عند تصريف حوض المطبخ بعد غسيل الصحون، غالبًا ما يدور الماء
حول فتحة التصريف مكوِّنًا عمودًا من الهواء في مركز أنبوب
التصريف أثناء انسيابه. ينشأ هذا الدوران نتيجة ميل الماء للحفاظ
على زخمه الزاوي أثناء تدفُّقه نحو أنبوب التصريف. يُعطي الزخم
الزاوي لكل وحدة كتلة بالصيغة التالية:
حيث هي المسافة من النقطة التي يدور السائل حولها
(مركز أنبوب التصريف)، و هي سرعة حركة السائل المتعامدة مع الاتجاه نحو
المركز. مع تدفق السائل إلى الداخل، تتناقص ، وتزداد للحفاظ على ثبات . تُعد الأعاصير مثالًا مذهلًا على هذه الظاهرة
الفيزيائية؛ عندما يُسحب الهواء نحو مركز الإعصار ليحل محل الهواء
الدافئ والرطب الذي طفا إلى ارتفاعاتٍ عالية، يدور الهواء حول
مركز الإعصار بسرعة متزايدة حتى يصبح سريعًا بدرجة تُمزِّق أسطح
المباني، وترفع السيارات، وتُحدِث فوضَى واسعةَ النطاق.
كان مبدأ حفظ الزخم الزاوي حاسمًا في تكوين قرص مجرَّة درب
التبانة التي تقع فيها الشمس، وفي تشكيل النظام الشمسي نفسه. سنرى
في هذا الفصل أنه يلعب دورًا كبيرًا في العديد من أكثر الأجرام
إضاءةً وغرابةً في الكون.
الأقراص التراكمية
في جميع هذه الأنظمة، تسحب الجاذبية الغاز نحو مركزٍ للجذب،
الذي قد يكون مركز مجرَّة، أو نجم، أو ثقب أسود. أي إن هذه
الأجرام «تُراكِم» الغاز، ويتسبب حفظ الزخم الزاوي في دوران
الغاز المتراكم حول الجِرم التراكمي أثناء تحركه نحو الداخل.
إذا كان الغاز باردًا بمعنى أن ضغطه غيرُ كافٍ لتوفير مقاومةٍ
فعَّالة للجذب الداخلي للجاذبية، فإن الغاز الدوار يشكل
«قرصًا تراكميًّا»؛ حيث يتحرك الغاز في كل نصف قطر على مدارٍ
دائري حول مركز الجذب.
ديناميكا الأقراص الأساسية
عند التفكير في بنية القرص التراكمي، من المفيد تخيله
مُكوَّنًا من عددٍ كبير من الحلقات الصُّلبة؛ حيث تدور كل
حلقة كما لو أن كل جُسيم فيها في مدار حول الكتلة المركزية
(الشكل ٤-١). تتناسب سرعة المدار الدائري
عند نصف قطر حول كتلة مدمجة مثل الشمس أو ثقب أسود مع 1/√r ومن ثَم تزداد السرعة باتجاه الداخل.
نتيجةً لذلك، يحدث «قص» داخل القرص التراكمي؛ حيث تنزلق كل
حلقة دوارة مرورًا بالحلقة الموجودة خارجها، وفي وجود أي
احتكاك أو «لزوجة» داخل السائل، تلتوي كل حلقة أو «تؤثِّر
بعزم» على الحلقة الخارجية في اتجاه الدوران، محاولةً جعلها
تدور بشكلٍ أسرع.
يشبه العزم بالنسبة إلى الزخم الزاوي القوة بالنسبة إلى
الزخم الخطي؛ فهو الكمية التي تحدِّد معدل تغيُّره. ومثلما
تنص قوانين نيوتن على أن القوة تساوي معدل تغيُّر الزخم، فإن
معدل تغيُّر الزخم الزاوي لجِرمٍ ما يساوي العزم المؤثِّر
عليه. لذلك، وجود العزم من الحلقات الأصغر إلى الحلقات الأكبر
يعني وجود نقلٍ خارجي للزخم الزاوي عَبْر القرص التراكمي.
عندما يكون القرص في حالةٍ مستقرة، يتوازن هذا النقل الخارجي
للزخم الزاوي بفعل اللزوجة مع نقلٍ داخلي للزخم الزاوي بواسطة
الغاز أثناء تدفقه نحو الداخل عَبْر القرص، حاملًا زخمه الزاوي
معه.
شكل ٤-١: يُتصوَّر أن القرص التراكمي يتكون من عدد
من الحلقات الصلبة، تدور جميعها بسرعاتٍ
مختلفة حول محورها المشترك؛ يتناسب طول
الأسهم المنحنية مع السرعة الموضعية. يزداد
الزمن اللازم لإكمال دورة للحلقة كلما اتجهنا
نحو الخارج. تتدفق الكتلة () نحو الداخل بينما ينتقل
الزخم الزاوي () نحو الخارج عبْر
القرص.
عندما يدخل الغاز إلى نصف قطر الحلقة الخارجي، تكون لديه
طاقةٌ أكبر مما تكون لديه عند خروجه من نصف القطر الداخلي
للحلقة؛ لأن طاقة جاذبيته الكامنة تقل بمقدار ضعف الزيادة في
طاقته الحركية الناتجة عن الدوران. ولذلك، كل كمية من الغاز
تمُر عَبْر الحلقة تُودِع فيها كميةً من الطاقة. بالإضافة إلى
ذلك، تبذل الحلقة الأقرب نحو الداخل شغلًا على الحلقة
الخارجية بعزم دوران يتجاوز ما تبذله الحلقة الخارجية على
الحلقة الداخلية التالية. وهكذا، تكتسب حلقتُنا طاقةً إضافية
أيضًا من تدفق الزخم الزاوي المدفوع باللزوجة عَبْر القرص.
تؤدي الطاقة المكتسبة الناتجة عن التدفق الداخلي للمادة
والتدفق الخارجي للزخم الزاوي إلى تسخين الحلقة، مما يجعل
مادتها تتوهج. هذا هو السبب في أن الأنظمة ذات الأقراص
التراكمية يمكنها أن تصبح أجرامًا فلكيةً مضيئة.
