الأول)، فإنها تنتقل لمسافاتٍ كبيرة بين التصادمات حتى في المركز الكثيف للغاية للنجم. ونتيجةً لذلك، تزيد إضاءة اللُّب بشدة بإشعاع النيوترونات بدلًا من الفوتونات، على الرغم من أن النواة تُشع الفوتونات أيضًا، ولكنها تستغرق وقتًا أطول للانتشار للخارج؛ لذا فإن النيوترونات تحمل الطاقة بشكلٍ أسرع. ومن ثَم في هذه المرحلة، يتدفق فيضٌ هائل من النيوترونات عَبْر غلاف النجم، الذي لا يزال معظمه يسقط نحو اللُّب الصغير شبه النقطي. تصطدم نسبةٌ صغيرة من النيوترونات بالنوى الساقطة، وتنقل إليها الطاقة والزخم. يمكن أن تكون هذه التحويلات كافيةً لعكس الحركة الداخلية لمعظم الغلاف، ودفعه إلى الخارج في كُرة نارية هائلة.

قبل أن يتشتَّت الغلاف في الفضاء بين النجوم، يتعرض لفيضٍ مكثف من النيوترونات المنبعثة من اللُّب الغني بالنيوترونات. تمتص النوى الذرية في الغلاف معظم النيوترونات تقريبًا، مما يحوِّلها إلى نوًى أثقل. عادةً ما تكون النواة التي تتكون من امتصاص نيوترون مُشِعَّة جدًّا وتتحلل بسرعة إلى نواةٍ أخرى، غالبًا عن طريق انبعاث إلكترون، ودائمًا مع انبعاث فوتون. ومن ثَم، يصبح التحلل الإشعاعي مصدرًا مهمًّا للحرارة داخل الغلاف المتشتِّت. يمتص بعض النَّوَى عدة نيوترونات على التوالي، ويخضع لعدة تحلُّلاتٍ إشعاعية. تتكون جميع العناصر التي تلي الحديد في الجدول الدوري بهذه الطريقة؛ ومن ثَم فقد تكوَّنَت نَوَى البروم، والفضة، والذهب، واليود، والرصاص، واليورانيوم جميعها في انفجارات المُستعرات العظمى.

مع تمدُّد الكرة النارية، يتضخم الغلاف الضوئي، مما يؤدي إلى زيادة إضاءتها المرئية. في حالة المستعر الأعظم SN1987a، بلغَت الإضاءة المرئية ذروتَها بعد ثلاثة أشهر من انهيار اللُّب، ونعلم توقيت حدوث هذا الانهيار؛ لأننا رصدنا انفجار النيوترونات الذي حدث مع ارتداد اللُّب. (حتى الآن، يُعد SN1987a المستعر الأعظم الوحيد الذي رصَدنا فيه نيوترونات). تُظهر الأطياف التي رُصدَت في هذه المرحلة أن المادة الموجودة في الغلاف تهرب من اللُّب بسرعاتٍ تصل إلى بضعة آلاف الكيلومترات في الثانية. عند هذه السرعة، تحتوي كل كتلةٍ شمسية من المادة المطرودة على نحو ٢ × ١٠٤٣ جول من الطاقة الحركية؛ لذلك فإن المادة المطرودة التي تبلغ نحو ٥ كتلٍ شمسية تحتوي على حوالي ١٠٤٤ جول من الطاقة. ويمثل هذا نحوَ واحدٍ في المائة فقط من طاقة الجاذبية التي أطلقَها انهيار اللُّب. هذه خاصيةٌ مميزة للمُستعرات العظمى؛ فالانفجار المذهل الذي نرصُده والتأثير العميق الذي يتركه الحدث على الوسط البينجمي ناتجان عن جزءٍ صغيرٍ جدًّا من الطاقة التي تُطلَق بالفعل؛ حيث إن ٩٩ في المائة من الطاقة تحملها نيوترونات لن تتفاعل مع أي شيء أبدًا.