تقريبًا، تُشِعُّ كل حلقة كما لو كانت جسمًا أسود (الفصل
الثالث، تحت عنوان «الحياة بعد النسق الأساسي»)؛ لذا يمكن
حساب طيف الإشعاع الصادر عن القُرص التراكمي بناءً على درجة
الحرارة كدالة لنصف القطر. تُحسب درجة حرارة الحلقة
ذات نصف القطر المتوسط من خلال موازنة معدَّل الطاقة المترسِّبة
مع معدَّل الطاقة التي يجري إشعاعها. إذا كان الجسم التراكمي
يكتسب كتلة بمعدل ()، فإن درجة الحرارة داخل القرص تُحسب
بالمعادلة التالية:
(4-1)
تنخفض درجة الحرارة باتجاه الخارج وفقًا لقوة نصف القطر
العكسية بمقدار ثلاثة أرباع، وتتناسب طرديًّا مع القوة بمقدار
الربع لمعدل التراكم.
التراكم على الأجسام ذات الكتلة النجمية
يوضح الشكل ٤-٢ درجة حرارة القرص
التراكمي حول جِرم ذي كتلةٍ شمسية ويكتسب كتلة بمعدل كتلة شميسة في السنة، وهي قيمٌ نموذجية
مستنبَطة من العديد من الثنائيات النجمية؛ حيث يفقد أحد
النجمَين كتلة لصالح رفيقه (الفصل الثالث).
يمتد المقياس الأفقي، وهو لوغاريتمي كالمقياس العمودي، من
نصف قطر الثقب الأسود ذي الكتلة الشمسية، الذي حمل رمز نصف
قطر شفارتزشيلد () يساوي تقريبًا ثلاثة كيلومترات، وصولًا
إلى أنصاف أقطار تتجاوز مدار بلوتو (الفصل الخامس). تنخفض
درجة الحرارة من ١٠٠ مليون درجة عند نصف قطر شفارتزشيلد، وهي
أعلى بعدة مرات من درجة حرارة نواة الشمس، إلى درجة حرارة
الشمسية () لسطح الشمس عند نصف قطرها، ثم إلى نحو ١٠٠
كلفن عند نصف قطر مدار الأرض. إذا كان الجِرم التراكمي ثقبًا
أسود، فإن جميع أجزاء الرسم البياني ذات صلة، بينما إذا كان
قزمًا أبيضَ ذا كتلة شمسية، فإن الجزء الموجود يمين الخط الذي
حمل رمز نصف قطر القزم الأبيض ()؛ حيث تساوي درجة الحرارة ٢٠٠ ألف كلفن، هو
فقط الجزء ذو الصلة، وإذا كان الجِرم التراكمي نجمًا مثل
الشمس، فإن الجزء ذا الصلة هو فقط الجزء الموجود يمين الخط
الذي حمل رمز نصف قطر الشمس () حيث تساوي درجة الحرارة نحو ٤٧٠٠ درجة
حرارة شمسية. تتسبَّب درجات الحرارة هذه في أن يشعَّ القرص في
الأغلب أشعةً سينية بالقرب من نصف قطر شفارتزشيلد، وأشعةً
سينية منخفضة الطاقة، وأشعةً فوق بنفسجية خارج نصف قطر القزم
الأبيض، وفوتوناتٍ ضوئية في الأغلب خارج نصف قطر
الشمس.
شكل ٤-٢: درجة الحرارة عند نصف القطر () في قرص تراكمي حول جسمٍ
مضغوطٍ بكتلة تساوي كتلةً شمسية واحدة.
تُعرَّف الوحدة الفلكية
(AU)
بأنها متوسط نصف قطر مدار الأرض (الفصل
الأول). يُفترَض أن معدل التراكم كتلة شمسية في السنة. يوضح
الشكل أيضًا درجات الحرارة في مركز الشمس () وعلى سطحها ()، بالإضافة إلى أنصاف
الأقطار ، و، و للثقب الأسود بكتلةٍ شمسية
واحدة، والقزم الأبيض النموذجي بكتلةٍ شمسية،
وسطح الشمس.
يوضح الشكل ٤-٣ الإضاءة التي يشعُّها
القرص التراكمي من النقاط الواقعة خارج نصف القطر () على المحور الأفقي. نلاحظ أن القرص لا يشع
سوى ما يعادل بضعة أجزاء من الألف من إضاءة الشمس من خارج
مدار الأرض، ونحو نصف إضاءة الشمس من خارج نصف قطر الشمس، وما
يعادل نحو ٦٠ إضاءة شمسية من خارج نصف قطر القزم
الأبيض، ونحو ١٠٠ ألف إضاءة شمسية وصولًا إلى نصف قطر
الثقب الأسود. بالنظر إلى الاستنتاجات المستخلَصة من الشكل
٤-٢، يتضح أنه عند التراكم بمعدل كتلة شمسية في السنة، سيكون الثقب الأسود
ذو الكتلة الشمسية مصدرًا شديد الإضاءة للأشعة السينية
العالية الطاقة، والقزم الأبيض مصدرًا مضيئًا للأشعة السينية
المنخفضة الطاقة، بينما ستحصل النجوم في مرحلة النسق الأساسي
على زيادةٍ ملحوظة في لمعانها من القرص التراكمي. في جميع هذه
الحالات، فإن الجزء من القرص الواقع خارج مدار الأرض لن
يُسهِم إلا في إشعاع الأشعة تحت الحمراء، وسيكون من الصعب
رصدُه في وجود إضاءة الأجزاء الداخلية من القرص والجِرم
التراكمي. غير أن هذا الجزء من القرص يُعد ذا أهميةٍ كبيرة؛
لأنه يمثل موقع تكوين الكواكب (الفصل الخامس).
شكل ٤-٣: الإضاءة التي يشعها قرصٌ تراكمي حول جِرمٍ
بكتلة شمسية خارج نصف القطر (). أنصاف الأقطار ممثلة
بوحدات نصف قطر مدار الأرض، بينما الإضاءة
ممثلة بوحدة الإضاءة الشمسية. يُفترض أن يكون
معدل التراكم كتلة شمسية في
السنة.
النجوم الزائفة
تُظهِر الأشكال ٤-٢ و٤-٣ نتائجَ مميزةً للثقوب السوداء ذات
الكُتل النجمية. ولكن الثقوب السوداء الموجودة في مراكز
المجرَّات تتطلب مقياسًا مختلفًا تمامًا. إذ تتراوح كتل هذه
الثقوب السوداء بين ١٠٦
و١٠١٠ كتلة شمسية، وعندما
تمدُّ هذه الثقوب النجوم الزائفة (الكوازارات) بالطاقة، يجب
أن تكون معدَّلات تراكُمها في حدود كتلةٍ شمسية واحدة لكل
سنة. لذلك، فإن هذه الأجسام أكثر ضخامةً بنحو
١٠٨ مرة من الثقوب السوداء
ذات الكُتل النجمية، وتراكم المادة بمعدلٍ أسرع بنحو
١٠٨ مرة. ونظرًا لأن نصف قطر
الثقب الأسود يتناسب طرديًّا مع كتلته، فإن هذه الثقوب
السوداء أكبر بنحو ١٠٨ مرة في نصف
القطر أيضًا. وفقًا للمعادلة (4-1)، نجد
أن القرص المحيط بثقبٍ أسود فائق الكتلة عند مضاعفٍ معين لنصف
قطر الثقب الأسود تكون درجة حرارته أقل بمقدار ١٠٠ مرة، بينما
تكون إضاءته أكبر بمقدار ١٠٨ مرة
مقارنةً بالقيم المناظرة لثقبٍ أسود ذي كتلةٍ شمسية. توضح
الأشكال ٤-٤ و٤-٥
هذه الحقائق.
شكل ٤-٤: درجة حرارة قرصٍ تراكمي حول ثقبٍ أسود
بكتلة ١٠٨ كتلة
شمسية، مثل تلك الموجودة في مراكز المجرَّات
عندما يكون معدل التنامي كتلةً شمسية واحدة
في السنة. يشير الرمز إلى نصف قطر الثقب الأسود.
وُضِعَت درجة حرارة سطح الشمس كمرجع للمقارنة.
شكل ٤-٥: الإضاءة التي تُشَع خارج نصف القطر () لقرص محيط بثقبٍ أسود
كتلته ١٠٨ كتلة
شمسية يتراكم بمعدل كتلةٍ شمسية واحدة
سنويًّا.
نصف القطر المميز للثقب الأسود الآن أكبر قليلًا من مدار
الأرض، وتصل درجات الحرارة هناك إلى نحو ١٠٠ ألف كلفن فقط؛
لذلك سيظهر الجزء الأكبر من الإشعاع في الأشعة السينية
المنخفضة الطاقة والضوء فوق البنفسجي. يتميز مثل هذا النظام
بإضاءةٍ مذهلة. إذ تُشَع إضاءة تعادل إضاءة مجرَّتنا بأكملها،
التي تضم نحو ١٠٠ مليار نجم، من الجزء من القرص الذي يتجاوز
٦٠٠ وحدة فلكية، وهو ما يزيد بمقدار ١٠ أضعاف على نصف قطر مدار
بلوتو. تنبعث إضاءةٌ أقوى ١٠٠ مرة بين نصف القطر هذا وسطح
الثقب الأسود.
بفضل هذه الإضاءة الهائلة، التي ينبعث جزءٌ كبيرٌ منها في
الأشعة فوق البنفسجية والحُزَم المرئية القابلة للرصد بسهولة،
يمكن مشاهدة الثقوب السوداء الفائقة الكتلة التراكمية في
الكون بأَسْره. عند ملاحظة أطياف النجوم الزائفة لأول مرة، لم
يتمكن علماء الفلك من تفسيرها بشكلٍ صحيح؛ لأنهم لم يكونوا
مستعدين للتحولات الكبيرة نحو اللون الأحمر في خطوطها
الطيفية. يُقاس هذا التحول باستخدام «الانزياح الأحمر» ()، الذي يُعرَّف بالعلاقة بين الأطوال
الموجية التي ينبعث عندها الضوء من النجم الزائف، والتي
رُصِدَت على الأرض:
ومن ثَم، فإن الانزياح الأحمر الذي يساوي صفرًا يعني عدم
وجود انزياح نحو الأحمر، بينما إذا كان يساوي واحدًا فذلك
يشير إلى أن الخطوط الطيفية تُرصَد عند ضِعف الأطوال الموجية
التي انبعثَت عندها. في عام ١٩٦٣، أحدث مارتن شميت ثورةً
فكرية بإثبات أن طيف الجِرم المعروف باسم
3C-273 لديه انزياح نحو
الأحمر يساوي ٠,١٥٨. بعد نشر ورقته، أمكن إثبات أن أطياف
العديد من المصادر الأخرى تُظهر قيمًا أكبر للانزياح نحو
الأحمر، وكان التفسير التقليدي لهذه الانزياحات هو أنها
ناتجةٌ عن التوسع الكوني. غير أنه لم تكن هناك أي مجرَّة
معروفة حينها لها انزياح نحو الأحمر بهذا الحجم، وشكَّك
العديد من علماء الفلك في أن تكون هذه المصادر بعيدة ومضيئة
بالقَدْر الذي يتطلَّبه التفسير الكوني للانزياح نحو الأحمر.
الآن، أمكن اكتشاف عشرات الآلاف من الأجرام شبه النجمية،
وبعضها لديه انزياح نحو الأحمر يزيد على ٧!
نهاية الرحلة
بعد أن يتابع الغاز رحلته الحلزونية عَبْر القرص التراكمي
ليقترب من نحو نصف قطر الجِرم التراكمي، يجب عليه الانتقال من
القرص إلى الجِرم، وتؤثِّر طريقة هذا الانتقال على بنية القرص
التراكمي وراءه. لدراسة هذا الأمر، يمكننا النظر في حالة
القزم الأبيض التراكمي. عند الحافة الداخلية لقرصٍ تراكمي،
يبدو الغاز كما لو كان في مدارٍ دائري يمُر بالقرب من سطح
النجم. الطاقة الحركية التي تحافظ على هذا المدار هي نصف ثابت
الجاذبية مضروبًا في الكتلة، مقسومًا على نصف القطر لكل وحدة
كتلة، وهو ما يساوي من حيث المقدار كل الطاقة التي كان
سيفقدها الغاز أثناء رحلته الحلزونية من اللانهاية إلى نصف
القطر. ومن ثَم، فإنها كميةٌ هائلة من الطاقة، وإذا اصطدم
الغاز بالنجم، فسيجري تحويل هذه الطاقة إلى حرارة على نحوٍ
مفاجئ. ونظرًا لأن الغاز يصطدم في النهاية بالنجم، تتكون
طبقةٌ رقيقة من الغاز الشديد السخونة عند الواجهة بين النجم
والقرص. تعمل هذه «الطبقة الحدودية» بشكلٍ طبيعي على تعزيز
انبعاث النظام عند أقصر الأطوال الموجية.