في النهاية، يصبح الغلاف الآخذ في الاتساع متناثرًا للغاية لدرجة لا يمكن معها احتجاز الفوتونات المرئية لفترةٍ طويلة داخله. ومن ثَم تتلاشى إضاءته المرئية خلال بضعة أسابيع. ومع تمدُّده وازدياد تناثره، يصبح التفاعل الديناميكي مع الغاز الموجود في المنطقة المحيطة بالنجم أكثر أهمية. في الواقع، من المحتمل أن تكون كثافة الغاز في هذه المنطقة مرتفعة على نحوٍ غير طبيعي؛ لأن النجم قبل أن ينهار كمستعرٍ أعظم كان يفقد كتلته بسرعةٍ كبيرة في صورة رياح. تصطدم موجة الانفجار الناتجة عن النجم المنفجر بهذه الرياح وتسخِّنها بفعل الصدمة. وفي هذه المرحلة، يمكن أن تنشأ انبعاثاتٌ ملحوظة عند أطوالٍ موجية راديوية.

في غضون ذلك، هناك الكثير مما يحدث داخل اللُّب. رأينا أن اللُّب المنهار أصبح غنيًّا جدًّا بالنيوترونات، وأن الضغط الناتج عن النيوترونات أدى إلى ارتداد اللُّب وإنتاج دفقة من النيوترونات التي أزاحت جزءًا كبيرًا من الغلاف. بعد الارتداد، تستمر المواد في السقوط في اللُّب المستقر، ويتشكل نجمٌ نيوتروني، وهو نواةٌ ذرية هائلة غنية جدًّا بالنيوترونات. داخل هذا النجم، تتحرك النيوترونات بسرعاتٍ نسبية معتدلة، محدثةً ضغطًا يقاوم الجاذبية بالطريقة نفسها التي تقاوم بها الإلكترونات الجاذبية داخل القزم الأبيض. تزداد كتلة هذا النجم النيوتروني مع استمرار سقوط المواد فيه. ومع زيادة كتلته، يتقلص نصف قطره (تتصرف الأقزام البيضاء بالطريقة نفسها)، ويزداد مجال جاذبيته قوةً، وتتحرك النيوترونات بسرعةٍ أكبر لمقاومة الجاذبية. وعلى نحوٍ مثير للدهشة، تتنبأ نظرية النسبية العامة بأن الضغط نفسه مصدرٌ للجاذبية؛ ومن ثَم، كلما زاد الضغط في مقاومة الجاذبية، ازدادت الجاذبية قوة. إذا زادت كتلة النجم النيوتروني عن قيمةٍ حرجةٍ معيَّنة، الكتلة الحرجة ( )، فإن الجاذبية تتغلب على الضغط الناتج عن النيوترونات، وينهار الجِرم ليصبح ثقبًا أسود.
القيمة الدقيقة للكتلة الحرجة مثارُ جدل؛ لأنها تعتمد على كيفية تصرُّف المادة عند الكثافات النووية. على الرغم من أننا نعتقد أننا نعرف المعادلات التي نحتاج إلى حلها، وهي معادلات الديناميكا اللونية الكمية (QCD)، فإنه من الصعب للغاية تحديد العلاقة المطلوبة بين الكثافة والضغط من المبادئ الأولى. علاوةً على ذلك، ليس لدينا وصولٌ جيد إلى هذا النظام تجريبيًّا؛ فأكثر النَّوَى ضخامةً على الأرض لا تحتوي إلا على نحو ٢٤٠ بروتونًا ونيوترونًا، وتنتج مجالات جاذبية ضئيلة. لكن الخبراء يثقون في أن قيمة الكتلة الحرجة تقع بين ١٫٤ كتلة شمسية و٣ كتل شمسية؛ ومن ثَم تُخلِّف بعض المستعرات العظمى المنهارة اللُّب نجومًا نيوترونية، بينما تُنتج أخرى ثقوبًا سوداء. المستعر الأعظم الذي رصَده الصينيون عام ١٠٥٤ ترك وراءه نجمًا نيوترونيًّا (نابض السرطان) تمَّت دراسته على نطاقٍ واسع. تشير دراساتنا للمستعر الأعظم SN1987a إلى أنه شهد تكوين نجم نيوتروني، لكن عمليات البحث الدقيقة لم تكشف عن أي بقايا نجمية من أي نوع.