تذكَّر أن ثلاثة أرباع الطاقة المُشعَّة من كل حلقة في جسم
القرص تنشأ من الفرق بين معدَّل الشغل الذي يُبذَل على تلك
الحلقة من الحلقة الداخلية لها، ومعدَّل الشغل الذي تبذله على
الحلقة التالية للخارج. تكون الحلقة الداخلية في وضعٍ شاذ
لأنها تبذل شغلًا على كلٍّ من الحلقة الخارجية لها والطبقة
الحدودية، التي تدور ببطء بسبب عرقلة النجم لها. لذلك، بينما
تتوهَّج الطبقة الحدودية بشكلٍ غير عادي، تتوهج الحلقة الداخلية
للقرص بشكلٍ أكثر خفوتًا من المعتاد.
الوضع الذي وصفناه للتو، والذي يمتد فيه القرص التراكمي حتى
يصل إلى نجمٍ صلب يدور ببطء، ليس عامًّا. فبعض الأجرام
التراكمية (خاصةً النجوم النيوترونية والأقزام البيضاء) تحتوي
على مجالاتٍ مغناطيسية قوية مُدمَجة فيها. تظهر خطوط المجال
المغناطيسي من النجم، وتشكِّل حلقات عَبْر الفضاء حول النجم،
ثم تعود إلى النجم في موقعٍ آخَر، مثل خطوط المجال المغناطيسي
التي تنبعث من الأرض في القطب الشمالي، وتعود إليها في القطب
الجنوبي. إذا دار نجمٌ حامل للمجال المغناطيسي، فإن خطوط
المجال تدور حول النجم، وإذا كان المجال المغناطيسي قويًّا
بما فيه الكفاية، فإنه يمكن أن يبذل قوًى ملحوظة على الغاز
حتى عند مسافاتٍ كبيرة من النجم؛ حيث تدور الخطوط بسرعةٍ
كبيرة تعادل نسبةً كبيرة من السرعة المطلوبة لمدارٍ دائري. في
هذه الظروف، عند نصف قطر حرج ()، ينتقل الغاز من القرص التراكمي إلى خط
مجالٍ مارٍّ، (الذي يتحرك ببطء نسبيًّا إلى الغاز المداري) ثم
يتحرك على طول خط المجال نحو أحد قطبَي النجم (الشكل ٤-٦). في هذا الوضع، لا تُوجَد طبقةٌ
حدودية رقيقة وساخنة، بل هناك نقطتا حرارة، واحدةٌ بالقرب من
كل قطبٍ للنجم؛ حيث يتدفَّق الغاز على طول خطوط المجال
المغناطيسي ويندفع فجأة نحو النجم.
شكل ٤-٦: يرفع المستعر DQ
Her الغاز من
القرص.
عندما يتدفَّق الغاز على طول خطوط المجال نحو النجم، ينقل
الزخم الزاوي عَبْر المجال إلى النجم، مما يزيد من معدَّل
دورانه. ومع زيادة معدَّل الدوران، يقل نصف القطر ويمتد القرص
إلى الداخل أكثر. النتيجة المنطقية لهذه العملية هي أنه يتقلَّص
نصف القطر الحَرِج إلى نصف قطر النجم، ويأخذ النجم في الدوران
بسرعة تجعل المادة عند خط استوائه تبدو وكأنها في مدار. يُقال
حينها إن النجم يدور عند نقطة «الانفصال». في الواقع، لا
يتأتَّى الوصول إلى هذه النقطة القصوى أبدًا، ولكن الأقراص
التراكمية تدفع النجوم النيوترونية للدوران بمعدَّل يقترب
اقترابًا شديدًا من معدَّل الانفصال.
ينتهي المطاف بالأقراص حول الثقوب السوداء بطريقةٍ مختلفة
تمامًا. تنُص نظرية أينشتاين للنسبية العامة على أن نصف قطر
المدار الدائري حول ثقبٍ أسود غير دوَّار يتميز بأكبر سرعة
زاوية هو ٦. نتيجةً لذلك، عند نصف القطر هذا تُوجَد بالفعل
حلقة تبذل شغلًا على الحلقات على كلا جانبيها؛ لذلك تكون
خافتة أكثر مما هو متوقع في ميكانيكا نيوتن. عندما يساوي نصف
قطر الثقب الأسود ٣، تصبح المدارات الدائرية غير مستقرة،
ويمكن للجُسيمات أن تنزلق ببساطة نحو الثقب الأسود دون فقدان
أي طاقة؛ حيث يبتلع الثقب الأسود طاقتها. لذلك، لا تُوجد
طبقةٌ حدودية ساخنة حول الثقب الأسود، ويكون الجزء الداخلي من
القرص التراكمي أكثر خفوتًا مما تتنبأ به حسابات نيوتن. تزيد
سرعة دوران الثقب الأسود بالطريقة نفسها التي تزيد بها سرعة
دوران القزم الأبيض.
تأثير المجال المغناطيسي
في الفصل الثالث، رأينا أن خطوط المجال المغناطيسي تُسحب
بواسطة السوائل المُوصلة، وتتبادل الطاقة مع السوائل
باستمرار؛ لأن خطوط المجال تولِّد توترًا يسحب السوائل. وبسبب
الدوران التفاضلي للقرص التراكمي، فإن نقطتَين متجاورتَين في
البداية سرعان ما تتباعدان عن بعضهما ما لم تكونا على المسافة
نفسها بالضبط من محور دوران القرص (الشكل ٤-٧). إذا كانت هاتان النقطتان تقعان على
خط المجال نفسه، فهذا يعني أن خط المجال يتمدَّد، مما يؤدي إلى
زيادة التوتر الذي يولِّده. الآن من الشكل ٤-٧ نلاحظ أنه عندما يتمدَّد خط المجال،
فإن التوتُّر يعاكس دوران العنصر الكُتلي الذي كان في الأصل
عند نصف قطر أصغر، ويسحب العنصر الكتلي الخارجي في اتجاه
الدوران. في الواقع، سينقل المجال الزخم الزاوي من العنصر
الكتلي الداخلي إلى العنصر الكتلي الخارجي. لكن هذا بالضبط ما
نتوقع أن تفعله اللزوجة! علاوةً على ذلك، فإن تمديد خط المجال
بسبب الدوران التفاضلي سيُقوي المجال المغناطيسي؛ لذلك بغَضِّ
النظر عن ضعف المجال في البداية، فإنه سيزداد قوةً إلى الحد
الذي يكفي لتعديل الديناميكا بشكلٍ كافٍ للحد من التمدد
المستمر لخطوط المجال. لقد وصفنا للتو المبادئ الفيزيائية
الأساسية ﻟ «عدم الاستقرار المغناطيسي الدوراني»
(MRI)، الذي اقترحه ستيف
بالبس وجون هاولي في عام ١٩٩١ باعتباره مصدر اللزوجة في
الأقراص التراكمية.