المستعر الأعظم الناتج من الاضطرام

رأينا أعلاه أن النجوم ذات الكتل الأولية التي تقل عن ٨ كتل شمسية لا يمكنها إشعال الكربون وتفقد أغلفتها، تاركةً وراءها لُبًّا من الكربون والأكسجين يبرد تدريجيًّا ليصبح قزمًا أبيض. إذا لم يكن للنجم رفيق، فإن هذه تكون نهاية قصته. ولكن معظم النجوم لها رفيق، مما يجعل مستقبلها أكثر إثارة. إذا كان الرفيق هو النجم الأقل كتلةً في البداية، فسيكون تطوُّره أبطأ. ونتيجةً لذلك، سيبدأ الرفيق في الانتفاخ وفقدان كتلته بمعدلٍ كبير بعد أن يصبح رفيقه قزمًا أبيض. إذا لم تكن المسافة بين النجمَين كبيرةً جدًّا، فإن جزءًا كبيرًا من الكتلة المفقودة من النجم الرفيق سيلتقطها مجال جاذبية القزم الأبيض، مما يؤدي إلى تشكيل قرصٍ تراكمي. تُدرَس الأقراصُ التراكمية من هذا النوع من خلال انبعاثها للأشعة السينية (الفصل الرابع). عند الحافة الداخلية للقرص، تنتقل الغازات من القرص التراكمي إلى القزم الأبيض، مما يؤدي إلى زيادة كتلة القزم الأبيض.

مع زيادة الكتلة، يقل نصف قطر النجم ويصبح مجال جاذبيته أكثر قوة. ينص مبدآ هايزنبرج وباولي على أن الجُسيمات الأكثر طاقة تزيد من سرعتها. وفي النهاية، تتحرك بعض النوى بسرعةٍ كافيةٍ لتفعيل تحويل الكربون إلى السيليكون. هذا التحويل يُطلق طاقةً، مما يؤدي إلى تسخين النجم وبدء المزيد من التفاعلات النووية.

إذا كانت الحركة الحرارية للنوى تُسهِم إسهامًا كبيرًا في الضغط داخل النجم، فإن النجم سيستجيب للحرارة الناتجة عن التفاعلات النووية عن طريق التمدُّد والتبريد، مما سيؤدي إلى إبطاء معدَّل التفاعلات النووية، وبذلك يكون النظام مستقرًّا. ولكن في حالة القزم الأبيض، تكون مساهمة النوى في الضغط غير مؤثِّرة؛ حيث يهيمن الضغط الناتج عن الإلكترونات. لذلك، لا تقل الكثافة مع ارتفاع حرارة النوى، ويخرج معدل التفاعلات النووية عن السيطرة. المصطلح التقني للطريقة التي ينفلتُ بها معدَّل التفاعلات النووية هو «الاضطرام»، وهو نوع من الانفجار البطيء تتحرك فيه جبهة من الحرارة المرتفعة ومعدَّل التفاعل عَبْر الوسط بسرعةٍ أقلَّ من سرعة الصوت.