شكل ٤-٧: أربع لقطات لخطوط المجال المغناطيسي في
قرصٍ تراكمي يتمدد بفعل الدوران التفاضلي
للقرص. يظهر النجم في أسفل كل لقطة، وأقدم
لقطة على أقصى اليسار. يدور القرص عكس اتجاه
عقارب الساعة. في تلك اللقطة، تكون خطوط
المجال قصيرة وتمتد بشكلٍ شعاعي. بحلول
اللقطة الأخيرة على أقصى اليمين، تصبح خطوط
المجال أطول وتبدأ في اتخاذ اتجاهٍ
مماسي.
النفاثات
لم يقتصر ظهور عدم الاستقرار المغناطيسي الدوراني على حل
اللغز الطويل الأمد حول سبب كون اللزوجة داخل الأقراص
التراكمية كبيرة كما تتطلَّبها عمليات الرصد، بل قدَّم أيضًا
دليلًا على أصل السمة الأكثر لفتًا للنظر في الأقراص
التراكمية، وهي النفاثات. حيثما وُجدَت أدلة تشير إلى أن
جِرمًا مضغوطًا آخِذٌ في التراكم، فإن البيانات الرصدية تُظهر
«تدفقًا خارجيًّا» وليس تدفقًا داخليًّا. ويُعد جِرم هيربج
هارو، كما يظهر في الشكل ٤-٨، المثال
الكلاسيكي على ذلك؛ فلُب هذا الجِرم هو نجم في طور التشكُّل،
لكن السمة الأكثر بروزًا فيه هي زوج من النفاثات الضيقة التي
يتحرك فيها الغاز البارد جدًّا بسرعة تقارب ٢٠٠كم/ث-١، وهي سرعة تفوق بكثيرٍ
سرعة الصوت في الغاز. على الأرض، لا يسع مهندسي الطيران سوى
أن يحلموا بتكرار هذه الظاهرة.
نجد مثالًا آخر رائعًا على تكوين النفاثات في الجِرم
SS433، الذي يتكون من نجم
أكبر كتلةً بقليل من الشمس يدور حول ثقبٍ أسود. يُزوِّد النجم
العادي الثقب الأسود بالغاز، ويتحرك الغاز بشكلٍ حلزوني نحو
الثقب الأسود عَبْر قرصٍ تراكمي. تنقل نفاثتان المادة على طول
محور دوران القرص التراكمي بسرعات تزيد على ربع سرعة الضوء (، حيث يساوي ٣٠٠ ألف كم/ث هو سرعة الضوء)، ولكن
يظل الغاز باردًا بما يكفي ليحتوي على ذرات الهيدروجين، ويصدر
الخطوط الطيفية المميزة له. ومن ثَم، فإن الغاز في النفاثة
يتحرك بسرعة أكبر بكثير من سرعة الصوت.
شكل ٤-٨: الجِرم هيربج هارو
HH30.
تنبعث النفاثات من كلا الجانبَين من القرص
التراكمي على نجمٍ أوَّلي. ويكون القرص نفسه
مظلمًا ومتسعًا؛ فنراه كظلٍّ على خلفيةٍ
مشرقة من الضوء المنتشر.
في الجِرم SS433، يدور محور
دوران القرص التراكمي حول خط يقع ضمن زاوية ١١ درجة من مستوى
السماء (الشكل ٤-٩)، وتسير النفاثات عند
قواعدها على طول اتجاه محور الدوران الحالي. مع ابتعاد كل جزء
من الغاز عن الثقب الأسود، يتحرك في خط مستقيم، بينما يستمر
القرص في الدوران، ويطلق أجزاءً جديدةً على طول محور الدوران
الجديد. لذا، فإن النفاثات بشكلٍ عام تدور حول مخروطٍ ذي
زاوية انفتاح ٤٠ درجة (الشكل ٤-١٠).
مثالنا الأخير على النفاثات يتمثل في نطاقٍ أكبر بكثير، وهو
المجرَّة الراديوية الدجاجة «أ» الموضحة في الشكل ٤-١١. تنبعث نفاثتان رفيعتان للغاية من
البلازما من مركز مجرَّة إهليلجية عملاقة، وعلى بُعد ٠,٧٧
ميجافرسخ من الثقب الأسود، تصطدم بالمحيط بين المجرَّات بقوةٍ
هائلة، مما يؤدي إلى تسريع الإلكترونات إلى طاقاتٍ مذهلة
(الفصل السادس). تبعث هذه الإلكترونات العالية الطاقة الموجات
الراديوية التي جرى تصوير النظام بها كما في الشكل ٤-١١.
شكل ٤-٩: القياسات الهندسية الخاصة بالجِرم
SS433.
تنبعث النفاثات في اتجاهَين متعاكسَين،
وتجتاح سطح مخروط. يفتح هذا المخروط بزاويةٍ
نصفية تبلغ ٢٠ درجة، ويميل محوره بزاوية ٨٠
درجة عن خط الرؤية نحو الأرض.
شكل ٤-١٠: صورة راديوية للنفاثات الحلزونية للثنائية
النجمية
SS433.
تختلف هذه الأمثلة الثلاثة في العديد من الجوانب. يتضمن
المثال الأول التراكم على نجمٍ شاب، فيما يتضمن المثالان
الأخيران التراكم على الثقوب السوداء. يدفع التراكمَ في المثال
الأول أجرامٌ ذات كتلةٍ نجمية، بينما يدفعه في المثال الأخير
جِرمٌ أكبر كتلةً بنحو ١٠٨ مرة.