في غضون جزء من الثانية، تُحرَق تقريبًا كتلةٌ شمسية من الكربون والأكسجين بالكامل، وتتحول إلى الحديد والنيكل. يؤدي إطلاق الطاقة المفاجئ الناتج عن هذا الاحتراق بالفعل إلى توليد ضغطٍ كافٍ للتغلب على الجاذبية، مما يتسبَّب في انفجار النجم وانفصاله تمامًا، دون ترك أي جِرمٍ مرتبط بالجاذبية في موقعه الأصلي. يتكون جزءٌ كبير من المادة المتناثرة للنجم من نظير النيكل المشع ( ) الذي يبلغ نصف عمره ٦٫١ من الأيام. تُسخِّن أشعة جاما الناتجة عن تحلُّل نظير النيكل إلى الحديد المادة المتناثرة، مما يجعلها تتوهج على نحوٍ ساطع. تُكتشَف المستعرات العظمى الناتجة عن الاضطرام من خلال هذا التوهج. وتُعرف عمومًا باسم «المستعرات العظمى من النوع Ia» وفقًا للتصنيف التجريبي لأطيافها المرئية.
تكتسب المستعرات العظمى من النوع Ia أهميةً خاصةً في علم الفلك من ناحيتَين. أولًا، يمكن تقدير إضاءة المستعر الأعظم من النوع Ia من معدَّل انخفاض سطوعه. ومن ثَم تُستخدم هذه الأجرام «كشموع قياسية»؛ أي أجرام ذات إضاءةٍ معروفة يمكن تحديد مسافاتها من سطوعها الظاهري. ثانيًا، تُعد المستعرات العظمى من النوع Ia مُنتِجاتٍ رئيسية للحديد، حيث تتحول معظم مادة القزم الأبيض الأصلي تقريبًا إلى الحديد في النهاية. على النقيض، تنتج المستعرات العظمى الناتجة المنهارة اللُّب مجموعةً متنوعة من العناصر الثقيلة الغنية ﺑ «عناصر ألفا» مثل الكربون، والسيليكون، والمغنيسيوم، والكالسيوم. بناءً عليه، يمكن من خلال قياس نسبة وفرة الحديد إلى عناصر ألفا في نجمٍ ما تحديد الأهمية النسبية للمستعرات العظمى من النوع Ia والمستعرات المنهارة اللُّب في إثراء المادة التي يتكون منها النجم. سنرى في الفصل السابع أهمية هذا التحديد.

اختبار النظرية

تتطلب نظرية تطور النجوم مجموعةً كبيرة من البيانات المستقاة من الفيزياء الذرية والنووية، إلى جانب حساباتٍ رقميةٍ موسعة وبعض الافتراضات حول خلط السوائل المضطربة. ولكن هل يمكننا التأكد من صحتها؟ نحن نعتقد أنها صحيحة في جوهرها؛ لأنه أصبح من الممكن الآن مقارنة عدة جوانب مما تتنبأ به مع النتائج الفعلية للمشاهدات.

عناقيد النجوم الكروية

وفرت عناقيد النجوم الكروية أدواتٍ كلاسيكية لاختبار النظرية خلال سنوات تشكُّلها. تحتوي مجرَّتنا على نحو ١٥٠ عنقودًا نجميًّا كروي الشكل إلى حدٍّ كبير وشديد الكثافة — في عنقود مثل NGC 7006 (الشكل ٣-٧)، تُوجَد عشرات الآلاف من النجوم ضمن نحو ١٠ فراسخ من مركز العنقود — للمقارنة، هناك أقل من ١٠٠ نجم فقط ضمن ١٠ فراسخ من الشمس. الميزة التي تجعل العناقيد الكروية مثالية لاختبار نظرية تطوُّر النجوم هي أن نجومها، بتقريبٍ دقيق جدًّا، لا تختلف إلا في كتلها؛ إذ تفصل بينها المسافة نفسها، وتشترك في العمر والتركيب الكيميائي. علاوةً على ذلك، يمكن تقدير التركيب الكيميائي للنجوم من خلال أطيافها. بالنسبة إلى أي عمرٍ مفترَض للعنقود والمسافة المفترَضة منه، تتنبأ النظرية بأن النجوم ستقع على منحنًى يُطلَق عليه اسم «الإيزوكرون» في مخطَّط «السطوع واللون»، وهو رسمٌ مثل الشكل ٣-٨ يبيِّن العلاقة بين سطوع النجوم وألوانها. لأسبابٍ تاريخية، تُرسم الألوان الزرقاء (التي تشير إلى درجات حرارة سطحية مرتفعة) على يسار الرسم. المقياس الرأسي للسطوع دائمًا لوغاريتمي؛ لذا فإن تغيير المسافة المفترضة من العنقود يؤدي إلى تحريك منحنى الإيزوكرون الذي يُتوقَّع أن تقع عليه النجوم إلى الأعلى (للمسافة الأقصر) أو إلى الأسفل دون تغيير المنحنى بأي شكل. يؤدي تغيير العمر المفترض إلى تغييراتٍ في شكل منحنى الإيزوكرون بطرقٍ يمكن حسابها. يُحدَّد العمر والمسافة من خلال العثور على منحنى الإيزوكرون الذي يتطابق شكله على أفضل نحوٍ مع توزيع النجوم المرصود، ثم تحديد الموضع الرأسي الذي يوفر أفضل تطابق.
fig9
شكل ٣-٧: العنقود الكروي NGC 7006.
كما يوضح الشكل ٣-٨، يمكن تحقيق توافقٍ ممتاز بين النظرية والملاحظة بهذه الطريقة. ولكن تظهر بعض الفروقات البسيطة، ويواصل علماء الفلك تحسين البيانات والافتراضات المستخدَمة في نماذج تطور النجوم لتقليل هذه الفروقات. لكن قدرة النظرية على التوافق مع بيانات العديد من العناقيد النجمية ترمي بظلالٍ من الشك على صحتها من الأساس.
fig10
شكل ٣-٨: يُظهر الشكل السطوع في مقابل اللون للنجوم في العنقود النجمي الكروي NGC 6779. تقع النجوم الزرقاء على اليسار، والنجوم الساطعة في الأعلى. المنحنيات هي منحنيات الإيزوكرون النظرية (انظر النص). النقاط من أسفل اليمين حتى الانحناء الحاد تشكِّل فترة النسق الأساسي. في هذه المرحلة، تحرق النجوم الهيدروجين في اللُّب.

أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في هذه التوافقات هو أن عناقيد مجرَّتنا الكروية تبيَّن أنها قديمة للغاية، وفي وقت من الأوقات، كانت الأعمار المستنتَجة غير متوافقة مع عمر الكون. منذ ذلك الحين، أدت التحسينات في فهمنا لكلٍّ من التوسع الكوني وتطور النجوم إلى أعمارٍ متسقة. العناقيد التي تحتوي على أدنى نسبة من «المعادن» (العناصر التي تأتي لاحقًا في الجدول الدوري بعد الهيليوم) تميل إلى أن تكون الأقدم، وحتى هذه تبلغ أعمارها نحو ١٢ مليار سنة، وهي ليست أكبر من عمر الكون البالغ ١٣,٨ مليار سنة.

النيوترونات الشمسية

في كل مرة يندمج البروتونان في الشمس لتكوين الديوتيريوم، الذي ينتج الهيليوم بعد ذلك بوقت قصير، يُنتَج نيوترينو ينطلق من الشمس. ونتيجةً لذلك، تشعُّ الشمس نيوترينوهات بالإضافة إلى الفوتونات. في ستينيات القرن العشرين، حاول راي ديفيس رصد النيوترينوهات القادمة من الشمس، زاعمًا أن اكتشافها سيكون بمثابة اختبارٍ مهم لنظرية تطوُّر النجوم؛ لأنها تأتي إلينا مباشرةً من لُب الشمس المولِّد للطاقة؛ ومن ثَم تستكشف منطقة مختلفة تمامًا من الغلاف الضوئي الذي نستقبل منه الفوتونات.

تضمنَت تجربة ديفيس معالجة أطنان من سائل التنظيف الجاف (تتراكلوروميثان ) في منجم؛ فلا يمكن استبعاد الأشعة الكونية التي قد تولِّد إشاراتٍ مربكة في الخلفية إلا بالعمل في المناجم. كان التتراكلوروميثان مخزنًا مناسبًا لنَوَى نظير الكلور ، التي يمكن أن تتحول إلى الأرجون (Ar) بعد اصطدامها بالنيوترينو. تطلَّب ذلك استخلاص الأرجون وقياس كميته. بعد سنواتٍ من العمل الشاق، لم يَقِس ديفيس سوى ثلث الفيض المتوقَّع للنيوترينوهات من الشمس. لم يتحمس المجتمع العلمي لفشل ديفيس؛ حيث تساءل البعض ما إذا كانت التجربة قادرةً على كشف الأرجون بكفاءة كما زُعم، بينما شكَّك آخرون في دقة التنبؤات المتعلقة بفيض النيوترينوهات.

كانت هذه الشكوك مقلقة؛ لأن التجربة لم تكشف إلا عن جزءٍ صغير من النيوترينوهات التي تنتجها الشمس؛ فالنيوترينوهات الناتجة عن اندماج البروتونات لا تمتلك طاقةً كافية لتحويل الكلور إلى الأرجون، والنيوترينوهات الأكثر طاقة، التي كان ديفيس يأمل في اكتشافها، تنتُج عن تفاعلاتٍ أخرى تتأثر معدلاتها تأثرًا كبيرًا بدرجات الحرارة، ولا تُسهِم بدرجةٍ كبيرة في طاقة الشمس. حتى التغيُّر الطفيف في معدل انتقال الحرارة من لُب الشمس يمكن أن يقلِّل كثيرًا من فيض هذه النيوترينوهات العالية الطاقة. لذلك، أعاد الخبراء فحص نماذجهم للشمس، لكنهم لم يتمكنوا من تقليل فيض النيوترينوهات ذات الطاقة العالية إلى الحد الذي يتفق مع تجربة ديفيس.

كانت تجربة ديفيس تواجه مشكلةً أخرى تتمثل في كشفها عن نوعٍ واحد فقط من النيوترينوهات؛ فهناك ثلاثة أنواعٍ من النيوترينوهات، مرتبطة بالإلكترونات والميونات وجُسيمات التاو. لم تستطع تجربة ديفيس إلا الكشف عن نيوترينوهات الإلكترون. لم يكن من المفترض أن يكون هذا عائقًا؛ حيث إن التفاعلات النووية في الشمس يُتوقع أن تنتج نيوترينوهات الإلكترون فقط. ولكن هل يمكن بطريقةٍ ما أن يتحول ثلثا النيوترينوهات المنبعثة إلى نيوترينوهات الميون أو التاو؛ ومن ثَم تصبح غير قابلة للكشف في مختبر ديفيس؟

منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، أُنشئ كاشفان ضخمان للنيوترينوهات يستخدمان الماء ( ) أو الماء الثقيل ( ) كوسط للكشف. إحدى الميزات الرئيسية لهذَين الكاشفَين هي حساسيتهما لجميع الأنواع الثلاثة للنيوترينوهات. رصَد أحد هذَين الكاشفَين، وهو «كاشف كاميوكاندي الثاني» في اليابان، اندفاع النيوترينوهات الناتجة عن المستعر الأعظم SN1987a، بينما أظهر الكاشف الآخر، وهو «كاشف SNO» في كندا، أنه عند احتساب جميع الأنواع الثلاثة من النيوترينوهات، فإن فيض النيوترينوهات من الشمس يتوافق مع التنبؤات الأصلية للنموذج. أكَّدَت هذه النتيجة من كاشف SNO الفكرة القائلة بأن النيوترينو يتغير أثناء خروجه من الشمس؛ حيث يتحول من نيوترينو إلكتروني إلى الأنواع الأخرى، ما يؤدي إلى وصول أعدادٍ متساوية تقريبًا من كل نوعٍ إلى الأرض. ومن ثَم، كان علم الفيزياء الفلكية للشمس صحيحًا منذ البداية، وكانت المشكلة في تجربة ديفيس تكمن في فيزياء الجُسيمات.

استُعين بفكرة تذبذُب النيوترينوهات بين الأنواع المختلفة لأول مرة لتفسير نتائج تجارب النيوترينوهات الشمسية، ولكن لاحقًا دُرسَت هذه العملية بتفصيلٍ أكبر باستخدام حزم نيوترينوهات من المفاعلات النووية. تُعتبر هذه الظاهرة مهمةً للغاية؛ لأنها تشير إلى أن للنيوترينوهات كتلَ سكونٍ غير صفرية. وقد حدَّدَت تجاربُ مختلفة كتلة السكون للنيوترينو الإلكتروني بأنها قيمةٌ صغيرة تقل عن ٢ إلكترون فولت، لكن تذبذبات النيوترينوهات أثبتَت أن كتل السكون للنيوترينوهات غير صفرية.