ويتضمن المثال الأول نفاثاتٍ غير نسبية بالكامل، بينما يتضمن
المثال الثاني نفاثاتٍ نسبية معتدلة، ويتضمن المثال الثالث
نفاثاتٍ نسبية مميزة؛ حيث تزيد الطاقات الحركية للجُسيمات في
النفاثات على طاقات كتلتها الساكنة (الفصل السادس). على الرغم
من هذه الاختلافات الكبيرة في الحجم، فإن كل نظام يتكون من
زوجٍ من النفاثات الضيقة التي تحمل المادة بعيدًا عن الجِرم
التراكمي بسرعة تفوق سرعة الصوت إلى حدٍّ كبير. وتختلف قدرة
الطبيعة على بناء أنظمة اختلافًا كبيرًا في الطول ومقياس
السرعة، ولكن يمكن إعادة قياسها تقريبًا بعضها إلى بعض، وهذا
يشير ضمنًا إلى أن فيزياء هذه الأنظمة بسيطة، بمعنى أنها
مقيدة بالكهرومغناطيسية والجاذبية، وهما نظريتان تفتقران إلى
المقاييس الطبيعية. على النقيض من ذلك، تنطوي جميع الظواهر
تقريبًا على كوكب الأرض على ميكانيكا الكم، التي تقدِّم
مقياسًا من خلال ثابت بلانك ()، الذي يساوي ٦,٦ × جول لكل ثانية. النجوم والكواكب والوسط
البينجمي، كلها تخضع لمقاييس تفرضُها عليها ميكانيكا الكم
وثابت بلانك. يبدو أن النفاثات ظاهرةٌ نادرةٌ مستقلة عن ثابت
بلانك. ونظرًا لبساطتها، قد تتخيل أننا نفهم كيف تتشكَّل.
ولكن لسوء الحظ هذا بعيدٌ كل البعد عن الحقيقة.
شكل ٤-١١: صورة راديوية لمجرَّة الدجاجة «أ» الراديوية.
تنبعث نفاثات رفيعة من نواة المجرَّة وتصطدم
بالغاز المحيط بالمجرَّة على مسافة تزيد على
٦٠ كيلوفرسخًا.
النفاثات الدافعة
على الرغم من أننا لا نفهم تكوين النفاثات بشكلٍ كامل،
نعتقد أننا نفهم مبادئها الأساسية. فقد رأينا أننا نتوقع أن
الأقراص التراكمية تتخللها خطوط المجال المغناطيسي المستمرة
في التضخم. في الفصل الثالث، رأينا أن سطح الشمس تتخلله أيضًا
خطوط المجال المغناطيسي الممتدة والملتوية باستمرار، وأن
إطلاق الطاقة المغناطيسية عن طريق إعادة توصيل خطوط المجال في
البلازما المنخفضة الكثافة فوق الغلاف الضوئي يدفع رياحًا من
البلازما بعيدًا عن الشمس، وبعيدًا عن الأرض، وإلى الفضاء بين
النجوم. لا بد أن شيئًا مشابهًا جدًّا يحدث فوق مستوى منتصف
القرص التراكمي وتحته؛ لذلك يمتلئ الفضاء فوق القرص وتحته
بغازٍ ساخن جدًّا لدرجة لا يمكن لمجال جاذبية الجِرم
احتواؤها؛ ومن ثَم يتدفق بعيدًا عن الجرم. ولكن في هذه
الحالة، على عكس الأمر في حالة الشمس، يتم توجيه التدفق
بطريقةٍ ما إلى نفَّاث ضيق. من المحتمل أنه بسبب الدوران
المنتظم للقرص، يجري احتواء الغاز الخارج بواسطة لولب من خطوط
المجال التي تلتفُّ حول الغاز الخارج، كما تلتفُّ الأفعى
العاصرة حول فريستها لسحقها. يحدُّ التوتُّر في خطوط المجال
هذه من توسُّع الغاز الفائق الحرارة في الاتجاهات العمودية
على محور دوران القرص؛ لذلك يتمدد الغاز بدلًا من ذلك في
اتجاه محور الدوران، ويتسارع، ويبرد أثناء ذلك. وبهذه الطريقة
يتشكَّل عمودٌ ضيق من الغاز يتحرك بسرعة تفوق سرعة الصوت
بكثير.
لا بد أن تحدث العملية التي وصفناها للتو عند العديد من
أنصاف الأقطار في وقتٍ واحد، وهذه نتيجة للطبيعة ذات التوسع
الحر لديناميكا الأقراص. عند أنصاف الأقطار الكبيرة يكون
القرص أكثر برودة، ويدور على نحوٍ أبطأ منه عند أنصاف الأقطار
الصغيرة؛ لذلك نتوقع أن يحقِّق الغاز المتسارع من أنصاف
الأقطار هذه سرعةَ تدفُّق نهائية أقل من الغاز المتسارع من
أنصاف الأقطار الصغيرة. ومن ثَم نتوقع أن يكون النفَّاث بنية
متداخلة ذات لُب سريع محاط بأسطوانات تنخفض فيها سرعة التدفق
تدريجيًّا للخارج. وفي حين لا يتجاوز التدفق في القرص أبدًا
كونه تدفقًا نسبيًّا معتدلًا (الفصل السادس)، فإن النفاثات
الفائقة النسبية ينتجها التراكم على النجوم النيوترونية،
وكذلك على الثقوب السوداء. ولكننا لا نفهم كيف تحقِّق الطبيعة
هذا الإنجاز الباهر.
النفاثات العالية الكفاءة
يتطلب ظهور النفاثات المتداخلة من كلا جانبَي القرص
التراكمي تغييرًا كبيرًا في نموذج القرص التراكمي، الذي
تناولناه في قسم «ديناميكا الأقراص الأساسية» في بداية الفصل.
فقد استند هذا النموذج على افتراضٍ مفادُه أن معدل تدفُّق
المادة عَبْر القرص هو نفسه عند جميع أنصاف الأقطار. إذا غادر
الغاز القرص عند كل نصف قطر ليتدفق خارجًا في النفاث، فلا بد
أن ينخفض معدَّل تدفُّق المادة عَبْر القرص كلما تحركنا نحو
الداخل. علاوةً على ذلك، كانت اللزوجة سابقًا هي الآلية التي
تحمل الزخم الزاوي للخارج بمعدَّل حمل تدفق المادة للزخم
الزاوي نفسه للداخل. في حالة وجود نفاث، لا تكون اللزوجة هي
الآلية الوحيدة التي تأخذ الزخم الزاوي الذي يحمله تدفُّق
المادة بعد نصف القطر ؛ إذ يحمل النفاث الزخم الزاوي بعيدًا عن كل
نقطةٍ داخلية إلى نصف القطر؛ لذلك يكون تدفُّق اللزوجة للزخم
الزاوي عند نصف القطر أصغر مما سيكون عليه في حالة عدم وجود
النفاث. نظرًا لأن هذا التدفق للزخم الزاوي مسئول عن ثلاثة
أرباع الحرارة المُدخَلَة عند نصف القطر، فإن إدخال النفاثات
يؤدي إلى تبريد القرص وإشعاعه بشكلٍ أقل قوة. في الواقع، يجري
تحويل الطاقة الخارجة من القرص من حرارة (على شكل إشعاع) إلى
طاقةٍ ميكانيكية (على شكل طاقةٍ حركية للتيار النفاث). تشير
الملاحظات إلى أن هذا التحويل يمكن أن يكون شبه كامل؛ حيث
تظهر معظم الطاقة المنبعثة من القرص التراكمي على شكل طاقةٍ
حركية.
علم الفلك الزمني
درسنا الأقراص التراكمية التي وصلَت إلى حالة استقرار. ولكن
إضاءة الأقراص التراكمية في الواقع تميل إلى التغيُّر بشكلٍ
كبير، ويمكن معرفة الكثير عن القرص والنظام الذي يقع فيه من
خلال مراقبة «منحنى الضوء» للنظام، وهو التغير في الإضاءة
بمرور الزمن. ويمكننا الحصول على المزيد من المعلومات بقياس
الطيف الضوئي للقرص في أوقاتٍ مختلفة.
في بعض الأنظمة، تسقط كميةٌ كبيرةٌ من الغاز بانتظام على
منطقةٍ صغيرةٍ من القرص التراكمي. ثم تنتشر المادة بسرعة بفعل
الدوران التفاضلي لتُشكِّل حلقةً ذات كثافةٍ عالية. وعلى مدًى
زمني أطول، تنقل اللزوجة الزخم الزاوي من الحافة الداخلية
للحلقة إلى الحافة الخارجية، مما يؤدي إلى تحرُّك الحافة
الداخلية للداخل والحافة الخارجية للخارج. وهكذا تصبح الحلقة
الرفيعة العالية الكثافة منطقة تتسع باستمرار. وكما أن أنصاف
الأقطار المختلفة داخل قرص في حالة استقرار تصل إلى درجات
حرارة مختلفة، ترتفع كذلك درجة حرارة الحافة الداخلية للحلقة،
فيما تنخفض درجة حرارة الحافة الخارجية. ومن ثَم يتطور الطيف
الإشعاعي المنبعث من الحلقة بأكملها بعيدًا عن طيف الجسم
الأسود القريب نحو نوع الطيف المنبعث من قرص في حالة استقرار.
يتناسب الزمن الذي يحدث فيه هذا التطور عكسيًّا مع مقدار
اللزوجة، وهو ما لم يكن علينا معرفته لاستنتاج خصائص القرص في
حالة الاستقرار.
في بعض الأنظمة، تكون الاندفاعاتُ في الإضاءة ناتجةً عن
ترسُّب كتلة من الغاز على القرص التراكمي كما هو موصوف أعلاه،
ولكن في أنظمةٍ أخرى تكون الاندفاعات ناتجة عن تغييراتٍ
مفاجئة في مقدار اللزوجة. فعندما تكون اللزوجة منخفضة، تستغرق
المادة وقتًا طويلًا للتحرُّك عَبْر القرص؛ ومن ثَم عندما يكون
القرص في حالة استقرار، فإن معدل تراكم معيَّن على النجم
يتوافق مع كثافةٍ كبيرة للغاز في القرص التراكمي. وعلى العكس،
عندما تكون اللزوجة كبيرة، تكون الكثافة في حالة الاستقرار
داخل القرص منخفضة، ولكن الإضاءة تبقى ثابتة. وهكذا، فإن
الزيادة المفاجئة في اللزوجة داخل قرصٍ وصل إلى حالة استقرار
تتسبَّب في تصريف المادة من القرص نحو النجم على نحوٍ أسرع من
معدل سقوطها على القرص، مما يؤدي إلى زياداتٍ كبيرة في
الإضاءة قبل أن تعود إلى قيمتها الأصلية مع اقتراب حالة
الاستقرار ذات اللزوجة العالية.
ولكن ما السبب في تحوُّل اللزوجة بين القيم العالية
والمنخفضة؟ هذا الأمر غير مفهوم بشكلٍ كامل، ولكن الآلية ربما
تكون مرتبطة بحقيقة أن اللزوجة تُولِّدها الاضطرابات داخل
القرص، وأن هذه الاضطرابات نفسها تستمد طاقتها من اللزوجة.
لذلك، في حالة اللزوجة المنخفضة، تكون الدوامات المضطربة
صغيرة، وتُولِّد لزوجةً منخفضة، بينما تُولِّد الدوامات
الكبيرة لزوجةً كبيرة في حالة اللزوجة العالية.
تنتقل العديد من «ثنائيات الأشعة السينية» المنخفضة الكتلة
بانتظام بين حالة يكون فيها للنظام طيفُ أشعةٍ سينية منخفض
الطاقة، وحالةٍ أخرى يكون فيها الطيف عالي الطاقة مع إضاءة
أقل؛ حيث يتأرجح النظام، الذي يحتوي على ثقبٍ أسود أو نجمٍ
نيوتروني تراكمي، بين الحالات المنخفضة الطاقة ذات الإضاءة
العالية والعالية الطاقة ذات الإضاءة المنخفضة. غالبًا، ولكن
ليس دائمًا، تنبعث نفاثاتٌ نسبية عندما ينتقل النظام من حالته
المنخفضة الطاقة ذات الإضاءة العالية إلى حالته العالية
الطاقة ذات الإضاءة المنخفضة. يُعتقد أن هذا التحول يحدث
عندما يُطرد الغاز القريب من مركز القرص التراكمي على طول
محور الدوران، مما يترك منطقةً منخفضةَ الكثافة حول الجِرم
التراكمي. في الحالة المنخفضة الطاقة ذات الإضاءة العالية،
تشعُّ المنطقة المركزية الكثيفة مثل جسمٍ أسود، بينما في
الحالة العالية الطاقة ذات الإضاءة المنخفضة يكون الغاز
متناثرًا للغاية لدرجة لا يمكنه معها إنتاج عددٍ كبير من
الفوتونات. ولكنه على الرغم من ذلك يُسهِم في إضاءة النظام من
خلال «تشتُّت كومبتون العكسي»؛ حيث يصطدم إلكترون نسبي
بفوتون. وكما أن ركلة لاعب كرة القدم تضيف طاقةً للكرة في
الركلات الحرة، يمكن للإلكترون أن يزيد كثيرًا من طاقة
الفوتون. بهذه الطريقة، يمكن لفوتون الأشعة تحت الحمراء أن
يتحول إلى فوتون أشعة سينية أو حتى فوتون أشعة جاما، مما
يُكسب طيف الجِرم طاقةً أعلى. تُعرَف ثنائيات الأشعة السينية
التي تطلق أحيانًا نفاثات باسم «النجوم الزائفة
المصغرة».