علم الزلازل النجمية

تتميز النجوم بتردداتٍ طبيعية، على غرار الأجراس، يمكنها أن تهتز (تتذبذب) عندها. ويرتبط كل تردُّد معين ﺑ «نمط» محدَّد من التذبذبات. التحريك الناتج عن عملية الحِمل الحراري يحفِّز أنماط التذبذب في النجم، وقد علمنا الكثير عن بنية النجوم عن طريق قياس طيف الترددات التي تتذبذب بها. لذلك، ومنذ عام ١٩٨٥، بدأَت برامج مراقبة مكثفة أولًا في رصد الشمس، ثم انتقلَت لدراسة النجوم القريبة والساطعة نسبيًّا لتحديد أطياف تذبذباتها.

تنقسم أنماط النجوم إلى نوعَين رئيسيَّين. الأبسط فهمًا هو أنماط الضغط «أنماط ». وهي تشبه أنماط الموجات الصوتية المستقرة لأنبوب آلة الأرجن؛ حيث تتضمَّن تناوبًا بين انضغاط الهواء وتخلُّله داخل الأنبوب في حالة الأرجن أو الغاز في حالة النجم. أنماط الضغط أقل أهمية من الناحية الفلكية مقارنة بالنوع الآخر، وهو أنماط الجاذبية (أنماط ). تشبه أنماط الجاذبية إلى حدٍّ ما أمواج المحيطات؛ فعندما يكون سائلٌ أقل كثافة (كالهواء) فوق سائلٍ أكثر كثافة (كالماء)، يمكن أن تنتشر موجات يتذبذب فيها سطح السائل الأكثر كثافةً فوق مستواه المتوازن وأسفله على الحدود بين السائلَين. تكون الموجات على سطح المحيط مرتبطة بانقطاع في كثافة السوائل، ولكن داخل جسم المحيط غالبًا ما يكون هناك تدرجٌ مستمر في الكثافة مرتبطٌ بالملوحة؛ إذ إن الماء المالح أكثر كثافةً من الماء العذب؛ ولذلك في حالة التوازن يكون الماء الأكثر ملوحةً تحت الماء الأقل ملوحة، وتنتقل الموجات المُشوهة لخطوط التساوي في الملوحة عَبْر المحيط.

أما في النجم، فيكون الغاز ذو الإنتروبي الأقل تحت الغاز ذي الإنتروبي الأعلى. الإنتروبي هو مقياسٌ للاضطراب الحراري في السائل؛ ويزداد عند نقل الحرارة إلى السائل، ويقل عند استخراج الحرارة منه. ويختلف عن درجة الحرارة؛ فعندما ينضغط الهواء داخل مضخة دراجة أو أسطوانة محرك ديزل، ترتفع درجة حرارة الهواء، ولكن يظل الإنتروبي ثابتًا. تنتشر الموجات التي تتذبذب فيها أسطح الإنتروبي الثابتة صعودًا وهبوطًا حول النجم بالطريقة نفسها التي تنتشر بها الموجات على أسطح الملوحة الثابتة عَبْر المحيط. تُعد أنماط الجاذبية موجاتٍ مستقرة من هذا النوع.

تبحث الشركات النفطية عن النفط من خلال إطلاق موجاتٍ زلزالية باستخدام التفجيرات، ثم الكشف عن هذه الموجات بواسطة مستشعراتٍ بعيدة. تستنتج أجهزة الكمبيوتر بعد ذلك كثافة الصخور وخصائصها المرنة في المنطقة من كيفية انتقال الموجات عَبْر الأرض من المصدر إلى الكواشف. تتشابه هذه العملية مع تحليل ترددات أنماط التذبذب في النجوم؛ حيث تُظهر هذه الترددات حساسيةً تجاه كثافة الغاز وسرعة الدوران عند مستوياتٍ مختلفة داخل النجم؛ ومن ثَم، باستخدام برامجَ متخصصة، يمكن تحديد كثافة الغاز وسرعة دورانه داخل النجم. يمكن مقارنة هذه القيَم مع التوقعات المستخلَصة من النماذج النظرية. تتمثل أكبر درجة من عدم اليقين في هذه النماذج في عمر النجم، الذي يجب تقديره عمليًّا عن طريق مطابقة النماذج مع البيانات الرصدية، ويُعتبر طيف أنماط الاهتزاز الطبيعية للنجم العامل الأكثر تأثيرًا في تحديد العمر؛ لأن النجم، مع تقدُّم عمره، تزداد تركيزاته المركزية؛ حيث ينكمش لُبه، مما يؤدي إلى زيادة حرارته وكثافته، في حين يتمدد غلافه الخارجي. يؤدي هذا التطور إلى تغييرات في نمط ترددات التذبذب.

أظهر علم الزلازل الشمسية أن النماذج الشمسية التي تستند إلى مجموعةٍ واسعة من البيانات المستقاة من الفيزياء النووية والذرية تعمل بطريقةٍ جيدة جدًّا ولكن ليست مثالية. ربما تنشأ الاختلافات الصغيرة بين توقعات النماذج والنتائج الزلزالية المستقاة من قيود البيانات الذرية، أو النماذج الفلكية. ولكن من الممكن أن تشير إلى أن فيزياء جديدة تمامًا تنخرط في نقل الطاقة من النجوم؛ فقد تصبح جُسيمات «المادة المظلمة» (الفصل السابع) محاصرةً داخل النجوم، وبسبب ضعف ميلها إلى التفاعل مع الجُسيمات الأخرى، يمكن أن تُسهِم على نحوٍ غير متناسب في نقل الحرارة نحو الخارج.

الثنائيات النجمية

ينتمي نصف النجوم في الكون على الأقل إلى أنظمةٍ ثنائية، ويمثل وجود هذه الأنظمة تحديًا كبيرًا لنظرة تطوُّر النجوم؛ فعندما يتضخم النجم الأكثر كتلة والأسرع تطورًا ليصبح نجمًا عملاقًا أحمر، يكون رفيقه عرضةً لالتقاط الغاز من الغلاف المتضخم. يتسبَّب هذا الاستيلاء في انحراف كلا النجمَين عن مسار التطور النجمي الذي وصفناه للنجوم الفردية؛ لأن الكتلة تُعد العامل الأساسي في تطور النجوم، والآن أصبحَت كتلة كل نجم متغيرة بمرور الزمن.

عندما تسقط المادة على النجم الأكبر كثافة والأقل كتلة، تُشَع الطاقة (الفصل الرابع). يُسخِّن بعضٌ من هذا الإشعاع الطبقات الخارجية للنجم الأكبر كتلة، وقد تصبح هذه الطبقات شديدة السخونة، لدرجة تنطلق معها من الثنائية النجمية في صورة رياحٍ نجمية.

تنتُج عن انتقال الكتلة من نجم إلى آخر، وفقدان الغاز عبْر الرياح، تغييراتٌ في مدار الثنائية النجمية، وقد تؤدي إلى تقارب النجوم. إذا اقترب النجمان أحدهما من الآخر، فسوف تتسارع معدلات انتقال المادة أو طردها، مما قد يؤدي إلى انفلات هاتَين العمليتَين واندماج النجمَين. في الواقع، قد يبتلع النجم الأكبر كتلة النجم الأقل كتلة في غلافه المنتفخ، حتى لو لم يتطور مدار الثنائية النجمية إلى تلك الدرجة.

بمجرد أن يصبح النجم الأقل كتلة داخل النجم الأكبر كتلة، فإن حركته المدارية ستُقابَل بالاحتكاك. وسيؤدي ذلك إلى تسخين الغلاف ودفع النجم الأقل كتلة إلى الداخل. بعد فترة، ستصبح الثنائية نجمًا واحدًا، لكن لُب النجم وغلافه لن يكونا نتيجةً لتطور نجمٍ واحد فقط.

باختصار، تُشكِّل النجوم الثنائية القريبة تحديًا مليئًا بالتعقيدات، وتُعد محاولات فهمها مجالًا نشطًا للأبحاث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