تتسبَّب النفاثات في زيادة إضاءة في التردد الراديوي للنجوم
الزائفة المصغرة بمقدار نحو ١٠٠ مرة، وسنناقش فيزياء النفاثات
في الفصل السادس. ومن ثَم، في الترددات الراديوية تكون هذه
المصادر أكثر تغيُّرًا مقارنةً بالأشعة السينية، وعندما تكون
«عالية التردد الراديوي»، تهيمن النفاثات على انبعاثها
الراديوي.
لقد رأينا أن الثقوب السوداء التي تمدُّ النجوم الزائفة
بالطاقة تمتلك أنصاف أقطار (نصف قطر شفارتزشيلد) أكبر بنحو
١٠٨ مرة من أنصاف أقطار
الثقوب السوداء ذات الكتل النجمية التي تمدُّ بعض ثنائيات
الأشعة السينية بالطاقة. السرعة المميزة لكلا النوعَين من
الأنظمة هي نفسها — جزء كبير من سرعة الضوء — لذلك نتوقع أن
تختلف النجوم الزائفة على فتراتٍ زمنية أطول بنحو
١٠٨ مرة من الفترات الزمنية
التي تتغير فيها ثنائيات الأشعة السينية. على سبيل المثال،
تُعادل الثانية الواحدة في حياة ثنائي الأشعة السينية ثلاث
سنوات في حياة النجم الزائف، وتُعادل سنة تقريبًا من
التغييرات في الحالة لثنائي الأشعة السينية ١٠٠ مليون سنة
بالنسبة إلى النجم الزائف. لذلك، خلال حياتنا القصيرة، لا
يمكننا أن نتوقع مراقبة تغييرات الحالة للنجوم الزائفة،
ولكننا نتوقع أن نجد المجموعة الواحدة منها مقسومة إلى
مجموعتَين؛ واحدة منخفضة التردد الراديوي والأخرى عالية
التردد الراديوي. في الواقع، قبل التعرف على العلاقة بين
النجوم الزائفة والنجوم المصغرة، قُسِّمَت النجوم الزائفة إلى
نجومٍ زائفة منخفضة التردد الراديوي ونجومٍ زائفة عالية
التردد الراديوي، وقد وُجِد أن أكثر من ٩٠ في المائة من
النجوم الزائفة تكون منخفضة التردد الراديوي. تتناسب هذه
النسبة مع الجزء الزمني الذي تكون فيه النجوم الزائفة المصغرة
منخفضة التردد الراديوي.
عند الطرف الأزرق للطيف الكهرومغناطيسي (الأشعة السينية أو
الأشعة فوق البنفسجية، حسب طبيعة الجِرم التراكمي)، يظهر
تذبذب في سطوع العديد من الأنظمة التراكمية بترددٍ مميز يُطلق
عليه «التغير شبه الدوري». ونظرًا لأن التغير شبه الدوري
يتركز عند الطرف الأزرق للطيف، وهو الطيف الذي تهيمن عليه
الانبعاثات من الحافة الداخلية للقرص، يُعتقد أن التردد
المميز هو تردُّد المدار عند الحافة الداخلية للقرص. ومن ثَم،
يزوِّدنا ذلك بمعلومات عن طبيعة الجِرم التراكمي.
في النجوم الزائفة المصغرة، يتميز التغير شبه الدوري بفترة
زمنية تبلغ ملِّي ثانية؛ ومن ثَم تكون الفترة الزمنية
المكافئة في النجوم الزائفة هي يومًا واحدًا. تكون سعة هذه
التقلبات الأسرع صغيرة. على مدى فترةٍ زمنيةٍ أطول ببضع مئات
من المرات، يمكن أن تتغير إضاءة الأشعة السينية للنجم الزائف
المصغر بنسبةٍ كبيرة من قيمته، وتحدث تقلباتٌ مشابهة في
النجوم الزائفة على مدى فترة زمنية تُقدَّر بسنة. لهذه
التقلبات أهميةٌ تشخيصية كبيرة.
فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام هذه التقلبات لتقدير كتلة
الثقب الأسود للنجم الزائف. فعندما تزداد إضاءة القرص
التراكمي، يُحفَّز الغاز في السُّحب التي تدور حول الثقب
الأسود على مسافةٍ معيَّنة بفعل الفوتونات المُؤيِّنة
المنبعثة من القرص الداخلي، مما يؤدي إلى تعزيز انبعاث خطوط
الطيف المرئي والأشعة فوق البنفسجية. ولكن ثمَّة تأخيرٌ زمني بين زيادة إضاءة القرص التراكمي وتعزيز
انبعاث هذه الخطوط؛ حيث يحتاج الإشعاع المُؤيِّن إلى وقت
ليقطع المسافة من النجم الزائف إلى الغاز المداري. يمكن
تقدير سرعة المدار للغاز المصدر من عرض خطوط الانبعاث؛ ومن
ثَم باستخدام المعادلة لسرعة المدار الدائري، نجد أن كتلة الثقب
الأسود هي .
بالتزامن مع التأثير القوي لعدسة الجاذبية (الفصل السادس)،
يمكن استخدام تقلبات إضاءات الأقراص التراكمية للنجوم الزائفة
لتحديد مقياس الكون والبحث عن تكتلات المادة المظلمة.